إبراهيم محمود - الابن المطيع : جوزيف مسعد، في كتابه " اشتهاء العرب "

5- Donc Apologie pour l, histoire : تمجيد التاريخ إذاً :
ربما أشعّب فكرة هذا العنوان ومحتواه، تقديراً مني، أن هناك ما ينبغي قوله بصدد الخطاب، ومغذيات الخطاب، وأقنعة الخطاب. وأن يأتي العنوان مذكّراً بكتاب الألماني مارك بلوخ " 1886-1944 ": : " Apologie pour l, histoire ou métier d,histoirien,1949 " أي " تمجيد التاريخ أو حرفة المؤرّخ " فإنما لتأكيد مزالقه، خطابه المركَّب، وفتنة القول فيه، وبدءاً من قسمه الأول " التاريخ، البشر والزمن "، إذ يستهله بذكر عراقته وعنف المكرَّر فيه معاً ( قديمة جداً هي كلمة التاريخ، إلى حد أننا مللناها أحياناً، وغالباً لا تكون دقيقة..ص15 ) .
ذلك ما يضعنا في مواجهة طريقة تناول مسعد لتاريخه الخطاطي المعكوس، وهو في الإيحاء الذاتي إلى أنه يضيق الخناق التدريجي على جمهرة المستقدمين إلى " فخه " المعرفي الخاص.
ما يكونه الزمان والمكان وما لا يكونانه، حيث التاريخ يهمس في العمق بما لا يُنسَب إليه، استناداً إلى طريقته في تناوله، وهي تظهِر قوة المأثور وكونه متعدد الطيات، حال: الخطاب .
حيث إن مؤلف " اشتهاء العرب " ينطلق من الواقع تماماً، إنما واقعه المتخيَّل، كما لو أنه واضع نصب عينيه ما يعنيه مكر المستشرق الذي ينقل ما يراه واقعاً جهة الشرق، ويصدّقه من خلال طريقة الكتابة " منهجها "، وكيفية تزويق المفهوم الداخل في هذا السياق الفكري .
أي في اللحظة التي يعتبر الآخر موضوعه، فلا يعود إلا " آخرَه " هو، كما هو وضْع تصريفه للتاريخ في زمانه ومكانه، وقد جرَّدهما من ميكانيزم القوة السياسية الفعلية، وبالتالي، فإن يكون قد أهدى كتابه إلى من كان فاعلاً رئيساً – ربما – في صنعته له، وابتداعه لفكرة الأساسية .
لا يعدُّ مسعد استثنائياً في مسلكه البحثي وعلى هذه الشاكلة، فثمة تاريخ عريق لذلك، ولو أنه في عمق صيرورته يقوم على تفاوتات في نسبة " الإخلاص " لحركية الزمان والمكان .
في مقدمته، يمضي ابن خلدون " من تاريخه، طبعة جمال، بيروت، م1" ، مطوَّلاً وهو يسهب في تبيان ما قام به حيث يأتي على " مثالب " مؤرخيه( التحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل....ولما طالعت كتب القوم، وسبرت غور الأمس واليوم، نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم، وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السوم..ص 4.)، ويكون إهداؤه إلى صاحب السلطان المهيب ( أتحفت بهذه النسخة منه خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد، الفاتح الماهد، المتحلى منذ خلع التمائم ، وكرم الشمائل والشواهد...ص6)، وليقول تالياً (اعلم أن فن التاريخ عزيز المذهب جم الفوائد، شريف الغاية...ص7 ...الخ )، سوى أنه رغم الهالة التاريخية الموهوبة له على مستويات مختلفة، فإنه عملياً أخلص لواقع تعدّاه، وهو يمحور فكرة " العصبية "، متجاوباً مع نشوة حاكمه " سيّده المجاهد الماهد "، هي العصبية التي تشد في أزر الأخير، وتبقيه في العرش لزمن طويل، أكثر من " المهلة " الزمنية التي حدّدها بطريقة للدولة في طورها الأخير " الانهيار "، كونها تعيش وضعاً انحطاطاً، بالمفهوم القيمي إلى يومنا هذا ، طالما أن هناك من يصرّح أو يلمّح إلى أنه لا يعدو أن يكون عامل حماية ووقاية لبنيانها ، وهو درس يفيد مجاهده ليزداد تمسكاً بكرسيه ويبطش بأي مخالف، تبعاً لبيولوجيا السلطة الماكرة.
