أحببت الحياة بل عشقتها، وحرصت منذ أن وعيت على أن أتمتع بها بأقصى قدر ممكن، لم تكن أسرتي معدمة ولا فاحشة الثراء، كانت أسرة متوسطة الحال لكنها نجحت في أن توفر لي ولإخوتي قدرا مناسبا من التعليم ومستوى معقولا من الرفاهية وراحة العيش، غرس أبي وأمي فينا حب الحياة والتمتع بأحلى ما فيها، تعلمنا أن كل لحظة هي فرصة حياة قائمة بذاتها، فإذا ضاعت دون أن نستمتع بها فقد خسرناها وخسرنا سعادة ومتعة عظيمة قد لا تعوض، كبرت على ذلك وكلما تقدمت بي الأيام ترسخ هذا المبدأ أكثر فأكثر داخل عقلي ونفسي، وازداد إصراري على انتهاز الفرص بل وأنصافها لتحقيق ما أطمح فيه مهما كانت العقبات التي يجب عليَّ أن أتجاوزها أو القواعد التي ينبغي أن لا أتردد في كسرها، قررت إذن أن أعيش كملكة .. أتصرف كملكة .. وأعامل الآخرين كملكة، وعندما تزوجت لم أكن راضية تماما عن الرجل الذي ساهمت ظروف كثيرة في ارتباطي به، شعرت أنه ليس طموحا ولا ذكيا بالقدر الذي يتناسب مع تطلعاتي ورغباتي، لكنني أدركت على الفور أنه من السهل عليَّ أن أسيطر عليه وأتحكم فيه كما أشاء، كان هذا أفضل ما في شخصيته، لم أركن إلى خموله وقناعته فقررت أن أدفعه دفعا كي يكتسب الرغبة والجرأة في أن يطور من نفسه ويتخطى أوضاعه، أقتضى ذلك أن أكبله بقيود من الأوامر والتعليمات وأن ألسعه بسياط من الطلبات، وكلما تراخى أو غلبته طبيعته المهادنة شددت من قبضتي عليه ولم أسمح له أبدا بعصيان أوامري أو التمرد على طلباتي، ولما أثمرت جهودي عن صعوده التدريجي بما لم يكن يحلم هو به قط أيقنت أن تعبي لم يضع هباءً، وعندما جاءته فرصة ذهبية للقفز إلى موقع قيادي شديد الحساسية من مناصب الدولة العليا لم أترك له مجالا للتفكير أو التردد، بل انتهزت الفرصة ودفعت به إلى الصدارة، كان من الممكن لهذه النقلة المفاجئة أن تفقده توازنه، لكن وجودي إلى جواره حفظه من السقوط أو الاهتزاز، كان حلمي على وشك أن يتحقق واقتربت من أن أصبح ملكة حقيقية تأمر فتطاع، وبالفعل جاءت اللحظة التي كنت أنتظرها بأسرع مما أتوقع، جاءت في الواقع في ظروف استثنائية لا تتكرر كثيرا، ولو سعيت بنفسي لتدبير مثل هذه الظروف ما استطعت أبدا، اعتبرت ذلك مؤشرا ايجابيا على ابتسام القدر لي ولأسرتي، وها أنا ذا ملكة حقيقية على البلاد ومن فيها وما فيها، ومنذ الأيام الأولى قررت أن أكتسب محبة الناس فإن لم أنجح فلأكتسب خوفهم وطاعتهم، توسعت نشاطاتي في العديد من المجالات وأضفيت عليها الطابع الخيري التطوعي، بدأت في نسج شبكة من البشر والعلاقات والمصالح تدين لي بالولاء المطلق والطاعة العمياء، نمت وتوسعت هذه الشبكة بمرور السنوات ونجحت في أن أوفر لها أبعادا سياسية ودولية، حرصت على أن أطبع مظاهر الحياة في الدولة بطابعي الشخصي، كان أولادي في هذه المرحلة يكبرون ويقتربون من السن التي تؤهلهم لإشراكهم في خطتي لبسط سيطرتنا على البلاد، بدأت في الدفع بهم تدريجيا لاكتساب خبرات سياسية واقتصادية واجتماعية، كان مخططي أن يتعود الناس على تواجدهم بشكل طبيعي في كافة المناسبات على اختلافها، وكلما شعرت بضعف أو تردد من زوجي ألجمته كما اعتدت دائما وقطعت عليه أي طريق قد يسلكه لإفساد خطتي، ساعدني أولادي في ذلك وشكل ضغطهم عليه وسيلة إضافية للتغلب على ضعفه وتردده، أصبح في النهاية مغلوبا على أمره منقادا لنا يسير كما نشاء، رتبت الأمور كلها كي يستقر الأمر لأحد أولادي من بعد زوجي، لم يكن الأمر سهلا ولا صعبا لكنه تطلب صبرا وتدبيرا محكما، التف حولنا وساندنا مجموعة كبيرة من رجال الأعمال وأصحاب المصالح الذين وفرنا لهم لسنوات عديدة فرصا ذهبية للثراء الفاحش، أتحنا لهم أراض وعقارات .. ومصانع وإعفاءات لا حصر لها، لم يكن أمامهم في المقابل من خيار إلا دعم المشروع الذي أشرفت عليه بنفسي لنقل الحكم لواحد من أولادي، كانت الأمور تسير بشكل طيب رغم بعض الاحتجاجات غير المؤثرة من جماعات صغيرة لا قيمة لها، أما غالبية الشعب فلم تبد اهتماما كبيرا بالأمر، فضلا عن أنهم كانوا تحت الضغط والسيطرة بقبضة من حديد، ولأسباب غير مفهومة انفجرت أوضاع البلد فجأة وانقلبت الأمور رأسا على عقب، اشتعلت حالة من الجنون والفوضى لم أعرف لها مثيلا ولم أواجهها من قبل، اهتز وضعي كملكة ووضع أسرتي كأسرة حاكمة بصورة لم يسبق لها مثيل، انهار زوجي سريعا واستسلم لضغوط شديدة من جهات داخلية وخارجية، لم تفلح جهودي أنا وأولادي في التصدي له وإجباره على قمع التمرد ومواجهته بقسوة، كنت واثقة أنه لو تم التعامل مع المتمردين بالقدر المناسب من القوة لأمكن لنا السيطرة عليهم، ذهبت جهودي هباء بسبب حالة الفوضى والانهيار التي أصابت مختلف مؤسسات الدولة، لو اقتصر الأمر على زوجي وحسب لنحيته جانبا وأمسكت وأولادي الأمور بقبضة من حديد، لكن تخاذل الجميع أفقدني كل شيء، وإذا بالحلم الذي عملت لسنوات طويلة ليصبح حقيقة واقعة يتهاوى في لحظات قليلة، التاج الشفاف الذي أرتديه كملكة متحكمة لا راد لأمرها سقط عنى، كرهت كل من فعلوا بي ذلك .. كرهتهم جميعا ولم أغفر لهم أبدا ما فعلوه بملكتهم، قررت أن أنتقم منهم وأن أستغل الفوضى التي خلقوها كي ينقلب عصيانهم على أنفسهم، لعل ذلك يعيد لي عرشي الذي فقدته ومملكتي التي أستحقها لي ولأولادي.
نوفمبر 2012
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"
نوفمبر 2012
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"