2 - خصائص الشعر في العراق
أما الفرزدق فهو كالأخطل في الذؤابة من قومه، إلا أنه كان صريح العداوة فلا يوارى، فاحش الدعابة فلا يحتشم، شديد الدعارة فلا يتعفف، حاد البادرة فلا يتلطف؛ فهو في هجائه يذكر العورات ويعلن المخزيات بألفاظها العارية وأسمائها الصريحة حتى ليستحي الشاب أن ينشدها، بله الفتاة الخفرة.
وما أظن البداوة وضيق الخلق وسلاطة اللسان وفجور النفس هي كل الأسباب التي أوجدت هذا الهجاء السوقي الوقح، فإن الحطيئة ومن سبقه على اتصافهم بهذه الأوصاف لم يسفوا هذا الإسفاف، فلابد أن يكون لحياة العراق في ذلك العهد أثر قوي في ذلك: فالخلق العربي القوي قد وهت أواصره باتصال البدو بالحضر واختلاط العرب يالعجم، والوازع الديني قد ضعف بتغلب الأحزاب وضعف العصبية، والسلطان السياسي يغمض جفنيه ويضحك ملئ شدقيه من هذه المهازل التي يمثلها الشعراء والقبائل بالبصرة. أقول القبائل لأن القبيلة كانت من وراء شاعرها تحتال لانتصاره بالمال والقتال والدعاية، وربما أتى كل رجل منهم بالبيتين والثلاثة فيرفد بها الشاعر كما فعلت تيم في مهاجاة شاعرها عمر بن لجأ لجرير. وكان أحش الهجاء هجاء الفرزدق في جرير، فهو يرمي قومه بضعة النسب، وضعف الحيلة، واتخاذ الغنم، ورعي الإبل، وإتيان الأتن، ويفتن في هذه المعاني افتنانا عجيبا: يرددها في كل قصيدة على صور مختلفة وأساليب شتى، ولا يتحرج أحيانا من افتعال الحوادث المضحكة إمعانا في السخر من المهجو والنيل منه
وهذا غاية ما وصل إليه الهجاؤون وأهل التنادر في عصور الترف والخلاعة. وأدهى من ذلك أن يقذف خصمه بنوع من السباب الدنيء الذي لا يعتقده ولا يصدقه الناس، إنما يعمد إليه مبالغة في التحقير والتشهير على نحو ما يعمل الرعاع في الطبقات الوضيعة، وذلك ما لم نعهده في الهجاء من قبل، إذ كان الشاعر يرى جهة المحاسن في المريء فيمدح، أو جهة المساوئ فيه فيذم، وهو في كلتا الحالتين صادق
وقد يتدلى الفرزدق في الهجاء إلى الدرك الذي لا تسيغه رجولة، فينقض رثاء ج لامرأته بهجائها المقذع، دون أن يرعى للميت حرمة ولا للمرأة كرامة، كقوله:
كانت منافقة الحياة وموتها ... خزي علانية عليك وعار
فلئن بكيت على الأتان لقد بكى ... جزعا غداة فراقها الأعيار
تبكي على امرأةٍ وعندك مثلها ... قَعساءُ ليس لها عليك خِمار
وليكفينك فقدَ زوجتك التي ... هلكت موقعة الظهور قصار
إن الزيارة في الحياة ولا أرى ... ميتا إذا دخل القبور يُزار
ورأي الفرزدق في المرأة يدل على جفاء طبع وسوء أنفة، وربما دل أيضا على منزلتها في المجتمع العربي في ذلك العهد؛ ولا نستنبط ذلك من قوله في زوجة جرير، فقد يكون للخصومة بعض الأثر في سوئه، وإنما نستنبطه من قوله في زوجته هو حين ماتت:
يقولون زُر حدراء والترب دونها ... وكيف بشيء وصله قد تقطعا
ولست وإن عزت عليَّ بزائر ... ترابا على مرموسه قد تضعضعا
وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء في أصحابه من تقنعا
يقول ابن خنزير بكيْتَ ولم تكن ... على امرأة عيني أخال لتدمعا
وأهون رزء لامرئ غير عاجز ... رزية مرتج الروادف أفرغا
على أن طبيعة المهاجاة مع جرير، وشهوة الغلبة عند العامة، ونفاد المعاني السامية في الهجاء على طول المدة، وبلادة الحس وهوان النفس باعتياد الذم، قد دعت الفرزدق كما دعت جريرا إلى التدرج في الإقذاع والبذاء، حتى خرج شعرهما في النقائض على قوته وجودته عن الحد المألوف بين السفلة. ولكن الفرزدق مع تبذله كان يصيخ أحيانا إلى وازع الدين لتشيعه، فيتوب عن قرض الشعر، ويكف عن هجاء الناس، ويقيد نفسه ليحفظ القرآن ويقول:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني ... لَبَينَ رتاج قائما ومقام