ذلك يذكّرنا بميشيل فوكو الذي أساء إليه سعيد في تقويله ما لم يقله بشأن الخطاب. فوكو في خطاب الافتتاح في" الكوليج دي فرانس " ينقّب في أهوار الخطاب وأغواره ، أي " نظام الخطاب، الترجمة العربية، دار التنوير، بيروت، 2007" ، حيث يقول ( أفترض أن إنتاج الخطاب، في كل مجتمع، هو في نفس الوقت إنتاج مراقب، ومنتقى، ومنظم، ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره، والتحكم في حدوثه المحتمل، وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة.ص 8 ).
هذا الخطاب له من القوة النافذة والرهيبة ما يتحدى به كل من لا يرتقي إلى مصاف سلطته، وهي بطابعها الميكروسكوبي، وربما أمكنت سلسلة القوة لديه أيضاً في درس من دروسه، من خلال كتابه " يجب الدفاع عن المجتمع، الترجمة العربية، دار الطليعة، بيروت،2003 "، حين يحيل القانون إلى القوة، أو يربط بينهما ( ولِد القانون من الدم ووحل المعارك...لا يولد القانون من الطبيعة...يولد القانون في خضم المعارك الواقعية والحقيقية..الحرب هي محرك المؤسسات والنظام...ص 71...ويربط الحقيقة بالقوة تالياً: الحقيقة بوصفها سلاحاً " ضمن علاقات القوة.ص73... وما يلاحَظ في سيرورة القانون وصلاته بما هو طبيعي وما هو ثقافي ( قانون التاريخ أقوى دائماً من قانون الطبيعة..لا تستطيع الطبيعة أن تتكلم عندما يبدأ التاريخ في الكلام. لأنه في الحرب، التاريخ هو المنتصر دائماً. ص 165).
ولا بد أن سعيد، وهو مسكون بجاذبية، أو كاريزمية فوكو قد أغفل هذه القوة الامبريالية، وهو داخل فيها، وهو في " الاستشراق " يعترف بفضيلة منهجه، إنما يشير إلى تحرره من حرفيته بقوله (بيد أنني بخلاف ميشيل فوكو، الذي أدين لعمله ديناً عظيماً، أؤمن بالأثر الحاسم الذي يتركه الكتّاب الأفراد على الجسد المجتمعي، الذي يظل فيما عدا ذلك مجهول الهوية، للنصوص التي تكوّن تشكيلاً إنشائياً كالاستشراق . ص56 )، ليمضي في كتابه الآخر " الثقافة والامبريالية – الترجمة العربية، دار الآداب، بيروت،1997" مشدّداً في الفصل الأول منه" أقاليم متقاطعة، تواريخ متواشجة " على قدرة الأرض على استقطار القوى، لكنها القوى المتفاوتة، حيث إن سعيد لم يكتب إلا من خلالها، ولفوكو الظل المتلبّس له فيما ركَّز عليه، خلاف المعنى المحرّك لبوصلة فكر فوكو بالذات، شأنه في ذلك شأن عديدين ممن أثروا فيه " غرامشي مثلاً "( إن موضع الرهان والمجازفة إنما هو الأراضي، والممتلكات، والجغرافيا، والقوة. كل شيء يتعلق بالتاريخ البشري متجذر ، طبعاً في الأرض..ص77 ).
