1
ليست رواية le tambour des larmes للكاتب الموريتاني مبارك بيروك Beyrouk نصا سهل التناول والفهم بقدر ما هي نسيج تتداخل فيه الرؤية الفنية و التقنيات السردية مع سردية آلام ” المظلومين” الذين قسا عليهم الزمن، وانتبذتهم قساوة الأعراف و جفاف العواطف مكاناً قصيا مهجرين قسرا باحثين عن المعنى في “زمن اللامعنى”. و لكيلا نستبق باب الكشف عن مصير بطلة الرواية التي تسمح حواراتها و حركتها و طريقة بنائها من طرف الكاتب بوجود أصوات أخرى تدرجها ضمن الرواية الحديثة التي تتجاوز حركة الشخصيات في الفضاء الروائي إلى إبلاء العناية للأصوات داخلها بما يكسر التقسيم المعروف للشخصيات إلى شخصيات نامية و أخرى مسطحة، وليس يغرب عنا أن قوة النص لا تكمن في مضمونه و تصريحاته و تلميحاته إلى المسكوت عنه le non dit ، بقدر ما تتجسد في التقنيات السردية التي جعلت منه نصا يشدَه القارئ و يشده إليه متشوفا إلى انقلاق الأحداث الدائرة وفق نسق سردي دائري حلزوني عن نهاية ما، سواء أكانت سعيدة أم شقية؛ ذلك أن القارئ لا ينشأ يتوقع أو يتوسم نهاية مستقرة آمنة للبطلة حتى تداهمه الأحداث بما لم يحط به خرصاً و لا تقديرا.
ونظرا لأهمية التقنيات السردية و دورها في تأهل الرواية للفوز بجائزة فرنكفونية مرموقة، سنعمد فيما يأتي إلى تظهير تلك التقنيات التي قد لا يلقي لها بالا كثير من المتلقين الحقيقيين والضمنيين، نظرا لكونها من عمل الكاتب و الناقد لا القارئ الذي لا يعنيه سوى تحصيل متعة القراءة ولذة النص وفق اصطلاح رولان بارت.
تقنيات السرد في ” le tambour des larmes” :
لعل أول ما يشد الانتباه في الرواية هو انبناؤها على طريقة السرد المقلوب حيث يبدأ السرد بما سيكتشف القارئ أن حدث يقع ضمن تسلسل الأحداث في نهاية السرد؛ إنه الحدث الذي انبجست منه الحكاية التي تشكل أصل مادة السرد . تلك الأحداث التي وفق الكاتب في التحكم فيها وفق منطق السرد و تقنياته التي تعتمد الاسترجاع حينا و الاستباق حينا . و نظرا لقوة المطلع أو مقتتح النص الروائي الذي ينبئ عن بناء سردي وفق النمط المقلوب، سنختار منه هذا المقطع للاستدلال و الاستئناس:
« je savais qu’ils ne me retrouveraient plus facilement ,que le noir aveuglerait leurs yeux, que le vent de sable déréglerait leurs sens et effacerait mes pas ( …) je fus tentée de m’arrêter un peu, pour souffler, pour me libérer de mon lourd fardeau »
ليس خافيا أن اعتماد ضمير المتكلم في النص بمجمله يجعل الرؤية السردية رؤية مع vision avec، فالراوي (ريحانة) تحكي ما تعيشه و ما ستعيشه من نكبات تبدأ في الرواية بهذا المشهد الذي يجسده التنصيص أعلاه، و هو مشهد النأي عن الخيام، و الشعور بإمكانية المطاردة مع الإيقان بعدم جدواها في ظل تضافر بل تواطؤ أو مساعدة الظروف الطبيعية على نجاح مغامرة الهروب بالطبل أو الطنبور، فالليل أستر، و العواصف الرملية تمحو الأثر…
و كما يتيح لنا الاستباق معرفة دوران الأحداث المتتالية سراعا حول الطبل المسلوب بما يمثله من شرف للقبيلة و رمز إعلان حروبها و احتفالاتها، يسمح لنا الاسترجاع الذي يعمد إليه الناص على لسان البطلة ” ريحانة” بمعرفة أنها سليلة ” أشراف قبيلة أولاد محمود” ؛بل إنها كريمة شقيق شيخ القبيلة الذي آثر مغادرة مضارب قومه بعد تنصيب أخيه شيخا عليها تعبيرا عن عدم رضاه بهذا التتويج؛ و تفاديا للصراع حول الرياسة في مجتمع يحتفي بها أيما احتفاء، و يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة كما يقول المثل العربي.