على قسم لا أشتم الدهر مسلما ... ولا خارجا من فيَّ سوء كلام
أو يجيب إلى داعي الشرف لحسبه فيصدر في الهجاء عن طبع أبي ونفس كريمة، فتسمو معانيه وتعف ألفاظه، كقوله في معاوية وقد حبس عنده مالاً لأحد أعمامه بعد وفاته:
أبوك وعمي يا معاويَ أورثا ... تراثاً فيحتاز التراثَ أقاربه فما بال ميراث الحُتاتِ أخذته ... وميراث حرب جامد لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهلية ... علمتَ من المرء القليل حلائبه
إلا أن يقول:
وما ولدت بعد النبي وأهلهِ ... كمثليَ حصانُ في الرجال يقاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يزل ... أغر يباري الريح ما أزوَّر جانبه
نَمتهُ فروع المالكين ولم يكن ... أبوك الذي من عبد شمس يخاطبه
أما الطامة الكبرى فهي جرير، لأنه كان مرسل العنان مطلق اللسان لا يعوقه قيد ولا تكبحه شكيمة؛ فلا هو صاحب سياسة كالأخطل، ولا صاحب نحلة كالفرزدق، ولا وارث مجادة كالاثنين، وإنما كان سوقيا ترعية رزقه الله حدة الذهن، ورقة الأسلوب، وخبث اللسان، وزاده الهراش صلابة عود، وغزارة فكر، ومتانة شعر، وسهولة قافية، فبلغ بالهجاء الفردي والقبلي غايته في الإقذاع والإقناع والقوة؛ وربما كان أول من أكره الشعر على قبول الأساليب العامية المبتذلة في الهجاء كذكر العورات، وهتك المحارم، فاضطر خصومه إلى أن يكلموه باصطلاحه، ويقاتلوه بسلاحه، وأصبح بعده الهجاء في العراق لا يفعل في النفوس إلا مشوبا بهذا القذر؛ وما مهاجاة بشار وحماد إلا صورة من هجاء جرير والفرزدق
كان جرير لعاميته وبيئته، وللأسباب التي ذكرناها من قبل في معرض الكلام عن الفرزدق، يصطنع في الهجاء أساليب الدهماء، فيعير الأخطل بالقلف والخنزير والسكر، ويقذف البعيث في أمه وهي أمة سجستانية، ويهاجم الفرزدق في جدته فيتهمها بجبير القين، وفي أخته جعثن فيرميها بابتذال بني منقر إياها على أثر حادثته مع ظمياء بنت طلبة حفيدة قيس بن عاصم، ويشهر بقومه في اخفار عمرو بن جرموز لذمتهم في قتل الزبير، ثم يتسقط عيوبه الصغيرة وهفواته الدنيا، فيجسمها بالمبالغة والتزيد كضربته النابية للرومي، وزيجته القالية من نوار
وكان الفرزدق يذهب في هجائه مذهب الفخر بآبائه، فيعدد أيامهم الظافرة، ويجدد مفاخرهم الغابرة، فلا يستطيع جرير مجاراته في هذا المظمار، فيعمد إلى نقض الفخر الصلف بالسخرية اللذعة والفحش الموجع؛ وإذا أخذ جرير هذا المأخذ لا يقام له. أقرأ على سبيل المثال قصيدة الفرزدق التي مطلعها: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
تجده يقول بعد هذا البيت:
بيتا زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ... أبدا إذا عد الفَعال الأفضل
فيجيبه جرير في نقيضته له:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً ... وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
بيتاً يحممّ قَيْنكم بفنائه ... دنسا مقاعدهُ خبيثَ المدخل
قُتل الزبير وأنت عاقدُ حبوةٍ ... تبَّا لحبوتك التي لم تحلل
وافاك غدرُكَ بالزبير على منىً ... ومَجرُّ جعثِنِكم بذات الحرمل
بات الفرزدق يستجير لنفسه ... وعجان جعثنن كالطريق المُعملِ
ويقول الفرزدق:
حلل الملوك لباسُنا في أهلنا ... والسابغاتِ إلى الوغى نتسرْبلُ
فيجيبه جرير:
لا تذكروا حلل الملوك فأنكم ... بعد الزبير كحائض لم تَغْسل
ويقول الفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانةً ... وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ
فارفع بكفك إن أردت بناَءنا ... ثهلانُ ذو الهضبات هل يتحلحل؟
خالي الذي غصب الملوك نفوسهم ... وإليه كان حباء جفنةَ ينقل
إنا لنضرب رأس كل قبيلة ... وأبوك خلفَ أتانه يتقمل
فيجيبه جرير:
كان الفرزدق إذ يعوذ بخاله ... مثل الذَليل يعوذ تحت القرمل
وافخر بضبة إن أمك منهمُ ... ليس ابن ضبة بالمعمم المخول
أبلغ بني وقبانَ إن حلومهم ... خفتْ فلا يزنون حبة خردل
أذري بحلمهمُ الفِياش فأنتمُ ... مثل الفَراش عشين نار المصطلي
ويقول الفرزدق: وهب القصائدَ لي النوابغُ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرول
ثم يمضي يعدد الشعراء الفحول ويقول:
دفعوا إليَّ كتابهن وصية ... فورثتهن كأنهن الجندل
فيجيبه جرير:
أعددت للشعراء سماً ناقعاً ... فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وصغى البعيث جدعت أنف الأخطل
حسب الفرزدق أن يسب مجاشعاً ... ويعد شعر مرقش ومهلل
فأنت تلاحظ أن جرير يرغب في الطريق السهل، ويطفئ حرارة الجد ببرودة الهزل، ويقابل الكمي الهاجم في سلاحه ولأمته، وهو في ثوب المهرج وبزته وضحكته
ولجرير قدرة بارعة على تتبع الخصم في حياته الخاصة والعامة، فيتسقط أخباره ويتلقط حوادثه، ثم يعلنها في شعره تشهيرا به وفضيحة له:
يتزوج الفرزدق من حدراء بنت زيق بن بسطام على حكم أبيها، فيقول جرير:
يا زيق قد كنت من شيبان في حسب ... يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق
أنكحت ويلك قيناً في استه حمم ... يا زيق ويحك هل بارت بك السوق
يا رب قائلة بعد البناء بها: ... لا الصهر راضٍ ولا ابن القين معشوق
فيقبل أهلها عليه ويقولون له: ماتت، كراهة أن يهتك أعراضهم جرير، فيأبى جرير إلا أن يعلن الحقيقة في قوله:
وأقسم ما ماتت ولكنما التوى ... بحرداء قوم لم يروك لها أهلا
ويعبث الفرزدق في المدينة عبث الشباب، ويعترف بذلك في قوله:
هما دلتاني من ثمانين قامةً ... كما انقض باز أقتم الريش كاسرهُ
فيقول له جرير:
تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلا والمكرم
ويضرب الرومي في حضرة سليمان بن عبد الملك فينبو عنه سيفه فيقول له جرير:
بسيف أبي روغان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ومثل هذه الأخبار لطرافتها وجدتها تعلق بالنفوس وتسير على الألسنة، كصحف الأحزاب تجعل من حياة خصومها اليومية مادة لجدالها، وموضوعا لنقدها ونضالها؛ وجرير لطول ما تمرس بالهجاء وغامر في الخصومة، لاذع السخرية، فاحش الدعابة، مر التهكم، ومن ذلك كان يتضور الفرزدق ويمتقع لونه كلما وردت المربد قصيدة لجرير. وأي تهكم أمض وآلم من مثل قوله:
يا تْيمُ إن بيوتكم تيمية ... قُعس العماد قصيرة الأطناب
قوم إذا حضر الملوكَ وفودُهم ... نُتفت شواربهم على الأبواب
وقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع!
وقوله:
والتغلبي إذا تنحنح للقِرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وقوله:
فخلِّ الفخر يا ابن أبي خليد ... وأدِّ خراج رأسك كل عام
لقد علقت يمينك رأس ثور ... وما علقت يمينك باللجام
(يتبع)
الزيات
مجلة الرسالة - العدد 118
بتاريخ: 07 - 10 - 1935
أما الفرزدق فهو كالأخطل في الذؤابة من قومه، إلا أنه كان صريح العداوة فلا يوارى، فاحش الدعابة فلا يحتشم، شديد الدعارة فلا يتعفف، حاد البادرة فلا يتلطف؛ فهو في هجائه يذكر العورات ويعلن المخزيات بألفاظها العارية وأسمائها الصريحة حتى ليستحي الشاب أن ينشدها، بله الفتاة الخفرة.
وما أظن البداوة وضيق الخلق وسلاطة اللسان وفجور النفس هي كل الأسباب التي أوجدت هذا الهجاء السوقي الوقح، فإن الحطيئة ومن سبقه على اتصافهم بهذه الأوصاف لم يسفوا هذا الإسفاف، فلابد أن يكون لحياة العراق في ذلك العهد أثر قوي في ذلك: فالخلق العربي القوي قد وهت أواصره باتصال البدو بالحضر واختلاط العرب يالعجم، والوازع الديني قد ضعف بتغلب الأحزاب وضعف العصبية، والسلطان السياسي يغمض جفنيه ويضحك ملئ شدقيه من هذه المهازل التي يمثلها الشعراء والقبائل بالبصرة. أقول القبائل لأن القبيلة كانت من وراء شاعرها تحتال لانتصاره بالمال والقتال والدعاية، وربما أتى كل رجل منهم بالبيتين والثلاثة فيرفد بها الشاعر كما فعلت تيم في مهاجاة شاعرها عمر بن لجأ لجرير. وكان أحش الهجاء هجاء الفرزدق في جرير، فهو يرمي قومه بضعة النسب، وضعف الحيلة، واتخاذ الغنم، ورعي الإبل، وإتيان الأتن، ويفتن في هذه المعاني افتنانا عجيبا: يرددها في كل قصيدة على صور مختلفة وأساليب شتى، ولا يتحرج أحيانا من افتعال الحوادث المضحكة إمعانا في السخر من المهجو والنيل منه
وهذا غاية ما وصل إليه الهجاؤون وأهل التنادر في عصور الترف والخلاعة. وأدهى من ذلك أن يقذف خصمه بنوع من السباب الدنيء الذي لا يعتقده ولا يصدقه الناس، إنما يعمد إليه مبالغة في التحقير والتشهير على نحو ما يعمل الرعاع في الطبقات الوضيعة، وذلك ما لم نعهده في الهجاء من قبل، إذ كان الشاعر يرى جهة المحاسن في المريء فيمدح، أو جهة المساوئ فيه فيذم، وهو في كلتا الحالتين صادق
وقد يتدلى الفرزدق في الهجاء إلى الدرك الذي لا تسيغه رجولة، فينقض رثاء ج لامرأته بهجائها المقذع، دون أن يرعى للميت حرمة ولا للمرأة كرامة، كقوله:
كانت منافقة الحياة وموتها ... خزي علانية عليك وعار
فلئن بكيت على الأتان لقد بكى ... جزعا غداة فراقها الأعيار
تبكي على امرأةٍ وعندك مثلها ... قَعساءُ ليس لها عليك خِمار
وليكفينك فقدَ زوجتك التي ... هلكت موقعة الظهور قصار
إن الزيارة في الحياة ولا أرى ... ميتا إذا دخل القبور يُزار
ورأي الفرزدق في المرأة يدل على جفاء طبع وسوء أنفة، وربما دل أيضا على منزلتها في المجتمع العربي في ذلك العهد؛ ولا نستنبط ذلك من قوله في زوجة جرير، فقد يكون للخصومة بعض الأثر في سوئه، وإنما نستنبطه من قوله في زوجته هو حين ماتت:
يقولون زُر حدراء والترب دونها ... وكيف بشيء وصله قد تقطعا
ولست وإن عزت عليَّ بزائر ... ترابا على مرموسه قد تضعضعا
وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء في أصحابه من تقنعا
يقول ابن خنزير بكيْتَ ولم تكن ... على امرأة عيني أخال لتدمعا
وأهون رزء لامرئ غير عاجز ... رزية مرتج الروادف أفرغا
على أن طبيعة المهاجاة مع جرير، وشهوة الغلبة عند العامة، ونفاد المعاني السامية في الهجاء على طول المدة، وبلادة الحس وهوان النفس باعتياد الذم، قد دعت الفرزدق كما دعت جريرا إلى التدرج في الإقذاع والبذاء، حتى خرج شعرهما في النقائض على قوته وجودته عن الحد المألوف بين السفلة. ولكن الفرزدق مع تبذله كان يصيخ أحيانا إلى وازع الدين لتشيعه، فيتوب عن قرض الشعر، ويكف عن هجاء الناس، ويقيد نفسه ليحفظ القرآن ويقول:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني ... لَبَينَ رتاج قائما ومقام
على قسم لا أشتم الدهر مسلما ... ولا خارجا من فيَّ سوء كلام
أو يجيب إلى داعي الشرف لحسبه فيصدر في الهجاء عن طبع أبي ونفس كريمة، فتسمو معانيه وتعف ألفاظه، كقوله في معاوية وقد حبس عنده مالاً لأحد أعمامه بعد وفاته:
أبوك وعمي يا معاويَ أورثا ... تراثاً فيحتاز التراثَ أقاربه فما بال ميراث الحُتاتِ أخذته ... وميراث حرب جامد لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهلية ... علمتَ من المرء القليل حلائبه
إلا أن يقول:
وما ولدت بعد النبي وأهلهِ ... كمثليَ حصانُ في الرجال يقاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يزل ... أغر يباري الريح ما أزوَّر جانبه
نَمتهُ فروع المالكين ولم يكن ... أبوك الذي من عبد شمس يخاطبه
أما الطامة الكبرى فهي جرير، لأنه كان مرسل العنان مطلق اللسان لا يعوقه قيد ولا تكبحه شكيمة؛ فلا هو صاحب سياسة كالأخطل، ولا صاحب نحلة كالفرزدق، ولا وارث مجادة كالاثنين، وإنما كان سوقيا ترعية رزقه الله حدة الذهن، ورقة الأسلوب، وخبث اللسان، وزاده الهراش صلابة عود، وغزارة فكر، ومتانة شعر، وسهولة قافية، فبلغ بالهجاء الفردي والقبلي غايته في الإقذاع والإقناع والقوة؛ وربما كان أول من أكره الشعر على قبول الأساليب العامية المبتذلة في الهجاء كذكر العورات، وهتك المحارم، فاضطر خصومه إلى أن يكلموه باصطلاحه، ويقاتلوه بسلاحه، وأصبح بعده الهجاء في العراق لا يفعل في النفوس إلا مشوبا بهذا القذر؛ وما مهاجاة بشار وحماد إلا صورة من هجاء جرير والفرزدق
كان جرير لعاميته وبيئته، وللأسباب التي ذكرناها من قبل في معرض الكلام عن الفرزدق، يصطنع في الهجاء أساليب الدهماء، فيعير الأخطل بالقلف والخنزير والسكر، ويقذف البعيث في أمه وهي أمة سجستانية، ويهاجم الفرزدق في جدته فيتهمها بجبير القين، وفي أخته جعثن فيرميها بابتذال بني منقر إياها على أثر حادثته مع ظمياء بنت طلبة حفيدة قيس بن عاصم، ويشهر بقومه في اخفار عمرو بن جرموز لذمتهم في قتل الزبير، ثم يتسقط عيوبه الصغيرة وهفواته الدنيا، فيجسمها بالمبالغة والتزيد كضربته النابية للرومي، وزيجته القالية من نوار
وكان الفرزدق يذهب في هجائه مذهب الفخر بآبائه، فيعدد أيامهم الظافرة، ويجدد مفاخرهم الغابرة، فلا يستطيع جرير مجاراته في هذا المظمار، فيعمد إلى نقض الفخر الصلف بالسخرية اللذعة والفحش الموجع؛ وإذا أخذ جرير هذا المأخذ لا يقام له. أقرأ على سبيل المثال قصيدة الفرزدق التي مطلعها: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول
تجده يقول بعد هذا البيت:
بيتا زرارة محتبٍ بفنائه ... ومجاشع وأبو الفوارس نهشل
لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم ... أبدا إذا عد الفَعال الأفضل
فيجيبه جرير في نقيضته له:
أخزى الذي سمك السماء مجاشعاً ... وبنى بناءك في الحضيض الأسفل
بيتاً يحممّ قَيْنكم بفنائه ... دنسا مقاعدهُ خبيثَ المدخل
قُتل الزبير وأنت عاقدُ حبوةٍ ... تبَّا لحبوتك التي لم تحلل
وافاك غدرُكَ بالزبير على منىً ... ومَجرُّ جعثِنِكم بذات الحرمل
بات الفرزدق يستجير لنفسه ... وعجان جعثنن كالطريق المُعملِ
ويقول الفرزدق:
حلل الملوك لباسُنا في أهلنا ... والسابغاتِ إلى الوغى نتسرْبلُ
فيجيبه جرير:
لا تذكروا حلل الملوك فأنكم ... بعد الزبير كحائض لم تَغْسل
ويقول الفرزدق:
أحلامنا تزن الجبال رزانةً ... وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ
فارفع بكفك إن أردت بناَءنا ... ثهلانُ ذو الهضبات هل يتحلحل؟
خالي الذي غصب الملوك نفوسهم ... وإليه كان حباء جفنةَ ينقل
إنا لنضرب رأس كل قبيلة ... وأبوك خلفَ أتانه يتقمل
فيجيبه جرير:
كان الفرزدق إذ يعوذ بخاله ... مثل الذَليل يعوذ تحت القرمل
وافخر بضبة إن أمك منهمُ ... ليس ابن ضبة بالمعمم المخول
أبلغ بني وقبانَ إن حلومهم ... خفتْ فلا يزنون حبة خردل
أذري بحلمهمُ الفِياش فأنتمُ ... مثل الفَراش عشين نار المصطلي
ويقول الفرزدق: وهب القصائدَ لي النوابغُ إذ مضوا ... وأبو يزيد وذو القروح وجرول
ثم يمضي يعدد الشعراء الفحول ويقول:
دفعوا إليَّ كتابهن وصية ... فورثتهن كأنهن الجندل
فيجيبه جرير:
أعددت للشعراء سماً ناقعاً ... فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وصغى البعيث جدعت أنف الأخطل
حسب الفرزدق أن يسب مجاشعاً ... ويعد شعر مرقش ومهلل
فأنت تلاحظ أن جرير يرغب في الطريق السهل، ويطفئ حرارة الجد ببرودة الهزل، ويقابل الكمي الهاجم في سلاحه ولأمته، وهو في ثوب المهرج وبزته وضحكته
ولجرير قدرة بارعة على تتبع الخصم في حياته الخاصة والعامة، فيتسقط أخباره ويتلقط حوادثه، ثم يعلنها في شعره تشهيرا به وفضيحة له:
يتزوج الفرزدق من حدراء بنت زيق بن بسطام على حكم أبيها، فيقول جرير:
يا زيق قد كنت من شيبان في حسب ... يا زيق ويحك من أنكحت يا زيق
أنكحت ويلك قيناً في استه حمم ... يا زيق ويحك هل بارت بك السوق
يا رب قائلة بعد البناء بها: ... لا الصهر راضٍ ولا ابن القين معشوق
فيقبل أهلها عليه ويقولون له: ماتت، كراهة أن يهتك أعراضهم جرير، فيأبى جرير إلا أن يعلن الحقيقة في قوله:
وأقسم ما ماتت ولكنما التوى ... بحرداء قوم لم يروك لها أهلا
ويعبث الفرزدق في المدينة عبث الشباب، ويعترف بذلك في قوله:
هما دلتاني من ثمانين قامةً ... كما انقض باز أقتم الريش كاسرهُ
فيقول له جرير:
تدليت تزني من ثمانين قامة ... وقصرت عن باع العلا والمكرم
ويضرب الرومي في حضرة سليمان بن عبد الملك فينبو عنه سيفه فيقول له جرير:
بسيف أبي روغان سيف مجاشع ... ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ومثل هذه الأخبار لطرافتها وجدتها تعلق بالنفوس وتسير على الألسنة، كصحف الأحزاب تجعل من حياة خصومها اليومية مادة لجدالها، وموضوعا لنقدها ونضالها؛ وجرير لطول ما تمرس بالهجاء وغامر في الخصومة، لاذع السخرية، فاحش الدعابة، مر التهكم، ومن ذلك كان يتضور الفرزدق ويمتقع لونه كلما وردت المربد قصيدة لجرير. وأي تهكم أمض وآلم من مثل قوله:
يا تْيمُ إن بيوتكم تيمية ... قُعس العماد قصيرة الأطناب
قوم إذا حضر الملوكَ وفودُهم ... نُتفت شواربهم على الأبواب
وقوله:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع!
وقوله:
والتغلبي إذا تنحنح للقِرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
وقوله:
فخلِّ الفخر يا ابن أبي خليد ... وأدِّ خراج رأسك كل عام
لقد علقت يمينك رأس ثور ... وما علقت يمينك باللجام
(يتبع)
الزيات
مجلة الرسالة - العدد 118
بتاريخ: 07 - 10 - 1935