لئن كنا لا نجزم بحقيقة طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى قبل الثورة النيوليتية فنحن نشاطر جارد دايموند Jared Diamond في مقاله La Pire Erreur De L’Histoire de L’Humanité: قوله أن الزراعة" لم تكن سوى كارثة لم نتمكّن من التخلُّص من آثارها أبداً. مع الزراعة، والتي تسببت باللعنة على وجودنا ، حضر التفاوت الاجتماعي والجنسيّ الخطير والمرض والاستبداد".
تذكر الميثولوجيات القديمة حصول ثورة في عالم السماء احتلّ فيها الإله مكان "سيدة السماء". هذا التحول من الأنوثة إلى الذكورة في العالم الميتافيزيقي ما هو في حقيقته إلا تصوير لما طال الفكر البشري في المجال الاقتصادي والاجتماعي من تغيير: انعكاس لثورة حصلت على الأرض نتيجة لتغير النظام المعيشي الذي صارت الأنثى فيه موضوع جشع اقتصادي متنام مما أدى إلى انقلاب الشروط الاجتماعية للعلاقات بين الجنسين. وفر النظام المعيشي الجديد تناميا ديموغرافيا كبيرا مقارنة بعصر الإنسان الصياد الجامع اللاقط فازداد عدد الأيدي العاملة وحصلت وفرة في الإنتاج خلقت طبقتي السادة والعبيد والفوارق بين الذكر والأنثى والتي ليست نتاج جبرية بيولوجية بل هي ثمرة ظهور هذا المجتمع الزراعي وسيادة ثقافة الملكية التي بدأ معها تاريخنا البشري المخضب بالدماء ولا زال متواصلا إلى اليوم : تاريخ الذكورة العنيف المليء بالحروب والاستبداد والاستعباد.
تسامى الذكر ليحتل مكان الرب –رب الحقل والبيت والأسرة- و في المقابل تدنّت مكانة الأنثى وحُدِّدَت داخل المجتمع ك"جنس آخر" مهمته العمل في حقل السيد وفي منزله وضمان نقاوة سلالته وتأمين ورثة شرعيين لممتلكاته وبذلك اتخذت العائلة البطريركية شكلها الذي لا تزال تحتفظ به إلى اليوم رغم كل التعديلات التي حصلت على مر العصور.
شكّل الأدب الفضاء التعبيري الأرحب لاختراق هذا الخطاب الذكوري الذي مثلت فيه الأنثى "المرآة العاكسة لخطاب أبوي" يحرمها من "التمثيل الذاتي representation " (اوريغاري) فأصبحت رمزا للغياب والسلبية: "القارة المظلمة" و"الرجل الذي تم خصاؤه"(فرويد).
من خلال الأدب، عبَّر المبدعون عن الداخلي المأزوم والمهزوم والمهمَّش في النفس وعن الفجوة العميقة بين ظواهر الأمور وبواطنها وعن المخجل والمسكوت عنه وكل ما هو غير عقلاني في إطار ثقافة المجتمع الأبوي الصارمة لكن الإشكال تمثل دوما في طبيعة النظرة إليها وكيفية تقديم دورها.
مع مرور العصور ونظرا للكم الهائل من المعارف والعلوم التي حصَّلها الإنسان واعتبارا لسهولة التواصل بين الشعوب تأثيرا وتأثرا إضافة لما كلل المساعي الحثيثة من أجل تحرير النساء من نجاحات شهدت النظرة للأنثى تغيرات ارتبطت بمدى إيمان الشعوب بالحرية وممارستهم لها على أرض الواقع.
في تونس أنموذجا، هل تغيرت نظرة المجتمع الدونية لها وهل تقدمها الأعمال الروائية، مرآة الواقع الاجتماعي العام، ككيان مستقل أم مجرد ظل للرجل؟
يمتاز المجتمع التونسي عن بقية البلدان عربية الثقافة الأخرى باحترام أكبر للأنثى. كونها غير معرضة لتشاركها زوجة ثانية بيتها وليست ملزمة بلباس طائفي محدد هو واقع متجذر تاريخيا وحضاريا أولا من خلال "الصداق القيرواني" والذي يمثل زواج أبو جعفر المنصور من أروى القيروانية في بداية القرن الثامن ميلادي وزواج المعزّ لدين اللّه الفاطمي (القرن العاشر ميلادي) أشهر أدلة عليه وثانيا حق طلب الطلاق بعد مدة من غياب الزوج يحددها القاضي (القرن الحادي عشر ميلادي) وثالثا حق توريث المرأة ذات الرّحم أو من هو من نسلها ممّا مكّنها من تكوين ثروات وأملاك خاصّة بها (في نفس الفترة الزمنية تقريبا).
كما أنه من أكثر المجتمعات العربية تأثرا اطلاعا وتمثلا بالفكر الغربي إضافة إلى أن سياسته منحت المرأة كافة الحقوق منذ فجر الاستقلال عبر المصادقة على مجلة الأحوال الشخصية في سنة 1957.
انطلاقا من هذه الخصوصية، كانت صورة الأنثى في الرواية التونسية مختلفة عن مثيلاتها في باقي الأعمال الروائية العربية.
والرواية التونسية حديثة بالمقارنة بالعمل الإبداعي الروائي في العالم إذ يقول بعض الدارسين أنها تعود للنصف الثاني من القرن العشرين رغم أنه قد ظهرت روايات قبل ذلك مثل "الهيفاء وسراج الليل" لصالح السويسي سنة 1906 كما أنه قد تم تأليف الرواية الذهنية "حدث أبو هريرة قال" للدكتور محمود المسعدي قبل 1940 وإن نشرت سنة 1973.
ركزت الروايات التونسية في مواضيعها، مثل جل الأعمال الروائية، على نقل الواقع الاجتماعي ونقده بكل دقة في ما يتعلق بالمواضيع العامة وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة والحالات النفسية الشخصية لكليهما مقدمة الأنثى كشريكة في تحمّل المسؤوليات وأم ومناضلة ومتمردة على الواقع المجتمعي.
عبَّر البشير بن سلامة في روايته "عائشة" عن تردّي الأوضاع عموما وعن النظرة الدّونيّة المحقّرة للمرأة وتتكرر نفس الصورة في رواية "حليمة" لمحمد العروسي المطوي في حديث النسوة عند العين :"فاطمة الشخماء بُشِّرت بمولود بعد أن نالها التعب المر وعسر الولادة. لكن ما دام المولود ذكرا فكل عذاب يهون... إن زوجها عصبي المزاج. كان يهددها بالطلاق لو ولدت بنتا"(ص13) كما يتردد صداها في صرخة بطلة "قليل من الرغبة" لمنيرة رزقي :" وها أنني الآن أحس و هو في مدينته البعيدة أنه كان يحلم أن أكون ولدا يشبهه ويرث عنفوان رجولته. البنت الوحيدة. أي قدر لعين: عقدة الوحدة و لعنة الأنوثة. إنني أمقت هشاشة الأنثى و ضعفها. فهل الأنوثة شيء ما يمس أجسادنا و روحنا فتجعلنا كائنات هشة و ضعيفة؟".
وفي رواية "سهرت منه الليالي"، الأقدم زمنيا، رسم لنا علي الدوعاجي حياة امرأة تعاني الأمية وتتزوج مرغمة من رجلٍ يتعاطى السكر والعربدة ويعنفها ناعتا إياها بأفظع الصفات موجها لها كلاما بذيء وسوقيا ومع أنها تشعر تجاهه بكل أصناف الكره إلا أنها تستمر في السهر على راحته غير مبالية بنفسها.
لكن محمد العروسي المطوي قدم في ذات العمل الروائي "حليمة" صورة مختلفة تماما. صورة مشرفة للأنثى التونسية كصنو للرجل في تحقيق وإدراك الذات والنجاح رغم العراقيل والعمل والدفاع عن القضايا الكبرى ف"المرأة هي أيضا تعرف القيم التي يقوم الذكر بتحقيقها بصورة فعلية" لهذا نجدها تجابه"قيم الرجال بقيم أنثوية" –دي بوفوار الجنس الآخر-. منذ بداية الرواية نلاحظ تمتع حليمة بشخصية قوية وبذكاء حاد وباستقلالية في التصرف واتخاذ القرارات ثم نتابع، بعد انتقالها إلى العاصمة وزواجها من عبد الحميد، مشاركتها ببسالة في العمل النضالي من اجل تحرير الوطن وان حافظ المطوي في سرده على أهمية دور الأنثى ك"ملاك البيت" على حد تعبير فرجينيا وولف في كتابها "مهنة النساء" فعبد الحميد يطلب من حليمة أن تعده إن هو غاب أو استشهد أن تكف عن أي عمل ميداني لتقوم بحماية الأطفال والاعتناء بهم.
قدم هؤلاء الروائيون، رغم أنهم نقدوا من خلال شخصياتهم الأنثوية الواقع الاجتماعي والبنية الفكرية الذكورية الطاغية فيه، أنموذجا مثاليا للأنثى موازي للمثال الحي في المجتمع بكل جمالياته وعيوبه وجوانبه السلبية لكن من منظور ذكوري يتوافق مع صورة المرأة عموما عبر التاريخ فهي كائن لا يساويه شيء ولا يمكن أن يتساوى مع شيء لأنه الأم وهي الفاضلة لأنها تؤمن وتثق بالرجل ومبادئه ومجتمعه وأخلاقه ومعتقده وهي المحبوبة لأنها معطاء وهي العظيمة لأنها تناضل من أجل قضية مصيرية أو لأنها تتعذب في صمت وان تمردت تُلاقي الإدانة والإقصاء.
هذه الصورة الجذابة للأنثى هي في الواقع هدامة لأنها خاضعة لشروط فكر المجتمع الذكوري الذي يسعى إلى أن تبقى الأنثى سلبية محتجزة في العادة والتقاليد والبيت مما جعلها تُرسَم كوسيلة وكشيء لا كغاية ففي روايتي "عائشة" و"أم حامد" لمصطفى الفيلالي واللتين تحمل فيهما الأنثى البطولة، البطولة الحقيقية هي للرجل في حين تظل هي إما عاجزة بسيطة أو تابعة وغير واعية بذاتها وقدراتها أو ساذجة عاطفيا في حين أنها "ليست أقل أو أكبر شأنا من الرجل وهي ليست ملاكا ولا شيطانا ولا كائنا مثاليا بل كائن بشري قولبته الأخلاق الأنانية للذكورة وحولته إلى نصف عبد تسحقه الصورة الذكورية للأنوثة منذ بدء الخليقة ولا يمكن أن يحقق ذاته إن اكتفى بأن يلعب دور الأم والحبيبة". Francis, Claude and Fernande Gontier. Les écrits de Simone de Beauvoir
في هذا الفضاء الأبوي صار العالم الأنثوي عالما مبنيا على الحلم والوهم وذا نوايا سيئة أهم ما فيه الكذب على الذات وخداعها عبر بناء أدوار وهمية تبدو متناسقة لكن في حقيقتها لا تمثل إلا التبعية للآخرين. تكره فيها الأنثى أنوثتها وتؤمن أنها المدنَّس والعورة مقابل الذكر المقدَّس والإلهي دون أن تدرك أن :"الرجال يكرهون النساء رغم أنهن لا يدركن ذلك وأنهن تعلمن أن يكرهن ذواتهن." جيرمن غرير " The Female Eunuch "
من أهم الأدوار التي تَبْنِيها وتَتَبَنَاها الأنثى "الأمومة". والأمومة هي أكبر أكذوبة في الواقع وفي الأدب فسقوط حق الأمومة الذي تمتعت به الأنثى في المجتمعات التي حكمتها "سيدة السماء" وامتلاك الرجل للأرض وللنساء والذي نتج عنه استعباد الزوجة (أو الزوجات) والأبناء مَثَّلا "أكبر الخيبات التاريخية للجنس الأنثوي"Les écrits de Simone de Beauvoir حتى غدت الأمومة عند الروائيين رمزا لا للطهر فقط بل ولصرامة المكان وقيود الواقع وللأصالة وكل ما يجب أن يظل محافظا على نسقه الثابت في الفكر الذكوري.
ففي رواية "حليمة" لمحمد العروسي المطوي يقتصر دور الأم على حماية ابنتها وتوفير حياة كريمة لها واختيار الزوج الأنسب خاضعة، في كل تدخل في حياة ابنتها وقراراتها، للمجتمع الذي تعيش في إطاره وفي رواية "البحر ينشر ألواحه" لمحمد صالح الجابري يقتصر وجود أم "دربال" البطل في الرواية على تزويد ابنها بالوصية وقت سفره ثم تختفي نهائيا وأم حبيبة في ذات الرواية هي المرأة القاسية الصارمة التي تراقب سلوك ابنتها لتحميها من العهر لكن غيابها يؤدي إلى جنوح البنت ومعاشرتها للبطل.
كما أن هجر أم "عبد الله" للبيت رفضا لزواجه من عائشة بنت المحاميد الكسيحة في رواية "التوت المر" هو تصوير للتمسك بالتقاليد والمكانة الاجتماعية.
هذه الوظيفة التي تفشل الأم غالبا في إدارتها هي "معادلة تسوية غريبة" (سيمون دي بوفوار Les écrits de Simone de Beauvoir) يترافق فيها الإيثار والحلم والوفاء والتضحية مع سوء النية والنرجسية والتملك ويبرز ما تلاقيه الأم من نكران من طرف الأبناء، في الواقع والأدب، عقم هذه التسوية.
إذ رغم كل ما تقدمه وما تكابده من عناء تفقد اسمها الأول وتغدو "أم فلان" في حين يظل الابن ملكية خاصة وحصرية لأبيه ونجد صدى ذلك على سبيل المثال في قول الحاج عبد الله في بداية رواية مصطفى الفيلالي "أم حامد": " نجح ولدنا نجح. ولدي رجل، سيد الرجالة، نسل أبيه" (ص:7). ويواصل في موضع آخر قائلا :"وهل يستشار على الخير الابن المطالب بالطاعة؟" (ص15).
في النهاية لا تجد الأم خلاصا إلا في الذكرى واجترار الألم في حين انه يجب ألا يحدد دور الأنثى في بعض الوظائف الثابتة لأن الأمومة " ليست نداء باطنيا ولا امتلاء داخليا اختياريا بالنسبة للمرأة" (سيمون دي بوفوار) بل هو أحد الأدوار التي صنعها الفكر الأبوي في استعباده للأنثى تماهت فيه المرأة حد الانتفاء. يبرع الفيلالي في التعبير عن ذلك على لسان "حامد" متحدثا عن أمه :" ما علمتُ لها مِن مرض. تركتها في حال جيدة. امرأة كتوم تستحي من الشكوى، البوح بالألم أو الحزن كان عندها كالهتك من حرمة الذات"(ص166).
دور الزوجة لا يقل بؤسا وارتباطا بالفكر الذكوري. والزواج عقد يفرض على الطرفين بعض الواجبات ويمنحهما بعض الحقوق لكن دور الأنثى فيه يكون غالبا سلبيا فبمَا أنها تحمل وزر الخطيئة الأولى عليها أن تكفر عن كل تلك الذنوب بما تقدمه من خدمات وما تتحمله في سبيل إسعاد الزوج وتوفير الراحة له من مشقة لأنها موضوع الوطء واللذة أساسا ولا تعامل كشريك فالمهر الذي دفع لها "هو شراء حق الوطء والاستعباد"(الغزالي) كما في رواية سهرت منه الليالي لعلي الدوعاجي.
تظل الأنثى/الزوجة ترى العالم من خلال منظورها لزوجها في حين تعجز عن التعبير له عن ذاتها واحتياجاتها كما في نص عروسية النالوتي "تماس" والذي يغدو ايروسيا لكثافة الصور الإيحائية الجنسية فيه. رواية تماس هي نجوى أنثوية باحثة عن الارتواء النفسي والجسدي في حضن "الزوج" مركزة على الإحباطات التي يسببها في علاقته الحميمية والعاطفية مع المرأة مصورة القطيعة بين الجنسين في إدراك كل منهما لذات الآخر كما لو أنهما يعيشان في عالمين منفصلين تماما.
هكذا أراد لها الفكر الذكوري أن تكون وهي قبلت الدور المرسوم لها وتماهت فيه فنحن " نتعلم من المهد إلى اللحد أن نستبدل قيمة أنفسنا بالقبول الاجتماعي وتكامل شخصيتنا بالتكيف الأخلاقي" (كينيث ووكر) نوال السعداوي – الأنثى هي الأصل- في كل الثقافات والمجتمعات البشرية.
عند النظر في أغلب النصوص الروائية التونسية يكتشف القارئ، الباحث عن الأنثى/الزوجة، الفراغ والرتابة لأنها تقدم ككيان مجرد من المنطق وموسوم بالعجز أو متمرد يجد في العنف في حالة عجز الزوج أو في العهر وسيلة للانتقام وفي حالات العقم تنال المذلة والإدانة من الزوج ومن المجتمع كله فلا تمتلك إلا أن تصرخ مثل "فائقة عبد الهادي" في رواية "ليلة الغياب" لمسعودة أبو بكر، أن رحمها قد خذلها وأنها أرض بور وأن الزوج يبحث عن أنثى ولود، أرض خصبة توازي فحولته.
القيود، التي صنعتها الثقافة الأبوية وما نتج عنها من أفكار دينية متوارثة، كسرت أجنحة الأنثى/الزوجة و الرواية، بسبب الاستبطان النفسي والتأثر البيئي للكاتب، قدمتها على أنها كائن خاضع ثقافيا لكل التابوهات الاجتماعية. من واجبها تقديس الذكر في أبشع صور :"الخلط بين الرجل والإله" -سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر-. ويبرز ذلك على سبيل المثال في رواية " عام عيشة" لحفيظة القاسمي حين تقف النساء تابعات ومؤيدات لقرار الرجال في موقفهن من مشروعية الحرب التي قامت بها بين عشيرتي الركاركة والمرازقة بسبب هرب عائشة الركروكية وزواجها من محمد بن العجال المرزوقي فتسيل الدماء غزيرة ويموت أبرياء كثر.
وفي "رائحة الخوف" تبرع بسمة البوعبيدي في رسم رفض هذا الخضوع من خلال الحوار الباطني للبطلة والذي يتمثل في هلوسات امرأة قتلت زوجها. نرحل معها إلى بداياتها الدراسية والجامعية ورحلتها مع التصوف ثم مع الزوج وظهور الرغبة في قتله ثم تحول الرغبة إلى شهوة فهلوسة تسلم بعدها البطلة نفسها للشرطة مع أنها بريئة من الجريمة التي تدعيها.
تجعل الأنثى من الزواج قدرا تسعى إليه وترضى بكل شططه متنازلة عن حريتها الشخصية وواضعة ذاتها تحت حماية الرجل وتصرفه حتى وإن كان سكيرا أو فاجرا وهذا "مبدأ فج لأنه يُحوِّل إلى حقوق وواجبات تبادلا يَجِبُ أن يكون مبنيا على عطاء عفوي" -سيمون دي بوفوار-. ف"السيدة الرئيسة" لشكري المبخوت تفقد قيمتها الإنسانية لا في نظر الزوج المحتمل وحسب بل وأمام ذاتها أيضا في سعيها لاصطياده. تغدو في النهاية "العاهرة" لأنها لم تقدر أن تتخلص لا هي ولا الرجل من رواسب ثقافة المنظومة الفكرية الذكورية التي ترى أنه مهما علا شأن المرأة الاجتماعي والمعرفي يجب أن تظل متعففة شريفة وأساسا أن يسعى الرجل إليها لا أن تسعى هي إليه.
ينتج عن هذه السلبية في المشاعر سلبية في التعاطي مع كل شؤون الحياة الأخرى ونلاحظ ذلك في بعض الشخصيات الأنثوية الثانوية في أغلب الروايات التونسية والتي تقدمهن راضيات بظلم الزوج حفاظا على الأسرة أو خوفا من موقف المجتمع من المرأة المطلقة. هذه السلبية التي تميز الأنثى في الحياة اليومية وفي الأدب هي طابع يتكون في داخل الأنثى منذ سنواتها الأولى فبعض النساء كما تبين ذلك سيمون دي بوفوار في الجنس الآخر كائنات تعدهن التربية لكي لا يكون لهن أي دور في المجتمع فلا يدركن لكيفية التي تنحرف بها "طاقات النساء بانتظام، منذ الولادة حتى البلوغ." و"أن هذه الطاقة ما هي إلا إبداع انقلب على نفسه بفعل الإحباط الدائم" جيرمين غرير-.
بسبب هذه السلبية وهذا الجهل بالطاقات الداخلية البناءة يضيع الحب ويغدو الزواج سجنا باردا يخنق الأسرة كلها ويؤثر سلبا على الأبناء فتتعمق الشروخ في بنية المجتمع.
الحب وتحقيق الذات لا يمكن أن يتواجدا إلا مع الحرية لكن التربية والتاريخ البشري إضافة لقبول الأنثى الانسحاق أمام سلطة الزوج جعلوا الأنثى تتنازل عن حريتها وتحيى كعبد فالمرأة "لم تكن مساوية للرجل يوما في التاريخ" (سيمون دي بوفوار) سواء كانت زوجة أو حبيبة ومكانتها كانت دوما تلك التي حددها لها الرجل في حين أنها لم تتمكن أبدا من فرض رؤيتها لتغيير وضعها.
يظل الحب أجمل ما يمكن أن يحظى به إنسان فالحب هو الجمال والسعادة وحيوية المشاعر وروعة العالم. يقدم الأدب هذا الشعور النبيل كأحد مشاغل الرجل وكوسيلة لإدراك ذاته والعالم وإثراء خبراته في حين يمثل بالنسبة للأنثى قدرا ورهانا خاسرا تعجز "رجاء" في رواية "زهرة الصبار" لعلياء التابعي عن تشريح جثته لكي لا ترى تعفنه وانحلاله بعد شموخ وروعة إذ للرجل أن تتعدد علاقاته العاطفية في حين يجب على الأنثى أن تظل بكرا حتى في المشاعر.
تنتظر الأنثى الحب، الذي يمثل سبيلا للحرية واعترافا بنرجسيتها، طويلا وحين تجده تصنع من الحبيب سيدا وإلها كما هو الحال في روايات خولة حمدي التبشيرية بالإسلام. ففي رواياتها تتمتع الأنثى ككل التونسيات بحرية كبيرة في حياتها اليومية لكن قراراتها تظل عاطفية وانفعالية. تحول "ريما" بطلة "في قلبي أنثى عبرية" من اليهودية إلى الإسلام بل ودفعها بأسرتها إلى اعتناق الدين الجديد، بكل بساطة، من أجل الحب يفضح رؤية الكاتبة الذكورية للأشياء ك"عناصر تضاد" ويكشف " تفوق الرجل وانحطاط المرأة على اعتبار أنها سنة الحياة والطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية فالرجل "مستقلّ دائماً، عقلانيّ ونشط، بينما المرأة سلبية، تابعة، عاطفية"(هيلين سيسو) وضعيفة بل وتستعذب إبراز ضعفها أمام الرجل دون أي سعي جاد لرفض هذا الدور الصامت في إطار "اللغة التي صنعها الرجل" على حد تعبير ديل سبندر فرضيع بين آلاف من العالمات والفلاسفة النساء يضفي على الجمع ضمير المذكر.
إن تكريس هذه المواصفات في النص الروائي يفضح جهل كاتبه أو كاتبته بأن "الذكورة" و"الأنوثة" ما هي إلا مواقع معينة للذات تشكلت بفعل عوامل اجتماعية ولا علاقة لها بالاختلافات البيولوجية (جوليا كريستيفا) كما أنها تكشف الداخل الأنثوي الذي يرى في تميز الذكر قدرا إلهيا لا مجال إلى الفكاك منه لأن"سحر الرجولة لا يزال محافظا على تأثيره الكبير لدى النساء وما انفك يستند على قواعد وأسس اقتصادية واجتماعية راسخة." (سيمون دي بوفوار)
على نقيض هذه الصورة السلبية تطالعنا في بعض الأعمال الروائية الأخرى الأنثى المتمردة التي تدين وترفض الرؤية النمطية للمرأة رافضة القنوع والخضوع: أنثى تروم التحول من ظل إلى كائن فاعل يمتلك مصيره ف"زينة" زوجة "عبد الناصر" في رواية "الطلياني" لشكري المبخوت تمردت على الواقع وعاشت حياة متحررة من كل القيود في إطار وعي كامل بذاتها ككيان مستقل عن الرجل رغم أن دوافع تمردها كانت في البدء انتقاما من حادثة اغتصاب تعرضت لها في صغرها دون أن تتمكن من معرفة الفاعل. هذا الجهل بهوية المغتصب هو إدانة ضمنية لاغتصاب المجتمع كله لأنثى ولإنسانيتها ككيان مستقل.
تُقدِّم شخصية "زينة" الطالبة الجامعية اليسارية ذات الفكر المتقد والمتحررة من كل القيود المجتمعية نموذجا لرفض التقسيم الحاصل بين "الذكورة" و"الأنوثة" و"التراتب الرمزي الذكوري باسم التمايز" (جوليا كريستيفا). إنها أنثى تمتلك مصيرها وتدير دفته كيفما شاءت هي بقرار حر محض وبعد إدراكها لفشل تجربة زواجها من البطل "عبد الناصر" تُحْيِي علاقة قديمة مع أستاذ فرنسي تعرَفَت عليه خلال سنوات الجامعة ثم تَهجر البلاد وتَستقر في فرنسا.
و"سوسن عبد الله"في رواية "نخب الحياة" والتي تبغي أن تكتشف "حقيقة الإنسان، طبيعته التي تخفت تحت أشلاء الملابس والثقافة والقانون" ترحل إلى بون حيث تمارس فعل المتعة الذي يعني بالنسبة إليها فعل الوجود متحررة من كل الأعراف والقيم التي كانت تكبلها في تونس فتعيش تجربة الذات بكل تفاصيلها وتناقضاتها رغم أنها في نهاية الرواية تكتشف أنها لم تحقق فعل الوجود.
أما في رواية "رشوا النجم على ثوبي" فتستعير الكاتبة اللغة من الخطاب الصوفي والفكرة من الخطاب النسوي لتؤكد "أن الأنثى هي الأصل". تتعالى حواء في هذا النص، على آدم وتتوق للكمال بالاتحاد مع خالقها الذي يبادلها في النهاية حب بحب مؤكدا أنها أصل اللذة والحب وانه ينصهر فيها.
وفي رواية "صوت الحب لفاتن كشو تجسد شخصية "سارة" قدرة المرأة التونسية على التألق بفعل نجاحها الهائل في المجال الفني وتمكنها من تحقيق شهرة في الولايات المتحدة مقدمة نموذجا للأنثى التي تبدأ بإعادة تقييم ذاتها فتعبيد الطريق من "أجل حريتها لا مساواتها بالرجل في سبيل تغيير العالم" بعد ذلك ( جيرمين غرير). وفي أقصوصة "امرأة في فخ" لفوزية حماد نجد أنفسنا أمام المرأة الحركية التي لا تعتمد في شؤونها على أحد مهما يكن حجم المشاكل التي تعترضها في حياتها اليومية مثبتة بذلك أن المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك"- دي بوفوار، الجنس الآخر-.
تقدم هذه الروايات الأنثى كانسان كامل يعادل الرجل في كل شيء ويعبر، عن ذلك، الشيخ الإمام الطاهر متحدثا عن زوجته في رواية "مايسترو" لآمال مختار قائلا:" أسعدتني فطنتها ونباهتها لأنهما ساهمتا كثيرا في تثبيت الحياة بيننا. كانت سريعة الفهم، لبيبة، تعلم أعقد الأمور في لمح البصر وأتعبني ذلك إذ جعلها قادرة على قراءة أفكاري وأسراري".
بيد أن التمرد يتجاوز في بعضها الحد مقدما صورة سلبية للأنثى فالبراعة في وصف الحياة الجنسية لا تخلخل البنى السائدة بقدر ما تمثل تنكر المرأة لأنوثتها وسعيها لمنافسة الرجل والتفوق عليه خاصة في حرياته الجنسية مما يجعلها بوعي أو من دونه تنظر إلى أنوثتها بعين الدونية والإلغاء.
يتحول النص الروائي الذي يسير في هذا المسار إلى لعبة إغراء وغواية وتتحول الأنثى إلى شبيهة بممثلة عري مجاني تتحكم في مقاليده مؤسسات ذكورية فتخرب صورة المرأة وعلاقتها بجسدها وعلاقة جسدها بالعالم كما في الرواية الأيروسية "انتصاب اسود" لأيمن الدبوسي التي تقدم كل الشخصيات الأنثوية كثائرة على كل القيم والتقاليد ومتحررة دون ضابط همها الوحيد إثبات ذاتها عبر الحرية الجنسية.
وفي نص جيهان شراد " Diva MotherF****" الذي يحوي عبارات بذيئة رغم أنها بالفرنسية والتي تقول في أحد المقاطع : "الرجال كالأحذية يجب أن نأخذ الوقت الكافي لاختيارهم لكي نتمكن من الدوس عليها دون أن تؤلمنا أقدامنا"
مشكلة هذه النصوص التي تغرق في الذاتية هو "التسابق الرئيسي نحو تسليع صورة النساء"(camille aubaud-lire les femmes de lettre) فالأعمال التي تتخذ من الإغراء والغواية مادة أساسية تظل منغلقة على ذاتها لأنها عاجزة في الواقع عن تحريك الثوابت المفروضة من قبل السياسة والدين والسلطة الاجتماعية كما أنها تكرس الرؤية الذكورية للأنثى التي تهين وتهيمن على المرأة باعتبارها موضوعا جنسيا.
يقول ميل في كتابه "استعباد النساء": "لقد كانت هناك في الماضي أخلاق الخضوع، ثم جاءت بعدها أخلاق الفروسية والكرم، وقد آن الأوان أن تتحقق أخلاق العدالة كلما تقدم المجتمع نحو المساواة".
هذه العدالة ستتحقق حين تحاكم التركيبة الذهنية والنفسية والنظام المعرفي الذي يطلق عليه "المجتمع الأبوي" ويكف الذكر عن تملك الأنثى ويتوقف المجتمع عن تثمين هذه الملكية. تأنيث الثقافة والفن والحضارة والمصير الإنساني هي السبيل الوحيد لنشر ثقافة الندية والإسهام في التنمية الإنسانية وتحقيق مستوى راقٍ من العدالة لا بين الجنسين وحسب بل بين البشر جميعا في عالم إنساني متصالح مع ذاته فالمرأة كما يقول الشاعر الفرنسي لويس أراغون :" هي مستقبل الإنسان" وهي نصف المجتمع وقد ربت في حجرها النصف الثاني وهي الرئة المعطلة التي بانطلاقها سنمكن من قطع المسافة سريعا نحو الحداثة الفائقة.
* عن الحوار المتكدن
تذكر الميثولوجيات القديمة حصول ثورة في عالم السماء احتلّ فيها الإله مكان "سيدة السماء". هذا التحول من الأنوثة إلى الذكورة في العالم الميتافيزيقي ما هو في حقيقته إلا تصوير لما طال الفكر البشري في المجال الاقتصادي والاجتماعي من تغيير: انعكاس لثورة حصلت على الأرض نتيجة لتغير النظام المعيشي الذي صارت الأنثى فيه موضوع جشع اقتصادي متنام مما أدى إلى انقلاب الشروط الاجتماعية للعلاقات بين الجنسين. وفر النظام المعيشي الجديد تناميا ديموغرافيا كبيرا مقارنة بعصر الإنسان الصياد الجامع اللاقط فازداد عدد الأيدي العاملة وحصلت وفرة في الإنتاج خلقت طبقتي السادة والعبيد والفوارق بين الذكر والأنثى والتي ليست نتاج جبرية بيولوجية بل هي ثمرة ظهور هذا المجتمع الزراعي وسيادة ثقافة الملكية التي بدأ معها تاريخنا البشري المخضب بالدماء ولا زال متواصلا إلى اليوم : تاريخ الذكورة العنيف المليء بالحروب والاستبداد والاستعباد.
تسامى الذكر ليحتل مكان الرب –رب الحقل والبيت والأسرة- و في المقابل تدنّت مكانة الأنثى وحُدِّدَت داخل المجتمع ك"جنس آخر" مهمته العمل في حقل السيد وفي منزله وضمان نقاوة سلالته وتأمين ورثة شرعيين لممتلكاته وبذلك اتخذت العائلة البطريركية شكلها الذي لا تزال تحتفظ به إلى اليوم رغم كل التعديلات التي حصلت على مر العصور.
شكّل الأدب الفضاء التعبيري الأرحب لاختراق هذا الخطاب الذكوري الذي مثلت فيه الأنثى "المرآة العاكسة لخطاب أبوي" يحرمها من "التمثيل الذاتي representation " (اوريغاري) فأصبحت رمزا للغياب والسلبية: "القارة المظلمة" و"الرجل الذي تم خصاؤه"(فرويد).
من خلال الأدب، عبَّر المبدعون عن الداخلي المأزوم والمهزوم والمهمَّش في النفس وعن الفجوة العميقة بين ظواهر الأمور وبواطنها وعن المخجل والمسكوت عنه وكل ما هو غير عقلاني في إطار ثقافة المجتمع الأبوي الصارمة لكن الإشكال تمثل دوما في طبيعة النظرة إليها وكيفية تقديم دورها.
مع مرور العصور ونظرا للكم الهائل من المعارف والعلوم التي حصَّلها الإنسان واعتبارا لسهولة التواصل بين الشعوب تأثيرا وتأثرا إضافة لما كلل المساعي الحثيثة من أجل تحرير النساء من نجاحات شهدت النظرة للأنثى تغيرات ارتبطت بمدى إيمان الشعوب بالحرية وممارستهم لها على أرض الواقع.
في تونس أنموذجا، هل تغيرت نظرة المجتمع الدونية لها وهل تقدمها الأعمال الروائية، مرآة الواقع الاجتماعي العام، ككيان مستقل أم مجرد ظل للرجل؟
يمتاز المجتمع التونسي عن بقية البلدان عربية الثقافة الأخرى باحترام أكبر للأنثى. كونها غير معرضة لتشاركها زوجة ثانية بيتها وليست ملزمة بلباس طائفي محدد هو واقع متجذر تاريخيا وحضاريا أولا من خلال "الصداق القيرواني" والذي يمثل زواج أبو جعفر المنصور من أروى القيروانية في بداية القرن الثامن ميلادي وزواج المعزّ لدين اللّه الفاطمي (القرن العاشر ميلادي) أشهر أدلة عليه وثانيا حق طلب الطلاق بعد مدة من غياب الزوج يحددها القاضي (القرن الحادي عشر ميلادي) وثالثا حق توريث المرأة ذات الرّحم أو من هو من نسلها ممّا مكّنها من تكوين ثروات وأملاك خاصّة بها (في نفس الفترة الزمنية تقريبا).
كما أنه من أكثر المجتمعات العربية تأثرا اطلاعا وتمثلا بالفكر الغربي إضافة إلى أن سياسته منحت المرأة كافة الحقوق منذ فجر الاستقلال عبر المصادقة على مجلة الأحوال الشخصية في سنة 1957.
انطلاقا من هذه الخصوصية، كانت صورة الأنثى في الرواية التونسية مختلفة عن مثيلاتها في باقي الأعمال الروائية العربية.
والرواية التونسية حديثة بالمقارنة بالعمل الإبداعي الروائي في العالم إذ يقول بعض الدارسين أنها تعود للنصف الثاني من القرن العشرين رغم أنه قد ظهرت روايات قبل ذلك مثل "الهيفاء وسراج الليل" لصالح السويسي سنة 1906 كما أنه قد تم تأليف الرواية الذهنية "حدث أبو هريرة قال" للدكتور محمود المسعدي قبل 1940 وإن نشرت سنة 1973.
ركزت الروايات التونسية في مواضيعها، مثل جل الأعمال الروائية، على نقل الواقع الاجتماعي ونقده بكل دقة في ما يتعلق بالمواضيع العامة وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة والحالات النفسية الشخصية لكليهما مقدمة الأنثى كشريكة في تحمّل المسؤوليات وأم ومناضلة ومتمردة على الواقع المجتمعي.
عبَّر البشير بن سلامة في روايته "عائشة" عن تردّي الأوضاع عموما وعن النظرة الدّونيّة المحقّرة للمرأة وتتكرر نفس الصورة في رواية "حليمة" لمحمد العروسي المطوي في حديث النسوة عند العين :"فاطمة الشخماء بُشِّرت بمولود بعد أن نالها التعب المر وعسر الولادة. لكن ما دام المولود ذكرا فكل عذاب يهون... إن زوجها عصبي المزاج. كان يهددها بالطلاق لو ولدت بنتا"(ص13) كما يتردد صداها في صرخة بطلة "قليل من الرغبة" لمنيرة رزقي :" وها أنني الآن أحس و هو في مدينته البعيدة أنه كان يحلم أن أكون ولدا يشبهه ويرث عنفوان رجولته. البنت الوحيدة. أي قدر لعين: عقدة الوحدة و لعنة الأنوثة. إنني أمقت هشاشة الأنثى و ضعفها. فهل الأنوثة شيء ما يمس أجسادنا و روحنا فتجعلنا كائنات هشة و ضعيفة؟".
وفي رواية "سهرت منه الليالي"، الأقدم زمنيا، رسم لنا علي الدوعاجي حياة امرأة تعاني الأمية وتتزوج مرغمة من رجلٍ يتعاطى السكر والعربدة ويعنفها ناعتا إياها بأفظع الصفات موجها لها كلاما بذيء وسوقيا ومع أنها تشعر تجاهه بكل أصناف الكره إلا أنها تستمر في السهر على راحته غير مبالية بنفسها.