ضميمة إلى ما سبق، يتوكأ الكاتب على عصا الحوار الذي يجعل الأصوات المتعددة داخل الرواية تتحاكى متهامسة (المونولوج أو الحوار الداخلي ) أو متجاهرة أو متبادلة الأفكار و الخواطر (أصوات الأم، العبيد، شيخ القبيلة، إيمراكن، تكات /المحاربون المنسوبون إلى ممارسة أعمال اعتراض سبيل القوافل واختطاف العبيد، الخادم أو الأمة الفارّة الهاربة و أصدقاؤها أو شركاؤها في الأعمال الممنوعة و المنبوذة (الدعارة، القوادة،الغلمان إن صح التعبير عن ظاهرة كوردكن بذلك ..)، أما الوصف، فقد احتل مساحات كبيرة داخل نسيج النص فأضفى عليه جمالية تبهر المتلقي، ولا يقتصر الوصف على الأمكنة المتعددة التي تدور فيها الأحداث، وإنما يتسلل إلى بواطن نفسيات الشخصيات التي عمد الكاتب عبر الاستبطان إلى كشف أحاسيسها وسجلاتها الشخصية و الاجتماعية الخفية .
وتتضايف مع التقنيات السابقة تقنيات أخرى هامة اعتمدها الناصّ، نذكر منها الحذف والوقفة pause و المشهدscène ، فضلا عن التلاشيchute أو النهاية التي جاءت محكمة إحكام تلازم عدم التمكن من الوصول إلى الطفل المفقود (اسمه مرفوض دال على رفض المجتمع للأطفال اللقطاء أو المتخلى عنهم وفق الاصطلاح الحامل لنوع من وهم التصالح مع الظاهرة) مع الإقدام على إحراق الطبل انتقاماً من القبيلة ومن المجتمع.
2
يحتل التضمين enchâssement مركزا بارزا في الرواية، إذ يعمد الكاتب بين الفينة والأخرى إلى كسر المنحى الخطي للأحداث، بإيراد قصة أوحكاية على لسان إحدى الشخصيات، دون إخلال بالمنطق السردي الذي يفرض أن يكون التضمين منسجما مع السياق. وينهض مثالا على التضمين ذاك الاستطراد الذي لجأ إليه الكاتب كي يبين وجه الفرق بين موسيقى ” المدح” و”بنجة”[1] دون إخلال بانسياب السرد، كما أن ثمة نماذج أخرى للتضمين نذكر منها تضمين تمثلاتٍ عن ماضي “التكات” وبنية تنظيمهم الحربي الذي يتولى قيادته أحد كبار السن منهم، والحق أن تركيب الكاتب لصورة هؤلاء المحاربين الأشداء الذين لا يفرطون في أعراف حسن ضيافة زائر يحل بمحلتهم، يذكر بصورة الصعاليك في الأدب العربي، فهم يهاجمون القوافل، وقد يخطفون العبيد،لكنهم يتقاسمون غنائمهم مع المعدمين.
وعلاوة على تنويع الخطاب الذي تردد في الرواية بين خطاب مباشر[2] وخطاب منقول أو محمول على لسان أحد الرواة[3]،فإن الكاتب اعتمد السرد بالتوازي، بحيث تتوازى ثم تتقاطع حكايتان شكلتا نواة العمل السردي،تتعلق الأولى بمباركة الأمَة الهاربة وحياتها الماجنة مع زبنائها وأصدقائها، وقصة البطلة “ريحانة” المختفية مع طبلها الذي أخذته من القبيلة نكاية بها، وتنكيلا بسيرة الفقد.أعني التخلي قهرا لا طوعاً عن ابنها “مرفوض” الذي يرفضه مجتمع القبيلة، وخاصة الأم، صوناً لشرف العائلة،وخوفا من نقمة الأب في حال عودته رداً على التفريط في مسؤولية رعاية البنت التي أضحت بفعل فاعل “أماً عازبة” حسب التعبير الحديث المتداول من أجل إحداث نوع من التصالح مع الظاهرة في بعض المغارب.
ورغم تنويع الضمائر في النص طبقا لوظيفتها داخله، فإن المؤلف اعتمد ضمير المتكلم من أجل التبئير(السرد مع)، وغير خاف، أن السرد بضمير “أنا” (Je) مختلف عن السرد بضميري المخاطب (أنت) والغائب (هو)، فما يميز “أنا” عن “أنت” حسب تعبير الناقد خيري دومة أن “أنا” يصدر عنه الكلام ويقع داخله، بينما يتوجه الكلام إلى “أنت” الذي يقع خارج الكلام، فإن هذا لا يقمع وجود واقع الديالوج الإنساني،ولا ينفيه كما يقول بنيفست،ولكي أخرج “أنا” من نفسي، وأقيم علاقة حية مع كائن ما، فأنا بالضرورة ألتقي ب “أنت”،أو أفترضه، فهو الشخص الوحيد المتخيل خارجي “أنا”[4].
لقد سمح السرد بضمير المتكلم للراوي (ريحانة) تقاسم المأساة والدموع والإحساس بالفقد مع المتلقي الذي سيزداد انشداداً إلى حكايتها إذا كان منتميا للثقافة نفسها التي يصدر عنها الراوي، فثمة “سرد مكتنز” بتعبير الناقد أيمن بكر، لا تنكشف خيوطه المترسبة بين طبقات السرد إلا إذا كان الراوي والمؤلف والمتلقي ينتمون إلى ثقافة واحدة.
ومن أجل كشف بنية الرواية، يمكن أن ننظر إليها على ضوء النموذج العاملي الذي وضعه “كريماس مستفيدا من إرث بروب في دراسة الوظائف، محاولا الجمع بين التحليل الوظيفي والتحليل الوصفي على أساس أنهما متكاملان [5]، ويمكن تحليل بنية الرواية من منطلق العوامل الست التي حددها كريماس (المرسل ، المرسل إليه، الذات، الموضوع، المساعد، المعارض)، وهي “تشكل البنية المجردة الأساسية في كل حكي،بل في كل خطاب “[6] ، والعلاقة بين الذات و الموضوع هي علاقة رغبة (أي علاقة من يرغب (الذات/ريحانة) و المرغوب فيه (الموضوع/ابنها المفقود).وما دام لابد لرغبة الذات من دافع أو محرك يسميه غريماس “المرسل “، فإنه من السائغ اعتبار العامل المرسل في الرواية مجموعة من الحوافز والرغبات تتمحور حول ( الرغبة في تحدي قبيلة أولاد محمود وسرقة طبلهم رمز شرفهم، والرغبة في اكتشاف مكان وجود الابن “المفقود”) ، بينما يمكن تحديد العامل المرسل إليه (رغبة الأم في إخفاء العار الذي ألحقته بها بنتها بحملها الحرام أولا، وبسرقة طبل القبيلة ثانيا، رغبة القبيلة في القبض على الهاربة من أجل استرجاع الطبل المسلوب).
أما العامل المساعد ، فيتمثل في الراعي le berger، الزوج المتعاون Memed،الأمة مباركة، حمّا و ابن أخته عبدو الذي أضحى رهن الاعتقال نتيجة إقدامه على مساعدة ريحانة في رحلة البحث عن ابنها…، بينما العامل المعارض ، يتمثل في شيخ أهل محمود والدرك أو أجهزة أمن الدولة المتعاون مع القبيلة من أجل استرجاع رمز الشرف و الهيبة الجريحة (الطبل).
(يتبع)
[1] Beyrouk, le tambour des larmes,page 104/
[2] Exemple de discours narratif direct : elle déclara à ma mère d’un ton savant qui n’admettait aucune réplique : «Cette fille est habitée par de mauvais humeurs, il y en a trop de mauvais sang. Elle est atteinte d’igunidi »le roman, page 86
[3] Exemple de discours narratif transporté : (d’ailleurs, souvent Mbarka l’interpellait : « Hamma ,sors d’ici, laisse ma sœur, elle n’est pas de ,ton monde, dépravé » le roman, page 143
[4] خيري دومة، صعود ضمير المخاطب في السرد المصري المعاصر،مجلة بلاغات، العدد الأول، 2009،ص71-72.
[5] حميد لحميداني ، بنية النص السردي ، ص 32.
[6]حميد لحميداني ، بنية النص السردي ، ص 36.
