الأحلام:
إن اهتمام شكسبير بالأحلام ليفوق اكتراثه للعفاريت، فقد جعل منها في كثير من الأحيان قسماً من أقسام الرواية الأساسية بحيث تشكل ما نسميه موضوع الرواية. وهناك عدد من الأحلام في رواياته كان له أثر غير قليل في مجرى الرواية وسياقها التمثيلي. فحلم كلوسستر في القسم الثاني من رواية هنري السادس، وحلم كلارنيس في رواية ريشارد الثالث، وحلم كلبورنيا في رواية يوليوس قيصر، وحلم العرّاف في سمبالين، كلها تكون جزءاً غير قليل من هيكل الرواية التي ذكرت فيها.
وجميع هذه الأحلام التي ذكرتها عدا حلم العراف سمبالين تنبئ عن الموت والخراب؛ فكلوسستر يرى في نومه غلاماً قد لدغته أفعى سامة فقتلته على الفور؛ وكلارنس يحلم أن أخاه قد رمي به في بحر خضم فأغرقه حيث لا رجعة له بعد ذلك؛ وكلبورنيا أبصرت في نومها زوجها قتيلاً بين أيدي مغتاليه ورأت جسده يسيل الدم من جوانبه وقد اجتمع جميع الرومانيين حوله ليرشفوا من دمائه.
وكان الناس على اختلافهم يعتقدون أن الملكة ماب تبعث هذه الأحلام في الصدور؛ وتتجلى لنا هذه الفكرة من أجابه مركونيو لرفيقه روميو إذ يقول: (وإني لأظن أن الملكة ماب قد لازمتك ليلة البارحة)
لقد تحققت جميع الأحلام التي وردت في روايات شكسبير؛ ومن هذا يظهر لنا أن الشاعر كان يعتقد اعتقاداً جازماً في الأحلام وتأثيرها على المجتمع البشري، وهذا الاعتقاد هو ما نسميه اليوم بعلم تفسير الأحلام.
التنبؤ والتنجيم:
تحتوي روايات شكسبير على عدد كبير من النبوءات التي تختلف بحسب أهميتها وكونه قسماً رئيسياً من أقسام الرواية. وأهم هذه النبوءات التي يطالعنا بها شكسبير هي نبوءة مرجريت في رواية ريشارد الثالث. فهي تتنبأ للملكة اليصابات بقدوم وقت قريب تحتاج في أثنائه لمعونة كل إنسان، وهي تنبئ كلوسستر بقرب ذلك اليوم الذي تقطع فيه الأحزان نياط قلبه؛ وإن من الغريب أن كلتا هاتين النبوءتين تتحقق في سياق الرواية.
وأما النبوءات التي فاهت بها الساحرات في رواية مكبث، فقد تحققت كذلك في نهاية الرواية. وهذه النبوءات كما ذكرنا سالفاً كانت على نوعين: أحدهما حدث قبل أن يكون ملكاً على اسكتلندة، والآخر بعد رُقيه العرش، وقد تحققت هذه النبوءات كما تحققت سالفتها.
وفي رواية (ترويلس وكريسييدا نرى هناك عدداً آخر من النبوءات التي تصدر عن أميرة حمقاء تدعى الكسندره، فقد تنبأت بقتل هكتور ودمار طروادة، وهذا ما حدث حقيقة في نهاية الرواية؛ وترى في بعض الروايات عرافين يتكهنون بحدوث الأمور قبل وقوعها؛ ففي رواية يوليوس قيصر يتكهن العراف يقتل قيصر، وهذا ما يتم فعلاً لننتقل الآن قليلاً إلى البحث في التنجيم والفلك، ونرى هل اهتم شكسبير بهذا النوع من المغيبات. لقد وردت إشارات عدة في كثير من رواياته إلى التنجيم وقدرته على حل رموز الغيب والمستقبل؛ فنرى في كل من هملت، ويوليوس قيصر، وكوريولانوس، والعاصفة، وهنري السابع، ومكبث، وقصة الشتاء ' ' عدداً من الظواهر الطبيعية التي تحدث عادة قبل وقوع أمر جلل.
سيطول بنا البحث كثيراً إذا أسهبت في وصف كل من هذه الظاهر الطبيعية وشرح أسبابها ونتائجها، ولذلك اقتصرت على ذكرها دون شرح أو تفسير، فمن هذه الظاهر الكثيرة ظاهرة سقوط المذنبات وارتفاع أمواج البحر وقدوم بعض الطيور وسخط الطبيعة وانتقال بعض أنواع الحيوانات من مكان إلى آخر، كلها كانت أموراً خارقة للمادة تنبئ عن حدث جلل ومصاب عظيم.
الملاك الحارس
يعرّف جونسون هذا النوع من المغيبات بأنه القوة السماوية التي تحفظ الإنسان من الشرور والآلام؛ وبولكير في كتابه (العقائد الإنكليزية) يقدم لنا تعريفاً أوسع وأكثر شمولاً، فهو يقول: (يكون الملاك الحارس ملاكاً خيراً أو شيطاناً مريداً).