في كتابه عنه " ادوارد سعيد وكتابة التاريخ " لشيلي واليا " الترجمة العربية، دار أزمنة، عمّان، 2007 "، ثمة تأكيد على نفاذ تأثير منهج فوكو في بنية كتاباته، كما في " الاستشراق " وهذا يمتد إلى " الثقافة والامبريالية "، وتحديداً في العلاقة القائمة بين المعرفة والسلطة " ص31 "، ومفهوم الخطاب " ص 34 "، إلى جانب التأثر " تاريخ الجنسانية " والمراقبة والمعاقبة " وهما لفوكو أيضاً ، و( كي يؤسس نظرياً لأطروحته.. يفيد بالمقابل من غرامشي الذي استعمل مصطلح " الهيمنة " على نحو خلّاق، على الرغم من أن سعيد حوَّر الاصطلاح كي يوائم أطروحته.ص 35 ...الخ ).
المفارقة أن سعيد في مقاله " قول الحق في وجه السلطة " والمنشور ضمن كتاب " صور المثقف، الترجمة العربية، دار النهار، بيروت، 1994" لا يتردد في إشهار قلمه/ السيف، في وجه المناوىء للحق، للحقيقة، وللمثقف الذي يلبس أكثر من قناع تجنباً لأهواء السلطة وبطشها، كما يظهر، إذ يقول في نهايته (إن قول الحق في وجه السلطة ليس مثالية مفرطة في التفاؤل، إنه تأمل دقيق في الخيارات المتاحة واختيار البديل الصالح، ومن ثم تمثيله بذكاء أينما يمكن إعطاء النتيجة الفضلى وإحداث التغيير الصائب. ص 106 ).
سعيد، بمقدار ما شدّد على الامبريالية، وما رآه امبريالياً، أكثر بكثير، وبما لا يقاس، تناسى، أو تجاهل الذين يغازلونها جهراً وعلانية من خلال علاقات شتى، والسعي إلى استبقائها، هم الذين أساؤوا إلى " حرمة " الزمان والمكان، حال " مجاهد " ابن خلدون، وأن جنسانية سعيد ذات الدمغة الامبريالية بمنزعها الاستشراقي تعرّيه من الداخل، وتقلب الفكرة ضده عملياً.
ومسعد في " اشتهاء العرب " كان أكثر إساءة إلى " حرمة " الزمان والمكان من سعيد:ه، ولا أقول ذلك بمنطق السخرية، ولا يهمني من يأتي على ذكره وكيل المديح إليه، وحتى بالنسبة إلى مسعد: تلميذه النجيب، بمقدار ما يهمني، هذا التشويه لحقيقة التاريخ، هذا التمكير فيه، إذ الزمان والمكان المسعدان، إن جاز التعبير، مجرَّدان من علامات القوة السلطانية التي تبقي حدود البلاد والعباد سهلة العبور، طالما البلاد نفسها مرهونة عبر سياسات تثير شهية " الامبريالية " لتلك المتروبولات التي يعرفها سعيد، مسعد وغيرهما في النطاق الفكري نفسه، أي حيث يكون المتصرف الأوحد بمصائر الجغرافيا والديموغرافيا على طريقة طاغية " خريف البطريرك " رائعة ماركيز، وحيث إن الجنس يقابل هنا السلطة المحوَّرة بمفهومها لدى سعيد، مثلما أن هناك وحدة حال، رغم تبعية الأخير للأول، في كيفية لجم الخطاب تجاوباً مع منطوقهما الذاتي .
مسعد، يمارس تمجيد التاريخ القائم، التاريخ الموصول بنبالة " كان يا ما كان "، ويحاكم بالجملة من يقيمون في حاضنة هذا التاريخ، ويجحدون فضله السلطاني . وتلك جنسانية مهلهلة، على قدر الوعي الهابط، والذي لا يرتقي إلى مستوى رهبة " الخطاب " الامبريالية كما يجري وصفها هكذا سعيدياً ومسعدياً، بينما يبقى التاريخ الآخر: تاريخ ينطق بلغة فرانز فانون الذي يعظّم سعيد مقداره، ولكنه يقوّله ما ليس في محتوى " معذّبو الأرض " مؤجَّلاً، وربما الجاري هو كيفية إنهائه كلياً، وهذا يضعنا مجدداً في مواجهة الابن أباً، والبطريركية المشوَّهة، أو بصيغة أخرى إزاء " معذّب الذات " بأكثر من معنى !؟


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى