يختفي الجدار و تبقى النافذة, ذلك الانطباع الأول الذي يفاجئنا به محمد ياسين صبيح في اصطياد عنصر الدهشة من خلال الاسم الذي حملته مجموعته القصصية القصيرة جدا " نافذة بلا جدار "؛
فأي نافذة تلك التي نطلّ من خلالها على انعكاسات الواقع؟
و ما الذي حملته بين طياتها بعد أن اختفى الجدار الذي تستند عليه؟
تلك النافذة التي لم يغلقها صبيح على السياق المباشر للنص, إنما فتحها مشرّعة لذهن المتلقي, وهو بذلك يتصل بالقارئ العادي الذي ينظر للمضمون الظاهري للنص, و ينتقل بالمتلقي النخبوي للبحث عن محاكاة ضمنية تحمل أبعادا تأويلية أخرى.
إن من مكامن الصعوبة في كتابة القصة القصيرة جدا, و مزايا بنيتها الجمالية, تلك القابلية المرنة التي يخلقها السارد ليمنح للنص بعدا خارجيا يضاهي البعد الداخلي الذي يحمل رؤية الكاتب و مشاعره باعتبارها الواقع الفعلي لكيان النص, فينتقل المتلقي إلى خلق روح جديدة تفسّر الظاهر بمعنى آخر لا يخلّ من توازن النص كبناء واحد.
للخوض في فلسفة البعدين أو المنظورين ( الظاهري – الباطني ) أو ( الخارجي – الداخلي ) للنص ينبغي لنا التبحّر في غزارة المعنى في النص, و تنوعه لا عن غموضه, فالسارد ينتهي دوره في نضج الفكرة و تقديمها للمتلقي بسرد محبوك, و بالتالي يُلقي بمسؤولية تفحص المضامين, و تفكيك الرموز إلى ذهن المتلقي, ليس لاختلاق معنى آخر من صنع خيال القارئ إنما بصورة تحاكي ظاهر النص, فينقل معركة الصراع – نفسيا – نحو تأثير المفردة على انفعالات القارئ نحو فكرة النص.
ترى " لانجر سوازن " أن العمل الفني صورة رمزية تعبر عن الوجدان البشري, لكنه ليس رمزا يختفي خلف نفسه, بحيث يمكن لأحدنا أن يعبر نحو المفهوم المرموز إليه من خلال معناه الدلالي, و طريقتنا لإدراك فحوى النص تنطلق من خلال الخيال الأدبي الذي يختلف بمستواه من قارئ لآخر , وبذلك المفهوم نكون قد خلقنا تناسقا موضوعيا بين ما يطرحه السارد – المكتشف للثيمة – وما يستخلصه الباحث – القارئ النخبوي – من مضامين صورية أو موضوعية تتسع باتساع رقعة التأويل و التفسير الذي يعطي تعددية المعنى للصورة التي يمثلها الرمز.
فصورة الجسد الذي يملأ الغرفة الوحيدة في مستهل المجموعة في النص " هاجس " ص7 مجتاحا بالقلق , يفتح أفق الإبحار في خيال القارئ لما تصوره الغرفة الوحيدة من حياة البؤس, و العوز, والانعزال, وذلك الجسد الذي ملأ أرض الغرفة بالتأكيد ليس خيالا فنتازيا ليصور الجسد بحجم الغرفة, أو ينقلنا لتفكير ضيق كجزء مقطع الأوصال – مثلا -, إنما يفتح أبوابا من التأويل لحجم المعاناة التي تعيشها الشخصية بتشظيها و انكساراتها, بعد أن تنكشف لنا صورة أخرى في الجملة اللاحقة " توارى الأصدقاء و الغربان "؛
كذلك في نص " دهشة " ص21 حين يكون القطار كرمز يسير بنا إلى نهاية طريق سيصل إليها الجميع يوما ما.
إن الصور التي بانت من خلف الزجاج المتشظي لنافذة صبيح , عكست واقعنا المرير بكل آلامه, في شكلها كوجود موضوعي, وفي بعدها كونها علامة و معنى ايحائيا مجرّدا تنطبق على نظرية " جاك دريدا " في العلامات, حيث تكشف عن كينونة المفردة كأثر لفظي , وصورة سمعية تعبّر عن مفهومها, و تحفز المتلقي لاستحضار كينونيتها من خارجها لخلق الوجود المزدوج للتناسق الموضوعي بين الجزء المكتمل الذي طرحه صاحب النافذة, و الآخر المؤجل الذي تقع مهمة اكتشافه على عاتقنا كقرّاء.
" نافذة بلا جدار " مجموعة قصصية حملت انطباعات خلاّقة للقصة القصيرة جدا, بما تميزت به من تكثيف دلالي يحقق التوازن النصي, وبما تمثله من نضج فني سردي يبتعد عن الاسترسال و التمطيط الذي شهدته التجارب الأولية لظهور القصة القصيرة جدا – عربيا - , ويقدم انموذجا ابداعيا ذو دلالات فنية و سمات اسلوبية تخرج عن أطر السرد التقليدي, و تؤسس لثقافة تطوير البعد الأدائي للخطاب القصصي.
جلّ ما يمكننا قوله أنه ينبغي أن تأخذ تلك المجموعة حقها من الدراسة و البحث , وهي دعوة صريحة للناقد العربي للاطلاع على تلك المجموعة الغنية بمفاهيمها, و أساليبها, و شعريتها, ولغتها.
عباس عجاج – العراق
...........................
المصادر:
- الكتابة في مشغل الحداثة .. اسامة الشحماني
- التحديث الاصطلاحي, دراسة الأنساق المستحدثة .. محمد يونس
- ملامح العمل الفني في الفلسفة المعاصرة .. د. احمد شيال غضيب
- نافذة بلا جدار .. د. محمد ياسين صبيح
- اسلوبية القصة .. د. احمد حسين الجارالله.
