وَظَّفَتْ تَفَوُّقَهَا الْعِلْمِيَّ وَ التِّـقَنِيَّ الْلَّامَحْدُودَيْنِ فِي تَحْطِيمِ إِرَادَةِ الشُّعُوبِ الَّتِي تَأْبَى الْخُضُوعَ لِهَيْمَنَتِهَا وَ الْانْصِيَاعَ لِأَوَامِرِهَا وَ نُفُوذِهَا . شَنَّتْ عَلَيْهَا حَرُوبًا مُنَاخِيَّةً خَفِيَّةً ، جَفَّفَتْ مِنْ خِلَالِ رَفْعِ دَرجَاتِ الْحَرَارَةِ أَحْوَاضَ الْأَنْهُرِ الْغَائِرَةِ فِي الْقِدَمِ ، تَصَحَّرَتْ أَرَاضٍ شَاسِعَةٌ كَانَتْ إِلَى وَقْتٍ قَرِيبٍ مِنْ أَخْصَبِ بِقَاعِ كَوْكَبِ الْأَرْضِ ، فَتَحَوَّلَتْ بُلْدَانٌ مِنْ مُكْتَـفِيَةٍ ذَاتِيًّا وَ مُصَدِّرَةٍ لِلْغِلَالِ إِلَى مُسْتَوْرِدَةٍ لَهَا , ثُمَّ بَدَأَتِ الْهِجْرَاتُ السُّكَانِيَّةُ الْجَمَاعِيَّةُ بَالتَّدَفُّقِ مِنَ الْقُرَى وَ الْأَرْيَافِ تِجَاهَ الْمُدُنِ الصِّنَاعِيَّةِ الْكَبِيرَةِ ، مِمَّا أَدَّى إِلى خَلَلٍ اِجْتِمَاعِيٍّ خَطِيرٍ ، صِرَاعِ عَادَاتٍ وَتَـقَالِيدَ ، وَ اخْتِلَاطِ مَفَاهِيمَ وَ قِيَمٍ ، فعَمَّ الْفَقْرُ وَالْبِطَالَةُ وَالضَّيَاعُ ، وَانْتَشَرَتِ الْجَرِيمَةُ الْمُنَظَّمَةُ وَ انْحَلَّتِ الْأَوَاصِرُ الْأُسَرِيَّةُ وَتَلَاشَتْ هَيْبَةُ الْقَانُونِ . لَمْ يَدُمِ الْحَالُ طَوِيلًا ، فَسُرْعَانَ مَا اِرْتَدَّتْ عَلَيْهَا كُلَّ مخَطَّطَاتِهَا الشَّيْطَانِيَّةِ ، اِشْتَعَلَتْ حَرَائِقُ كَبِيرَةٌ فِي غَابَاتِهَا ، وَ ضَرَبَتِ الْأَعَاصِيرُ وَ الْعَوَاصِفُ مُدُنَهَا وَ أَزَالَتْهَا مِنَ الْوُجُودِ ، قَتَلَتْ وَ شَرَّدَتْ مِئَاتِ الْأُلُوفِ مِنَ السُّكَّانِ لِيَتَعَاظَمَ دَيْنُ الدَّوْلَةِ الدَّاخِلِيُّ وَ يَرْتَفِعُ الْعَجزُ فِي الْمُوَازَنَةِ الْعَامَّةِ . لَكِنَّ الْأَمْرَ حَتْمًا لَنْ يَكُونَ دَرْسًا لَهَا ، فَهِي عَلَى مَدَى تَأْرِيخِهَا لَمْ تَتَّعِظ مَرَّةً.