لئن كان بحثنا يتعلَق بـخصائص الذاتيّة من خلال نماذج من الكتابات التونسيَة فذلك يدفعنا إلى التساؤل عن جوهر الكتابة الذاتيَة.وذلك يعني أن يكون مركز اهتمامنا الذات، يعني أن نعبَرعمَا ينتابنا من فرح أو ضيق،من نشوة أو تأزَم، بطرق مختلفة وأساليب متنوَعة لبواعث شخصيَة ودوافع اجتماعيَة، قد تكون صريحة وقد تكون ضمنيَة ، وهو ما يمثَل مقصديَة الكتابة عن الذات . ويعني كذلك إعادة تشخيص حياتنا أوجزء منها بالاشتغال المكثَف على الذاكرة ،لأنَ الكتابة عن الذات هي كتابة ذاكرة أو بالأحرى ذاكرات،فيها تتكامل وتتعالق لحظات الوعي بلحظات اللاَوعي وإن بدت مفارقة. وهي ذاكرات تراوح بين التذكَر والنسيان إذ أنّه إلى جانب الذاكرة االتي تتذكَر،هناك ذاكرة تنسى ممَا يحوَل التذكر إلى استحالة، وهذا ما يفسَر الفراغات في النصَ. وكما يمتلك التذكَر بلاغة، فللنسيان بلاغة قد تفوق بلاغة التذكَر. قد نعبَر عن ذواتنا بلغة شعريَة موحية، وقد يكون التعبير عنها بلغة نثريَة.
***
قد نكتب عن ذواتنا بضمير المتكلَم أي الصيغة المهيمنة على خطاب الملفوظ السرديَ الذاتيّ َوأنساقه التذكريّة ، ذلك أنَ الصيغة الناظمة التي يستعيد بها هذا الملفوظ الماضي تقوم على ضمير المتكلَم «أنا» باعتباره « ضمير الحضور في النصَ»، ومعنى هذا أنَ الذكريات الماضية تكتسب قيمتها من خلال الكيفّية المرويَة بها.ف«الأنا» يعزَز هيمنتها في استحضار الماضي، وسرد الذكريات. و قد يمتزج الحضور بالغياب، و«الأنا» بضمير الغائب «هو» وندخل في لعبة الضمائر التي لا يمكن أن ينسى معها الراوي أو السارد الأحداث المرويّة له.المهمّ أن نعرف من هو المتكلّم في هذا النصّ المكتوب؟ من هو المخاطب أو المرويّ له؟ من هو المتلقّي لهذا النصّ؟ ماهي العلاقة القائمة بين الماضي والحاضر الذي يكتب فيه نصّ مّا و ماهي المسافة الفاصلة بينهما؟ قد يعمد الراوي إلى استعمال ضمير المتكلّم لأن نصّه لا يخلو من نزعة ذاتيّة، قد يستعمل ضمير الغائب رغبة منه في تحقيق الموضوعيّة. هذا ، وإن كانت الحقيقة في الكتابة الذاتيّة، على الأرجح، قضيّة زائفة لأنّ السارد كما أكّد ذلك الباحث الفرنسيّ جورج ماي(G.May) لا يستطيع، مهما فعل، أن يتخلّص من الحاضر الذي يكتب ليلتحم بالماضي الذي يرويه.
و الخلاصة أنّ الكتابة عن الذات لا تحكمها قوانين صارمة، و من العسير أن نظفر بالحقيقة أو اليقين العلميّ، قد نضطرّ أن نجمع عناصر كثيرة لنصل إلى شيء من الحقيقة. إنّنا نكتب سيرة حياتنا المنقضية أو نرسم ذواتنا في سنّ مّا لنقاوم النسيان المربك للذاكرة ويكتب لنا الخلود فنوقف عجلة الزمن و نعيد صياغة تجربتنا على الشّاكلة التي نرتضيها لنكتب رواية وجودنا و نكون كمن « يعيش عمره مرّتين » على حدّ تعبير ميخائيل نعيمة. وهكذا تكون الكتابة عن الذات كتابة استعاديّة أي استذكاريّة لتجربة حياتيّة عاش أحداثها إنسان مَا، في مكان مَا، وزمان قد انقضى وولىَ، مخَلفة في نفسه إيمانا بقيمة الحياة، وغنى التجربة ووعيا قويّا بالاختلاف عن الآخر. وعندها فقط يكون له عالمه الخاصّ، ويكون سّيد الموقف، فيحيي أشخاصا أحبّهم، وكانوا له سندا ذات يوم، و يقتل آخرين، كان وجودهم عبئا عليه، لينتهي منهم، و هكذا يستردّ ما أخذ منه.
أن نكتب عن ذواتنا، يعني أن نحوَل تجربة كياننا في الوجود إلى تجربة بيانيَة أي تجربة نصَيَة عبر اللغة، توهم بواقعيّتها، لأن فعل الكتابة قائم أساسا على الإيهام. وعلى المتلقي الذكيّ أن لا يقع في الخلط بين المؤلّف الواقعيّ و السارد الخياليّ و في ذلك يقول بارت (Barthes) : « أنّ السارد والشخصيّات كائن من ورق فلا يمكن أبد الخلط بين المؤلّف المادّي للحكي و سارد هذا المحكيّ.» (1) وهكذا تتحوّل الكتابة عن الذات إلى فعل خلاص قائم على البوح ، عاكس لمؤشّرات فكريَة واجتماعيَة وسياسيَة ونفسيَة كذلك، تتعلّق بالفترة الاجتماعية التي عايشها و ما تتميّز به من مشاغل و أوضاع، ومبيّن لحقائق لم يتسنّ الإصداع بها في أوانها، أو تصحيح لمواقف أو تبرير لآراء، أو كشف لما لم يكن معروفا ويرغب في أن يعرف عنه. وهي أيضا ضرب من إعادة الاعتبار للذات و تنزيلها للمنزلة التي بها جديرة. ولكن لسائل أن يسأل هل كلّ حياة جديرة بأن تتحوّل إلى سيرة نصيّة؟
و الكتابة عن الذات لا تخلو من التخييل، و هي قابلة لاحتضان العديد من النصوص والعديد من الخطابات والعديد من الأجناس. وهي كذلك لا تقف عند حدود الذات و لكنّها تستدعي الحديث عن الآخر. والكتابة عن الذات ليست حكرا على بلد دون آخر أو على جنس دون غيره بل هي جنس أدبيّ تطوّر غربا وشرقا.ولا شكّ أنّ الموضوع المتعلّق بالذاتيّة قد أصبح اليوم غرضا واسعا للبحث العلميّ و ميدانا فسيحا للنقد الأدبيّ. لقد انطلق الباحثون من النظر في كتابة السيرة إلى النظر في كتابة الترجمة الذاتية، وصولا إلى الكتابة في أجناس أدبيّة متفرعة عنها. إن كلّ هذه الأغراض متّصلة ببعضها بعضا، و لئن كانت أجناسا أدبيّة قد يفصل بينها الباحثون فصلا منهجيّا فهي تلتقي في منحى واحد يعبّر عنه بالكتابة الذاتيّة. و لعلّها كلّها أجناس أدبيّة تلتقي فيها الكتابة الروائية كذلك.
و كما استهوت الكتابة الذاتيّة الكتّاب غربا و شرقا،استهوت الكاتب التونسيّ كذلك سنستعرض في غضون هذا البحث نماذج نعتبرها دالّة من كتاباتهم.
***
لقد استلهم الكثير من الكتَاب التونسيَين ذواتهم في مختلف مؤلَفاتهم ،وقد يعسر حصرهم في بحث مفرد ،هنا والآن، لذلك اضطررنا إلى أن نعتمد نماذج نعتبرها دالَة من كتاباتهم .وفي هذا الصدد رجعنا إلى نصوص أنشأها رجال ونساء، وذلك دون مفاضلة بين أولئك وهؤلاء نستعرض منها على سبيل المثال لا الحصر رواية آمنة لـزكيَة عبد القادر التي صدرت لأوَل مرة بدار القلم 1983 ، ورواية الإسم والحضيض لفضيلة الشابي التي صدرت بمطبعة الشابي سنة 1992 ورواية تماس للكاتبة عروسيّة النالوتي التي صدرت بدار الجنوب للنشر1995، ورواية نخب الحياة للكاتبة آمال مختار الصادرة عن دار الآداب، بيروت1993، ومجموعتها القصصَّة و للمارد وجه جميل التي صدرت عن دار سحر 2004، ورواية وكان عرس الهزيمة للكاتبة حياة بالشيخ التي صدرت بمنشورات الأخلاّء 1991، ورواية كائنات مجنَحة للكاتب حسن نصر التي صدرت عن دار ورقة للنشر2010، ورواية تفاصيل صغيرة للكاتب نور الدين العلوي التي صدرت عن دار الجنوب للنشر2010.وقد مهّدنا لهذا البحث بتنظير موجز لقضيَة الكتابة الذاتيَة في الأدب عامَة. ولا يمكننا أن نقف على خصوصيَات الكتابة الذاتيَة التونسيَة إلاَ بعد أن نستعرض نماذج دالَة في الصدد.
من أهمَ النصوص التونسيَة التي استلهمناها والتي تنسب إلى أدب الذات رواية آمنة للكاتبة التونسيَة زكيَة عبد القادر. نصّ الكتاب الذي بين أيدينا يقع في 166 صفحة.وسَمته صاحبته بجنس أدبيّ معروف هو جنس الرواية.جاء بمثابة المغامرة الفكريّة .شرعت صاحبته في تأليفه إثر خوضها لتجربة زواج خيّبت أملها مستثمرة فيها عناصر عديدة من سيرتها الذاتيّة ، وشيئا من التطابق بين سيرتها في الحياة وسيرة بطلتها آمنة في النصّ الروائيّ رغم عدم الإفصاح عن هويّتها الحقيقيّة، وذلك باستعارة اسم علم لا يمتلك حقيقته المرجعيّة وهو زكيّة عبد القادر. وهو نفس القناع الذي استخدمته في مجال الموسيقى الذي تمارس، باستعارتها لاسم "وفاء". البطلة في هذه الرواية تدعى آمنة بما في هذا الإسم من إيحاء للأمن والأمان، بل لعلّها كانت آمنة في بلدها الآمن لتنعم بلذّة الدرس في الجامعة إذ لم تبق إلاّ سنة للتخرّج وسنتان لنيل ديبلوم الموسيقى من المعهد الرشيديّ. وما أروع العلم والفنّ حين يقترنان في شخص واحد بدليل قولها في غضون الرواية « الموسيقى عندي عقيدة ثانيّة بعد الإيمان بالله فلو مازج هذه العقيدة شكّ،لاختلّ أهمّ جزء في كياني». لقد عنانا أمر هذا الكتاب فأقبلنا عليه، وأوَل ما يلفت القارئ فيه عنوانه،باعتباره عتبة العبور إلى داخل النصّ السرديّ المنفتح على آفاق لاتحدّ من التأويل، وذلك بما يتضمَنه من توق إلى الأمن والهدوء.
إنَنا أمام رواية من الأدب الذاتيَ، كانت بدايتها جميلة قصّة حبّ ّتتوّج بالزواج، ثمرتها سيف الدين وعلياء. ولكنَ نهايتها كانت متأزّمة، كادت تنتهي بجريمة نكراء.وهذا يعيدنا إلي اسم البطلة آمنة، لقد كانت البطلة عاقدة العزم على أن تبقى آمنة حتَى آخر عهدها. وكأنَنا بالزوج هو المذنب في هذه الرواية والمرأة هي الضحيَة. ومدار الرواية إجمالا الحبَ الذي ينتهي بالخيبة. ولم تطل إقامتها بالبلد الشقيق الجزائر بعد أن انفصلت عن زوجها طلحة وسطوة أهله بالعودة من الجزائر إلى تونس. وأصرّت على مواصلة الحياة من أجل ابنيها اللذين وهبتهما كلّ حياتها قائلة في أكثر من مناسبة « من أجلكما أريد أن أحيا... لكما أريد أن أبقى آمنة » ومن أجل عقيدتها الثانيّة وهي الموسيقى مقرّة العزم على كتابة نصّ أدبيّ يخلّد منزلتها الأدبيّة ، بعد أن حقّقت مرتبتها الاجتماعيّة أستاذة في اللغة الفرنسيّة ، ممّا يجعل الكتابة سبيل لاستعادة هويّتها وإثبات ذاتها، وتمجيد صبرها ونضالها، وشفاء وبلسم لذاكرتها الجريحة. إذن تسجَل زكيَة عبد القادر تجربتها لتشفى من أوجاعها ولتتمَرد على الواقع الصلب ممّا أعاد إلى كيانها التوازن بعد اختلال والهويّة وبعد استلاب طال وضياع امتدّ لسنوات. وهكذا تتحوّل الكتابة التي تنبع من الذات عندها فعل خلاص، ينقذ الذات الأنثويّة من الموت لتقتل هذا الشخص الذي أصبح وجوده عبءا ثقيلا عليها، وهذا ما نلمسه في أكثر من موطن في الرواية وعبر كتابات أكثر من كاتبة روائيَة.
***
وكما ثأرت زكية عبد القادر من خيانة زوجها بالطلاق وتحدّت عاهة الخرس بالكلام بعد أن استحال عليها نسيان تجربة مريرة عاشتها في الغربة هزّت كيانها هزّا فصدّعت ذاكرتها وأصابتها بأوجاع أبديّة فراحت تبحث عن ذاتها المتشظّية لترمّمها. وهكذا تقف بالمرصاد تجاه هذا العجز الذي شلّ حركتها في الواقع فوفّقت إلى حدّ مّا في تحويل صمت الأشياء إلى ذبذبة مدوّية فاحتجاج بفعل منجز العمل الإبداعيّ.
أمّا فضيلة الشابي فقد صهرها الألم وأنهكتها المعاناة ورفعتها المأساة إلى حدّ الكشف الصوفيّ مؤمنة بجدوى الكلمة النابعة من العمق والمولّدة لنصّ زئبقيّ عنيد وليد تجربة شعريّة حارقة ناهزت العقدين من الزمن. وهاهي تواصل تجربتها نثرا ،وتعلن منذ الفصل الأوّل من روايتها الإسم والحضيض الموسوم بسيكولوجيّة الصواعق عن انخراطها ضمن مذهب الكتابة الذاتيّة المتجاوزة الكلمة الشعريّة لترسم ملامح تجربتها الحياتيّة الجديدة نثرا قائلة : «لا يشكّل هذا الكتاب مجموعة أقاصيص مستقلّة بل هي فصول متقاطعة لحركة القصّ، وهل القصّ إلاّ قصّ مجاري الحياة» (2). وكأنّنا بفضيلة الشابي لم تجد كلّ ما تنشده في تجربتها الشعريّة فحوّلتها قصّا ورواية علّها تجد فضاء أرحب تحقّق فيه ما تصبو إليه و تنشده و تحلم به. وهاهي تلاحق نصّا عسيرا لم يكتب بعد،ولكنّها تحوم حوله بنفس ملؤها الثقة وضرب من تضخّم الذات. ولعلّ عسر تجربتها الذاتيّة الجديدة جعلها تكتفي بمجرّد الإمساك ببدايات هذا النصّ الذي يجعل صاحبته في مرتبة الآلهة، تقول في غضون روايتها:«أحوم حول النصّ الذي لم أكتبه بعد... النصّ لو بدأته لأصبحت ربيبة الآلهة» (3) وبذلك قد تتحدّى السائد والمألوف، وتتخطّى الشعور بالغربة والمرارة، وتتجاوز الإحباط بقدرة عجيبة على الابتسام.
أمّا عروسيّة النالوتي ، وهو تكتب روايتها تماس، تثير انتباه المتلقّى منذ الصفحات الأولى انطلاقا من نصّ الإهداء الذي برّرت فيه رغبتها في مواصلة حديث كان ولا يزال يملأ كيانها وصولا إلى حاجّة ملحّة إلى البوح قائلة: « إلى روح والدتي، مواصلة للحديث الذي لم ينقطع»(4)، فحديثها مع أمّها تواصل طيلة حياتها،وقد استدرجتها للتعوّد على الكلام بعد أن سرق منها والدها لذّة العيش وسلبها الإرادة . إنّها عاقدة العزم على تحريرها من جبروته وغطرسته بمواصلة الحديث معها، ولو تخييلا، عبر الكلمة المدوّية والنصّ الإبداعي ّ لتصدع بما تعذّر عليها قوله في أوانه .إنّها على تمام الإدراك بأنّها متعطّشة إلى سيل من الكلام لا بدّ أن يقال . ثأرت عروسيّة النالوتي من أبيها بجرأة قصوى عرّت كل ّمظاهر الزيف والنفاق التي لوّن سلطته عبر السنين ، وهشَمت تمثال غطرسته ،وحوَلته إلى شظايا تنكَلا به وثأرا لأمَها التي اغتالها قهر الوالد مندّدة به قائلة : « الآن سأتكلَم يا أبي... الآن سأبدأ... وأقول ما سكتت عنه تلك التي صمتت طيلة عمرها ولم تقل شيئا ولم تندَ عنها َأَية أنَة ...أيَة شكوى، تلك التي عاشت معك ألف غريبة غلَفتها بألف حجاب، لقد سرقت منها حياتها وحَولتها إلى خرق آدميَة»(5). وقد تجلَت هذه المرارة المتولّدة عن التوتّر القائم بينها وبين أبيها ، على لسان بطلتها زينب ، في روايتها تماس التي ترشح ألما وضيما وقهرا ،تقول ممتعضة منه في أكثر من موضع«هو بعض مرارتي الكبرى أنا كلّي أرشح بالمرارة والحموضة...خلّ الذي في شراييني وليس دما» (6 ) وقد لازمتها تلك الحموضة وتلك المرارة بوضوح في حياتها، وهي تكتب أمره.وقد عبّرت عن سرّ الكتابة لديها في أكثر من لقاء ثقافيّ ، قالت: « ونحن نكتب، نقول همومنا وانتصاراتنا. وإنَنا نصوغ أحلامنا وأشواقنا في عزلة قاتلة لا يشفع لنا فيها إلاَ هذا الصدق الجريح الموجع الذي نواجه به العالم وأنفسنا» (7).إنّها تشعر بعمق المأساة إثر الفشل الذريع الذي تمنّى به إثر كلّ محاولة تشفّى،ومع هذا تصرّ على الكتابة والرحيل إلى أقاصي الحلم علّها «تكشف لنا حقيقة ذواتنا المغيّبة داخل ذواتنا ...بعلم منّا أو بدون علم...».(8) فالكلمة وحدها القادرة على إعادة تشكيلنا التشكيل السويّ، والكلمة وحدها القادرة على إيقاد شرارة الحياة فينا. بها نفرض ذواتنا ،و وبها نتغلّب على العجز الذي يسكننا ، ونشفى من حالة الوهن التي أصابتنا فأخرستنا. إنّها ترى ،في الكلمة الصادقة حرّيتها، وفي الكتابة المتجدّدة خلاصها حتّى، وإن باءت بعض محاولاتها وتجاربها بالفشل.فعندها انزاحت الكتابة عن جدواها، ولم تعد الغاية منها مجرّد النفع العاجل بل أمست عبثا الغاية منه مجرّد" الإمتاع والمؤانسة ".أصبحت الكتابة،عندها، مجرّد لذّة سرعان ما تنتهي إلى الخواء بمجرّد الانتهاء من كتابة النصّ واللّعب بالكلمات، وأجراس الكلمات. تقول زينب عبد الجبّار ، وهي تعدّل رأيها ، في جدوى الكتابة الشبيهة باللّعب:« ليكن ،ولم لايكتب الإنسان لللاّجدوى؟ لمجانيّة الأشياء ؟ لللاّشيء فقط، لمتعة صغيرة عابرة،موعودة منذ قيامها للزوال؟... ماذا ننتظر من وراء هذا اللّعب ؟... نكتب فقط وبكلّ بساطة لنقول شكّنا وريبتنا، وفي نفس اللحظة نبتدع ألف خدعة لرتق الفتق طلبا لوهم التماسك . أو لعلّه حرص الطفل فينا على اللعب قصد الإدهاش... كي نفتكّ شهادة حياة بها نكون. أو لعلّه حرص آخر على أن نبني لنا إقامة في عمارة لا من إسمنت وحجارة بل من بسيط الكلم ومنثور العبارة ».(9) وقد تنقلب لا جدوى الكتابة إلى ضرب من اللّعب بالكلمات التي بها نتسلّى ،وبها ننشىء عالما رحبا فيه ننفلت ولو إلى حين من قسوة الواقع. إنّه اللّعب الذي يتماسّ فيه الجدّ ّوالهزل فيكون خوف الكاتبة من أن تكتب قدرها دون علم منها، ليتحوّل خطاب الرواية إلى خطاب نبوءة تستشرف من خلاله طموحاتها وأحلامها فينقلب اللّهو جدّا بقلب موازين القوى مع من نحبّ ، وبتبادل المواقع تشعر بنشوة الفوز ولو إلى حين:« وأحسّت بشيء من اللذّة وهما يتبادلان المواقع فتبادره بما تعوّد هو أن يقوله لها ويروح هو ليجد نفسه في وضع المتغزّل به... ولأوّل مرّة تشعر زينب بلذّة الاقتحام والمبادرة...أمّالآ ن فهي تعرف أنّها مجازفة لا تخلو من لذّة مهما كانت العاقبة».(10) ففي الكتابة لذّة لا تضاهيها إلاّ لذّة إرباك الآخر والتمويه بالانتصار عليه.
في منتهى العسر هو حديث الذات الكاتبة عن فعل كتابتها، كما في منتهى العسر ضبط خصائصها عند هذا الكاتب أو ذاك، لأنّها غائمة ومتجدّدة في آن . وقد عبّرت عروسيّة النالوتي عن بعض خصائصها وهي تشكّل نصّها الذي يغدو استعصاء واستحالة مستمرّة تؤدّي بها في أغلب الأحيان إلى بؤرة الشكّ والسؤال والحيرة واليأس « يأس من يبني بلا مثال مسبّق، يبني داخل اللّغة المتاهة ...داخل اللّغة المشحونة بألف التواء وانعطاف...لا تستكين لك حتّى في أوج وهم الامتلاك ، هي هنا ...،طوع أمرك...وهي في ذات الآن هناك تستبدّ بك وتطرح عليك التوقّف في النقطة الصفر التي انطلقت منها فكأنّك تركض ولا تبرح...في اليوم الذي أمسك فيه ببعض حقيقتها ... أستطيع أن أتحدّث عن تجربتي الصميمة مع الكتابة . قصّتي مع الكتابة قصّة عشق صوفيّ،فيها ما فيها من الامتلاء...حين امتلاك اللّحظة المستحيلة...وفيها من العويل والعواء ... ما يجلد النفس ويمضّها.»(11 ) ولئن بدت عروسيّة النالوتي، وهي تمارس طقوس الكتابة،تستجيب لغواية الورق،إلاّ ّأنّها واعية كلّ الوعي بذاتها، معتزّة كلّ الاعتزاز بأنوثتها، تتوق « شوقا إلى معانقة النصّ الكامن...نصّ النصوص كلّها...جسد اللغة النابض، القديم،الجديد،العتيق،الحديث،الصّامت،الهادر...بكل ما منح و ما منع.» (12)،ملتذّة بآلامها التي هي قدرها. وقد تكمن كلّ الروعة في البحث المتواصل عن منابع الجمال في أعماق النفس البشريّة بكلّ التواءاتها و تشعّباتها.
***
أمَا آمال مختار وهي تكتب مجموعتها القصصية وللمارد وجه جميل فهي تصدم المتلقيَ منذ الصفحة الأولى بكلمتين عبَرت بهما عن سرَ الكتابة لديها:« أكتب... لأشفى... « (13) إنّها تعلم المتلقَي بأنّها مريضة،...لا إمكان لها في الشفاء إلاَ بالكتابة ... فكيف سنلقاها وهي تنزع إلى الشفاء ؟ وكأنَنا بها إزاء شفاء موهوم...فالكاتبة في عزلة، كلَ شيء من حولها فراغ ، لم تهتد إلى من يفهمها ، ويعاشرها فيحسن العشرة ، فلا الرجل يؤتمن ولا النصَ يفيد ولا الكتابة شافيّة ، وفي ذلك تقول قولا يرشح مرارة وخيبة :«مارست الحياة هنا في الحكاية وتمرَست بها،وانهمكت في رحلتي أبحث عن جوهرها فلم أقبض إلاَ على السراب،وكلَما تهيَأ لي أنَ الكفَ ملآنة فتحتها لأسعد ملء قبضتي فلم أجد إلاَ الأوهام... خلقتك في الحكاية فحلا كما أشتهي فإذا بك تتوق إلى الحياة البائسة المدمَرة خارج الكتابة.فإذا بك تفرَ من اللّغة لكي تمشي على قدمين في الشوارع، في الزحام لتعود آخر النهار منهكا... صنعتك من روحي ومن كلماتي وصدَقت صنعي لكنَك خنت...وسوف يكون جبنا لو أنكرت أنَ المرارة ملأت الروح والفم.وسوف يكون أكثر من الجبن لو أنكرت خسارتي. لكن من يجرؤ على الاعتراف بالخسارة، وهو في حقيقة الأمر كسب للتجربة وربح للذات وإبداع في النصَ؟» (14) لئن خسرت كاتبتنا معركة فهي لم تخسر الحرب.إنَها تواسي النفس وتعزَيها في وهم النصَ وجنون الرجل الأكذوبة الذي صنعته. وهاهي تعود، غير مبالية ، إلى نصَها من جديد لمواصلة النضال بالكتابة، وهي في منتهى التحدَي والكبرياء، قائلة:« وها أنا الآن غيرُ نادمة أغتسل بكلماتي وأداوي الجرح الغائر في جسد النصَ بملح الدموع بعد أن زاولت عادتي في الدفن حتَى أستعيد فرحي الأبديَ»(15) أمَا الشفاء الحقَ ، في نظرها ،فقد يتمَ عبر الحريَة المطلقة أي التي تعتق الذات والجسد من كلَ قيد حتَى يكون للوجود مذاق مغاير. وقد حقَقت ما تنشُده عن طريق بطلتها سوسن عبد الله مع إبراهيم في روايتها نخب الحياة تقول : « كثيرا ما كنت أحلم بأن أغرق في حالة سكر،بأن أغيب عن الوجود فأهذي وأفقد القدرة على تملَك نفسي. وأبدا لم يتحقَق حلمي. مهما عببت من مشروبات روحيَة ، لاأغيب ولا أترنَح. وأما إذا تعسَفت على نفسي ، فقد كنت أنتهي إلى الانهيار الجسديَ والسقوط في موت كامل طوال يوم أو يومين يمضيان من عمري إجازة من ارتكاب فعل الحياة.»(16) وكأنَنا بها تردَ الفعل فتجاهر بتجاربها وتفضح المستور من حياتها. وقد تجلَت هذه المرارة في روايتها وأقاصيصها ومواقفها الذاتيَة كذلك ، إنَها لا تنكر معاناة الكتابة، ومع هذا قدرُها أن تكتب،إذ، كما تقول،هي، لابدَ للكاتب أن يعَبر عن ذاته ،أن يصدع بما يختلج في صدره.وكذلك كان يطيب للكاتب الفرنسيَ شاتوبريان أن يقول: « حين نكتب، لانرسم إلاَ ذواتنا.»إنّ المتأمّل في كتاباتها ،قصصيّة كانت أوروائيّة ،يشهد لصاحبتها بعمق التجربة ، وشدّة الوعي بمحنة الكتابة ،مثيرة العديد من إشكاليّتها ، معتدّة بذاتها حدّ ّالتيه شبيهة بإلاه ، تقرّ آمال مختار بذلك في إحدى شهاداتها «إنّ الكتابة الروائيّة فعل ذكاء إلاهيّ لا يقدر عليه إلاّ من اقترب من الإلاه...إنّه يطمح إلى الخلود ربّا لكلّ ذلك العالم الذي يتفنّن في إنشائه على الأوراق وهو فيها وينتصر على الموت ». (17) لئن بلغ السارد في رسمه لذاته مرتبة الآلهة تبقى الإشكاليّات قائمة بين الأثر وصاحبه في مدى إمكانيّة فصل الذات عن نصّها الإبداعيّ ومدى الصدق في رسمها ممّا يضطرّ المبدع للمخاتلة والمراوغة .
***
أمَا الناظر في بعض نصوص حياة بالشيخ من خلال روايتها وكان عرس الهزيمة مثلا، يدرك أنَها هي أيضا تعبَر في كتاباتها عن ذاتها المتأزَمة.ألم تصَور في روايتها إحباط جيل كامل خابت تطلَعاته إثر الاستقلال؟ ألم ترسم في نصَها الروائيَ تردَي الواقع العربيَ وانهياره؟ ذلك أنَ هذا الجيل لم يجد سبيلا للخلاص غير التحدَي فأدمن شرب الخمر و مارس الجنس سبيلا إلى النسيان، تقول على لسان أحد أبطالها :«ماذا تفعل حين تكتشف أنَ اللّصوص احتكروا الحياة و ما فيها، حين تصبح الكرامة مهزلة يتندَر بها الأوغاد...فماذا يكون موقفي؟ أفعل كالجميع:أنهب وأراوغ ؟أم أنزوي في قبر ما أعلك إحباطي؟ أرمق الدنيا ترقص لاهية يمتطيها السفلة وأنا أبحث عن دور ووضع ولا أجدهما ؟»(18) ألا نجد تناسقا بين شتَى الروايات التي استعرضناها عندما يتَضح أنَ نسيجها هو الألم والحزن وسوء المصير؟
***
أمَا القاص و الروائي و حسن نصر، وهو يكتب روايته كائنات مجنَحة التي صدرت عن دار ورقة للنشر2010 ، فهو يعبَر بالحكاية عن عمق ذاته العامرة بالرؤى،فبالحكاية وحدها يستطيع الإنسان أن يتجاوز، ولو تخيَلا، ما يعترض طريقه من حواجز وممنوعات .
ولسائل أن يسال هل من مُنصت للحكاية في عصرنا هذا ؟ والكاتب على تمام الألم من التهاون بالحكاية، وفي ذلك يقول:« في القديم كنت تجد من يصغي إليك، أمَا الآن فكلَ الناس تحكي ولا أحد يستمع إلى الآخر»(19) والقارئ لرواية الكائنات المجنَحة يدرك مدى انغماس صاحبها في قضايا الحياة ، و ذاك مقصد من مقاصد الكتابة الذاتيَة عنده في هذا الكتاب، يقول:« هذه شواغل الكائنات المجنَحة، مثلما عشت بعض أطوارها أو مثلما سمعت عن بعضها أو مثلما عاشها الناس قبلنا أو مثلما تتصوَرونها إذا صادف وقرأتموها يوما. هي كلّ ما يجمعه الطائر من غال ونفيس،من أوراق العشب في الحدائق، ليبني عشَه ويضع بيضه.» (20) وكما الحكاية تفيد فالكتابة مهمَة، وبها قد نضفي على حياتنا معنى يقول:«ما قيمة الحياة، إذا لم نعشها من أجل نصرة قضيَة عادلة؟» (21) ألسنا نجد ضمن هذا السؤال الذي يصف البؤس الذي تردَى فيه العرب نتيجة الجهل بكبرى قضايا الحياة؟ أي مفهوم الفعل فيها.
***
وهكذا انتقلنا مع الكاتب حسن نصر من« الذات الفرديَة» إلى« الذات الجماعيَة»، ولعَله يحسن أن نقول من الذات« الانفرادية» إلى الذات «الاجتماعية»وهو يدعوهم إلى العمل على تغيير شؤون حياتهم وطرق تفكيرهم. وكأنَنا بالروائيَ حسن نصر، وهو يكتب روايته الكائنات المجنَحة، التي اقتطعها من نفسه اقتطاعا، يرسم ملامح مخطَط مستقبليَ قد يخرج العرب من المأزق الذي تردَوا فيه فيصبح لكيانهم معنى. أليست الكتابة عنده تعني الحياة؟ ألم يقل: «،إنَها سرَ الوجود، إنَها الحياة بكلَ تدفَقها وتناقضاتها، بما فيها من محبَة وما عليها من جمال.والإنسان في هذه الحياة بكلَ ما يشتمل عليه،وما يعيشه من تقلَبات،وما يصدر عنه من مواقف في مختلف أطوار حياته. الإنسان والحياة هما مجال الكتابة والفنون»(22) ثمَ يعرض على المتلقَي فلسفة نشأة الكتابة عنده وسرَ زوالها قائلا:« من القلق وعدم الرضا عن النفس وعن العالم من حولنا تنشأ الكتابة... من عدم الرضا يبدأ التململ ويكون الرفض:لا.لا.لا. من« لا» هذه يبدأ الفعل وردَ الفعل،ويتولَد التفكير ويقوم الصراع وينشأ الفنَ وكلَ َوسائل التبليغ والكتابة. »(23) وكأَنَنا بصاحب الكائنات المجنَحة ، وهو يصف خوالج ذاته يعبَر عن نفس مكلومة، ضاقت بها الحياة فقوَضت بالكلمات أركان الواقع المتردَي لبناء عالم أفضل، فيه نداء للرفض ودعوة إلى الحق. َوهذا المعنى يذكرنا بالكتاب المهمَ الذي أنشأه باشلار والذي عنوانه فلسفة الرفض.
***
أمَا رواية تفاصيل صغيرة التي صدرت عن دار الجنوب للنشر سنة 2010 للكاتب َنور الدين العلوي.فهي نصَ يعرض صورة قاتمة وإحساس مرير بالغربة في المجتمع التونسيَ الحديث.لايسعه مكان ولاوطن، يضيق بالأهل، ويتبرَم بهم وبأحوالهم. هل هي صورة واقعيَة أم صورة متخيَلة أم هي صورة تجمع بين هذه وتلك؟ وأقرب الظنَ أنَها قريبة من الأولى حينا ولها وشيجة بالثانية حينا آخر.
والرواية كلَها وليدة مشاعر ذاتيَة ومعاناة اجتماعيَة وخلاصةُ قلق عامَ يغمرها.فيها تلتئم المشاعر الذاتيَة مع المشاعر الاجتماعيَة، ولا بدَ لقارئ هذه الرواية أن يجمع بينهما. إنَ رواية تفاصيل صغيرة للكاتب نورالدين العلوي كتابة نابعة من هموم الفرد والجماعة، لكنَها تولَد في الوقت ذاته كما قال الأستاذ الباحث أحمد الودرني«وتوقد في نفس القارئ شموع الأمل. هي جدليَة الظلمة والنور تختصر صراعا مريرا بين الخير والشرَ والفضيلة والرذيلة...»(24) فالنصّ ُيبيَن الواقع لكنَه ُيوحي في الآن نفسه ببديل هو جادَة الخلاص مما يعانيه الفرد والمجتمع والأمَة بأسرها.أليس من اللاَفت للنظر أن تكون هذه الرواية في الختام صورة قاتمة لفرد كليم ومجتمع جريح، وصورة باسمة جسَمها مطر قادم، فيه تباشير الأمل. والخلاصة أن ملامح الألم في هذه الرواية يُهيمن على الأمل، وأنّ ملامح الحزن فيها تسيطر على الفرح.
***
إن المتأمل في العديد من هذه الكتابات يلاحظ أنَ مكوَنات أساسية تمثَل العلامات الدالة على كتابة السيرالذاتيَة أوَلها الحضور المتَصل بضمير الأنا، كتعبير عن امتلاك ناصية الكلام. وهو الضمير الذي يسم عددا مهمَا من الروايات التي صيغت بضمير المتكلَم.
و ثانيها تحويل تلك الأنا إلى بؤرة سرديّة أي إلى محور المحكيَ. وهو ما ينطبق على أغلب الكتابات التونسيَة وخاصَة روايات الكاتبات التونسيّات حيث نجد البطلات هنَ الشخصيّات الرئيسيّة وهن بؤرة المحكيَ السرديَ، وهنَ الساردات في آن.
وثالثها« الميثاق السير ذاتيّ » الذي به تحدَد مقصديَة الكاتب من الكتابة والذي يستفاد من مختلف الإحالات الضمنيَة أو الصريحة الواردة في النصَ.وهكذا تظهر الَأهمَية التي يكتسبها الأنا التلفظيَ باعتباره ضمير الحضور في النصَ، ويستبين مدى التعالق الوثيق بين الواقع والمتخيَل.
و رابعها تداخل الذاتيَ مع جلَ كتاباتنا، فما يكتب الآن من أدب، سواء ما تكتبه المرأة أو ما يكتبه الرجل، لا يخرج عن إطار السيرة.فكتَابنا اليوم ، لايكادون يكتبون سوى عن سيرهم الذاتيَة فهم يعبَرون عن موقفهم ذاك بقولهم: « إنَنا لا نكتب عن المشكلات ولكنَنا نكتب عن ذواتنا». و كأنَنا بالكتابة ،منذ أوَل عهدها، صدى للتجربة الخاصَة وهموم الذات والآخر في أبعادها الشخصيَة والوجوديَة ،وذلك انطلاقا من فضح السائد و المتدهور، بدءا بحياة العائلة المأزومة ووصولا إلى مجتمع تُربكه أوضاع راهنة.وكأنَها مع الأيَام اكتسبت نضجا مكَنها من تجاوز العاديَ والمألوف إلى الاهتمام بقضايا الإنسان في العالم.
و خامس هذه المكوَنات صدق معاناة الكاتب وتوقه إلى البديل.إنَه يحلم بمستقبل أفضل، فيه يتخلَص من مخازي الواقع و فظاعاته،إذ الكتابة فعل واع ، والكاتب مدرك لما ينشؤه من عوالم محكيَة.
والخلاصة أنَ الكتابة عن الذات، منذ الأمس البعيد ، قد مثَلت هذا الكاتب العربيَ أوَلا والكتَاب الأجانب ثانيا والكاتب التونسيَ خاصَة شكلا من أشكال السرد.وقد اتَضح هذا السرد في أجناس أدبيَة عدَة وخاصَة منها المتصلة بالأدب الذاتيَ الذي له صلة بالسيرة الذاتيَة أو الترجمة الذاتيَة واليوميَات كذلك والاعترافات والمذكَرات وما إليها.
لكنَ الكتابة الذاتيَة تطوَرت، فأقبل النساء خاصَة على مراسها وأقبلنا عليها إقبالا وجعلنا منها جنسا أدبيَا متَسما بروح العصر ومبرَراته الأدبيَة،وهذا مادفعنا في هذه الندوة إلى العناية بالكتابة الذاتيَة التونسيَة.إنَ في هذا النوع من الكتابة الأدبيَة قضايا تثير من الأهمَية ما لايمكن أن ينسى لأنَها أدب يستوجب الدرس العميق. فصيغة الكتابة، والأجناس الأدبيَة، وصيغة السرد ،وتمازج الأنواع الأدبيَة وما إلى ذلك يدعو إلى التثبَت في هذا الأدب المتعلَق بالكتابة الذاتيَة منذ ابن خلدون وكتابه المهمَ الذي عنوانه : «ابن خلدون ورحلته غربا وشرقا»في القرن السادس للهجرة الموافق للقرن الرابع عشر للميلاد مرورا بجميع الذين تحدَثوا عن ذواتهم في القرن الثامن والتاسع عشر للميلاد ووصولا إلى أدبنا الحديث اليوم. فندوتنا هذه ليست سوى مقدَمة لهذه الدراسات وإثارة لهذه القضايا.
***
الهوامش
Roland Barthes , Introduction à l’analyse structurale des récits , Communications 8 1. éd .du Seuil 1981.
2. فضيلة الشابي، الإسم و الحضيض، سيكولوجية الصواعق، ص 149 .
3.المصدر ذاته ،الصفحة ذاتها.
4. عروسيَة النالوتي،تماس، دار الجنوب للنشر،تونس 1995،ص11
5. المصدر ذاته، ص 106.
6. المصدر ذاته، ص 107.
7. وردت قولة الكاتبة ضمن ندوة الرواية النسائيّة المغاربيّة،مجلّة المسار،جوان1995،ص 174 -175.
8. عروسية النالوتي،تماس ص 39 .
9. المصدر ذاته، ص63-64.
10. المصدر ذاته، ص40 .
11. عروسيَة النالوتي، شهادة ضمن ملتقى الروائيّين العرب الأوّل، شهادات و دراسات ص 247- 248.
12. المصدر ذاته، ص 246.
13.آمال مختار، وللمارد وجه جميل، دار سحر2004 ص 5 .
14. المصدر ذاته، ص. 96 -103 .
15. المصدر ذاته، ص.106 .
16. آمال مختار، نخب الحياة،دار الآداب،بيروت، لبنان 1992،ص37.33
17. آمال مختار، الذّاتية في الرّواية أو شبه الروائيّ بالإله، شهادة وردت ضمن الرواية العربيّة النسائيّة، الملتقى الثالث عشر للمبدعات العربيّات ص 159.
18. حياة بالشيخ، وكان عرس الهزيمة، منشورات الأخلاَء،تونس 1991، من ص.189إلىص.195
19. حسن نصر ،كائنات من ورق، دار ورقة للنشر 2010،ص.50
20. المصدر ذاته، ص.133 .
21. المصدر ذاته، ص.46 .
22. المصدر ذاته، ص.97.
23. المصدر ذاته،الصفحة ذاتها.
24. نورالدين العلوي،تفاصيل صغيرة، دار الجنوب للنشر،تونس 2010،ص،34
* منقول لكل فائدة عن مزقع قصص
***
قد نكتب عن ذواتنا بضمير المتكلَم أي الصيغة المهيمنة على خطاب الملفوظ السرديَ الذاتيّ َوأنساقه التذكريّة ، ذلك أنَ الصيغة الناظمة التي يستعيد بها هذا الملفوظ الماضي تقوم على ضمير المتكلَم «أنا» باعتباره « ضمير الحضور في النصَ»، ومعنى هذا أنَ الذكريات الماضية تكتسب قيمتها من خلال الكيفّية المرويَة بها.ف«الأنا» يعزَز هيمنتها في استحضار الماضي، وسرد الذكريات. و قد يمتزج الحضور بالغياب، و«الأنا» بضمير الغائب «هو» وندخل في لعبة الضمائر التي لا يمكن أن ينسى معها الراوي أو السارد الأحداث المرويّة له.المهمّ أن نعرف من هو المتكلّم في هذا النصّ المكتوب؟ من هو المخاطب أو المرويّ له؟ من هو المتلقّي لهذا النصّ؟ ماهي العلاقة القائمة بين الماضي والحاضر الذي يكتب فيه نصّ مّا و ماهي المسافة الفاصلة بينهما؟ قد يعمد الراوي إلى استعمال ضمير المتكلّم لأن نصّه لا يخلو من نزعة ذاتيّة، قد يستعمل ضمير الغائب رغبة منه في تحقيق الموضوعيّة. هذا ، وإن كانت الحقيقة في الكتابة الذاتيّة، على الأرجح، قضيّة زائفة لأنّ السارد كما أكّد ذلك الباحث الفرنسيّ جورج ماي(G.May) لا يستطيع، مهما فعل، أن يتخلّص من الحاضر الذي يكتب ليلتحم بالماضي الذي يرويه.
و الخلاصة أنّ الكتابة عن الذات لا تحكمها قوانين صارمة، و من العسير أن نظفر بالحقيقة أو اليقين العلميّ، قد نضطرّ أن نجمع عناصر كثيرة لنصل إلى شيء من الحقيقة. إنّنا نكتب سيرة حياتنا المنقضية أو نرسم ذواتنا في سنّ مّا لنقاوم النسيان المربك للذاكرة ويكتب لنا الخلود فنوقف عجلة الزمن و نعيد صياغة تجربتنا على الشّاكلة التي نرتضيها لنكتب رواية وجودنا و نكون كمن « يعيش عمره مرّتين » على حدّ تعبير ميخائيل نعيمة. وهكذا تكون الكتابة عن الذات كتابة استعاديّة أي استذكاريّة لتجربة حياتيّة عاش أحداثها إنسان مَا، في مكان مَا، وزمان قد انقضى وولىَ، مخَلفة في نفسه إيمانا بقيمة الحياة، وغنى التجربة ووعيا قويّا بالاختلاف عن الآخر. وعندها فقط يكون له عالمه الخاصّ، ويكون سّيد الموقف، فيحيي أشخاصا أحبّهم، وكانوا له سندا ذات يوم، و يقتل آخرين، كان وجودهم عبئا عليه، لينتهي منهم، و هكذا يستردّ ما أخذ منه.
أن نكتب عن ذواتنا، يعني أن نحوَل تجربة كياننا في الوجود إلى تجربة بيانيَة أي تجربة نصَيَة عبر اللغة، توهم بواقعيّتها، لأن فعل الكتابة قائم أساسا على الإيهام. وعلى المتلقي الذكيّ أن لا يقع في الخلط بين المؤلّف الواقعيّ و السارد الخياليّ و في ذلك يقول بارت (Barthes) : « أنّ السارد والشخصيّات كائن من ورق فلا يمكن أبد الخلط بين المؤلّف المادّي للحكي و سارد هذا المحكيّ.» (1) وهكذا تتحوّل الكتابة عن الذات إلى فعل خلاص قائم على البوح ، عاكس لمؤشّرات فكريَة واجتماعيَة وسياسيَة ونفسيَة كذلك، تتعلّق بالفترة الاجتماعية التي عايشها و ما تتميّز به من مشاغل و أوضاع، ومبيّن لحقائق لم يتسنّ الإصداع بها في أوانها، أو تصحيح لمواقف أو تبرير لآراء، أو كشف لما لم يكن معروفا ويرغب في أن يعرف عنه. وهي أيضا ضرب من إعادة الاعتبار للذات و تنزيلها للمنزلة التي بها جديرة. ولكن لسائل أن يسأل هل كلّ حياة جديرة بأن تتحوّل إلى سيرة نصيّة؟
و الكتابة عن الذات لا تخلو من التخييل، و هي قابلة لاحتضان العديد من النصوص والعديد من الخطابات والعديد من الأجناس. وهي كذلك لا تقف عند حدود الذات و لكنّها تستدعي الحديث عن الآخر. والكتابة عن الذات ليست حكرا على بلد دون آخر أو على جنس دون غيره بل هي جنس أدبيّ تطوّر غربا وشرقا.ولا شكّ أنّ الموضوع المتعلّق بالذاتيّة قد أصبح اليوم غرضا واسعا للبحث العلميّ و ميدانا فسيحا للنقد الأدبيّ. لقد انطلق الباحثون من النظر في كتابة السيرة إلى النظر في كتابة الترجمة الذاتية، وصولا إلى الكتابة في أجناس أدبيّة متفرعة عنها. إن كلّ هذه الأغراض متّصلة ببعضها بعضا، و لئن كانت أجناسا أدبيّة قد يفصل بينها الباحثون فصلا منهجيّا فهي تلتقي في منحى واحد يعبّر عنه بالكتابة الذاتيّة. و لعلّها كلّها أجناس أدبيّة تلتقي فيها الكتابة الروائية كذلك.
و كما استهوت الكتابة الذاتيّة الكتّاب غربا و شرقا،استهوت الكاتب التونسيّ كذلك سنستعرض في غضون هذا البحث نماذج نعتبرها دالّة من كتاباتهم.
***
لقد استلهم الكثير من الكتَاب التونسيَين ذواتهم في مختلف مؤلَفاتهم ،وقد يعسر حصرهم في بحث مفرد ،هنا والآن، لذلك اضطررنا إلى أن نعتمد نماذج نعتبرها دالَة من كتاباتهم .وفي هذا الصدد رجعنا إلى نصوص أنشأها رجال ونساء، وذلك دون مفاضلة بين أولئك وهؤلاء نستعرض منها على سبيل المثال لا الحصر رواية آمنة لـزكيَة عبد القادر التي صدرت لأوَل مرة بدار القلم 1983 ، ورواية الإسم والحضيض لفضيلة الشابي التي صدرت بمطبعة الشابي سنة 1992 ورواية تماس للكاتبة عروسيّة النالوتي التي صدرت بدار الجنوب للنشر1995، ورواية نخب الحياة للكاتبة آمال مختار الصادرة عن دار الآداب، بيروت1993، ومجموعتها القصصَّة و للمارد وجه جميل التي صدرت عن دار سحر 2004، ورواية وكان عرس الهزيمة للكاتبة حياة بالشيخ التي صدرت بمنشورات الأخلاّء 1991، ورواية كائنات مجنَحة للكاتب حسن نصر التي صدرت عن دار ورقة للنشر2010، ورواية تفاصيل صغيرة للكاتب نور الدين العلوي التي صدرت عن دار الجنوب للنشر2010.وقد مهّدنا لهذا البحث بتنظير موجز لقضيَة الكتابة الذاتيَة في الأدب عامَة. ولا يمكننا أن نقف على خصوصيَات الكتابة الذاتيَة التونسيَة إلاَ بعد أن نستعرض نماذج دالَة في الصدد.
من أهمَ النصوص التونسيَة التي استلهمناها والتي تنسب إلى أدب الذات رواية آمنة للكاتبة التونسيَة زكيَة عبد القادر. نصّ الكتاب الذي بين أيدينا يقع في 166 صفحة.وسَمته صاحبته بجنس أدبيّ معروف هو جنس الرواية.جاء بمثابة المغامرة الفكريّة .شرعت صاحبته في تأليفه إثر خوضها لتجربة زواج خيّبت أملها مستثمرة فيها عناصر عديدة من سيرتها الذاتيّة ، وشيئا من التطابق بين سيرتها في الحياة وسيرة بطلتها آمنة في النصّ الروائيّ رغم عدم الإفصاح عن هويّتها الحقيقيّة، وذلك باستعارة اسم علم لا يمتلك حقيقته المرجعيّة وهو زكيّة عبد القادر. وهو نفس القناع الذي استخدمته في مجال الموسيقى الذي تمارس، باستعارتها لاسم "وفاء". البطلة في هذه الرواية تدعى آمنة بما في هذا الإسم من إيحاء للأمن والأمان، بل لعلّها كانت آمنة في بلدها الآمن لتنعم بلذّة الدرس في الجامعة إذ لم تبق إلاّ سنة للتخرّج وسنتان لنيل ديبلوم الموسيقى من المعهد الرشيديّ. وما أروع العلم والفنّ حين يقترنان في شخص واحد بدليل قولها في غضون الرواية « الموسيقى عندي عقيدة ثانيّة بعد الإيمان بالله فلو مازج هذه العقيدة شكّ،لاختلّ أهمّ جزء في كياني». لقد عنانا أمر هذا الكتاب فأقبلنا عليه، وأوَل ما يلفت القارئ فيه عنوانه،باعتباره عتبة العبور إلى داخل النصّ السرديّ المنفتح على آفاق لاتحدّ من التأويل، وذلك بما يتضمَنه من توق إلى الأمن والهدوء.
إنَنا أمام رواية من الأدب الذاتيَ، كانت بدايتها جميلة قصّة حبّ ّتتوّج بالزواج، ثمرتها سيف الدين وعلياء. ولكنَ نهايتها كانت متأزّمة، كادت تنتهي بجريمة نكراء.وهذا يعيدنا إلي اسم البطلة آمنة، لقد كانت البطلة عاقدة العزم على أن تبقى آمنة حتَى آخر عهدها. وكأنَنا بالزوج هو المذنب في هذه الرواية والمرأة هي الضحيَة. ومدار الرواية إجمالا الحبَ الذي ينتهي بالخيبة. ولم تطل إقامتها بالبلد الشقيق الجزائر بعد أن انفصلت عن زوجها طلحة وسطوة أهله بالعودة من الجزائر إلى تونس. وأصرّت على مواصلة الحياة من أجل ابنيها اللذين وهبتهما كلّ حياتها قائلة في أكثر من مناسبة « من أجلكما أريد أن أحيا... لكما أريد أن أبقى آمنة » ومن أجل عقيدتها الثانيّة وهي الموسيقى مقرّة العزم على كتابة نصّ أدبيّ يخلّد منزلتها الأدبيّة ، بعد أن حقّقت مرتبتها الاجتماعيّة أستاذة في اللغة الفرنسيّة ، ممّا يجعل الكتابة سبيل لاستعادة هويّتها وإثبات ذاتها، وتمجيد صبرها ونضالها، وشفاء وبلسم لذاكرتها الجريحة. إذن تسجَل زكيَة عبد القادر تجربتها لتشفى من أوجاعها ولتتمَرد على الواقع الصلب ممّا أعاد إلى كيانها التوازن بعد اختلال والهويّة وبعد استلاب طال وضياع امتدّ لسنوات. وهكذا تتحوّل الكتابة التي تنبع من الذات عندها فعل خلاص، ينقذ الذات الأنثويّة من الموت لتقتل هذا الشخص الذي أصبح وجوده عبءا ثقيلا عليها، وهذا ما نلمسه في أكثر من موطن في الرواية وعبر كتابات أكثر من كاتبة روائيَة.
***
وكما ثأرت زكية عبد القادر من خيانة زوجها بالطلاق وتحدّت عاهة الخرس بالكلام بعد أن استحال عليها نسيان تجربة مريرة عاشتها في الغربة هزّت كيانها هزّا فصدّعت ذاكرتها وأصابتها بأوجاع أبديّة فراحت تبحث عن ذاتها المتشظّية لترمّمها. وهكذا تقف بالمرصاد تجاه هذا العجز الذي شلّ حركتها في الواقع فوفّقت إلى حدّ مّا في تحويل صمت الأشياء إلى ذبذبة مدوّية فاحتجاج بفعل منجز العمل الإبداعيّ.
أمّا فضيلة الشابي فقد صهرها الألم وأنهكتها المعاناة ورفعتها المأساة إلى حدّ الكشف الصوفيّ مؤمنة بجدوى الكلمة النابعة من العمق والمولّدة لنصّ زئبقيّ عنيد وليد تجربة شعريّة حارقة ناهزت العقدين من الزمن. وهاهي تواصل تجربتها نثرا ،وتعلن منذ الفصل الأوّل من روايتها الإسم والحضيض الموسوم بسيكولوجيّة الصواعق عن انخراطها ضمن مذهب الكتابة الذاتيّة المتجاوزة الكلمة الشعريّة لترسم ملامح تجربتها الحياتيّة الجديدة نثرا قائلة : «لا يشكّل هذا الكتاب مجموعة أقاصيص مستقلّة بل هي فصول متقاطعة لحركة القصّ، وهل القصّ إلاّ قصّ مجاري الحياة» (2). وكأنّنا بفضيلة الشابي لم تجد كلّ ما تنشده في تجربتها الشعريّة فحوّلتها قصّا ورواية علّها تجد فضاء أرحب تحقّق فيه ما تصبو إليه و تنشده و تحلم به. وهاهي تلاحق نصّا عسيرا لم يكتب بعد،ولكنّها تحوم حوله بنفس ملؤها الثقة وضرب من تضخّم الذات. ولعلّ عسر تجربتها الذاتيّة الجديدة جعلها تكتفي بمجرّد الإمساك ببدايات هذا النصّ الذي يجعل صاحبته في مرتبة الآلهة، تقول في غضون روايتها:«أحوم حول النصّ الذي لم أكتبه بعد... النصّ لو بدأته لأصبحت ربيبة الآلهة» (3) وبذلك قد تتحدّى السائد والمألوف، وتتخطّى الشعور بالغربة والمرارة، وتتجاوز الإحباط بقدرة عجيبة على الابتسام.
أمّا عروسيّة النالوتي ، وهو تكتب روايتها تماس، تثير انتباه المتلقّى منذ الصفحات الأولى انطلاقا من نصّ الإهداء الذي برّرت فيه رغبتها في مواصلة حديث كان ولا يزال يملأ كيانها وصولا إلى حاجّة ملحّة إلى البوح قائلة: « إلى روح والدتي، مواصلة للحديث الذي لم ينقطع»(4)، فحديثها مع أمّها تواصل طيلة حياتها،وقد استدرجتها للتعوّد على الكلام بعد أن سرق منها والدها لذّة العيش وسلبها الإرادة . إنّها عاقدة العزم على تحريرها من جبروته وغطرسته بمواصلة الحديث معها، ولو تخييلا، عبر الكلمة المدوّية والنصّ الإبداعي ّ لتصدع بما تعذّر عليها قوله في أوانه .إنّها على تمام الإدراك بأنّها متعطّشة إلى سيل من الكلام لا بدّ أن يقال . ثأرت عروسيّة النالوتي من أبيها بجرأة قصوى عرّت كل ّمظاهر الزيف والنفاق التي لوّن سلطته عبر السنين ، وهشَمت تمثال غطرسته ،وحوَلته إلى شظايا تنكَلا به وثأرا لأمَها التي اغتالها قهر الوالد مندّدة به قائلة : « الآن سأتكلَم يا أبي... الآن سأبدأ... وأقول ما سكتت عنه تلك التي صمتت طيلة عمرها ولم تقل شيئا ولم تندَ عنها َأَية أنَة ...أيَة شكوى، تلك التي عاشت معك ألف غريبة غلَفتها بألف حجاب، لقد سرقت منها حياتها وحَولتها إلى خرق آدميَة»(5). وقد تجلَت هذه المرارة المتولّدة عن التوتّر القائم بينها وبين أبيها ، على لسان بطلتها زينب ، في روايتها تماس التي ترشح ألما وضيما وقهرا ،تقول ممتعضة منه في أكثر من موضع«هو بعض مرارتي الكبرى أنا كلّي أرشح بالمرارة والحموضة...خلّ الذي في شراييني وليس دما» (6 ) وقد لازمتها تلك الحموضة وتلك المرارة بوضوح في حياتها، وهي تكتب أمره.وقد عبّرت عن سرّ الكتابة لديها في أكثر من لقاء ثقافيّ ، قالت: « ونحن نكتب، نقول همومنا وانتصاراتنا. وإنَنا نصوغ أحلامنا وأشواقنا في عزلة قاتلة لا يشفع لنا فيها إلاَ هذا الصدق الجريح الموجع الذي نواجه به العالم وأنفسنا» (7).إنّها تشعر بعمق المأساة إثر الفشل الذريع الذي تمنّى به إثر كلّ محاولة تشفّى،ومع هذا تصرّ على الكتابة والرحيل إلى أقاصي الحلم علّها «تكشف لنا حقيقة ذواتنا المغيّبة داخل ذواتنا ...بعلم منّا أو بدون علم...».(8) فالكلمة وحدها القادرة على إعادة تشكيلنا التشكيل السويّ، والكلمة وحدها القادرة على إيقاد شرارة الحياة فينا. بها نفرض ذواتنا ،و وبها نتغلّب على العجز الذي يسكننا ، ونشفى من حالة الوهن التي أصابتنا فأخرستنا. إنّها ترى ،في الكلمة الصادقة حرّيتها، وفي الكتابة المتجدّدة خلاصها حتّى، وإن باءت بعض محاولاتها وتجاربها بالفشل.فعندها انزاحت الكتابة عن جدواها، ولم تعد الغاية منها مجرّد النفع العاجل بل أمست عبثا الغاية منه مجرّد" الإمتاع والمؤانسة ".أصبحت الكتابة،عندها، مجرّد لذّة سرعان ما تنتهي إلى الخواء بمجرّد الانتهاء من كتابة النصّ واللّعب بالكلمات، وأجراس الكلمات. تقول زينب عبد الجبّار ، وهي تعدّل رأيها ، في جدوى الكتابة الشبيهة باللّعب:« ليكن ،ولم لايكتب الإنسان لللاّجدوى؟ لمجانيّة الأشياء ؟ لللاّشيء فقط، لمتعة صغيرة عابرة،موعودة منذ قيامها للزوال؟... ماذا ننتظر من وراء هذا اللّعب ؟... نكتب فقط وبكلّ بساطة لنقول شكّنا وريبتنا، وفي نفس اللحظة نبتدع ألف خدعة لرتق الفتق طلبا لوهم التماسك . أو لعلّه حرص الطفل فينا على اللعب قصد الإدهاش... كي نفتكّ شهادة حياة بها نكون. أو لعلّه حرص آخر على أن نبني لنا إقامة في عمارة لا من إسمنت وحجارة بل من بسيط الكلم ومنثور العبارة ».(9) وقد تنقلب لا جدوى الكتابة إلى ضرب من اللّعب بالكلمات التي بها نتسلّى ،وبها ننشىء عالما رحبا فيه ننفلت ولو إلى حين من قسوة الواقع. إنّه اللّعب الذي يتماسّ فيه الجدّ ّوالهزل فيكون خوف الكاتبة من أن تكتب قدرها دون علم منها، ليتحوّل خطاب الرواية إلى خطاب نبوءة تستشرف من خلاله طموحاتها وأحلامها فينقلب اللّهو جدّا بقلب موازين القوى مع من نحبّ ، وبتبادل المواقع تشعر بنشوة الفوز ولو إلى حين:« وأحسّت بشيء من اللذّة وهما يتبادلان المواقع فتبادره بما تعوّد هو أن يقوله لها ويروح هو ليجد نفسه في وضع المتغزّل به... ولأوّل مرّة تشعر زينب بلذّة الاقتحام والمبادرة...أمّالآ ن فهي تعرف أنّها مجازفة لا تخلو من لذّة مهما كانت العاقبة».(10) ففي الكتابة لذّة لا تضاهيها إلاّ لذّة إرباك الآخر والتمويه بالانتصار عليه.
في منتهى العسر هو حديث الذات الكاتبة عن فعل كتابتها، كما في منتهى العسر ضبط خصائصها عند هذا الكاتب أو ذاك، لأنّها غائمة ومتجدّدة في آن . وقد عبّرت عروسيّة النالوتي عن بعض خصائصها وهي تشكّل نصّها الذي يغدو استعصاء واستحالة مستمرّة تؤدّي بها في أغلب الأحيان إلى بؤرة الشكّ والسؤال والحيرة واليأس « يأس من يبني بلا مثال مسبّق، يبني داخل اللّغة المتاهة ...داخل اللّغة المشحونة بألف التواء وانعطاف...لا تستكين لك حتّى في أوج وهم الامتلاك ، هي هنا ...،طوع أمرك...وهي في ذات الآن هناك تستبدّ بك وتطرح عليك التوقّف في النقطة الصفر التي انطلقت منها فكأنّك تركض ولا تبرح...في اليوم الذي أمسك فيه ببعض حقيقتها ... أستطيع أن أتحدّث عن تجربتي الصميمة مع الكتابة . قصّتي مع الكتابة قصّة عشق صوفيّ،فيها ما فيها من الامتلاء...حين امتلاك اللّحظة المستحيلة...وفيها من العويل والعواء ... ما يجلد النفس ويمضّها.»(11 ) ولئن بدت عروسيّة النالوتي، وهي تمارس طقوس الكتابة،تستجيب لغواية الورق،إلاّ ّأنّها واعية كلّ الوعي بذاتها، معتزّة كلّ الاعتزاز بأنوثتها، تتوق « شوقا إلى معانقة النصّ الكامن...نصّ النصوص كلّها...جسد اللغة النابض، القديم،الجديد،العتيق،الحديث،الصّامت،الهادر...بكل ما منح و ما منع.» (12)،ملتذّة بآلامها التي هي قدرها. وقد تكمن كلّ الروعة في البحث المتواصل عن منابع الجمال في أعماق النفس البشريّة بكلّ التواءاتها و تشعّباتها.
***
أمَا آمال مختار وهي تكتب مجموعتها القصصية وللمارد وجه جميل فهي تصدم المتلقيَ منذ الصفحة الأولى بكلمتين عبَرت بهما عن سرَ الكتابة لديها:« أكتب... لأشفى... « (13) إنّها تعلم المتلقَي بأنّها مريضة،...لا إمكان لها في الشفاء إلاَ بالكتابة ... فكيف سنلقاها وهي تنزع إلى الشفاء ؟ وكأنَنا بها إزاء شفاء موهوم...فالكاتبة في عزلة، كلَ شيء من حولها فراغ ، لم تهتد إلى من يفهمها ، ويعاشرها فيحسن العشرة ، فلا الرجل يؤتمن ولا النصَ يفيد ولا الكتابة شافيّة ، وفي ذلك تقول قولا يرشح مرارة وخيبة :«مارست الحياة هنا في الحكاية وتمرَست بها،وانهمكت في رحلتي أبحث عن جوهرها فلم أقبض إلاَ على السراب،وكلَما تهيَأ لي أنَ الكفَ ملآنة فتحتها لأسعد ملء قبضتي فلم أجد إلاَ الأوهام... خلقتك في الحكاية فحلا كما أشتهي فإذا بك تتوق إلى الحياة البائسة المدمَرة خارج الكتابة.فإذا بك تفرَ من اللّغة لكي تمشي على قدمين في الشوارع، في الزحام لتعود آخر النهار منهكا... صنعتك من روحي ومن كلماتي وصدَقت صنعي لكنَك خنت...وسوف يكون جبنا لو أنكرت أنَ المرارة ملأت الروح والفم.وسوف يكون أكثر من الجبن لو أنكرت خسارتي. لكن من يجرؤ على الاعتراف بالخسارة، وهو في حقيقة الأمر كسب للتجربة وربح للذات وإبداع في النصَ؟» (14) لئن خسرت كاتبتنا معركة فهي لم تخسر الحرب.إنَها تواسي النفس وتعزَيها في وهم النصَ وجنون الرجل الأكذوبة الذي صنعته. وهاهي تعود، غير مبالية ، إلى نصَها من جديد لمواصلة النضال بالكتابة، وهي في منتهى التحدَي والكبرياء، قائلة:« وها أنا الآن غيرُ نادمة أغتسل بكلماتي وأداوي الجرح الغائر في جسد النصَ بملح الدموع بعد أن زاولت عادتي في الدفن حتَى أستعيد فرحي الأبديَ»(15) أمَا الشفاء الحقَ ، في نظرها ،فقد يتمَ عبر الحريَة المطلقة أي التي تعتق الذات والجسد من كلَ قيد حتَى يكون للوجود مذاق مغاير. وقد حقَقت ما تنشُده عن طريق بطلتها سوسن عبد الله مع إبراهيم في روايتها نخب الحياة تقول : « كثيرا ما كنت أحلم بأن أغرق في حالة سكر،بأن أغيب عن الوجود فأهذي وأفقد القدرة على تملَك نفسي. وأبدا لم يتحقَق حلمي. مهما عببت من مشروبات روحيَة ، لاأغيب ولا أترنَح. وأما إذا تعسَفت على نفسي ، فقد كنت أنتهي إلى الانهيار الجسديَ والسقوط في موت كامل طوال يوم أو يومين يمضيان من عمري إجازة من ارتكاب فعل الحياة.»(16) وكأنَنا بها تردَ الفعل فتجاهر بتجاربها وتفضح المستور من حياتها. وقد تجلَت هذه المرارة في روايتها وأقاصيصها ومواقفها الذاتيَة كذلك ، إنَها لا تنكر معاناة الكتابة، ومع هذا قدرُها أن تكتب،إذ، كما تقول،هي، لابدَ للكاتب أن يعَبر عن ذاته ،أن يصدع بما يختلج في صدره.وكذلك كان يطيب للكاتب الفرنسيَ شاتوبريان أن يقول: « حين نكتب، لانرسم إلاَ ذواتنا.»إنّ المتأمّل في كتاباتها ،قصصيّة كانت أوروائيّة ،يشهد لصاحبتها بعمق التجربة ، وشدّة الوعي بمحنة الكتابة ،مثيرة العديد من إشكاليّتها ، معتدّة بذاتها حدّ ّالتيه شبيهة بإلاه ، تقرّ آمال مختار بذلك في إحدى شهاداتها «إنّ الكتابة الروائيّة فعل ذكاء إلاهيّ لا يقدر عليه إلاّ من اقترب من الإلاه...إنّه يطمح إلى الخلود ربّا لكلّ ذلك العالم الذي يتفنّن في إنشائه على الأوراق وهو فيها وينتصر على الموت ». (17) لئن بلغ السارد في رسمه لذاته مرتبة الآلهة تبقى الإشكاليّات قائمة بين الأثر وصاحبه في مدى إمكانيّة فصل الذات عن نصّها الإبداعيّ ومدى الصدق في رسمها ممّا يضطرّ المبدع للمخاتلة والمراوغة .
***
أمَا الناظر في بعض نصوص حياة بالشيخ من خلال روايتها وكان عرس الهزيمة مثلا، يدرك أنَها هي أيضا تعبَر في كتاباتها عن ذاتها المتأزَمة.ألم تصَور في روايتها إحباط جيل كامل خابت تطلَعاته إثر الاستقلال؟ ألم ترسم في نصَها الروائيَ تردَي الواقع العربيَ وانهياره؟ ذلك أنَ هذا الجيل لم يجد سبيلا للخلاص غير التحدَي فأدمن شرب الخمر و مارس الجنس سبيلا إلى النسيان، تقول على لسان أحد أبطالها :«ماذا تفعل حين تكتشف أنَ اللّصوص احتكروا الحياة و ما فيها، حين تصبح الكرامة مهزلة يتندَر بها الأوغاد...فماذا يكون موقفي؟ أفعل كالجميع:أنهب وأراوغ ؟أم أنزوي في قبر ما أعلك إحباطي؟ أرمق الدنيا ترقص لاهية يمتطيها السفلة وأنا أبحث عن دور ووضع ولا أجدهما ؟»(18) ألا نجد تناسقا بين شتَى الروايات التي استعرضناها عندما يتَضح أنَ نسيجها هو الألم والحزن وسوء المصير؟
***
أمَا القاص و الروائي و حسن نصر، وهو يكتب روايته كائنات مجنَحة التي صدرت عن دار ورقة للنشر2010 ، فهو يعبَر بالحكاية عن عمق ذاته العامرة بالرؤى،فبالحكاية وحدها يستطيع الإنسان أن يتجاوز، ولو تخيَلا، ما يعترض طريقه من حواجز وممنوعات .
ولسائل أن يسال هل من مُنصت للحكاية في عصرنا هذا ؟ والكاتب على تمام الألم من التهاون بالحكاية، وفي ذلك يقول:« في القديم كنت تجد من يصغي إليك، أمَا الآن فكلَ الناس تحكي ولا أحد يستمع إلى الآخر»(19) والقارئ لرواية الكائنات المجنَحة يدرك مدى انغماس صاحبها في قضايا الحياة ، و ذاك مقصد من مقاصد الكتابة الذاتيَة عنده في هذا الكتاب، يقول:« هذه شواغل الكائنات المجنَحة، مثلما عشت بعض أطوارها أو مثلما سمعت عن بعضها أو مثلما عاشها الناس قبلنا أو مثلما تتصوَرونها إذا صادف وقرأتموها يوما. هي كلّ ما يجمعه الطائر من غال ونفيس،من أوراق العشب في الحدائق، ليبني عشَه ويضع بيضه.» (20) وكما الحكاية تفيد فالكتابة مهمَة، وبها قد نضفي على حياتنا معنى يقول:«ما قيمة الحياة، إذا لم نعشها من أجل نصرة قضيَة عادلة؟» (21) ألسنا نجد ضمن هذا السؤال الذي يصف البؤس الذي تردَى فيه العرب نتيجة الجهل بكبرى قضايا الحياة؟ أي مفهوم الفعل فيها.