وقد ذكر شكسبير هذا النوع من المغيّبات في سبعة مواضع، وفي كل واحدة منها اتخذها عنواناً للفضيلة ومعنى من معاني الخير والصلاح إلا في روايته العاصفة عندما يصف فردناند هذا النوع من المغيّبات قائلاً: (إن شيطاني الحارس لن يكون قادراً على إيداع شرفي في الرغام، ولن يكون في استطاعته قط أن يغير معالم السرور التي تحيط بي الآن).
من هذه الفقرة يظهر لنا أن للإنسان ملاكاً وشيطاناً حارسين. يؤكد هذه النظرية خطاب فلستاف إلى بونيز قائلاً: (إن لهذا الغلام ملاكاً حارساً بعثه، ولكن له في نفس الوقت شيطاناً يعمي بصائره ويقوده إلى ما فيه شره ومضرته).
ولا يظهر هذا الملاك الحارس للملأ إلا بعد وفاة صاحبه، فيظهر في كل شبح من الأشباح يرتدي نفس الملابس التي كان صاحبها يرتديها قبل وفاته. ولننظر إلى حالة الذهول التي تستولي على الناس عند نهاية الرواية (مهزلة الغلطات فيرون رجلين متشابهين لا يمكن تمييز أحدهما من الآخر. اسمعهم يتهامسون (إن أحد هذين الرجلين ملاك للآخر أو صورة مطابقة له).
وهذا الملاك يلازم صاحبه تمام الملازمة في غدواته وروحاته وفي نومه ويقظته، وهنالك لا يحدث نزاع بين رجلين إلا ويصحبه نزاع آخر بين ملاكيهما الحارسين. ولنستمع إلى مكبث يقول عن بانكو: (إنه الشخص الوحيد الذي أخافه وأرهبه. إن ملاكي الحارس لا يستطيع القيام بأي أمر من الأمور مخافة غضبه وسخطه، كما كان ملاك أنطونيوس خاضعاً تمام الخضوع لملاك بروتس).
مما تقدم يتجلى لنا أن شكسبير عني بالملاك الحارس شيئاً غير الروح وغير الشبح. فما الملاك إلا باعث من بواعث الخير وداعٍ من دعاة الفضيلة بقي صاحبه ويحفظه من كل ما يهاجمه ويناوئه.
(للبحث بقية)
خيري حماد
مجلة الرسالة - العدد 124
بتاريخ: 18 - 11 - 1935
إن اهتمام شكسبير بالأحلام ليفوق اكتراثه للعفاريت، فقد جعل منها في كثير من الأحيان قسماً من أقسام الرواية الأساسية بحيث تشكل ما نسميه موضوع الرواية. وهناك عدد من الأحلام في رواياته كان له أثر غير قليل في مجرى الرواية وسياقها التمثيلي. فحلم كلوسستر في القسم الثاني من رواية هنري السادس، وحلم كلارنيس في رواية ريشارد الثالث، وحلم كلبورنيا في رواية يوليوس قيصر، وحلم العرّاف في سمبالين، كلها تكون جزءاً غير قليل من هيكل الرواية التي ذكرت فيها.
وجميع هذه الأحلام التي ذكرتها عدا حلم العراف سمبالين تنبئ عن الموت والخراب؛ فكلوسستر يرى في نومه غلاماً قد لدغته أفعى سامة فقتلته على الفور؛ وكلارنس يحلم أن أخاه قد رمي به في بحر خضم فأغرقه حيث لا رجعة له بعد ذلك؛ وكلبورنيا أبصرت في نومها زوجها قتيلاً بين أيدي مغتاليه ورأت جسده يسيل الدم من جوانبه وقد اجتمع جميع الرومانيين حوله ليرشفوا من دمائه.
وكان الناس على اختلافهم يعتقدون أن الملكة ماب تبعث هذه الأحلام في الصدور؛ وتتجلى لنا هذه الفكرة من أجابه مركونيو لرفيقه روميو إذ يقول: (وإني لأظن أن الملكة ماب قد لازمتك ليلة البارحة)
لقد تحققت جميع الأحلام التي وردت في روايات شكسبير؛ ومن هذا يظهر لنا أن الشاعر كان يعتقد اعتقاداً جازماً في الأحلام وتأثيرها على المجتمع البشري، وهذا الاعتقاد هو ما نسميه اليوم بعلم تفسير الأحلام.
التنبؤ والتنجيم:
تحتوي روايات شكسبير على عدد كبير من النبوءات التي تختلف بحسب أهميتها وكونه قسماً رئيسياً من أقسام الرواية. وأهم هذه النبوءات التي يطالعنا بها شكسبير هي نبوءة مرجريت في رواية ريشارد الثالث. فهي تتنبأ للملكة اليصابات بقدوم وقت قريب تحتاج في أثنائه لمعونة كل إنسان، وهي تنبئ كلوسستر بقرب ذلك اليوم الذي تقطع فيه الأحزان نياط قلبه؛ وإن من الغريب أن كلتا هاتين النبوءتين تتحقق في سياق الرواية.