لكن محمد العروسي المطوي قدم في ذات العمل الروائي "حليمة" صورة مختلفة تماما. صورة مشرفة للأنثى التونسية كصنو للرجل في تحقيق وإدراك الذات والنجاح رغم العراقيل والعمل والدفاع عن القضايا الكبرى ف"المرأة هي أيضا تعرف القيم التي يقوم الذكر بتحقيقها بصورة فعلية" لهذا نجدها تجابه"قيم الرجال بقيم أنثوية" –دي بوفوار الجنس الآخر-. منذ بداية الرواية نلاحظ تمتع حليمة بشخصية قوية وبذكاء حاد وباستقلالية في التصرف واتخاذ القرارات ثم نتابع، بعد انتقالها إلى العاصمة وزواجها من عبد الحميد، مشاركتها ببسالة في العمل النضالي من اجل تحرير الوطن وان حافظ المطوي في سرده على أهمية دور الأنثى ك"ملاك البيت" على حد تعبير فرجينيا وولف في كتابها "مهنة النساء" فعبد الحميد يطلب من حليمة أن تعده إن هو غاب أو استشهد أن تكف عن أي عمل ميداني لتقوم بحماية الأطفال والاعتناء بهم.
قدم هؤلاء الروائيون، رغم أنهم نقدوا من خلال شخصياتهم الأنثوية الواقع الاجتماعي والبنية الفكرية الذكورية الطاغية فيه، أنموذجا مثاليا للأنثى موازي للمثال الحي في المجتمع بكل جمالياته وعيوبه وجوانبه السلبية لكن من منظور ذكوري يتوافق مع صورة المرأة عموما عبر التاريخ فهي كائن لا يساويه شيء ولا يمكن أن يتساوى مع شيء لأنه الأم وهي الفاضلة لأنها تؤمن وتثق بالرجل ومبادئه ومجتمعه وأخلاقه ومعتقده وهي المحبوبة لأنها معطاء وهي العظيمة لأنها تناضل من أجل قضية مصيرية أو لأنها تتعذب في صمت وان تمردت تُلاقي الإدانة والإقصاء.
هذه الصورة الجذابة للأنثى هي في الواقع هدامة لأنها خاضعة لشروط فكر المجتمع الذكوري الذي يسعى إلى أن تبقى الأنثى سلبية محتجزة في العادة والتقاليد والبيت مما جعلها تُرسَم كوسيلة وكشيء لا كغاية ففي روايتي "عائشة" و"أم حامد" لمصطفى الفيلالي واللتين تحمل فيهما الأنثى البطولة، البطولة الحقيقية هي للرجل في حين تظل هي إما عاجزة بسيطة أو تابعة وغير واعية بذاتها وقدراتها أو ساذجة عاطفيا في حين أنها "ليست أقل أو أكبر شأنا من الرجل وهي ليست ملاكا ولا شيطانا ولا كائنا مثاليا بل كائن بشري قولبته الأخلاق الأنانية للذكورة وحولته إلى نصف عبد تسحقه الصورة الذكورية للأنوثة منذ بدء الخليقة ولا يمكن أن يحقق ذاته إن اكتفى بأن يلعب دور الأم والحبيبة". Francis, Claude and Fernande Gontier. Les écrits de Simone de Beauvoir
في هذا الفضاء الأبوي صار العالم الأنثوي عالما مبنيا على الحلم والوهم وذا نوايا سيئة أهم ما فيه الكذب على الذات وخداعها عبر بناء أدوار وهمية تبدو متناسقة لكن في حقيقتها لا تمثل إلا التبعية للآخرين. تكره فيها الأنثى أنوثتها وتؤمن أنها المدنَّس والعورة مقابل الذكر المقدَّس والإلهي دون أن تدرك أن :"الرجال يكرهون النساء رغم أنهن لا يدركن ذلك وأنهن تعلمن أن يكرهن ذواتهن." جيرمن غرير " The Female Eunuch "
من أهم الأدوار التي تَبْنِيها وتَتَبَنَاها الأنثى "الأمومة". والأمومة هي أكبر أكذوبة في الواقع وفي الأدب فسقوط حق الأمومة الذي تمتعت به الأنثى في المجتمعات التي حكمتها "سيدة السماء" وامتلاك الرجل للأرض وللنساء والذي نتج عنه استعباد الزوجة (أو الزوجات) والأبناء مَثَّلا "أكبر الخيبات التاريخية للجنس الأنثوي"Les écrits de Simone de Beauvoir حتى غدت الأمومة عند الروائيين رمزا لا للطهر فقط بل ولصرامة المكان وقيود الواقع وللأصالة وكل ما يجب أن يظل محافظا على نسقه الثابت في الفكر الذكوري.
ففي رواية "حليمة" لمحمد العروسي المطوي يقتصر دور الأم على حماية ابنتها وتوفير حياة كريمة لها واختيار الزوج الأنسب خاضعة، في كل تدخل في حياة ابنتها وقراراتها، للمجتمع الذي تعيش في إطاره وفي رواية "البحر ينشر ألواحه" لمحمد صالح الجابري يقتصر وجود أم "دربال" البطل في الرواية على تزويد ابنها بالوصية وقت سفره ثم تختفي نهائيا وأم حبيبة في ذات الرواية هي المرأة القاسية الصارمة التي تراقب سلوك ابنتها لتحميها من العهر لكن غيابها يؤدي إلى جنوح البنت ومعاشرتها للبطل.
كما أن هجر أم "عبد الله" للبيت رفضا لزواجه من عائشة بنت المحاميد الكسيحة في رواية "التوت المر" هو تصوير للتمسك بالتقاليد والمكانة الاجتماعية.
هذه الوظيفة التي تفشل الأم غالبا في إدارتها هي "معادلة تسوية غريبة" (سيمون دي بوفوار Les écrits de Simone de Beauvoir) يترافق فيها الإيثار والحلم والوفاء والتضحية مع سوء النية والنرجسية والتملك ويبرز ما تلاقيه الأم من نكران من طرف الأبناء، في الواقع والأدب، عقم هذه التسوية.
إذ رغم كل ما تقدمه وما تكابده من عناء تفقد اسمها الأول وتغدو "أم فلان" في حين يظل الابن ملكية خاصة وحصرية لأبيه ونجد صدى ذلك على سبيل المثال في قول الحاج عبد الله في بداية رواية مصطفى الفيلالي "أم حامد": " نجح ولدنا نجح. ولدي رجل، سيد الرجالة، نسل أبيه" (ص:7). ويواصل في موضع آخر قائلا :"وهل يستشار على الخير الابن المطالب بالطاعة؟" (ص15).
في النهاية لا تجد الأم خلاصا إلا في الذكرى واجترار الألم في حين انه يجب ألا يحدد دور الأنثى في بعض الوظائف الثابتة لأن الأمومة " ليست نداء باطنيا ولا امتلاء داخليا اختياريا بالنسبة للمرأة" (سيمون دي بوفوار) بل هو أحد الأدوار التي صنعها الفكر الأبوي في استعباده للأنثى تماهت فيه المرأة حد الانتفاء. يبرع الفيلالي في التعبير عن ذلك على لسان "حامد" متحدثا عن أمه :" ما علمتُ لها مِن مرض. تركتها في حال جيدة. امرأة كتوم تستحي من الشكوى، البوح بالألم أو الحزن كان عندها كالهتك من حرمة الذات"(ص166).
دور الزوجة لا يقل بؤسا وارتباطا بالفكر الذكوري. والزواج عقد يفرض على الطرفين بعض الواجبات ويمنحهما بعض الحقوق لكن دور الأنثى فيه يكون غالبا سلبيا فبمَا أنها تحمل وزر الخطيئة الأولى عليها أن تكفر عن كل تلك الذنوب بما تقدمه من خدمات وما تتحمله في سبيل إسعاد الزوج وتوفير الراحة له من مشقة لأنها موضوع الوطء واللذة أساسا ولا تعامل كشريك فالمهر الذي دفع لها "هو شراء حق الوطء والاستعباد"(الغزالي) كما في رواية سهرت منه الليالي لعلي الدوعاجي.
تظل الأنثى/الزوجة ترى العالم من خلال منظورها لزوجها في حين تعجز عن التعبير له عن ذاتها واحتياجاتها كما في نص عروسية النالوتي "تماس" والذي يغدو ايروسيا لكثافة الصور الإيحائية الجنسية فيه. رواية تماس هي نجوى أنثوية باحثة عن الارتواء النفسي والجسدي في حضن "الزوج" مركزة على الإحباطات التي يسببها في علاقته الحميمية والعاطفية مع المرأة مصورة القطيعة بين الجنسين في إدراك كل منهما لذات الآخر كما لو أنهما يعيشان في عالمين منفصلين تماما.
هكذا أراد لها الفكر الذكوري أن تكون وهي قبلت الدور المرسوم لها وتماهت فيه فنحن " نتعلم من المهد إلى اللحد أن نستبدل قيمة أنفسنا بالقبول الاجتماعي وتكامل شخصيتنا بالتكيف الأخلاقي" (كينيث ووكر) نوال السعداوي – الأنثى هي الأصل- في كل الثقافات والمجتمعات البشرية.
عند النظر في أغلب النصوص الروائية التونسية يكتشف القارئ، الباحث عن الأنثى/الزوجة، الفراغ والرتابة لأنها تقدم ككيان مجرد من المنطق وموسوم بالعجز أو متمرد يجد في العنف في حالة عجز الزوج أو في العهر وسيلة للانتقام وفي حالات العقم تنال المذلة والإدانة من الزوج ومن المجتمع كله فلا تمتلك إلا أن تصرخ مثل "فائقة عبد الهادي" في رواية "ليلة الغياب" لمسعودة أبو بكر، أن رحمها قد خذلها وأنها أرض بور وأن الزوج يبحث عن أنثى ولود، أرض خصبة توازي فحولته.
القيود، التي صنعتها الثقافة الأبوية وما نتج عنها من أفكار دينية متوارثة، كسرت أجنحة الأنثى/الزوجة و الرواية، بسبب الاستبطان النفسي والتأثر البيئي للكاتب، قدمتها على أنها كائن خاضع ثقافيا لكل التابوهات الاجتماعية. من واجبها تقديس الذكر في أبشع صور :"الخلط بين الرجل والإله" -سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر-. ويبرز ذلك على سبيل المثال في رواية " عام عيشة" لحفيظة القاسمي حين تقف النساء تابعات ومؤيدات لقرار الرجال في موقفهن من مشروعية الحرب التي قامت بها بين عشيرتي الركاركة والمرازقة بسبب هرب عائشة الركروكية وزواجها من محمد بن العجال المرزوقي فتسيل الدماء غزيرة ويموت أبرياء كثر.
وفي "رائحة الخوف" تبرع بسمة البوعبيدي في رسم رفض هذا الخضوع من خلال الحوار الباطني للبطلة والذي يتمثل في هلوسات امرأة قتلت زوجها. نرحل معها إلى بداياتها الدراسية والجامعية ورحلتها مع التصوف ثم مع الزوج وظهور الرغبة في قتله ثم تحول الرغبة إلى شهوة فهلوسة تسلم بعدها البطلة نفسها للشرطة مع أنها بريئة من الجريمة التي تدعيها.
تجعل الأنثى من الزواج قدرا تسعى إليه وترضى بكل شططه متنازلة عن حريتها الشخصية وواضعة ذاتها تحت حماية الرجل وتصرفه حتى وإن كان سكيرا أو فاجرا وهذا "مبدأ فج لأنه يُحوِّل إلى حقوق وواجبات تبادلا يَجِبُ أن يكون مبنيا على عطاء عفوي" -سيمون دي بوفوار-. ف"السيدة الرئيسة" لشكري المبخوت تفقد قيمتها الإنسانية لا في نظر الزوج المحتمل وحسب بل وأمام ذاتها أيضا في سعيها لاصطياده. تغدو في النهاية "العاهرة" لأنها لم تقدر أن تتخلص لا هي ولا الرجل من رواسب ثقافة المنظومة الفكرية الذكورية التي ترى أنه مهما علا شأن المرأة الاجتماعي والمعرفي يجب أن تظل متعففة شريفة وأساسا أن يسعى الرجل إليها لا أن تسعى هي إليه.
ينتج عن هذه السلبية في المشاعر سلبية في التعاطي مع كل شؤون الحياة الأخرى ونلاحظ ذلك في بعض الشخصيات الأنثوية الثانوية في أغلب الروايات التونسية والتي تقدمهن راضيات بظلم الزوج حفاظا على الأسرة أو خوفا من موقف المجتمع من المرأة المطلقة. هذه السلبية التي تميز الأنثى في الحياة اليومية وفي الأدب هي طابع يتكون في داخل الأنثى منذ سنواتها الأولى فبعض النساء كما تبين ذلك سيمون دي بوفوار في الجنس الآخر كائنات تعدهن التربية لكي لا يكون لهن أي دور في المجتمع فلا يدركن لكيفية التي تنحرف بها "طاقات النساء بانتظام، منذ الولادة حتى البلوغ." و"أن هذه الطاقة ما هي إلا إبداع انقلب على نفسه بفعل الإحباط الدائم" جيرمين غرير-.
بسبب هذه السلبية وهذا الجهل بالطاقات الداخلية البناءة يضيع الحب ويغدو الزواج سجنا باردا يخنق الأسرة كلها ويؤثر سلبا على الأبناء فتتعمق الشروخ في بنية المجتمع.
الحب وتحقيق الذات لا يمكن أن يتواجدا إلا مع الحرية لكن التربية والتاريخ البشري إضافة لقبول الأنثى الانسحاق أمام سلطة الزوج جعلوا الأنثى تتنازل عن حريتها وتحيى كعبد فالمرأة "لم تكن مساوية للرجل يوما في التاريخ" (سيمون دي بوفوار) سواء كانت زوجة أو حبيبة ومكانتها كانت دوما تلك التي حددها لها الرجل في حين أنها لم تتمكن أبدا من فرض رؤيتها لتغيير وضعها.
يظل الحب أجمل ما يمكن أن يحظى به إنسان فالحب هو الجمال والسعادة وحيوية المشاعر وروعة العالم. يقدم الأدب هذا الشعور النبيل كأحد مشاغل الرجل وكوسيلة لإدراك ذاته والعالم وإثراء خبراته في حين يمثل بالنسبة للأنثى قدرا ورهانا خاسرا تعجز "رجاء" في رواية "زهرة الصبار" لعلياء التابعي عن تشريح جثته لكي لا ترى تعفنه وانحلاله بعد شموخ وروعة إذ للرجل أن تتعدد علاقاته العاطفية في حين يجب على الأنثى أن تظل بكرا حتى في المشاعر.
تنتظر الأنثى الحب، الذي يمثل سبيلا للحرية واعترافا بنرجسيتها، طويلا وحين تجده تصنع من الحبيب سيدا وإلها كما هو الحال في روايات خولة حمدي التبشيرية بالإسلام. ففي رواياتها تتمتع الأنثى ككل التونسيات بحرية كبيرة في حياتها اليومية لكن قراراتها تظل عاطفية وانفعالية. تحول "ريما" بطلة "في قلبي أنثى عبرية" من اليهودية إلى الإسلام بل ودفعها بأسرتها إلى اعتناق الدين الجديد، بكل بساطة، من أجل الحب يفضح رؤية الكاتبة الذكورية للأشياء ك"عناصر تضاد" ويكشف " تفوق الرجل وانحطاط المرأة على اعتبار أنها سنة الحياة والطبيعة البشرية والفطرة الإنسانية فالرجل "مستقلّ دائماً، عقلانيّ ونشط، بينما المرأة سلبية، تابعة، عاطفية"(هيلين سيسو) وضعيفة بل وتستعذب إبراز ضعفها أمام الرجل دون أي سعي جاد لرفض هذا الدور الصامت في إطار "اللغة التي صنعها الرجل" على حد تعبير ديل سبندر فرضيع بين آلاف من العالمات والفلاسفة النساء يضفي على الجمع ضمير المذكر.
إن تكريس هذه المواصفات في النص الروائي يفضح جهل كاتبه أو كاتبته بأن "الذكورة" و"الأنوثة" ما هي إلا مواقع معينة للذات تشكلت بفعل عوامل اجتماعية ولا علاقة لها بالاختلافات البيولوجية (جوليا كريستيفا) كما أنها تكشف الداخل الأنثوي الذي يرى في تميز الذكر قدرا إلهيا لا مجال إلى الفكاك منه لأن"سحر الرجولة لا يزال محافظا على تأثيره الكبير لدى النساء وما انفك يستند على قواعد وأسس اقتصادية واجتماعية راسخة." (سيمون دي بوفوار)
على نقيض هذه الصورة السلبية تطالعنا في بعض الأعمال الروائية الأخرى الأنثى المتمردة التي تدين وترفض الرؤية النمطية للمرأة رافضة القنوع والخضوع: أنثى تروم التحول من ظل إلى كائن فاعل يمتلك مصيره ف"زينة" زوجة "عبد الناصر" في رواية "الطلياني" لشكري المبخوت تمردت على الواقع وعاشت حياة متحررة من كل القيود في إطار وعي كامل بذاتها ككيان مستقل عن الرجل رغم أن دوافع تمردها كانت في البدء انتقاما من حادثة اغتصاب تعرضت لها في صغرها دون أن تتمكن من معرفة الفاعل. هذا الجهل بهوية المغتصب هو إدانة ضمنية لاغتصاب المجتمع كله لأنثى ولإنسانيتها ككيان مستقل.
تُقدِّم شخصية "زينة" الطالبة الجامعية اليسارية ذات الفكر المتقد والمتحررة من كل القيود المجتمعية نموذجا لرفض التقسيم الحاصل بين "الذكورة" و"الأنوثة" و"التراتب الرمزي الذكوري باسم التمايز" (جوليا كريستيفا). إنها أنثى تمتلك مصيرها وتدير دفته كيفما شاءت هي بقرار حر محض وبعد إدراكها لفشل تجربة زواجها من البطل "عبد الناصر" تُحْيِي علاقة قديمة مع أستاذ فرنسي تعرَفَت عليه خلال سنوات الجامعة ثم تَهجر البلاد وتَستقر في فرنسا.
و"سوسن عبد الله"في رواية "نخب الحياة" والتي تبغي أن تكتشف "حقيقة الإنسان، طبيعته التي تخفت تحت أشلاء الملابس والثقافة والقانون" ترحل إلى بون حيث تمارس فعل المتعة الذي يعني بالنسبة إليها فعل الوجود متحررة من كل الأعراف والقيم التي كانت تكبلها في تونس فتعيش تجربة الذات بكل تفاصيلها وتناقضاتها رغم أنها في نهاية الرواية تكتشف أنها لم تحقق فعل الوجود.
أما في رواية "رشوا النجم على ثوبي" فتستعير الكاتبة اللغة من الخطاب الصوفي والفكرة من الخطاب النسوي لتؤكد "أن الأنثى هي الأصل". تتعالى حواء في هذا النص، على آدم وتتوق للكمال بالاتحاد مع خالقها الذي يبادلها في النهاية حب بحب مؤكدا أنها أصل اللذة والحب وانه ينصهر فيها.
وفي رواية "صوت الحب لفاتن كشو تجسد شخصية "سارة" قدرة المرأة التونسية على التألق بفعل نجاحها الهائل في المجال الفني وتمكنها من تحقيق شهرة في الولايات المتحدة مقدمة نموذجا للأنثى التي تبدأ بإعادة تقييم ذاتها فتعبيد الطريق من "أجل حريتها لا مساواتها بالرجل في سبيل تغيير العالم" بعد ذلك ( جيرمين غرير). وفي أقصوصة "امرأة في فخ" لفوزية حماد نجد أنفسنا أمام المرأة الحركية التي لا تعتمد في شؤونها على أحد مهما يكن حجم المشاكل التي تعترضها في حياتها اليومية مثبتة بذلك أن المرأة لا تولد امرأة، بل تصبح كذلك"- دي بوفوار، الجنس الآخر-.
تقدم هذه الروايات الأنثى كانسان كامل يعادل الرجل في كل شيء ويعبر، عن ذلك، الشيخ الإمام الطاهر متحدثا عن زوجته في رواية "مايسترو" لآمال مختار قائلا:" أسعدتني فطنتها ونباهتها لأنهما ساهمتا كثيرا في تثبيت الحياة بيننا. كانت سريعة الفهم، لبيبة، تعلم أعقد الأمور في لمح البصر وأتعبني ذلك إذ جعلها قادرة على قراءة أفكاري وأسراري".
بيد أن التمرد يتجاوز في بعضها الحد مقدما صورة سلبية للأنثى فالبراعة في وصف الحياة الجنسية لا تخلخل البنى السائدة بقدر ما تمثل تنكر المرأة لأنوثتها وسعيها لمنافسة الرجل والتفوق عليه خاصة في حرياته الجنسية مما يجعلها بوعي أو من دونه تنظر إلى أنوثتها بعين الدونية والإلغاء.
يتحول النص الروائي الذي يسير في هذا المسار إلى لعبة إغراء وغواية وتتحول الأنثى إلى شبيهة بممثلة عري مجاني تتحكم في مقاليده مؤسسات ذكورية فتخرب صورة المرأة وعلاقتها بجسدها وعلاقة جسدها بالعالم كما في الرواية الأيروسية "انتصاب اسود" لأيمن الدبوسي التي تقدم كل الشخصيات الأنثوية كثائرة على كل القيم والتقاليد ومتحررة دون ضابط همها الوحيد إثبات ذاتها عبر الحرية الجنسية.
وفي نص جيهان شراد " Diva MotherF****" الذي يحوي عبارات بذيئة رغم أنها بالفرنسية والتي تقول في أحد المقاطع : "الرجال كالأحذية يجب أن نأخذ الوقت الكافي لاختيارهم لكي نتمكن من الدوس عليها دون أن تؤلمنا أقدامنا"
مشكلة هذه النصوص التي تغرق في الذاتية هو "التسابق الرئيسي نحو تسليع صورة النساء"(camille aubaud-lire les femmes de lettre) فالأعمال التي تتخذ من الإغراء والغواية مادة أساسية تظل منغلقة على ذاتها لأنها عاجزة في الواقع عن تحريك الثوابت المفروضة من قبل السياسة والدين والسلطة الاجتماعية كما أنها تكرس الرؤية الذكورية للأنثى التي تهين وتهيمن على المرأة باعتبارها موضوعا جنسيا.
يقول ميل في كتابه "استعباد النساء": "لقد كانت هناك في الماضي أخلاق الخضوع، ثم جاءت بعدها أخلاق الفروسية والكرم، وقد آن الأوان أن تتحقق أخلاق العدالة كلما تقدم المجتمع نحو المساواة".
هذه العدالة ستتحقق حين تحاكم التركيبة الذهنية والنفسية والنظام المعرفي الذي يطلق عليه "المجتمع الأبوي" ويكف الذكر عن تملك الأنثى ويتوقف المجتمع عن تثمين هذه الملكية. تأنيث الثقافة والفن والحضارة والمصير الإنساني هي السبيل الوحيد لنشر ثقافة الندية والإسهام في التنمية الإنسانية وتحقيق مستوى راقٍ من العدالة لا بين الجنسين وحسب بل بين البشر جميعا في عالم إنساني متصالح مع ذاته فالمرأة كما يقول الشاعر الفرنسي لويس أراغون :" هي مستقبل الإنسان" وهي نصف المجتمع وقد ربت في حجرها النصف الثاني وهي الرئة المعطلة التي بانطلاقها سنمكن من قطع المسافة سريعا نحو الحداثة الفائقة.
* عن الحوار المتكدن