الحشر مفهوم قياماتي، والنشر مفهوم علاماتي. والحشر يحيل على النشر بوصفه مستقبِله، مستدعيه، مسائله أيضاً، بينما النشر فهو يستوعب الحشر على طريقته، وفْق معاييره، أحكامه، مكانه وزمانه بالمقابل، لهذا ينسكن الحشر بهاجس النشر وقواعده، بينما النشر ينشغل بأمره.
نحن هنا، هنا حيث المكان اللامكان كذلك، تواجهنا مشكلة كبيرة وهي تتحدى أي تحديد فيها، بمقدار ما تحيلنا إلى الميتافيزيقا التليدة، والميتافيزيقا بوصفها تيهاً عصياً على التوصيف.
ربما كان من أول الأسئلة القابلة للطرح، هو: من أين جيء بالحشر، ومن يتولى أمر وضع توقيت ومسار له ؟ ومن أين يكون الحشر، وكيف يعنى بكينونته، وأبعاده المعطاة له لينظَر فيها.
ليس في الحشر ما يبعث على الطمأنة، حيث يجري تقليص المكان، ملء الفراغات، حتى بالمفهوم الأكثر دينية طبعاً، بالنسبة إلى الذين يعتقدون بينهم وبين أنفسهم على أنهم كانوا يتعبدون خالقهم، وهم يتحركون بين معروفه المأمور به، ونهيه المحكوم به. فثمة ما ينتمي إلى الخفي: اللامحدود . ثمة ما ينتمي إلى سلطة مركزية مُنِحت- بدورها- مفهوماً كونياً " أبعد مما نتداوله كوكبياً "، هي التي تضع في حسبانها ما يكون معروفاً، وكيف، وأين، ومتى، وما يستحيل نهياً، وكيف يعمَل به، وأين، ومتى..يا للميتافيزيقا المروّعة !
في التعاطي مع مفهوم الحشْر، ينبري ما هو استحكامي، ما يأتي هابطاً من " فوق ". فالحشْر تجريد للذات من كل إرادة حاكمة، من حرية، بمقدار ما يكون الحشر هذا وضعاً تقويمياً لمن، أو لما بات في حكم التقويم، أي ما يشدنا إلى نقطة هي خاتمة مسلك، حياة، علاقة..!
ربما بالطريقة هذه، يثير الحشر خوفاً عميق الأبعاد في النفس، لأننا في مواجهة تحويل " الأجساد " إلى كتل جرى سوقها، حيث ليس في مقدور أي منها الرفض، وهي ليست كذلك طبعاً، بما أنها ميتة، ومحاسَبة على ما كانتها جسدياً " حيَّة ".
ثمة الحساب، وللحساب وجهاه المتقابلان، المتعارضان، المتنافران، المتعاكسان: الثواب والعقاب، إنه مفهوم درجاتي بطبعه، وهذه الدرجات يجري تقديرها تبعاً لآلية معينة !
في عملية الحساب وضِعت قواعد، تشتمل على تلك الآليات التي في ضوئها تتم عملية المحاسبة: ثمة ما لم ينتبه إليه المحشور، ما أغفل عنه في حياته، ثمة ما يقلقه جرّاء طبيعة الحكم من جهة سلطة " تحيي وتميت وتبعث مجدداً "، والبعث ذو نسب ماورائي، وما يخص " ما بعد البعد " انقسامي، تفريقي، حيث لا يعود الجسد كما كان، إنما ما يتشكل بهيئة أخرى، ليس الجسد فيها كما كان، إنما ما يتجاوب وسلطة التقويم : النارية- الجنتية: الثوابية- العقابية !
هل ابتعدنا عما يعنينا عن قرب ؟ ربما كان المثار حالة وجوب لما هو قريب وهو بعيد، أي يتطلب إنارة لمفهومه أيضاً .
