نظرة في الحركة النسائية
بدأت النهضة النسائية في أوائل هذا القرن، إلا أنها لم تصبح (حركة) إلا عند نشوب الثورة المصرية سنة 1919 إذ نشطت المرأة نشاطاً كبيرا وسرت إليها روح الحماس الفياض فلبت نداء الوطن، وساهمت بنصيب وافر في الحركة السياسية، فاشتركت في المظاهرات معرضة حياتها لما كان يتعرض له الرجل من مخاطر، والفت اللجان لبث الدعوة الوطنية وتنظيم حركة المقاطعة، وظهرت في الاجتماعات الهامة. ولكم كانت لها مواقف مشهودة في تلك النهضة المباركة!
ولما هبطت درجة الحماس القومي بسبب الانشقاق بين صفوف العاملين أخذت الحركة النسائية تتجه اتجاها جديدا فاهتمت العاملات بتحسين مركز المرأة الاجتماعي، وعلى ذلك تألف الاتحاد النسائي سنة 1923 تحت زعامة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي، ووجه عناية كبيرة إلى المشاكل الاجتماعية التي تمس المرأة كمسألة الطلاق وتعدد الزوجات وعدم تحديد سن الزواج للفتيات، ونجح في حمل البرلمان على الاهتمام بتلك المسائل. كذلك ظهر في ذاك الوقت من بين النساء من تطالب باشراك المرأة في التمثيل النيابي.
على أن تلك البداية الحسنة سرعان ما تعرضت للضعف بدورها وانكمشت في دائرة محدودة لا تتناسب مع مطامع المرأة بدل أن تنمو وتتسع ويصبح لها فروع تهتم بمعالجة نواحي النقص كلها، فلم نعد نسمع تلك الأصوات الجريئة الفتية التي تدافع عن قضية المرأة، كما أفلس معظم الجمعيات النسائية التي كان ازدهارها قصير المدى، وهكذا خلا الميدان مرة أخرى ولم يبق إلا عدد قليل من المجاهدات يثابرنشأن الأبطال متجاهلات المتاعب والنقد.
ولكن ذلك السكون في ميدان النهضة لم يكن إلا كسكون الطبيعة في الشتاء الذي فيه تتجدد القوى برغم التجرد والعراء، فقد دخلت الحركة النسائية على الرغم ذلك السكون الظاهر في طور خطير هو طور الانتقال الهام الذي فيه اتسع نطاق تعليم المرأة فانتشرت مدارس البنات ووحدت مناهج تعليم الذكور والإناث بعد بصلاحها وتوسيعها، فأصبحت الفتاة الت كان تعليمها قاصرا على مبادئ القراءة والكتابة وقشور اللغات وبعض الفنون المنزلية تتعلم كما يتعلم الفتى، بل وتفوقه في الإقبال على العلم واستساغته.
وفي سنة 1928 سمح للبنات الحاصلات على شهادة إتمام الدراسة الثانوية بدخول الجامعة المصرية. بينما كثرت إرساليات البنات في تلك الفترة إلى الخارج للتخصص في مختلف العلوم والفنون.
وما زالت حركة تعليم البنات سائرة بنشاط رغم سوء الحالة الاقتصادية وما يوضع في طريقها من عقبات، وهذا لاشك أعظم انتصار اكتسبته المرأة، وأقوى سلاح في يدها، ولم يبق إلا أن تستغله إلى أبعد مدى ممكن.
والآن وقد تكاثر عدد المتعلمات وظهر من بينهن من يمتزن برغبتهن الحارة في الاصلاح، فستنتعش ولاشك الحركة النسائية. وان احتفاء زعيمة الاتحاد النسائي بأولى خريجات الجامعة المصرية والجامعات الأخرى في 16 ديسمبر سنة 1933 لمبشر بقرب الوصول إلى هذه الغاية، إذ لا يفيد الحركة النسائية أكثر من جمع تلك العناصر النشطة مبدئيا تحت سقف واحد وأحداث التعارف بينهن وتشجيعهن وتذكيرهن بحقوقهن وواجباتهن نحو المجتمع، وبنات جنسهن، وبالجملة أصبح لدى الحركة النسائية أهم العناصر الأساسية اللازمة للنجاح، وهي الشعور بالنقص، والرغبة في الإصلاح، وعدد لا بأس به من السيدات الناهضات، كما أن لديها أيضا مؤازرة عدد كبير من أفاضل الرجال.
على أن مجرد وجود تلك العناصر لايكفي لاحداث الأثر المطلوب بل لابد من اتحاد تلك العناصر واستغلال جهود الناهضات بان تصبح لهن جماعات منظمة، فالحركات القوية الناضجة ذات الأثر الخالد والمشروعات العظيمة قامت بواسطة الجماعات والتعاون، لا بمجهود الأفراد. والحركة النسائية في حالتها الراهنة الخاملة أحوج ما تكون إلى مثل تلك الجماعات المنظمة التي تدرس وجوه النقص في مركز المرأة وتبسط فيها الآمال والآراء، وتكون نواة لظهور الخطيبات والباحثات اللاتي يوجهن أذهان الناشئات إلي مكانتهن الهامة في الحياة، والى أهمية عهد الانتقال الذي يجتزنه، وإلا أصبح تطور المرأة تطورا غير واع شبيه بتطور النبات والحيوان: يسير بمحرك التقليد لا بناء عن التفكير والانتخاب والتفضيل. والواقع أصبح يخشى طغيان عامل التقليد على الحركة النسائية بسبب قلة المرشدات والباحثات فكثير من النساء اللاتي سفرن مثلا واختلطن بالرجال فعلن ذلك تحت تأثير (الموضة) وتقليد الغربيات لا بمقتضى مبادئ ثابتة ولا بناء عن تدبر وتفكير. والنهضة إن لم تبن على مبادئ متينة ويكن لها مثل أعلى يوجهها في اتجاه خاص فلا أمل في بقائها، لأنها عرضة للتقلبات والأهواء كسحابة الصيف.
ثم أنه لا يمكن لغير تلك الجماعات المنظمة القوية القيام بأعباء قضية المرأة والدفاع عن حقوقها أمام التقاليد الجائرة، فالمرأة في مصر ما زالت محرومة من حقوقها السياسية، تلك الحقوق التي تمتعت بها المرأة المصرية في أقدم العصور، وتستمتع بها المرأة في كثير من الأمم الراقية لخير المجتمع. ثم هناك التشريع الذي لم يتطور مع روح العصر، والذي يعطي الرجل امتيازات يستعملها بمثابة سلاح يشهره في وجه المرأة كلما هزته شهواته ونزعاته، وهناك أيضا القيود التي تغل تقدمها العلمي، فلم تفتح أمامها بعد جميع أنواع التعليم والدراسات. هذا الحق الذي سلم به شيخ الفلاسفة سقراط الذي تعد تعاليمه لب النهى والحكمة. والذي نأخذ عنه وعن تلاميذه كثيرا من مبادئ السياسة والاجتماع والأخلاق.
كل هذه الأشياء التي تعدها المرأة حقا طبيعيا لها والتي لم تحصل عليها بعد، تبين بجلاء مبلغ خطورة القضية ومبلغ الحاجة إلى توحيد الصفوف وإنهاض جميع الهمم، فالمرأة في الواقع لم تقطع إلا جزءا يسيرا من مرحلة شاقة طويلة، فالأمل معلق على تكوين تلك الجماعات القوية التي بيدها مستقبل المرأة.
للآنسة أسماء فهمي. درجة شرف في الآداب
مجلة الرسالة - العدد 25
بتاريخ: 25 - 12 - 1933
بدأت النهضة النسائية في أوائل هذا القرن، إلا أنها لم تصبح (حركة) إلا عند نشوب الثورة المصرية سنة 1919 إذ نشطت المرأة نشاطاً كبيرا وسرت إليها روح الحماس الفياض فلبت نداء الوطن، وساهمت بنصيب وافر في الحركة السياسية، فاشتركت في المظاهرات معرضة حياتها لما كان يتعرض له الرجل من مخاطر، والفت اللجان لبث الدعوة الوطنية وتنظيم حركة المقاطعة، وظهرت في الاجتماعات الهامة. ولكم كانت لها مواقف مشهودة في تلك النهضة المباركة!
ولما هبطت درجة الحماس القومي بسبب الانشقاق بين صفوف العاملين أخذت الحركة النسائية تتجه اتجاها جديدا فاهتمت العاملات بتحسين مركز المرأة الاجتماعي، وعلى ذلك تألف الاتحاد النسائي سنة 1923 تحت زعامة السيدة الجليلة هدى هانم شعراوي، ووجه عناية كبيرة إلى المشاكل الاجتماعية التي تمس المرأة كمسألة الطلاق وتعدد الزوجات وعدم تحديد سن الزواج للفتيات، ونجح في حمل البرلمان على الاهتمام بتلك المسائل. كذلك ظهر في ذاك الوقت من بين النساء من تطالب باشراك المرأة في التمثيل النيابي.
على أن تلك البداية الحسنة سرعان ما تعرضت للضعف بدورها وانكمشت في دائرة محدودة لا تتناسب مع مطامع المرأة بدل أن تنمو وتتسع ويصبح لها فروع تهتم بمعالجة نواحي النقص كلها، فلم نعد نسمع تلك الأصوات الجريئة الفتية التي تدافع عن قضية المرأة، كما أفلس معظم الجمعيات النسائية التي كان ازدهارها قصير المدى، وهكذا خلا الميدان مرة أخرى ولم يبق إلا عدد قليل من المجاهدات يثابرنشأن الأبطال متجاهلات المتاعب والنقد.
ولكن ذلك السكون في ميدان النهضة لم يكن إلا كسكون الطبيعة في الشتاء الذي فيه تتجدد القوى برغم التجرد والعراء، فقد دخلت الحركة النسائية على الرغم ذلك السكون الظاهر في طور خطير هو طور الانتقال الهام الذي فيه اتسع نطاق تعليم المرأة فانتشرت مدارس البنات ووحدت مناهج تعليم الذكور والإناث بعد بصلاحها وتوسيعها، فأصبحت الفتاة الت كان تعليمها قاصرا على مبادئ القراءة والكتابة وقشور اللغات وبعض الفنون المنزلية تتعلم كما يتعلم الفتى، بل وتفوقه في الإقبال على العلم واستساغته.
وفي سنة 1928 سمح للبنات الحاصلات على شهادة إتمام الدراسة الثانوية بدخول الجامعة المصرية. بينما كثرت إرساليات البنات في تلك الفترة إلى الخارج للتخصص في مختلف العلوم والفنون.
وما زالت حركة تعليم البنات سائرة بنشاط رغم سوء الحالة الاقتصادية وما يوضع في طريقها من عقبات، وهذا لاشك أعظم انتصار اكتسبته المرأة، وأقوى سلاح في يدها، ولم يبق إلا أن تستغله إلى أبعد مدى ممكن.
والآن وقد تكاثر عدد المتعلمات وظهر من بينهن من يمتزن برغبتهن الحارة في الاصلاح، فستنتعش ولاشك الحركة النسائية. وان احتفاء زعيمة الاتحاد النسائي بأولى خريجات الجامعة المصرية والجامعات الأخرى في 16 ديسمبر سنة 1933 لمبشر بقرب الوصول إلى هذه الغاية، إذ لا يفيد الحركة النسائية أكثر من جمع تلك العناصر النشطة مبدئيا تحت سقف واحد وأحداث التعارف بينهن وتشجيعهن وتذكيرهن بحقوقهن وواجباتهن نحو المجتمع، وبنات جنسهن، وبالجملة أصبح لدى الحركة النسائية أهم العناصر الأساسية اللازمة للنجاح، وهي الشعور بالنقص، والرغبة في الإصلاح، وعدد لا بأس به من السيدات الناهضات، كما أن لديها أيضا مؤازرة عدد كبير من أفاضل الرجال.
على أن مجرد وجود تلك العناصر لايكفي لاحداث الأثر المطلوب بل لابد من اتحاد تلك العناصر واستغلال جهود الناهضات بان تصبح لهن جماعات منظمة، فالحركات القوية الناضجة ذات الأثر الخالد والمشروعات العظيمة قامت بواسطة الجماعات والتعاون، لا بمجهود الأفراد. والحركة النسائية في حالتها الراهنة الخاملة أحوج ما تكون إلى مثل تلك الجماعات المنظمة التي تدرس وجوه النقص في مركز المرأة وتبسط فيها الآمال والآراء، وتكون نواة لظهور الخطيبات والباحثات اللاتي يوجهن أذهان الناشئات إلي مكانتهن الهامة في الحياة، والى أهمية عهد الانتقال الذي يجتزنه، وإلا أصبح تطور المرأة تطورا غير واع شبيه بتطور النبات والحيوان: يسير بمحرك التقليد لا بناء عن التفكير والانتخاب والتفضيل. والواقع أصبح يخشى طغيان عامل التقليد على الحركة النسائية بسبب قلة المرشدات والباحثات فكثير من النساء اللاتي سفرن مثلا واختلطن بالرجال فعلن ذلك تحت تأثير (الموضة) وتقليد الغربيات لا بمقتضى مبادئ ثابتة ولا بناء عن تدبر وتفكير. والنهضة إن لم تبن على مبادئ متينة ويكن لها مثل أعلى يوجهها في اتجاه خاص فلا أمل في بقائها، لأنها عرضة للتقلبات والأهواء كسحابة الصيف.
ثم أنه لا يمكن لغير تلك الجماعات المنظمة القوية القيام بأعباء قضية المرأة والدفاع عن حقوقها أمام التقاليد الجائرة، فالمرأة في مصر ما زالت محرومة من حقوقها السياسية، تلك الحقوق التي تمتعت بها المرأة المصرية في أقدم العصور، وتستمتع بها المرأة في كثير من الأمم الراقية لخير المجتمع. ثم هناك التشريع الذي لم يتطور مع روح العصر، والذي يعطي الرجل امتيازات يستعملها بمثابة سلاح يشهره في وجه المرأة كلما هزته شهواته ونزعاته، وهناك أيضا القيود التي تغل تقدمها العلمي، فلم تفتح أمامها بعد جميع أنواع التعليم والدراسات. هذا الحق الذي سلم به شيخ الفلاسفة سقراط الذي تعد تعاليمه لب النهى والحكمة. والذي نأخذ عنه وعن تلاميذه كثيرا من مبادئ السياسة والاجتماع والأخلاق.
كل هذه الأشياء التي تعدها المرأة حقا طبيعيا لها والتي لم تحصل عليها بعد، تبين بجلاء مبلغ خطورة القضية ومبلغ الحاجة إلى توحيد الصفوف وإنهاض جميع الهمم، فالمرأة في الواقع لم تقطع إلا جزءا يسيرا من مرحلة شاقة طويلة، فالأمل معلق على تكوين تلك الجماعات القوية التي بيدها مستقبل المرأة.
للآنسة أسماء فهمي. درجة شرف في الآداب
مجلة الرسالة - العدد 25
بتاريخ: 25 - 12 - 1933