* عن
طبل الدموع (2) - أكيد
د. بوزيد الغلى
ليست رواية le tambour des larmes للكاتب الموريتاني مبارك بيروك Beyrouk نصا سهل التناول والفهم بقدر ما هي نسيج تتداخل فيه الرؤية الفنية و التقنيات السردية مع سردية آلام ” المظلومين” الذين قسا عليهم الزمن، وانتبذتهم قساوة الأعراف و جفاف العواطف مكاناً قصيا مهجرين قسرا باحثين عن المعنى في “زمن اللامعنى”. و لكيلا نستبق باب الكشف عن مصير بطلة الرواية التي تسمح حواراتها و حركتها و طريقة بنائها من طرف الكاتب بوجود أصوات أخرى تدرجها ضمن الرواية الحديثة التي تتجاوز حركة الشخصيات في الفضاء الروائي إلى إبلاء العناية للأصوات داخلها بما يكسر التقسيم المعروف للشخصيات إلى شخصيات نامية و أخرى مسطحة، وليس يغرب عنا أن قوة النص لا تكمن في مضمونه و تصريحاته و تلميحاته إلى المسكوت عنه le non dit ، بقدر ما تتجسد في التقنيات السردية التي جعلت منه نصا يشدَه القارئ و يشده إليه متشوفا إلى انقلاق الأحداث الدائرة وفق نسق سردي دائري حلزوني عن نهاية ما، سواء أكانت سعيدة أم شقية؛ ذلك أن القارئ لا ينشأ يتوقع أو يتوسم نهاية مستقرة آمنة للبطلة حتى تداهمه الأحداث بما لم يحط به خرصاً و لا تقديرا.
ونظرا لأهمية التقنيات السردية و دورها في تأهل الرواية للفوز بجائزة فرنكفونية مرموقة، سنعمد فيما يأتي إلى تظهير تلك التقنيات التي قد لا يلقي لها بالا كثير من المتلقين الحقيقيين والضمنيين، نظرا لكونها من عمل الكاتب و الناقد لا القارئ الذي لا يعنيه سوى تحصيل متعة القراءة ولذة النص وفق اصطلاح رولان بارت.
تقنيات السرد في ” le tambour des larmes” :
لعل أول ما يشد الانتباه في الرواية هو انبناؤها على طريقة السرد المقلوب حيث يبدأ السرد بما سيكتشف القارئ أن حدث يقع ضمن تسلسل الأحداث في نهاية السرد؛ إنه الحدث الذي انبجست منه الحكاية التي تشكل أصل مادة السرد . تلك الأحداث التي وفق الكاتب في التحكم فيها وفق منطق السرد و تقنياته التي تعتمد الاسترجاع حينا و الاستباق حينا . و نظرا لقوة المطلع أو مقتتح النص الروائي الذي ينبئ عن بناء سردي وفق النمط المقلوب، سنختار منه هذا المقطع للاستدلال و الاستئناس:
« je savais qu’ils ne me retrouveraient plus facilement ,que le noir aveuglerait leurs yeux, que le vent de sable déréglerait leurs sens et effacerait mes pas ( …) je fus tentée de m’arrêter un peu, pour souffler, pour me libérer de mon lourd fardeau »
ليس خافيا أن اعتماد ضمير المتكلم في النص بمجمله يجعل الرؤية السردية رؤية مع vision avec، فالراوي (ريحانة) تحكي ما تعيشه و ما ستعيشه من نكبات تبدأ في الرواية بهذا المشهد الذي يجسده التنصيص أعلاه، و هو مشهد النأي عن الخيام، و الشعور بإمكانية المطاردة مع الإيقان بعدم جدواها في ظل تضافر بل تواطؤ أو مساعدة الظروف الطبيعية على نجاح مغامرة الهروب بالطبل أو الطنبور، فالليل أستر، و العواصف الرملية تمحو الأثر…
و كما يتيح لنا الاستباق معرفة دوران الأحداث المتتالية سراعا حول الطبل المسلوب بما يمثله من شرف للقبيلة و رمز إعلان حروبها و احتفالاتها، يسمح لنا الاسترجاع الذي يعمد إليه الناص على لسان البطلة ” ريحانة” بمعرفة أنها سليلة ” أشراف قبيلة أولاد محمود” ؛بل إنها كريمة شقيق شيخ القبيلة الذي آثر مغادرة مضارب قومه بعد تنصيب أخيه شيخا عليها تعبيرا عن عدم رضاه بهذا التتويج؛ و تفاديا للصراع حول الرياسة في مجتمع يحتفي بها أيما احتفاء، و يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة كما يقول المثل العربي.
ضميمة إلى ما سبق، يتوكأ الكاتب على عصا الحوار الذي يجعل الأصوات المتعددة داخل الرواية تتحاكى متهامسة (المونولوج أو الحوار الداخلي ) أو متجاهرة أو متبادلة الأفكار و الخواطر (أصوات الأم، العبيد، شيخ القبيلة، إيمراكن، تكات /المحاربون المنسوبون إلى ممارسة أعمال اعتراض سبيل القوافل واختطاف العبيد، الخادم أو الأمة الفارّة الهاربة و أصدقاؤها أو شركاؤها في الأعمال الممنوعة و المنبوذة (الدعارة، القوادة،الغلمان إن صح التعبير عن ظاهرة كوردكن بذلك ..)، أما الوصف، فقد احتل مساحات كبيرة داخل نسيج النص فأضفى عليه جمالية تبهر المتلقي، ولا يقتصر الوصف على الأمكنة المتعددة التي تدور فيها الأحداث، وإنما يتسلل إلى بواطن نفسيات الشخصيات التي عمد الكاتب عبر الاستبطان إلى كشف أحاسيسها وسجلاتها الشخصية و الاجتماعية الخفية .
وتتضايف مع التقنيات السابقة تقنيات أخرى هامة اعتمدها الناصّ، نذكر منها الحذف والوقفة pause و المشهدscène ، فضلا عن التلاشيchute أو النهاية التي جاءت محكمة إحكام تلازم عدم التمكن من الوصول إلى الطفل المفقود (اسمه مرفوض دال على رفض المجتمع للأطفال اللقطاء أو المتخلى عنهم وفق الاصطلاح الحامل لنوع من وهم التصالح مع الظاهرة) مع الإقدام على إحراق الطبل انتقاماً من القبيلة ومن المجتمع.
2
يحتل التضمين enchâssement مركزا بارزا في الرواية، إذ يعمد الكاتب بين الفينة والأخرى إلى كسر المنحى الخطي للأحداث، بإيراد قصة أوحكاية على لسان إحدى الشخصيات، دون إخلال بالمنطق السردي الذي يفرض أن يكون التضمين منسجما مع السياق. وينهض مثالا على التضمين ذاك الاستطراد الذي لجأ إليه الكاتب كي يبين وجه الفرق بين موسيقى ” المدح” و”بنجة”[1] دون إخلال بانسياب السرد، كما أن ثمة نماذج أخرى للتضمين نذكر منها تضمين تمثلاتٍ عن ماضي “التكات” وبنية تنظيمهم الحربي الذي يتولى قيادته أحد كبار السن منهم، والحق أن تركيب الكاتب لصورة هؤلاء المحاربين الأشداء الذين لا يفرطون في أعراف حسن ضيافة زائر يحل بمحلتهم، يذكر بصورة الصعاليك في الأدب العربي، فهم يهاجمون القوافل، وقد يخطفون العبيد،لكنهم يتقاسمون غنائمهم مع المعدمين.
وعلاوة على تنويع الخطاب الذي تردد في الرواية بين خطاب مباشر[2] وخطاب منقول أو محمول على لسان أحد الرواة[3]،فإن الكاتب اعتمد السرد بالتوازي، بحيث تتوازى ثم تتقاطع حكايتان شكلتا نواة العمل السردي،تتعلق الأولى بمباركة الأمَة الهاربة وحياتها الماجنة مع زبنائها وأصدقائها، وقصة البطلة “ريحانة” المختفية مع طبلها الذي أخذته من القبيلة نكاية بها، وتنكيلا بسيرة الفقد.أعني التخلي قهرا لا طوعاً عن ابنها “مرفوض” الذي يرفضه مجتمع القبيلة، وخاصة الأم، صوناً لشرف العائلة،وخوفا من نقمة الأب في حال عودته رداً على التفريط في مسؤولية رعاية البنت التي أضحت بفعل فاعل “أماً عازبة” حسب التعبير الحديث المتداول من أجل إحداث نوع من التصالح مع الظاهرة في بعض المغارب.
ورغم تنويع الضمائر في النص طبقا لوظيفتها داخله، فإن المؤلف اعتمد ضمير المتكلم من أجل التبئير(السرد مع)، وغير خاف، أن السرد بضمير “أنا” (Je) مختلف عن السرد بضميري المخاطب (أنت) والغائب (هو)، فما يميز “أنا” عن “أنت” حسب تعبير الناقد خيري دومة أن “أنا” يصدر عنه الكلام ويقع داخله، بينما يتوجه الكلام إلى “أنت” الذي يقع خارج الكلام، فإن هذا لا يقمع وجود واقع الديالوج الإنساني،ولا ينفيه كما يقول بنيفست،ولكي أخرج “أنا” من نفسي، وأقيم علاقة حية مع كائن ما، فأنا بالضرورة ألتقي ب “أنت”،أو أفترضه، فهو الشخص الوحيد المتخيل خارجي “أنا”[4].
لقد سمح السرد بضمير المتكلم للراوي (ريحانة) تقاسم المأساة والدموع والإحساس بالفقد مع المتلقي الذي سيزداد انشداداً إلى حكايتها إذا كان منتميا للثقافة نفسها التي يصدر عنها الراوي، فثمة “سرد مكتنز” بتعبير الناقد أيمن بكر، لا تنكشف خيوطه المترسبة بين طبقات السرد إلا إذا كان الراوي والمؤلف والمتلقي ينتمون إلى ثقافة واحدة.
ومن أجل كشف بنية الرواية، يمكن أن ننظر إليها على ضوء النموذج العاملي الذي وضعه “كريماس مستفيدا من إرث بروب في دراسة الوظائف، محاولا الجمع بين التحليل الوظيفي والتحليل الوصفي على أساس أنهما متكاملان [5]، ويمكن تحليل بنية الرواية من منطلق العوامل الست التي حددها كريماس (المرسل ، المرسل إليه، الذات، الموضوع، المساعد، المعارض)، وهي “تشكل البنية المجردة الأساسية في كل حكي،بل في كل خطاب “[6] ، والعلاقة بين الذات و الموضوع هي علاقة رغبة (أي علاقة من يرغب (الذات/ريحانة) و المرغوب فيه (الموضوع/ابنها المفقود).وما دام لابد لرغبة الذات من دافع أو محرك يسميه غريماس “المرسل “، فإنه من السائغ اعتبار العامل المرسل في الرواية مجموعة من الحوافز والرغبات تتمحور حول ( الرغبة في تحدي قبيلة أولاد محمود وسرقة طبلهم رمز شرفهم، والرغبة في اكتشاف مكان وجود الابن “المفقود”) ، بينما يمكن تحديد العامل المرسل إليه (رغبة الأم في إخفاء العار الذي ألحقته بها بنتها بحملها الحرام أولا، وبسرقة طبل القبيلة ثانيا، رغبة القبيلة في القبض على الهاربة من أجل استرجاع الطبل المسلوب).
أما العامل المساعد ، فيتمثل في الراعي le berger، الزوج المتعاون Memed،الأمة مباركة، حمّا و ابن أخته عبدو الذي أضحى رهن الاعتقال نتيجة إقدامه على مساعدة ريحانة في رحلة البحث عن ابنها…، بينما العامل المعارض ، يتمثل في شيخ أهل محمود والدرك أو أجهزة أمن الدولة المتعاون مع القبيلة من أجل استرجاع رمز الشرف و الهيبة الجريحة (الطبل).
(يتبع)
[1] Beyrouk, le tambour des larmes,page 104/
[2] Exemple de discours narratif direct : elle déclara à ma mère d’un ton savant qui n’admettait aucune réplique : «Cette fille est habitée par de mauvais humeurs, il y en a trop de mauvais sang. Elle est atteinte d’igunidi »le roman, page 86
[3] Exemple de discours narratif transporté : (d’ailleurs, souvent Mbarka l’interpellait : « Hamma ,sors d’ici, laisse ma sœur, elle n’est pas de ,ton monde, dépravé » le roman, page 143
[4] خيري دومة، صعود ضمير المخاطب في السرد المصري المعاصر،مجلة بلاغات، العدد الأول، 2009،ص71-72.
[5] حميد لحميداني ، بنية النص السردي ، ص 32.
[6]حميد لحميداني ، بنية النص السردي ، ص 36.
* عن
طبل الدموع (2) - أكيد
د. بوزيد الغلى