فعملية الكتابة، كإجراء عملي مرتبط بشخص ما، مهما كان نوعه، تترتب على موضوع ممضي عليه من قبل اسم، هو مالك الكتابة، وقد استحالت نصاً، والنص ليس غفلاً من الاسم إجمالاً، وفي ضوئه تترتب عليه قيمة معينة، قيمة قد\ تجرده من صفته نصاً، إلى درجة التمثيل به .
هناك ما يجعل من الكتابة حالة مخاض قد تكون مميتة، وهي لا تتوقف بالتأكيد، ويخرج الكائن المعلق في " موقع جسمي " إلى الهواء الطلق، مهما قيل في أمر بيان صحته وهيئته، لأن هناك ما يعرَف لحظة الخروج، واختبار الحالة، وإطلاق الاسم....الخ .
تنبري عملية الكتابة مخيفة، مقلقة كونها ذات منحى معين، بالنسبة إلى الذين ينشدون مختلفاً. إنها خوف لا يُسمى، لكنه كائن في ذات الكاتب، عندما يتلمَّس لديه ما هو مغاير لما هو معمول به، وهي حالة تشهد بتفاقم وضعها، عندما تتوقف عند نص تأليفي، فكري، نقدي !
هنا، تتراءى السلطة الانضباطية " المشتمل العقابي " في سرديات " قواعد النشر ". إن أول ما يتناهى إلى الذهن، ما يثير انطباعاً في النفس، هو المتمثل في " القواعد ": القواعدة من القاعدة، نعم، والقاعدة، تقعيد. والتقعيد قياسي، لأن هناك مكاناً مؤطراً يضيء نطاقه. أي ما يخرج عن " الوقوف، القيام، الحركة ..". التقعيد وضعيد تقييد، الدفع بالمقدَّم بوصفه نصاً، إلى جهة ما: جريدة، مجلة، جهة رسمية، خاصة...، لها صلة بعملية النشر، إلى نوع من التشريح بطريقة ليس في مقدور المعني بالنص الحكم بمآل العملية، إلا إذا كان مرتبطاً بكاتب معروف، سوى أنه حتى في الحالة هذه، يكون قد وضع في اعتباره ما يغفل عن تسميته، ألا وهو اعتباره رقيباً على ما يكتب، حيث يتنفس كتابة، ويثير تساؤلات من خلال جغرافية مكانية وزمانية، يقدّر حقيقتها، وما يمكن أن يكون عليه صداها: إنه حفار اسمه عملياً، في الحالة هذه .
ما أرمي إليه، هو أن الحشر يطال تلك النصوص التي تحمل عوالمها المتخيلة معها، وبها تريد تسمية أشيائها، كائناتها، تسمية الذين تنتسب إليهم تلك النصوص، وهي تتوخى جديداً، يُرتاب في أمره، في مجتمع محكوم بالقواعد الضابطية !
تُرى في الحالة/ الوضعية هذه، من يمكنه " وهو سؤال غير مخصَّص لأحد، وموجَّه لأي كان، في المضمار المشار إليه ": أن يضمن سلامة نصه وإمكان تمريره ، و" تحريره " ومن ثم تقرير مصيره بوصفه نصاً لا ينبغي السؤال عنه، استنطاقه دون توقيف ما ؟
الذين يعيشون حالة الكتابة، الكتابة التي تروم مختلفاً، كتابة تُشتمُّ منها رائحة اللامحدود، بمفهوم الحساب الجاري العمل به مجتمعياً، هم أدرى بصنافة المكابدات التي تتملكهم، أو تتقاسمهم جسدياً لحظة إطلاق العنان لخيال جامح وقول رهوان!
ذلك ما يمكن التوقف عنده، أو استدعاؤه، بصورة مركَّزة أكثر سابقاً، حيث لم يكن هناك ما يسمى الآن بـ" مواقع التواصل الاجتماعي، صفحات الفيسبوك، المواقع الالكترونية التي تسهّل تمرير كتابات ما أنزل الله بها من سلطان "، حينها كانت المعاناة مضاعفة، إذ لم يكن في مقدور أي كان نشر موضوعه غالباً، إلا بعرضه على " هيئة ما " تتولى عملية إجازته أو تبيان مدى صلاحيته، أو ما يصل الموضوع هذا بما هو قائم سياسياً واجتماعياً ودينياً كذلك .