فأي نافذة تلك التي نطلّ من خلالها على انعكاسات الواقع؟
و ما الذي حملته بين طياتها بعد أن اختفى الجدار الذي تستند عليه؟
تلك النافذة التي لم يغلقها صبيح على السياق المباشر للنص, إنما فتحها مشرّعة لذهن المتلقي, وهو بذلك يتصل بالقارئ العادي الذي ينظر للمضمون الظاهري للنص, و ينتقل بالمتلقي النخبوي للبحث عن محاكاة ضمنية تحمل أبعادا تأويلية أخرى.
إن من مكامن الصعوبة في كتابة القصة القصيرة جدا, و مزايا بنيتها الجمالية, تلك القابلية المرنة التي يخلقها السارد ليمنح للنص بعدا خارجيا يضاهي البعد الداخلي الذي يحمل رؤية الكاتب و مشاعره باعتبارها الواقع الفعلي لكيان النص, فينتقل المتلقي إلى خلق روح جديدة تفسّر الظاهر بمعنى آخر لا يخلّ من توازن النص كبناء واحد.
للخوض في فلسفة البعدين أو المنظورين ( الظاهري – الباطني ) أو ( الخارجي – الداخلي ) للنص ينبغي لنا التبحّر في غزارة المعنى في النص, و تنوعه لا عن غموضه, فالسارد ينتهي دوره في نضج الفكرة و تقديمها للمتلقي بسرد محبوك, و بالتالي يُلقي بمسؤولية تفحص المضامين, و تفكيك الرموز إلى ذهن المتلقي, ليس لاختلاق معنى آخر من صنع خيال القارئ إنما بصورة تحاكي ظاهر النص, فينقل معركة الصراع – نفسيا – نحو تأثير المفردة على انفعالات القارئ نحو فكرة النص.
ترى " لانجر سوازن " أن العمل الفني صورة رمزية تعبر عن الوجدان البشري, لكنه ليس رمزا يختفي خلف نفسه, بحيث يمكن لأحدنا أن يعبر نحو المفهوم المرموز إليه من خلال معناه الدلالي, و طريقتنا لإدراك فحوى النص تنطلق من خلال الخيال الأدبي الذي يختلف بمستواه من قارئ لآخر , وبذلك المفهوم نكون قد خلقنا تناسقا موضوعيا بين ما يطرحه السارد – المكتشف للثيمة – وما يستخلصه الباحث – القارئ النخبوي – من مضامين صورية أو موضوعية تتسع باتساع رقعة التأويل و التفسير الذي يعطي تعددية المعنى للصورة التي يمثلها الرمز.
فصورة الجسد الذي يملأ الغرفة الوحيدة في مستهل المجموعة في النص " هاجس " ص7 مجتاحا بالقلق , يفتح أفق الإبحار في خيال القارئ لما تصوره الغرفة الوحيدة من حياة البؤس, و العوز, والانعزال, وذلك الجسد الذي ملأ أرض الغرفة بالتأكيد ليس خيالا فنتازيا ليصور الجسد بحجم الغرفة, أو ينقلنا لتفكير ضيق كجزء مقطع الأوصال – مثلا -, إنما يفتح أبوابا من التأويل لحجم المعاناة التي تعيشها الشخصية بتشظيها و انكساراتها, بعد أن تنكشف لنا صورة أخرى في الجملة اللاحقة " توارى الأصدقاء و الغربان "؛
كذلك في نص " دهشة " ص21 حين يكون القطار كرمز يسير بنا إلى نهاية طريق سيصل إليها الجميع يوما ما.
إن الصور التي بانت من خلف الزجاج المتشظي لنافذة صبيح , عكست واقعنا المرير بكل آلامه, في شكلها كوجود موضوعي, وفي بعدها كونها علامة و معنى ايحائيا مجرّدا تنطبق على نظرية " جاك دريدا " في العلامات, حيث تكشف عن كينونة المفردة كأثر لفظي , وصورة سمعية تعبّر عن مفهومها, و تحفز المتلقي لاستحضار كينونيتها من خارجها لخلق الوجود المزدوج للتناسق الموضوعي بين الجزء المكتمل الذي طرحه صاحب النافذة, و الآخر المؤجل الذي تقع مهمة اكتشافه على عاتقنا كقرّاء.
" نافذة بلا جدار " مجموعة قصصية حملت انطباعات خلاّقة للقصة القصيرة جدا, بما تميزت به من تكثيف دلالي يحقق التوازن النصي, وبما تمثله من نضج فني سردي يبتعد عن الاسترسال و التمطيط الذي شهدته التجارب الأولية لظهور القصة القصيرة جدا – عربيا - , ويقدم انموذجا ابداعيا ذو دلالات فنية و سمات اسلوبية تخرج عن أطر السرد التقليدي, و تؤسس لثقافة تطوير البعد الأدائي للخطاب القصصي.
جلّ ما يمكننا قوله أنه ينبغي أن تأخذ تلك المجموعة حقها من الدراسة و البحث , وهي دعوة صريحة للناقد العربي للاطلاع على تلك المجموعة الغنية بمفاهيمها, و أساليبها, و شعريتها, ولغتها.
عباس عجاج – العراق
...........................
المصادر:
- الكتابة في مشغل الحداثة .. اسامة الشحماني
- التحديث الاصطلاحي, دراسة الأنساق المستحدثة .. محمد يونس
- ملامح العمل الفني في الفلسفة المعاصرة .. د. احمد شيال غضيب
- نافذة بلا جدار .. د. محمد ياسين صبيح
- اسلوبية القصة .. د. احمد حسين الجارالله.