إبراهيم محمود - الابن المطيع: جوزيف مسعد في كتابه " اشتهاء العرب "

6- الصنيع الامبريالي :
لم أستغرب من تصنيف مسعد لي كباحث " جنساني " في نطاق " الأممية المثلية " في الفصل الرابع من كتابه " آثام وجرائم وأمراض ، تصنيفات شهوات الحاضر : صص 267-368 " وهي المساحة البارزة في مؤلفه حيث يتعرض عبرها لأربعة كتب لي، إلى جانب كتب آخرين.
ومنذ البداية يفصح عن انزلاقي الكبير في حاضنة تلك الأممية، حين يشير إلى أن كتباً نشِرت عربياً حول الجنس بالتزامن مع نشر " تاريخ الجنسانية " لفوكو، كما في حال جزئه الأول " إرادة المعرفة – بيروت 1990 "، ويذكر كتابي " الجنس في القرآن – 1994 " " ص 308 "، مستكملاً أداءه " الجهادي في " كشف المستور "،وليشير فيما بعد إلى تأثري الشديد بكتب فوكو ( حول تاريخ الجنسانية والآراء الغربية المعاصرة حول المتعة .ص 317 ).
مصدر عدم الاستغراب، هو ما انطلق منه والتزم به إلى " ياء " الكتاب. وفي الواقع، فإن طريقته هنا بدورها مقلقة ومحيّرة إلى أبعد الحدود: كونه هو نفسه " إن جاز التصديق على مقولته الأممياتية طبعاً " مأهول بهوى الدراسات الغربية، خاصة تلك القائمة على مفهوم الخطاب الغربي: الفوكوي، وعبر سعيد " قدوته " ويقيم في المتروبول " الامبريالي الأعظمي، ويستخدم قائمة مفردات فاعلة في لفت النظر، وهي ذات نسابة غربية في التحليل، المقارنة، والمكاشفة النقدية ولو بطريقة تعسفية، ويتناسى هذه " الغواية " التي تعني وسواه " سعيد حصراً هنا "، كما لو أن مجرد تأثري بفوكو يعني تأثيمي واعتباري عضواً منفعلاً في الأممية المثلية، دون أن يدقق، ولو في فقرة واحدة، في خصوصيات الزمان والمكان، لا بل يمكنني القول عن أن اختزاله لبعض من كتبي، واقتطاف ما ينسجم وتصوره البحثي، يتطابق مع اختزاله لخصوصيات الزمان والمكان نفسه، كما نوَّهت إليهما سالفاً. إزاء ذلك، ماذا يعني أن تكتب عن الجنس " هكذا دون أن تعوذل وتبسمل وتحوقل مراراً وتكراراً حيث لا أسهل من النيل من أي كان بيسر. أي تحلم بالحرية بين فكي تمساح. إن مجرد عنونة الكتاب بـ " الجنس في القرآن " وهو أول كتبي في هذا السياق، بمثابة استثارة عش الزنابير من ذوي اللحى وخلافهم، وهو الكتاب الذي ربما كان في قائمة الكتب " الملاحقة " عربية، والمهرَّبة في آن، والمستنسخة آلاف النسخ، كما تابعت ذلك. بالعكس، يظهر مسعد في موقع المحامي عن ذوي اللحى، وإن برز ناقداً لهم فباستحياء، أو وهو مثمّن كتاباتهم، لأنهم تقديرياً يتصدون للخطاب المذكور.
هل يعني صدور كتابي " الجنس في القرآن " بالتزامن مع " تاريخ الجنسانية " تعبيراً عن هذا الانضواء تحت رايته الاعتقادية ؟ أم أن ذلك تأكيد على تصلب الموقف الفكري لديه ؟
يتجاهل الذين تعرضوا له بالتسفيه والتشويه من هذا المنطلق، ومنهم " مفكره " الفلسطيني صقر أبو فخر الذي يثمن كتاباته " 277-278 "، وقد كان حانقاً على الكتاب على طريقة أصولييه حين صدوره، هو وغيره بدافع الحمية العروبية والإسلاموية " تركي الربيعو، كذلك، وفي مجلة " الناقد " ذاتها، وفي الوقت الذي انتشر الكتاب في الجهات الأربع من خلال فكرته . وبهذا الصدد، أتساءل عن مسوّغ وصف أحدهم بباحث أو مفكر، حال " أبو فخر " دونما أخْذ هذا الاستهواء النفسي بفكرة دون أخرى، أو طريقة تناول أو عرض دون سواها.
في نقطة مهمة أخرى، ذات علاقة بما تقدم، يشير مسعد إلى أنني حاولت تحاشي استعداء الإسلاميين أحياناً " ص317 ". تلك ملاحظة وجيهة، لكنها في غير محلها، مقارنة بالوضع القائم ولعبة السلطة الدوارة بين أولي السلطة وهؤلاء ونفوذهم الأخطبوطي، وفي الوقت الذي تنقلب هذه الملاحظة إلى نقيضها لحظة مساءلته عما أفصح عنه في هذا المقام، أي تجاهله الكلي لسلوكيات هؤلاء الإسلامويين وفي قاع المجتمع وهرم السلطة واستئثارهم بالجنس ذكورياً؟!
وليت أن مسعد قرأ تلك النقاط التي انتقدت فيها فوكو وموقفه من الجنسانية عينها ، أي ذكوريته بالذات " ينظَر مثلاً، كتابي: المتعة المحظورة، طبعة 2000 ، ص29-32 ، وكذلك كتابي: الشبق المحرم، طبعة 2002، ص73-74 "...الخ، ليت أنه اطلع على كتب أخرى لي في هذا السياق" تقديس الشهوة- 2000"، " جماليات الصمت-2002 "، " الضلع الأعوج-2004 "...
ليت أنه خفف من منطق الأستذة وهو يرطن بالأكاديمية، وفي ضوء انفجار المناهج، وتلك الطرق المختلفة في تناول الموضوعات والكتابة المضادة للأكاديمية بصراطيتها.
إنما فقط أعترف له بسلامة ملاحظة له تخص " الفصل التاسع " من كتابي " المتعة المحظورة، ص 251-253 "، واعتباره منقطعاً عن سياق الكتاب. هو في الأصل ليس فصلاً، إنما استمرار للنصوص المختارة، وهو ما يتبين في محتوى المقتبس، ولم أتدخل في صوغه كلياً، إنما ورد كما هو تقريباً، وأعتقد أن إمعان نظر بسيطاً يتلمس وجود خطأ في التسمية، إنه خطأ إخراجي، جرى سهواً، والذي أبقيته هكذا حتى في طبعته القاهرية الجديدة، ربما لمعرفة كيفية تقييم قارئه لهذا الفصل وتدبير أمره.
نعم، في الوقت الذي يأتي مسعد أحياناً على تبيان مكانة كتاباتي المتعلقة بالجنس، إلا أن ثمة استخفافاً ببنيتها، بمآلها الفكري، على حساب الحقيقة " وأخشى أن أستخدم عبارة من نوع : الديمقراطية، أو الليبرالية، لئلا أتهم مجدداً بالممالأة للغرب !": مثلاً، بالكاد ينتقد الشيخ محمد جلال كشك في مسألة الجنسانية، وإذ يأتي على ذكر نقدي له، يجرده من تلك القيمة، طالما أنني ( لا أضع تصريحاته في سياقها مع الآراء الاستشراقية الغربية عن العالمين : العربي والإسلامي. ص 321 )، وهذا منزَلق بحثي، وبلبلة للمفهوم، لأنني رمتُ نقد جملة الثقافة العربية- الإسلامية، وهي بتاريخها الطويل في هذه البراغماتيكية الماورائية عن الجنس قبل سواه، عدا عن ذلك،فإن نقدي له لا يأتي في سياق نقد كل ما هو وارد عن الجنس في هذه الثقافة، بالعكس، إن انهمامي بها لا ينفصل عن تقديري لهذا الخزين الثقافي الهائل والمهيب في مضمار الجنس" ينظَر مثلاً، أسلوب تناولي للسيوطي في " الشبق المحرم- صص 240-253 " .
ذلك ينطبق على الناقد السعودي: عبدالله الغذامي، منظّر الفحولة العربية والدينية: الإسلامية، ومجسّدها في آن، وكتابه " المرأة واللغة "، حيث لا يوجّه إليه أي نقد، إنما يكتفي بالاستعراض، وهذا يخفّض من مستواه البحثي، ليكتفي بعد ذلك بإيراد نقدي لـ " عدوانيته " ذات الصلة بالجنس، ودون أي تعليق في الحالة هذه " ص 333 ".