***
وهكذا انتقلنا مع الكاتب حسن نصر من« الذات الفرديَة» إلى« الذات الجماعيَة»، ولعَله يحسن أن نقول من الذات« الانفرادية» إلى الذات «الاجتماعية»وهو يدعوهم إلى العمل على تغيير شؤون حياتهم وطرق تفكيرهم. وكأنَنا بالروائيَ حسن نصر، وهو يكتب روايته الكائنات المجنَحة، التي اقتطعها من نفسه اقتطاعا، يرسم ملامح مخطَط مستقبليَ قد يخرج العرب من المأزق الذي تردَوا فيه فيصبح لكيانهم معنى. أليست الكتابة عنده تعني الحياة؟ ألم يقل: «،إنَها سرَ الوجود، إنَها الحياة بكلَ تدفَقها وتناقضاتها، بما فيها من محبَة وما عليها من جمال.والإنسان في هذه الحياة بكلَ ما يشتمل عليه،وما يعيشه من تقلَبات،وما يصدر عنه من مواقف في مختلف أطوار حياته. الإنسان والحياة هما مجال الكتابة والفنون»(22) ثمَ يعرض على المتلقَي فلسفة نشأة الكتابة عنده وسرَ زوالها قائلا:« من القلق وعدم الرضا عن النفس وعن العالم من حولنا تنشأ الكتابة... من عدم الرضا يبدأ التململ ويكون الرفض:لا.لا.لا. من« لا» هذه يبدأ الفعل وردَ الفعل،ويتولَد التفكير ويقوم الصراع وينشأ الفنَ وكلَ َوسائل التبليغ والكتابة. »(23) وكأَنَنا بصاحب الكائنات المجنَحة ، وهو يصف خوالج ذاته يعبَر عن نفس مكلومة، ضاقت بها الحياة فقوَضت بالكلمات أركان الواقع المتردَي لبناء عالم أفضل، فيه نداء للرفض ودعوة إلى الحق. َوهذا المعنى يذكرنا بالكتاب المهمَ الذي أنشأه باشلار والذي عنوانه فلسفة الرفض.
***
أمَا رواية تفاصيل صغيرة التي صدرت عن دار الجنوب للنشر سنة 2010 للكاتب َنور الدين العلوي.فهي نصَ يعرض صورة قاتمة وإحساس مرير بالغربة في المجتمع التونسيَ الحديث.لايسعه مكان ولاوطن، يضيق بالأهل، ويتبرَم بهم وبأحوالهم. هل هي صورة واقعيَة أم صورة متخيَلة أم هي صورة تجمع بين هذه وتلك؟ وأقرب الظنَ أنَها قريبة من الأولى حينا ولها وشيجة بالثانية حينا آخر.
والرواية كلَها وليدة مشاعر ذاتيَة ومعاناة اجتماعيَة وخلاصةُ قلق عامَ يغمرها.فيها تلتئم المشاعر الذاتيَة مع المشاعر الاجتماعيَة، ولا بدَ لقارئ هذه الرواية أن يجمع بينهما. إنَ رواية تفاصيل صغيرة للكاتب نورالدين العلوي كتابة نابعة من هموم الفرد والجماعة، لكنَها تولَد في الوقت ذاته كما قال الأستاذ الباحث أحمد الودرني«وتوقد في نفس القارئ شموع الأمل. هي جدليَة الظلمة والنور تختصر صراعا مريرا بين الخير والشرَ والفضيلة والرذيلة...»(24) فالنصّ ُيبيَن الواقع لكنَه ُيوحي في الآن نفسه ببديل هو جادَة الخلاص مما يعانيه الفرد والمجتمع والأمَة بأسرها.أليس من اللاَفت للنظر أن تكون هذه الرواية في الختام صورة قاتمة لفرد كليم ومجتمع جريح، وصورة باسمة جسَمها مطر قادم، فيه تباشير الأمل. والخلاصة أن ملامح الألم في هذه الرواية يُهيمن على الأمل، وأنّ ملامح الحزن فيها تسيطر على الفرح.
***
إن المتأمل في العديد من هذه الكتابات يلاحظ أنَ مكوَنات أساسية تمثَل العلامات الدالة على كتابة السيرالذاتيَة أوَلها الحضور المتَصل بضمير الأنا، كتعبير عن امتلاك ناصية الكلام. وهو الضمير الذي يسم عددا مهمَا من الروايات التي صيغت بضمير المتكلَم.
و ثانيها تحويل تلك الأنا إلى بؤرة سرديّة أي إلى محور المحكيَ. وهو ما ينطبق على أغلب الكتابات التونسيَة وخاصَة روايات الكاتبات التونسيّات حيث نجد البطلات هنَ الشخصيّات الرئيسيّة وهن بؤرة المحكيَ السرديَ، وهنَ الساردات في آن.
وثالثها« الميثاق السير ذاتيّ » الذي به تحدَد مقصديَة الكاتب من الكتابة والذي يستفاد من مختلف الإحالات الضمنيَة أو الصريحة الواردة في النصَ.وهكذا تظهر الَأهمَية التي يكتسبها الأنا التلفظيَ باعتباره ضمير الحضور في النصَ، ويستبين مدى التعالق الوثيق بين الواقع والمتخيَل.
و رابعها تداخل الذاتيَ مع جلَ كتاباتنا، فما يكتب الآن من أدب، سواء ما تكتبه المرأة أو ما يكتبه الرجل، لا يخرج عن إطار السيرة.فكتَابنا اليوم ، لايكادون يكتبون سوى عن سيرهم الذاتيَة فهم يعبَرون عن موقفهم ذاك بقولهم: « إنَنا لا نكتب عن المشكلات ولكنَنا نكتب عن ذواتنا». و كأنَنا بالكتابة ،منذ أوَل عهدها، صدى للتجربة الخاصَة وهموم الذات والآخر في أبعادها الشخصيَة والوجوديَة ،وذلك انطلاقا من فضح السائد و المتدهور، بدءا بحياة العائلة المأزومة ووصولا إلى مجتمع تُربكه أوضاع راهنة.وكأنَها مع الأيَام اكتسبت نضجا مكَنها من تجاوز العاديَ والمألوف إلى الاهتمام بقضايا الإنسان في العالم.
و خامس هذه المكوَنات صدق معاناة الكاتب وتوقه إلى البديل.إنَه يحلم بمستقبل أفضل، فيه يتخلَص من مخازي الواقع و فظاعاته،إذ الكتابة فعل واع ، والكاتب مدرك لما ينشؤه من عوالم محكيَة.
والخلاصة أنَ الكتابة عن الذات، منذ الأمس البعيد ، قد مثَلت هذا الكاتب العربيَ أوَلا والكتَاب الأجانب ثانيا والكاتب التونسيَ خاصَة شكلا من أشكال السرد.وقد اتَضح هذا السرد في أجناس أدبيَة عدَة وخاصَة منها المتصلة بالأدب الذاتيَ الذي له صلة بالسيرة الذاتيَة أو الترجمة الذاتيَة واليوميَات كذلك والاعترافات والمذكَرات وما إليها.
لكنَ الكتابة الذاتيَة تطوَرت، فأقبل النساء خاصَة على مراسها وأقبلنا عليها إقبالا وجعلنا منها جنسا أدبيَا متَسما بروح العصر ومبرَراته الأدبيَة،وهذا مادفعنا في هذه الندوة إلى العناية بالكتابة الذاتيَة التونسيَة.إنَ في هذا النوع من الكتابة الأدبيَة قضايا تثير من الأهمَية ما لايمكن أن ينسى لأنَها أدب يستوجب الدرس العميق. فصيغة الكتابة، والأجناس الأدبيَة، وصيغة السرد ،وتمازج الأنواع الأدبيَة وما إلى ذلك يدعو إلى التثبَت في هذا الأدب المتعلَق بالكتابة الذاتيَة منذ ابن خلدون وكتابه المهمَ الذي عنوانه : «ابن خلدون ورحلته غربا وشرقا»في القرن السادس للهجرة الموافق للقرن الرابع عشر للميلاد مرورا بجميع الذين تحدَثوا عن ذواتهم في القرن الثامن والتاسع عشر للميلاد ووصولا إلى أدبنا الحديث اليوم. فندوتنا هذه ليست سوى مقدَمة لهذه الدراسات وإثارة لهذه القضايا.
***
الهوامش
Roland Barthes , Introduction à l’analyse structurale des récits , Communications 8 1. éd .du Seuil 1981.
2. فضيلة الشابي، الإسم و الحضيض، سيكولوجية الصواعق، ص 149 .
3.المصدر ذاته ،الصفحة ذاتها.
4. عروسيَة النالوتي،تماس، دار الجنوب للنشر،تونس 1995،ص11
5. المصدر ذاته، ص 106.
6. المصدر ذاته، ص 107.
7. وردت قولة الكاتبة ضمن ندوة الرواية النسائيّة المغاربيّة،مجلّة المسار،جوان1995،ص 174 -175.
8. عروسية النالوتي،تماس ص 39 .
9. المصدر ذاته، ص63-64.
10. المصدر ذاته، ص40 .
11. عروسيَة النالوتي، شهادة ضمن ملتقى الروائيّين العرب الأوّل، شهادات و دراسات ص 247- 248.
12. المصدر ذاته، ص 246.
13.آمال مختار، وللمارد وجه جميل، دار سحر2004 ص 5 .
14. المصدر ذاته، ص. 96 -103 .
15. المصدر ذاته، ص.106 .
16. آمال مختار، نخب الحياة،دار الآداب،بيروت، لبنان 1992،ص37.33
17. آمال مختار، الذّاتية في الرّواية أو شبه الروائيّ بالإله، شهادة وردت ضمن الرواية العربيّة النسائيّة، الملتقى الثالث عشر للمبدعات العربيّات ص 159.
18. حياة بالشيخ، وكان عرس الهزيمة، منشورات الأخلاَء،تونس 1991، من ص.189إلىص.195
19. حسن نصر ،كائنات من ورق، دار ورقة للنشر 2010،ص.50
20. المصدر ذاته، ص.133 .
21. المصدر ذاته، ص.46 .
22. المصدر ذاته، ص.97.
23. المصدر ذاته،الصفحة ذاتها.
24. نورالدين العلوي،تفاصيل صغيرة، دار الجنوب للنشر،تونس 2010،ص،34
* منقول لكل فائدة عن مزقع قصص