وأما النبوءات التي فاهت بها الساحرات في رواية مكبث، فقد تحققت كذلك في نهاية الرواية. وهذه النبوءات كما ذكرنا سالفاً كانت على نوعين: أحدهما حدث قبل أن يكون ملكاً على اسكتلندة، والآخر بعد رُقيه العرش، وقد تحققت هذه النبوءات كما تحققت سالفتها.
وفي رواية (ترويلس وكريسييدا نرى هناك عدداً آخر من النبوءات التي تصدر عن أميرة حمقاء تدعى الكسندره، فقد تنبأت بقتل هكتور ودمار طروادة، وهذا ما حدث حقيقة في نهاية الرواية؛ وترى في بعض الروايات عرافين يتكهنون بحدوث الأمور قبل وقوعها؛ ففي رواية يوليوس قيصر يتكهن العراف يقتل قيصر، وهذا ما يتم فعلاً لننتقل الآن قليلاً إلى البحث في التنجيم والفلك، ونرى هل اهتم شكسبير بهذا النوع من المغيبات. لقد وردت إشارات عدة في كثير من رواياته إلى التنجيم وقدرته على حل رموز الغيب والمستقبل؛ فنرى في كل من هملت، ويوليوس قيصر، وكوريولانوس، والعاصفة، وهنري السابع، ومكبث، وقصة الشتاء ' ' عدداً من الظواهر الطبيعية التي تحدث عادة قبل وقوع أمر جلل.
سيطول بنا البحث كثيراً إذا أسهبت في وصف كل من هذه الظاهر الطبيعية وشرح أسبابها ونتائجها، ولذلك اقتصرت على ذكرها دون شرح أو تفسير، فمن هذه الظاهر الكثيرة ظاهرة سقوط المذنبات وارتفاع أمواج البحر وقدوم بعض الطيور وسخط الطبيعة وانتقال بعض أنواع الحيوانات من مكان إلى آخر، كلها كانت أموراً خارقة للمادة تنبئ عن حدث جلل ومصاب عظيم.
الملاك الحارس
يعرّف جونسون هذا النوع من المغيبات بأنه القوة السماوية التي تحفظ الإنسان من الشرور والآلام؛ وبولكير في كتابه (العقائد الإنكليزية) يقدم لنا تعريفاً أوسع وأكثر شمولاً، فهو يقول: (يكون الملاك الحارس ملاكاً خيراً أو شيطاناً مريداً).
وقد ذكر شكسبير هذا النوع من المغيّبات في سبعة مواضع، وفي كل واحدة منها اتخذها عنواناً للفضيلة ومعنى من معاني الخير والصلاح إلا في روايته العاصفة عندما يصف فردناند هذا النوع من المغيّبات قائلاً: (إن شيطاني الحارس لن يكون قادراً على إيداع شرفي في الرغام، ولن يكون في استطاعته قط أن يغير معالم السرور التي تحيط بي الآن).
من هذه الفقرة يظهر لنا أن للإنسان ملاكاً وشيطاناً حارسين. يؤكد هذه النظرية خطاب فلستاف إلى بونيز قائلاً: (إن لهذا الغلام ملاكاً حارساً بعثه، ولكن له في نفس الوقت شيطاناً يعمي بصائره ويقوده إلى ما فيه شره ومضرته).
ولا يظهر هذا الملاك الحارس للملأ إلا بعد وفاة صاحبه، فيظهر في كل شبح من الأشباح يرتدي نفس الملابس التي كان صاحبها يرتديها قبل وفاته. ولننظر إلى حالة الذهول التي تستولي على الناس عند نهاية الرواية (مهزلة الغلطات فيرون رجلين متشابهين لا يمكن تمييز أحدهما من الآخر. اسمعهم يتهامسون (إن أحد هذين الرجلين ملاك للآخر أو صورة مطابقة له).
وهذا الملاك يلازم صاحبه تمام الملازمة في غدواته وروحاته وفي نومه ويقظته، وهنالك لا يحدث نزاع بين رجلين إلا ويصحبه نزاع آخر بين ملاكيهما الحارسين. ولنستمع إلى مكبث يقول عن بانكو: (إنه الشخص الوحيد الذي أخافه وأرهبه. إن ملاكي الحارس لا يستطيع القيام بأي أمر من الأمور مخافة غضبه وسخطه، كما كان ملاك أنطونيوس خاضعاً تمام الخضوع لملاك بروتس).
مما تقدم يتجلى لنا أن شكسبير عني بالملاك الحارس شيئاً غير الروح وغير الشبح. فما الملاك إلا باعث من بواعث الخير وداعٍ من دعاة الفضيلة بقي صاحبه ويحفظه من كل ما يهاجمه ويناوئه.
(للبحث بقية)
خيري حماد
مجلة الرسالة - العدد 124
بتاريخ: 18 - 11 - 1935