مفهوم الحشر، قائم، ولو أنه متحول وفي صيغ مختلفة، حتى الآن، وبشكل متفاوت من مكان لآخر، وهو يتجلى بعلامة فارقة تتناسب ونوعية الكتابة، وحساسية المثار فيها، عندما يصبح المجتمع في مجمله ضابطة ردعية، محاسباتية ، بما أن النشْر يقوم على التفريق، أي ما يجري نشْره، ومن هنا جاءت مفردة " المنشار "، أو حتى " مقص الرقيب "، وكراهية المفرّق . ثمة مكاشفة بروكروستية، لنكون إزاء " فوبيا قواعد النشر "، إذ المقدَّم يعايَن من هذا الجانب غالباً!
من هم هؤلاء الذين قواعد النشر ؟ كما هو المعهود في صدر الصحيفة، المجلة، أو بالنسبة لجهة ناشرة . أي اعتبار ثقافي، فكري، أدبي، ونقدي، يخوّل لهم أن يكونوا مقرّري مصير النصوص، أو الأعمال المقدَّمة لهم " أعمال كتابية، رسمية، أو فنية غنائية...الخ "، وبناء على ثقافة يكونون حريصين على تجسيدها، وقواعد منفَّذة من خلالهم ؟ قواعد تسمّي مقصاتهم، قطعياتهم...الخ .
يتحول مفهوم الحشر إلى مأساة يمكن التأريخ لها مذ كان هذا " الحيوان الضاحك " ولكم كان " باكياً/ شاكياً "، أبعد من حدود المؤرَّخ له" ربما كان المعتبَر: التناول من الثمرة المحرَّمة، من قبل أبويّ البشري، بمثابة المحكمة الأولى التي نصِبت لخاصية الخرق، ومن ثم حشر " المذنبين " أو تعريضهما للمساءلة أمام الملأ " الملائكي "، لأن ثمة واقعة تمت بما لا يُسمَح به من منظور القواعد الموضوعة إلهياً "، ليكون الخرق أول الخطو، أول الاتصال بعالم جديد كلياً !".
هنا يتعدى الحشر مفهومه الديني، وهو ليس دينياً إلا لأنه يغيّب المحاسبة وممثليها، عندما يستحيل رمزاً، أو وضعاً لا يطوَّق أو لا يحاط به، لحظة التفكير بالمختلف" في الوقت الذي يمكن التشديد على صلة وصل حتى هنا، بين الديني " المغيَّب بقيّمه الأعلى، وقيّم النشر، حيث لا يشار إليه باسمه مباشرة، فالجهة المعنية تمنحى سلطتها اعتباراً " سرّياً " لتفعيل هيبة لها .
تاريخ البشرية، إن نظرنا في بنيانه اللامرصوص، تاريخ هذا الحشر الذي يرتبط بقواعد منزلة، أو ممنوحة سلطة ردع أو ملاحقة، أو مساءلة، أو متابعة لما يجري هنا وهناك، ولأي عمل فكري، أدبي، وفني السهم الوافر في هذا الأرشيف المخيف، ووقائعه الرهيبة جهة الذين برزوا مختلفين، مغايرين لسابقيهم، وكيفية التعريض بهم عقابياً .
بين الحشر الذي هو عنف عمودي، سرعان ما يتملك " تربة " المجتمع: نبته وثبته حياة وموتاً أفقياً، عنف معطى قائمة الصلاحيات التي لا تحَد، أو يجازى عليها القائم بها، وباسم القانون الذي هو الآخر يتطلب تعرية المحتوى وربطه بالتاريخ العملي والنظري للمجتمع وثقافته ومن يعنون بها، ومن يعيشونها، ومن يتحرون أمرها. بين الحشر هذا، وقواعد النشر تلك الصلات المتحركة في الاتجاهين، إذ ما كان هناك من حضور لقواعد النشر، لولا التفكير بوجود من يمكن حشرهم، الآن أو لاحقاً، أوعاجلاً أو آجلاً.
وبالمفهوم الحسي الضيق، إنما القابل للأخذ به نسبياً: تحتفظ قواعد النشر لنفسها بتلك الامتيازات المحروسة والتي – قد- تستغرق مجتمعاً بأكمله، عندما نتحدث عما هو " مؤسساتي " ونوعه، وضوابط المعنى، وما هو أهلي وأعرافه، والقوى الضاربة لهذه الأعراف بوصفها قواعد نشرية من نوع آخر، تتداخل مع الأولى، وربما تكون نافذة فيها أحياناً، وهي امتيازات تعلي من مكانة ممثليها، بوصفهم رقباء، أو يمتلكون مواصفات، وقدرات تجيز لهم توقيف نص ما، مثلاً، أو استدعاء صاحبه أحياناً، لحظة الشعور بوجود خطر يتهدد ما هو قائم، حيث يصبح المحكّم عميلاً للجهة التي يعمل باسمها، أو جاسوساً، مخبراً إن شئت، خوفاً على نفسه، أو حباً في نيل حظوة، وما في ذلك من امتهان للوظيفة وارتزاق جلي.
أن ننظر في جهاتنا، حولنا، فيما هو عليه شأن الثقافة، وما هو عليه وضع بلداننا، أحوالنا من زوايا مختلفة، وكيف يجري التعامل مع الكلمة: ماذا تلبَّس، كيف تتداول، وبأي آلية عمل، كيف تصبح شاهدة زور على نفسها أحياناً، تلجم اللسان الناطق بها، كيف تخرسه، وهي منه وفيه، كيف يعطى لها اعتبار ما، ضمن محمية زمكانية محروسة تماماً، وكيف أن مفهوم الحشر لا يكف عن التحريك وإبراز مأساته المستمرة، من خلال قواعد النشر التي تؤطر على المقدَّم لها: كتابة ما، أثراً فنياً ما، أو أي نشاط يسمّي كائنه، حيث يثقَل على المكان والزمان نفسيهما..كل ذلك يرينا فجيعة المعيش بعمق !
إبراهيم محمود
نحن هنا، هنا حيث المكان اللامكان كذلك، تواجهنا مشكلة كبيرة وهي تتحدى أي تحديد فيها، بمقدار ما تحيلنا إلى الميتافيزيقا التليدة، والميتافيزيقا بوصفها تيهاً عصياً على التوصيف.
ربما كان من أول الأسئلة القابلة للطرح، هو: من أين جيء بالحشر، ومن يتولى أمر وضع توقيت ومسار له ؟ ومن أين يكون الحشر، وكيف يعنى بكينونته، وأبعاده المعطاة له لينظَر فيها.
ليس في الحشر ما يبعث على الطمأنة، حيث يجري تقليص المكان، ملء الفراغات، حتى بالمفهوم الأكثر دينية طبعاً، بالنسبة إلى الذين يعتقدون بينهم وبين أنفسهم على أنهم كانوا يتعبدون خالقهم، وهم يتحركون بين معروفه المأمور به، ونهيه المحكوم به. فثمة ما ينتمي إلى الخفي: اللامحدود . ثمة ما ينتمي إلى سلطة مركزية مُنِحت- بدورها- مفهوماً كونياً " أبعد مما نتداوله كوكبياً "، هي التي تضع في حسبانها ما يكون معروفاً، وكيف، وأين، ومتى، وما يستحيل نهياً، وكيف يعمَل به، وأين، ومتى..يا للميتافيزيقا المروّعة !
في التعاطي مع مفهوم الحشْر، ينبري ما هو استحكامي، ما يأتي هابطاً من " فوق ". فالحشْر تجريد للذات من كل إرادة حاكمة، من حرية، بمقدار ما يكون الحشر هذا وضعاً تقويمياً لمن، أو لما بات في حكم التقويم، أي ما يشدنا إلى نقطة هي خاتمة مسلك، حياة، علاقة..!
ربما بالطريقة هذه، يثير الحشر خوفاً عميق الأبعاد في النفس، لأننا في مواجهة تحويل " الأجساد " إلى كتل جرى سوقها، حيث ليس في مقدور أي منها الرفض، وهي ليست كذلك طبعاً، بما أنها ميتة، ومحاسَبة على ما كانتها جسدياً " حيَّة ".
ثمة الحساب، وللحساب وجهاه المتقابلان، المتعارضان، المتنافران، المتعاكسان: الثواب والعقاب، إنه مفهوم درجاتي بطبعه، وهذه الدرجات يجري تقديرها تبعاً لآلية معينة !
في عملية الحساب وضِعت قواعد، تشتمل على تلك الآليات التي في ضوئها تتم عملية المحاسبة: ثمة ما لم ينتبه إليه المحشور، ما أغفل عنه في حياته، ثمة ما يقلقه جرّاء طبيعة الحكم من جهة سلطة " تحيي وتميت وتبعث مجدداً "، والبعث ذو نسب ماورائي، وما يخص " ما بعد البعد " انقسامي، تفريقي، حيث لا يعود الجسد كما كان، إنما ما يتشكل بهيئة أخرى، ليس الجسد فيها كما كان، إنما ما يتجاوب وسلطة التقويم : النارية- الجنتية: الثوابية- العقابية !
هل ابتعدنا عما يعنينا عن قرب ؟ ربما كان المثار حالة وجوب لما هو قريب وهو بعيد، أي يتطلب إنارة لمفهومه أيضاً .
فعملية الكتابة، كإجراء عملي مرتبط بشخص ما، مهما كان نوعه، تترتب على موضوع ممضي عليه من قبل اسم، هو مالك الكتابة، وقد استحالت نصاً، والنص ليس غفلاً من الاسم إجمالاً، وفي ضوئه تترتب عليه قيمة معينة، قيمة قد\ تجرده من صفته نصاً، إلى درجة التمثيل به .
هناك ما يجعل من الكتابة حالة مخاض قد تكون مميتة، وهي لا تتوقف بالتأكيد، ويخرج الكائن المعلق في " موقع جسمي " إلى الهواء الطلق، مهما قيل في أمر بيان صحته وهيئته، لأن هناك ما يعرَف لحظة الخروج، واختبار الحالة، وإطلاق الاسم....الخ .
تنبري عملية الكتابة مخيفة، مقلقة كونها ذات منحى معين، بالنسبة إلى الذين ينشدون مختلفاً. إنها خوف لا يُسمى، لكنه كائن في ذات الكاتب، عندما يتلمَّس لديه ما هو مغاير لما هو معمول به، وهي حالة تشهد بتفاقم وضعها، عندما تتوقف عند نص تأليفي، فكري، نقدي !
هنا، تتراءى السلطة الانضباطية " المشتمل العقابي " في سرديات " قواعد النشر ". إن أول ما يتناهى إلى الذهن، ما يثير انطباعاً في النفس، هو المتمثل في " القواعد ": القواعدة من القاعدة، نعم، والقاعدة، تقعيد. والتقعيد قياسي، لأن هناك مكاناً مؤطراً يضيء نطاقه. أي ما يخرج عن " الوقوف، القيام، الحركة ..". التقعيد وضعيد تقييد، الدفع بالمقدَّم بوصفه نصاً، إلى جهة ما: جريدة، مجلة، جهة رسمية، خاصة...، لها صلة بعملية النشر، إلى نوع من التشريح بطريقة ليس في مقدور المعني بالنص الحكم بمآل العملية، إلا إذا كان مرتبطاً بكاتب معروف، سوى أنه حتى في الحالة هذه، يكون قد وضع في اعتباره ما يغفل عن تسميته، ألا وهو اعتباره رقيباً على ما يكتب، حيث يتنفس كتابة، ويثير تساؤلات من خلال جغرافية مكانية وزمانية، يقدّر حقيقتها، وما يمكن أن يكون عليه صداها: إنه حفار اسمه عملياً، في الحالة هذه .
ما أرمي إليه، هو أن الحشر يطال تلك النصوص التي تحمل عوالمها المتخيلة معها، وبها تريد تسمية أشيائها، كائناتها، تسمية الذين تنتسب إليهم تلك النصوص، وهي تتوخى جديداً، يُرتاب في أمره، في مجتمع محكوم بالقواعد الضابطية !
تُرى في الحالة/ الوضعية هذه، من يمكنه " وهو سؤال غير مخصَّص لأحد، وموجَّه لأي كان، في المضمار المشار إليه ": أن يضمن سلامة نصه وإمكان تمريره ، و" تحريره " ومن ثم تقرير مصيره بوصفه نصاً لا ينبغي السؤال عنه، استنطاقه دون توقيف ما ؟
الذين يعيشون حالة الكتابة، الكتابة التي تروم مختلفاً، كتابة تُشتمُّ منها رائحة اللامحدود، بمفهوم الحساب الجاري العمل به مجتمعياً، هم أدرى بصنافة المكابدات التي تتملكهم، أو تتقاسمهم جسدياً لحظة إطلاق العنان لخيال جامح وقول رهوان!
ذلك ما يمكن التوقف عنده، أو استدعاؤه، بصورة مركَّزة أكثر سابقاً، حيث لم يكن هناك ما يسمى الآن بـ" مواقع التواصل الاجتماعي، صفحات الفيسبوك، المواقع الالكترونية التي تسهّل تمرير كتابات ما أنزل الله بها من سلطان "، حينها كانت المعاناة مضاعفة، إذ لم يكن في مقدور أي كان نشر موضوعه غالباً، إلا بعرضه على " هيئة ما " تتولى عملية إجازته أو تبيان مدى صلاحيته، أو ما يصل الموضوع هذا بما هو قائم سياسياً واجتماعياً ودينياً كذلك .
مفهوم الحشر، قائم، ولو أنه متحول وفي صيغ مختلفة، حتى الآن، وبشكل متفاوت من مكان لآخر، وهو يتجلى بعلامة فارقة تتناسب ونوعية الكتابة، وحساسية المثار فيها، عندما يصبح المجتمع في مجمله ضابطة ردعية، محاسباتية ، بما أن النشْر يقوم على التفريق، أي ما يجري نشْره، ومن هنا جاءت مفردة " المنشار "، أو حتى " مقص الرقيب "، وكراهية المفرّق . ثمة مكاشفة بروكروستية، لنكون إزاء " فوبيا قواعد النشر "، إذ المقدَّم يعايَن من هذا الجانب غالباً!
من هم هؤلاء الذين قواعد النشر ؟ كما هو المعهود في صدر الصحيفة، المجلة، أو بالنسبة لجهة ناشرة . أي اعتبار ثقافي، فكري، أدبي، ونقدي، يخوّل لهم أن يكونوا مقرّري مصير النصوص، أو الأعمال المقدَّمة لهم " أعمال كتابية، رسمية، أو فنية غنائية...الخ "، وبناء على ثقافة يكونون حريصين على تجسيدها، وقواعد منفَّذة من خلالهم ؟ قواعد تسمّي مقصاتهم، قطعياتهم...الخ .
يتحول مفهوم الحشر إلى مأساة يمكن التأريخ لها مذ كان هذا " الحيوان الضاحك " ولكم كان " باكياً/ شاكياً "، أبعد من حدود المؤرَّخ له" ربما كان المعتبَر: التناول من الثمرة المحرَّمة، من قبل أبويّ البشري، بمثابة المحكمة الأولى التي نصِبت لخاصية الخرق، ومن ثم حشر " المذنبين " أو تعريضهما للمساءلة أمام الملأ " الملائكي "، لأن ثمة واقعة تمت بما لا يُسمَح به من منظور القواعد الموضوعة إلهياً "، ليكون الخرق أول الخطو، أول الاتصال بعالم جديد كلياً !".
هنا يتعدى الحشر مفهومه الديني، وهو ليس دينياً إلا لأنه يغيّب المحاسبة وممثليها، عندما يستحيل رمزاً، أو وضعاً لا يطوَّق أو لا يحاط به، لحظة التفكير بالمختلف" في الوقت الذي يمكن التشديد على صلة وصل حتى هنا، بين الديني " المغيَّب بقيّمه الأعلى، وقيّم النشر، حيث لا يشار إليه باسمه مباشرة، فالجهة المعنية تمنحى سلطتها اعتباراً " سرّياً " لتفعيل هيبة لها .
تاريخ البشرية، إن نظرنا في بنيانه اللامرصوص، تاريخ هذا الحشر الذي يرتبط بقواعد منزلة، أو ممنوحة سلطة ردع أو ملاحقة، أو مساءلة، أو متابعة لما يجري هنا وهناك، ولأي عمل فكري، أدبي، وفني السهم الوافر في هذا الأرشيف المخيف، ووقائعه الرهيبة جهة الذين برزوا مختلفين، مغايرين لسابقيهم، وكيفية التعريض بهم عقابياً .
بين الحشر الذي هو عنف عمودي، سرعان ما يتملك " تربة " المجتمع: نبته وثبته حياة وموتاً أفقياً، عنف معطى قائمة الصلاحيات التي لا تحَد، أو يجازى عليها القائم بها، وباسم القانون الذي هو الآخر يتطلب تعرية المحتوى وربطه بالتاريخ العملي والنظري للمجتمع وثقافته ومن يعنون بها، ومن يعيشونها، ومن يتحرون أمرها. بين الحشر هذا، وقواعد النشر تلك الصلات المتحركة في الاتجاهين، إذ ما كان هناك من حضور لقواعد النشر، لولا التفكير بوجود من يمكن حشرهم، الآن أو لاحقاً، أوعاجلاً أو آجلاً.
وبالمفهوم الحسي الضيق، إنما القابل للأخذ به نسبياً: تحتفظ قواعد النشر لنفسها بتلك الامتيازات المحروسة والتي – قد- تستغرق مجتمعاً بأكمله، عندما نتحدث عما هو " مؤسساتي " ونوعه، وضوابط المعنى، وما هو أهلي وأعرافه، والقوى الضاربة لهذه الأعراف بوصفها قواعد نشرية من نوع آخر، تتداخل مع الأولى، وربما تكون نافذة فيها أحياناً، وهي امتيازات تعلي من مكانة ممثليها، بوصفهم رقباء، أو يمتلكون مواصفات، وقدرات تجيز لهم توقيف نص ما، مثلاً، أو استدعاء صاحبه أحياناً، لحظة الشعور بوجود خطر يتهدد ما هو قائم، حيث يصبح المحكّم عميلاً للجهة التي يعمل باسمها، أو جاسوساً، مخبراً إن شئت، خوفاً على نفسه، أو حباً في نيل حظوة، وما في ذلك من امتهان للوظيفة وارتزاق جلي.
أن ننظر في جهاتنا، حولنا، فيما هو عليه شأن الثقافة، وما هو عليه وضع بلداننا، أحوالنا من زوايا مختلفة، وكيف يجري التعامل مع الكلمة: ماذا تلبَّس، كيف تتداول، وبأي آلية عمل، كيف تصبح شاهدة زور على نفسها أحياناً، تلجم اللسان الناطق بها، كيف تخرسه، وهي منه وفيه، كيف يعطى لها اعتبار ما، ضمن محمية زمكانية محروسة تماماً، وكيف أن مفهوم الحشر لا يكف عن التحريك وإبراز مأساته المستمرة، من خلال قواعد النشر التي تؤطر على المقدَّم لها: كتابة ما، أثراً فنياً ما، أو أي نشاط يسمّي كائنه، حيث يثقَل على المكان والزمان نفسيهما..كل ذلك يرينا فجيعة المعيش بعمق !
إبراهيم محمود