مسعد، ينتقدني، لأنني تحدثت عن طبيعة كتاباتي الجديدة، وما في ذلك من " غرور " عملياً، من وجهة نظره لأن هناك من سبقوني إسلاميين وخلافهم " ص 366 ". وهو زعم لم أثره أو أؤكده، إنما انطلاقاً من طريقة تناولي للموضوع، وفي كتب عديدة، وهي وإن انطوت على تكرار، فمن باب التأكيد والتوسع بالمقابل، وما زلت أشدد على هذه النقطة في التعبير البحثي والتدبير الفكري، دون التقليل من جهد أي كان. أتراني واهماً إن قلت: إن انتشار هذه الكتب عربياً رغم منع تداولها، وطرق الرقابة المختلفة عليها، وعدم السماح بعرضها في أغلبية المعارض العربية، أو تكون مغلفة " لا تفتَح " للبعض منها " وفي أكثر من مكان أو نقطة عبور حدودية عربية، شاهد عيان على نوعية ثقافة مضادة للسائد ؟ أضف إلى ذلك، أنه من النادر وجود منبر ثقافي، رسمي عربي: سمعي، بصري، تجرّأ على تناول أي منها، أو حتى الاكتفاء بذكر اسم من أسماء هذه الكتب. في الحالة هذه، يكون السؤال: هل استضافة مسعد " رسمياً " واستكتابه في صحف عربية، وتوجيه الدعوات إليه لإلقاء محاضرات في هذا المنحى، تعبير عن " جدة " فكرية، أم تعزيز لمقولة " الابن المطيع " ؟
كان يفترَض أن تتم مناقشة هذه الكتابات في ضوء المستجدات، وهو أدرى بحجم المصائب التي يكون المعني الأكبر بها من يدير دفة السلطة، لا أن يشهر نقمته عليها. أم أن " طلباً " كهذا في غير محله، طالما أنه لم لا يضع في حسبانه اعتماد إجراء من هذا القبيل ؟
في ضوء ما تقدَّم، كيف سيكون موقفه من كتابات لي برزت في مؤلفات تالية:وإنما أجسادنا: 2007- الجسد المخلوع:2009- الإسلام: مدخل جنسي:2013- الجسد البغيض للمرأة:2013...الخ؟
عدا عن ذلك، فإن كتابه يفتقد حضور أسماء لها باعها الملموس في هذا الجانب، حيث لم يأت على ذكرها: بوعلي ياسين، حليم بركات، عبدالصمد الديالمي، خليل أحمد خليل، فتحي بن سلامة، محمد نورالدين أفاية، رجاء بن سلامة، أحلام مستغانمي...الخ.
مسعد ثمِل بما يُكتَب عنه، ممدوحاً في كتاباته التي تفخّم مكانة الأب، إلى درجة أن الذين يستمرئون كتابته، ويسهبون في إبراز مناقبه، يظهرون جهلهم بما هم عليه، كونهم طالبي حرية واختلاف، وتحرر من ربقة ما كان، والتركيز على خصوصية ذات إزاء الآخر، وجهلهم ملحوظ من خلال اقتطاع فقرات من الكتاب خارج سياقها، أو ليست له، كما في مقال جنساني لعمار المأمون " الدولة المنتصبة – مجلة الجديد، لندن، 1-9/ 2017 " وهو يُري تحليل مسعد للواط،مثلاً ومفهوم " اللذة اللاتكاثرية " وهو تعبير يخصن كتابي" المتعة المحظورة " إلى جانب كم كبير آخر، من التعابير ذات الصلة، ومن يراجع الكتاب يلحظ ذلك .
من يكون صنيع الامبريالية بالتالي ؟ لا أسمي أحداً، لأن ما أريده هو حوار، وليس اعتماد منطق الأبوية أو الأستذة والتفقه، وهو الذي يطيح بكل من الخارج والداخل معاً !
ملاحظة: أورد هنا بعض الإشارات ذات العلاقة بما كتبتُ والتي أعتقدها غائبة عن أذهان الكثيرين :
-في أواسط تسعينيات القرن الماضي، وزّعت نشرة " أمنية " خاصة في سورية، وعمّمت على دور النشر والمكتبات بحظر عرض كتب تصنّف امبريالية، ومنها كتابي: الجنس في القرآن.
- في مدينتي قامشلي، وقبل عقد من الزمن، شهّر باسمي وفي جامعين/ مسجدين في المدينة، وأشيرَ إلى كتابي " الجنس في القرآن " بوصفه تجديفاً. ويبدو أن مؤمّي المسجد هنا وهناك، تجنبوا الإساءة المباشرة إلي، كوني أعيش في المدينة، ليعني ذلك أنني " محمي " سلطوياً.
-ثمة كتاب آخرون عرب وكرد، حاولوا تحريك الموضوع خارج سياقه الثقافي السوي، بغية توتير الوضع. سوى أن ذلك لم يأت بنتيجة.
ولا أدري في الحالة هذه من أكون، وفي مناخ أي لعبة يتم تحريك كتبي هذه.
آمل أن يطّلع باحثنا مسعد ذات يوم، وقريباً على إشارات كهذه، لعلها تفيده؟!

- تمَّت -

إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى