وقع! أُغمِيَ عليه! بالَ على نفسه! حملوه إلى غرفة "الحوفيش" مُمرّض السجن، لكنه نَفَر من رائحة السجين، فقد تغوّط في بنطاله! وأمرهم أن يخرجوه.
خلعنا عنه ملابسه، وسلّطنا عليه خرطوم مياه المطافي، ووضعنا عليه سروالاً آخر، وحضر الطبيب بعد خمس ساعات.
إنه مُعافى.. لا يعاني من أيّ عارض أو مرض!
كيف أيّها الطبيب؟ إنه لا يتحرّك! ألا ترى؟!
ونقلناه إلى الغرفة، ورحنا نطعمه ونسقيه، وهو مشلول تماماً! ننظّفه كلّما فعلها، ونلبسه ثانيةً.. ولا نفارقه.
وألحفنا بالطلب أن ينقلوه إلى المشفى.
وبعد أُسبوعين حملوه في "البوسطة"؛ سيارة نقل المُعتقلين، إلى "معبار الرّملة"؛ مشفى عسكري لعلاج الأسرى والسجناء الأمنيين، وسرعان ما أعادوه إلى السجن، وهم يردّدون: إنه كذّاب، يتمارض، ليس في جسده أيّ خلل، ولا يعاني من شيء.
لكن زميلنا فاروق القبطي، ابن الخامسة والعشرين، لا يتحرّك ولا يحسّ بشيء! فكيف لهم أن يدّعوا أنه بصحة جيّدة، وأنّ أعضاءه سليمة؟!
على كل حال، بقي القبطي عاجزاً مُمدّداً، لا يأكل إلاّ إذا وضعنا الطعام في فمه، ويبول في فِراشه، ويتغوّط على نفسه، بل ولا يشعر بجسده وإنْ قرصته أو انسكبت عليه النار.
واتفق بأن نقلته إدارةُ السجن إلى زنزانة انفرادية، وراحت تراقبه. وكان السجّانون يطفئون أعقاب سجائرهم في وجهه وقدمية ولا يتحرّك.. حتى أنهم دلحوا القهوة الساخنة على رأسه، فتسلّخ.. ولم يتحرّك!! وكنّا نذهب يومياً إلى زنزانته، نطعمه ونسقيه، ونغسّله، ونغيّر ملابسه، وهو لا ينبس ببنت شفة، ولا تندّ عنه أيّ ردة فعل أو نأمة أو حركة أو إشارة.. إنه معطّل الجسم.. تماماً.
وكثيراً ما كنّا نسحق حبّات الإسبرين ونجعلها مسحوقاً نلبّد بها تسلّخات رأسه أو تغضّنات حريق السجائر في وجهه ويديه، ونترفّق به، وهو مُستسلم ويبقى على الهيئة التي نتركه عليها.. ساعة ، اثنتين، يوماً ، يومين..
ورفعنا قضيّته إلى المحاكم وإلى الصليب الأحمر، وبقي القبطي على هذه الحال أكثر من عامٍ ونصف العام.
كان أكثر ما يؤلمني أنه عاجز عن قول أيّ شيء، فهو جثّة حيّة، لكنها هامِدة، وقد ضمرت وهزلت وانكمش جلدها، وكنّا نصبّ عليه، في الشتاء القارس، الماء البارد لنغسّله، ولا أدري كيف له أن يتحمّل برودتها الحديدية الحادّة.. لكنه، بالفعل، مفلوج، تعطّلت أحاسيسه، وفقدت أعصابه مهمّاتها.. وصار خرقةً آدميةً تذوي وتُطوى، من دون أن تقدر على هشّ ذبابةٍ تطنّ حوله.
وأخيراً، جاء مندوب الصليب الأحمر فقمنا بحفلة استحمام للقبطي، وألبسناه سروالاً وقميصاً، غير كاِلحَيْن، وحفَّظْناه مثل الرضيع، ووضعناه على كرسي مدولب متحرّك، أحضره الصليب الأحمر، وودّعناه وهو منكمش، وقد سقط رأسه على كتفه، فحزَّمناه بِحَبلٍ، وربطناه بالعربة حتى لا يسقط.
كانت المحكمة قد قررّت إطلاق سراح فاروق أحمد القبطي، شرط إبعاده إلى شرق الأردن، بعد أن عرض المحامون تقارير علميّة تؤكّد أن السجين قد يُصاب بحال شللٍ في جسمه لأسبابٍ نفسيّة.
على ضفّة نهر الأردن، جاء مندوب الصليب الأحمر في المملكة الأردنية وتسلّم السجين المُبْعَد مع أوراقه، وما أنْ قطع الحدود، وأصبح فاروق أحمد يوسف القبطي في عُهدة أشقائه الأردنيين، حتى فكّ الحَبل عن نفسه، ووقف، وأزاح العَرَبة بقدمه، والتفت وراءه، فرأى ضابط الاحتلال يرقبه، وقد ضرب وجهه بيده، فما كان من القبطي إلا أن رفع يده وفتح أصابعه، ثمّ عقف إصبعه الوسطى وسلّطها نحو الضابط .. ومضى.
بالمناسبة، كانت محكمة الاحتلال قد قضت باعتقال فاروق القبطي بالسجن المؤبّد، والتحفّظ على جثته، بعد موته مدة مئة عام.
خلعنا عنه ملابسه، وسلّطنا عليه خرطوم مياه المطافي، ووضعنا عليه سروالاً آخر، وحضر الطبيب بعد خمس ساعات.
إنه مُعافى.. لا يعاني من أيّ عارض أو مرض!
كيف أيّها الطبيب؟ إنه لا يتحرّك! ألا ترى؟!
ونقلناه إلى الغرفة، ورحنا نطعمه ونسقيه، وهو مشلول تماماً! ننظّفه كلّما فعلها، ونلبسه ثانيةً.. ولا نفارقه.
وألحفنا بالطلب أن ينقلوه إلى المشفى.
وبعد أُسبوعين حملوه في "البوسطة"؛ سيارة نقل المُعتقلين، إلى "معبار الرّملة"؛ مشفى عسكري لعلاج الأسرى والسجناء الأمنيين، وسرعان ما أعادوه إلى السجن، وهم يردّدون: إنه كذّاب، يتمارض، ليس في جسده أيّ خلل، ولا يعاني من شيء.
لكن زميلنا فاروق القبطي، ابن الخامسة والعشرين، لا يتحرّك ولا يحسّ بشيء! فكيف لهم أن يدّعوا أنه بصحة جيّدة، وأنّ أعضاءه سليمة؟!
على كل حال، بقي القبطي عاجزاً مُمدّداً، لا يأكل إلاّ إذا وضعنا الطعام في فمه، ويبول في فِراشه، ويتغوّط على نفسه، بل ولا يشعر بجسده وإنْ قرصته أو انسكبت عليه النار.
واتفق بأن نقلته إدارةُ السجن إلى زنزانة انفرادية، وراحت تراقبه. وكان السجّانون يطفئون أعقاب سجائرهم في وجهه وقدمية ولا يتحرّك.. حتى أنهم دلحوا القهوة الساخنة على رأسه، فتسلّخ.. ولم يتحرّك!! وكنّا نذهب يومياً إلى زنزانته، نطعمه ونسقيه، ونغسّله، ونغيّر ملابسه، وهو لا ينبس ببنت شفة، ولا تندّ عنه أيّ ردة فعل أو نأمة أو حركة أو إشارة.. إنه معطّل الجسم.. تماماً.
وكثيراً ما كنّا نسحق حبّات الإسبرين ونجعلها مسحوقاً نلبّد بها تسلّخات رأسه أو تغضّنات حريق السجائر في وجهه ويديه، ونترفّق به، وهو مُستسلم ويبقى على الهيئة التي نتركه عليها.. ساعة ، اثنتين، يوماً ، يومين..
ورفعنا قضيّته إلى المحاكم وإلى الصليب الأحمر، وبقي القبطي على هذه الحال أكثر من عامٍ ونصف العام.
كان أكثر ما يؤلمني أنه عاجز عن قول أيّ شيء، فهو جثّة حيّة، لكنها هامِدة، وقد ضمرت وهزلت وانكمش جلدها، وكنّا نصبّ عليه، في الشتاء القارس، الماء البارد لنغسّله، ولا أدري كيف له أن يتحمّل برودتها الحديدية الحادّة.. لكنه، بالفعل، مفلوج، تعطّلت أحاسيسه، وفقدت أعصابه مهمّاتها.. وصار خرقةً آدميةً تذوي وتُطوى، من دون أن تقدر على هشّ ذبابةٍ تطنّ حوله.
وأخيراً، جاء مندوب الصليب الأحمر فقمنا بحفلة استحمام للقبطي، وألبسناه سروالاً وقميصاً، غير كاِلحَيْن، وحفَّظْناه مثل الرضيع، ووضعناه على كرسي مدولب متحرّك، أحضره الصليب الأحمر، وودّعناه وهو منكمش، وقد سقط رأسه على كتفه، فحزَّمناه بِحَبلٍ، وربطناه بالعربة حتى لا يسقط.
كانت المحكمة قد قررّت إطلاق سراح فاروق أحمد القبطي، شرط إبعاده إلى شرق الأردن، بعد أن عرض المحامون تقارير علميّة تؤكّد أن السجين قد يُصاب بحال شللٍ في جسمه لأسبابٍ نفسيّة.
على ضفّة نهر الأردن، جاء مندوب الصليب الأحمر في المملكة الأردنية وتسلّم السجين المُبْعَد مع أوراقه، وما أنْ قطع الحدود، وأصبح فاروق أحمد يوسف القبطي في عُهدة أشقائه الأردنيين، حتى فكّ الحَبل عن نفسه، ووقف، وأزاح العَرَبة بقدمه، والتفت وراءه، فرأى ضابط الاحتلال يرقبه، وقد ضرب وجهه بيده، فما كان من القبطي إلا أن رفع يده وفتح أصابعه، ثمّ عقف إصبعه الوسطى وسلّطها نحو الضابط .. ومضى.
بالمناسبة، كانت محكمة الاحتلال قد قضت باعتقال فاروق القبطي بالسجن المؤبّد، والتحفّظ على جثته، بعد موته مدة مئة عام.