السيد إبراهيم أحمد - "القراءة".. المكون الفكري للشباب.. عبد الناصر أنموذجًا..

قد تسأل لماذا جمال عبد الناصر أنموذجا؟!.. لأن الندوة التي دعيت للحديث فيها كانت عن الرجل بمناسبة ذكراه في مجموعة من الناس كان أكثرها من الشباب، وقد رأيتني ألغي ما كنت أعددته لأوجه سؤالي لهم ـ أي للشباب ـ عن آخر ما قرأوه، فكان إجابتهم من الإناث والذكور يتمحور حول قراءة الرواية، وكانت إجاباتهم عن سؤالي: لماذا قام عبد الناصر بالثورة؟ لأنه رأى الظلم، وإجابات دلت على أن ولا واحد منهم قرأ سيرة الرجل، ولو قراءة عابرة، بديلا لهم عن قراءة رواية!

لقد أدرك عبد الناصر في نهايات الصبا وبواكير الشباب أن القراءة هي أهم ما يحرص عليه في سنوات تكوينه، غير أنه لم يقع فيما وقع فيه بعض شباب اليوم من الانكباب على لون واحد من الثقافة يتعمقها ويهمل غيرها، وربما كانت هذه وتيرة أكثر أبناء جيله فيما قرأناه من سيرتهم الذاتية.

بمراجعة بسيطة للكتب التي انكب عليها عبد الناصر قارئا وأخذت اهتمامه سواء قبل التحاقه بالكلية الحربية أو بعدها، أو قبل قيامه بالثورة أو بعدها، نجد أنها تدور حول الدراسات الدينية والأدبية والتاريخية وسير المشاهير، والدراسات الاستراتيجية فيما بعد؛ فقد قرأ مبكرًا الكتاب الذي نشره وقدم له الزعيم مصطفى كامل "المدافعون عن الإسلام"، وكتاب طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، وقرأ ما كتب الأستاذ أحمد أمين عن زعماء الإصلاح في العصر الحديث، وقرأ عن الثورة الفرنسية ورجالها وعن فولتير وجان جاك روسو في مرحلة التعليم الثانوي، ولم يحرم نفسه من القراءة في الرواية وخاصة المترجمة ومنها رواية "البؤساء" لفكتور هوجو ولم تكن عاطفية بقدر ما كانت تصب في أفكار ناصر عما يراه من ظلم اجتماعي واقع في مصر يتطلب التغيير وهو عين ما تحكيه الرواية عن الظلم الاجتماعي الحادث في فرنسا في الفترة التاريخية ما بين سقوط نابليون والثورة الفاشلة ضد الملك لويس فيليب.

كما قرأ الطالب عبد الناصر لتشارلز ديكنز "قصة مدينتين" التي تتناول أيضا الفترة التاريخية التي مهدت لقيام الثورة الفرنسية من خلال الظلم الاجتماعي الواقع من علية القوم الأرستقراطي الفرنسي على الطبقة العاملة المطحونة من الفرنسيين أيضا، وهي الرواية التي كان لها أكبر الأثر في تكوينه النفسي الداخلي وتصوره المستقبلي من حيث رفضه لإراقة للدماء طريقا لأنه يصعب حقنها، كما ذكر فيما بعد.

لم تكن فقط الرواية هي الجنس الأدبي الذي جذبه في عالم الأدب بل قرأ دواوين أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، مثلما قرأ كتب توفيق الحكيم وكتب عباس محمود العقاد بالتبادل بين كتبهما مع صديق له، وقد كان إنتاج الحكيم موزعا بين المسرح والرواية ومنها "عودة الروح" التي أثرت تأثيرا كبيرا في البنية الفكرية والرؤية الوطنية لعبد الناصر من حيث إثارتها للفكرة القومية، وضرورة ظهور زعيم للمصريين يستطيع توحيد صفوفهم وقيادتهم للنضال، وهي الفكرة التي أخذت تنمو في داخله بحثا في نفسه أو مجتمعه عن ذلك القائد الشعبي العادل.

على أن المتتبع لقراءات ناصر سرى أن العشوائية تغيب عنها ، كما يغيب عنها استقطاب فكر واحد لعقله ونهمه الثقافي؛ فقد بات منفتحًا حتى في قراءة الجرائد على الصحف باختلاف نزعاتها ومشاربها في فترة كانت تموج الحياة السياسية في مصر بالحراك الحزبي النشط، وهي القراءات التي كانت تصب في نهر واحد ثائر داخله يتمحور حول الوطنية، والأفكار الراقية ذات القيمة التي ترتبط بالأعمال المجيدة، وهي الفترة التي كان ناصر لم يزل بعد في مرحلة ما قبل التحاقه بالكلية التي سيتطور فيها تكوينه الثقافي تبعا للتطور العمري والفكر والتعليمي والعقلي له، والخبرة التي اكتسبها من تعرفه على الجماعات السياسية، واشتراكه في المظاهرات، وتكوينه الثوري الوليد الذي رغم فورانه إلا أنه كان ينضجه على نار هادئة.

إن كل ما رأيناه وسمعناه وقرأناه وعايشناه عن الفترة الناصرية والتحولات التي أحدثتها في المجتمع المصري والمحيط العربي والأفريقي والعالمي أيضا، جاءت كلها انعكاسًا لما قرأه عبد الناصر في سنوات تكوينه، والتي لولا المساحة لأسهبنا في تناول ما قرأه في فترة الكلية الحربية وما بعدها، والتي تعطي انطباعًا للشباب الحاضر والقادم من أهمية القراءة أولا في بناء تكوينه الفكري، وأهمية التنوع الفكري والثقافي، وأهمية التخطيط الجيد لما يقرأ حفاظًا على الوقت والمجهود، والقراءة الواعية بالعقل والفهم ومناقشة الأفكار من رفض أو قبول، وهو ما يجب أن يعلمه ويفعله عند قراءة هذا المقال أنه ليس تمجيدًا لشخص عبد الناصر؛ فله ما له وعليه وما عليه، وسواءٌ اختلفتَ مع الرجل أو اتفقتَ معه فليس هناك ما يمنعك من استلهام تجربته في سنوات تكوينه الفكري فقد ثبت جدواها ونفعها في أمور كثيرة.
عن الكاتب
د
رئيس قسم الأدب العربي باتحاد الكتاب والمثقفين العرب ـ باريس، ورئيس تحرير مجلة كنوز الأقلام الثقافية، عضو في شعبة المبدعين العرب التابعة لجامعة الدول العربية ومجلس الوزراء العرب، له العديد من المؤلفات الدينية والأدبية المنشورة بالعربية والمترجمة والصادرة في مصر والدول العربية وجمهوريتي النمسا وألمانيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى