يدرس كتاب ( الأساطير الأخروية العربية مِنْ الإِهْمَالِ والإخمال الدِّينِيُّ, إِلَى سُؤَالَ الشَّرْعِيَّةِ الأَدَبِيَّةِ وَالأُسْطُورِيَّةِ") [2] للدكتور جعفر ابن الحاج السلمي[3] الأصول الأدبية للأساطير العربية، فيضع الأسطورة[4] الأخروية ضمن نطاق الأجناس الأدبية، بعدما كان هناك تصوّر بأن الأسطورة جنس خارج نظرية الأدب، إذ يبحث الكتاب أسباب هذا الإقصاء غير المبرر للأسطورة بشكل عام والأسطورة الأخروية على وجه الخصوص، لينتقل بعد ذلك للبرهنة على صحة دعواه، من خلال تحليل نماذج أساطير أخروية من متن كتاب: الفتن، لنُعيم بن حماد ( 229هـ/843-844م )، باعتباره أنموذجا بليغا جدا للأساطير الأخروية العربية حسب تعبير الكاتب.
ولكن كيف يمكننا الحديث عن لغة أدبية واصفة في مدونة فقهية؟
وهل ستسعف الكاتب هذه النصوص التي عول عليها، رصدا لأهم سمات الأساطير الأخروية، ومراحل تطورها؟
والحق أن الكتاب الذي بين أيدينا يحمل في طياته رصيدا اصطلاحيا نقديا مهما، له حمولته المعرفية و مفهوميته المشتركة، إذ عمل الكاتب على الإنصات الجيد لهذه النصوص الأسطورية، وخلص إلى تحصيل ودرس مجموعة من السمات و المصطلحات النقدية الأصلية الواردة في نطاق مدونات الأساطير الأخروية الأولى ( كتاب الفتن لنعيم بن حماد أنموذجا)، وجرد مدلولاتها.
في إطار البحث عن نظرية نقدية للأنواع الأسطورية الأدبية، عمل الكاتب على تجاوز المصادر الأدبية والنقدية التقليدية، ليستثمر مصدرا فقهيا في الدرس النقدي، المتمثل في كتاب (الفتن) لنعيم بن حماد كما ذكرنا، وخصوصا المجال الاصطلاحي منه.
فيتساءل الكاتب عن إمكانية التحدث عن أدبية الأساطير الأخروية، في أفق تطوير نظرية نقدية تخص هذا النوع الأدبي.
وهذه التساؤلات الجادة والمحورية، التي أسقطها الكاتب على المدونة الفقهية، رصدا لأهم السمات الأدبية و المصطلحات النقدية الواردة فيها، تتغيى بالأساس تطوير معجم عربي مغربي معاصر وشامل، يواكب تطور نظرية الأجناس الأدبية، والبحث النقدي المعاصر، ويتجنب الكثير من الإسقاط العبثي للمفاهيم الغربية، الذي يحدث كثيرا في معاملتنا للتراث العربي.
ويبدو من البديهي جدا، أن اختيار الباحث لموضوع ما في الدراسة، له ما يبرره من الناحيتين: الذاتية والموضوعية. ومهما يكن من أمر، فإن الوعي بأهمية البحث في مختلف العلوم، أكبر بكثير من أي تبرير.
فالدافع الذي حرك الكاتب هو رغبته في جمع شتات هذه الأساطير المهملة في كتب التراث، وهَاذا مَا يُؤكِّدهُ بِقولِه: " إِنَّ عَدمَ تَحدِيد مَفهومِ الأُسطورَة، لَن يُساعِد أَبدًا عَلى تَجمِيع هَاذه الأَشيَاء، فِي معجَماتٍ ودَواوِينَ ومَوسُوعَات. "[5]
وَلَعلَّ النَّظرَة الإِقصَائِيَّة السائدة، لِهاذا الجِنس السَّردِيّ التَّخيِيلِيّ؛ كانَت وراء هذا الكتاب المهم الذي أصدره الكاتب بفرنسا. ذالِكَ لأَنَّ أغلب الناس " يَحسِبُون أَنَّ الأُسطُورَةَ هِي جِنسٌ أَدَبِيّ يونَانِيّ؛ لا عَلاقَة لِلعَربِ بِه."[6]
وينقسم الكتاب الى ثمانية أجزاء.
يبحث الجزء الأول في تحديد مفهوم الأسطورة والأسطورة الأخروية.
وفي هذا الجزء من الكتاب تم التركيز على مسألة أدبية جنس الأسطورة، وتنوعها ما بين أسطورة تكوينية وكرامية وعجائبية غرائبية. [7] وبحسب تعبير الكاتب فإن الأسطورة الكرامية تشكل المظهر الأكثر بروزا للأساطير العربية.
يشير الكاتب إلى أن هناك جملة من الأساطير التي لا زالت تعاني الإهمال والإخمال ومن بينها الأساطير الأخروية.
فجعل الكاتب نصب عينيه هدف محدد وهو العمل على إثبات أدبية هذه الأساطير الأخروية. وتجنيسها ضمن جنس الأسطورة العربية، والكشف عن هذا النوع الأسطوري وسماته وبلاغته وإشكالاته، في إطار نحت مشروعه حول الأساطير.
وفي الجزء الثاني يؤرخ الكاتب لنشأة الأسطورة الأخروية في التراث العربي، ويضع تحديدا أكثر دقة لمفهومي الأسطورة والأسطورة الأخروية، فيشير إلى أنه من المفاهيم التي لا تخلو من التباس، فليس هناك مصطلحا جامعا لها، وإنما تستعمل فيه مفاهيم متعددة من قبيل: الفتن، الملاحم، أشراط الساعة، ويربطها الكاتب بــ ( الإسكاطولوجيا) نسبة للغرب، فكل حكي أو سرد مقدس تضمن أحداثا خارقة للعادة يسميه أسطورة ، أما الأسطورة الأخروية في نظره فهي كل أسطورة تتنبأ بالمصير الحتمي المقدور للإنسان والكون، كله أو بعضه، في آخر الزمان، أو في الدار الآخرة.
لقد كان هَدفَ الكاتب مِن ذِكرِ ما سَبق، هُو التَّمهيدُ للوُقوفِ عند جنس الأُسطُورة الأخروية، باعتِبارِها النَّوعَ الأُسطُوريَّ الأَغزَر والأَوفَر فِي المدونة المدروسة، بل فِي التُّراثِ الإسلامي ككل، لاكِنَّنا لا نَجدُ دِراسَاتٍ كثَيرَة فِيها، بِاعتِبارِها نَوعاً أسطُورِيّا، إِلا مِن كُتبِ د.جَعفَر ابنِ الحَاجّ السُّلمِيّ، المُهمَّة فِي مَجَالِ الأسطُورَة .
وفي الجزء الثالث يستمر الكاتب في الكشف عن بدايات الأسطورة الأخروية في التراث العربي.
ليخلص إلى عرض و مناقشة الكيفية التي تم بها تزيف النصوص الدينية بفعل الوضاعين من زنادقة وقصاص، كما يكشف لنا طرق مقاومة هذا التزييف من طرف مجموعة من العلماء الجهابذة.
كما يشرح في هذا الجزء الموقف السني من مدونة الأساطير الأخروية الأولى: كتاب الفتن لنعيم بن حماد ( 229هـ/843-844م)، نموذجا.
ويستعرض الكاتب أيضا كيف أن نعيم بن حماد لم يكن من فئة الزنادقة والقصاص، بل كان سنيا، بذل نفسه لمذهب أهل السنة، ومدونته جماعية تدمج ما هو من خياله وما هو من خيال غيره، الأمر الذي جعل أهل السنة يعرضون عن كتابه، وأفتوا بعدم جواز الاحتجاج به.
وهذا ما أسماه الكاتب بالإخمال والإهمال الديني لهذه الأساطير الأخروية.
ويقوم الجزء الرابع بتحليل أدبية الأساطير الأخروية، من منظور نظرية الأدب ونظرية السرد.
ويخلص الكاتب إلى أن نقد المحدثين المنبثق من صميم الرؤية الدينية السنية، يمكن استثماره في وصف الأساطير الأخروية، وصفا مُنبثقا من نظريتي الأدب والسرد.
ومن هذه المفاهيم النقدية التي تم استثمارها بغية تطوير نقد أسطوري عربي معاصر للأساطير الأخروية وظف الكاتب ما يلي:
أ. التزييف.
ب. المحال.
ت. التأريخ.
ويبيّن الجزء الخامس من الكتاب مفهوم الفتنة باعتباره مفهوما مركزيا في الأسطورة الأخروية. ففساد الزمان، لا يكون إلا بكثرة الفتن، أي البلايا والمحن المتوقع حدوثها في آخر الزمان، قبل أن تظهر أشراط الساعة الكبرى. ومن معانيها: الشرك والإضلال والقتل والصد والضلالة والقضاء والإثم والمرض والعبرة والعفو والاختبار والعذاب والإحراق والجنون.
كما يستعمل مفهوما أخص من الفتنة، وهو مفهوم الملحمة، فكل ملحمة هي فتنة، لكن العكس غير صحيح. ويشير الكاتب إلى مفهوم آخر أعم وأشمل منه وهو أشراط الساعة.
هَاذا إِذا هو البناء، التِي تَقومُ عَلَيها الأُسطورَةُ الأخروية، وَالتِي تَنتَمي إِليها أَغلَبُها، لاكِنَّ الهَدفَ مِن ذِكرِها لَيسَ هُو الغَايةُ الأَساسِيَّة، بَل بُغيَةَ إِثباتِ أَدبِيَّتِها، وَالبَحثِ فِيها، عَنِ الأَشياءِ التِي تَجعَلُ مِنها أَدَبًا وَإِنتاجًا بَشرِيًا. وَهاذِه الأَدبِيَّة تَتحَدَّد مِن خِلالِ سِمَتِها الرَّئيسِيَّة، وَالتِي هِيَ القَداسَة.
فكما فعل الكاتب سابقا[8] مع الأسطورة الكرامية، حيث قام بتجريدها من طابع القداسة، يَقولُ د.ابنُ الحاجِّ السُلمِيِّ في هَاذا الصَّدَد: "ذالِكَ أَنَّ أَدبيَّةَ الأُسطورَةِ الكَرامِيَّة، هِي التِي جَسَّدَت بِصُدورِها عَن الأَساطيرِ القَديمَةِ الجاهِليَّةِ والكُتُبِ المُقدَّسَة، وَتَوظيفُها لِلعَجبِ وَالغَرابَةِ وَالخَرقِ لِلعَوائِد سِمَةَ القَداسَةِ وَمثَّلَتها. لِذالِك، فَإنَّهُ لَيسَ مِنَ المَعقولِ في نَظرِنا أَلاَّ تُوجَدَ أَدبِيَّة الأُسطُورَة الكَرامِيَّة، إِلاَّ بَعدَ تَجريدِها مِن سِمَةِ القَداسَة."[9]
يعود الكاتب هنا مرة أخرى ليجرد الأسطورة الأخروية من طابع القداسة، على اعتبار أن الأسطورة هي تفكير بشريّ وضعيٌّ، لهُ بُعدٌ رمزيٌّ وفكريٌّ، يتميّز بخرق العادة، كما أنه فلسفة بشرية مَصوغَةٌ في قالبٍ غير قالبِ الفلسفة العَقلانية، عبر توظيفه لثلاثة مفاهيم أساسية:
بناء الأسطورة الأُخروية:
التزييف: التأريخ - المُحال:
( يقوم على التخييل) - (المؤرخ هو المسطر) - (العجب)
نلاحظ أن هذه النصوص المدروسة، تنتظم ضمن عنصر ثابت، هو ثنائيّة الإسناد والمتن، ويعد هذا الأخير، من أهمّ الخصائص التي ركّز عليها الخطاب النّثريّ القديم، الذي اعتُبرها شرطا من شروط الكتابة النّثريّة عند القدامى.
ولقد سعى نعيم إلى إظهار السند ونسبته لمركز القداسة )النُبوة(، بصيغة تختلف عن تلك الأسانيد التي تصبّ في إطار منهجيّ تقليديّ، إذ مع اختلاف الصّيغ التي ترد للسّند، ومع تقنيّات القصّ في السلسلة، تصبح قصّة داخل قصّة أخرى، وذلك لجذب القارئ.
من الواضح أنّ الإسناد والمتن جزئيتان انبثقتا من علم الحديث، للخوض في علم الجرح والتعديل للكشف عن مصداقية الخبر، وقد تأثر الأدب من ذلك، إلا أن هذه المعايير تحولت تدريجيا، وذلك بدخول الإمتاع والإفادة .
إذا انطلقنا من القول، بأنه "فِي البَدءِ كَانتِ الأُسطُورَة، بَل كانَت قَبل العِلمِ وَالتَّارِيخ. بَل مِنَ الأُسطورَة كَان التَّارِيخ. وَلا شَكَّ عِندَنا فِي أنَّ المُسطِّر، أَي كَاتِبَ الأسَاطِير وَمُقيِّدَها وحَاكِيَها، هُوَ المُؤَرِّخ. بَل كَثِيرًا مَا يَكُون المُؤَرِّخُ مُسَطِّرًا، وَالمُسَطِّرُ مُؤَرِّخا."[10]
فيما يقدم الجزء السادس تحليلاً حول تحول الأسطورة الأخروية إلى الأسطورة الجفرية والحدثانية، ويطرح الكاتب تساؤلا حول مسار الأساطير الأخروية، هل هو نهاية أم تطور؟
لينتهي إلى الحكم بأن الأساطير لا تفنى ولا تتلاشى، ولكنها تتطور، وخير مثال على ذلك، الأبراج والتنجيم وقراءة الكف وغيرها من المظاهر.
ويخلص الكاتب في الجزء السابع إلى وضع ملحق بنصوص فتنية جفرية ملحمية، فيما خصص الكاتب الجزء الثامن إلى فهرس المصادر والمراجع المعتمدة في إنجاز الكتاب.
نشير أخيرا إلى أنه من مزايا هذا الكتاب، التحديد الدقيق للمصطلحات النقدية المرتبطة بالأساطير الأخروية، وتأصيلها وتجذيرها في ثقافتنا العربية وذلك في نطاق مدونات الأساطير الأخروية الأولى: كتاب الفتن لنعيم بن حماد، نموذجا.
أَمّا قَبل، وَنحنُ نَطوي، آخِرَ صَفحَةٍ مِن هاذا العرض المُتواضِع. نَجدُ أنَّه عَلَينا، أَن نُحصِيَ النّتائجَ التِي خَلُص إِلَيها، وَالأفكارَ الجَديدَة التي تضمنها. والتي نجمعها فيما يَأتي :
عِندَ الاِطلاعِ على التُّراثِ العربي الفقهي، في ضوء كتاب (الفتن)، لنعيم بن حماد، نَجِدُ أَنَّه يَزخَرُ بِأجنَاسَ نَثريَّةٍ مُتعدِّدَة، وَهُو الأَمرُ الذِي ساعَدَ عَلى بُروزِ مِثلِ هاذِه الأَجناسِ الإِبداعِيَّةِ التَّخيِيلِيَّة، المُتجَذِّرَةِ في عُمقِ الثقافَةِ العربية، حَيثُ مَكنَتهُم مِنَ التَّعبيرِ عَن وَاقِعهِم وَتطلُّعاتِهِم، بِنمَطٍ خارِجٍ عَنِ المَألُوف، وَأبرَزُ جِنسٍ يُمكِنُ الحَديثُ عَنهُ في سِياقِ كَهاذا هُو الأُسطورَة الأخروية.
لَقد ظَلَّتِ الأُسطورَةُ لِمُدَّة، فِي نَظرِ مَن لَم يَطلِع عَليها، شَيئا خاصًّا بِمن هُم غَيرُنا، أَي خِطابَ الغَيرِ لَيسَ لَنا مِنهُ شَيء، وَلعلَّ إِثارَةَ أُستاذِنا لِلموضُوع، وَلَمِّ جَوانِبهِ وَسِماتِهِ الرَّئيسَة، جَعل مِنهُ أَمرا بَيِّنا؛ إِلا لِمَن يُريدُ غَضَّ الطَّرفِ عَنه، فكلَّ مَن يَقرأُ هاذِه النُّصوصَ الأُسطورِيَّة الأخروية ، التِي ذَكَرناها حَولَ نصوص نعيم الفتنية، قَد لا يَعتَبرُها نُصوصًا أُسطورِيَّة، وَذالِكَ رُبَّما راجِعٌ إِلى إِعمالِهِ المَقاييسَ الغَربِيَّةَ لِلأسطورَة، " لكِنَّها مِنَ المَنظورِ العَربِيّ، هِيَ مِن الأَساطير، لأَنَّ لَها كُلَّ خَصائِصِ وَسِماتِ الأُسطورَة، كَما دَرَسناها وَتَصوَّرنَاها، أَي السَّردُ وَالقَداسَة، وَالزَّمَنُ الأُسطورِي، وَالأَعمالُ أو الأَحداثُ الخارِقَة، التِي تَترَتَّبُ عَنها أَشيَاء؛ لا تَتفَسَّرُ مِنَ المَنظورِ الأُسطورِيّ، إِلا بِما جَرَى فِي الزَّمنِ الأُسطورِيّ."[11]
مِن خِلالِ هَاذا، يَتبَيَّن لَنا أَنّ عَدمَ وُجودِ تَفسِير لِمفهُومِ الأُسطورَةِ الأخروية، هُو الذِي جَعلهَا مُغيَّبة عَن أَدبِنَا، وَهوَ الشَّيءُ الذِي انتَبهَ إِلَيهِ د.جَعفَر ابنُ الحَاجِّ السُلمِي، حَيثُ اتَّجهَ إِلى الاِهتِمامِ بِها، وَتَفسِيرها، بَلِ الأَهمّ مِن ذَالكَ إِدمَاجُها ضِمنَ نَظرِيَّةِ الأَدبِ، لعد ما لاقته من الإهمال والإخمال في المجال الديني.
فَنَجدُ الكاتب قَد أَعطَاها تَعرِيفا مُحدَّدا وَدقِيقا، وأَلحَقهَا بِأصلِها داخِل المَنظومَة الأَدبيَّة التي ظلَّت لِمدَّة غَائِبة عَنه، فَالأسطُورَة إِذا "بِما هِي أَخبَار وَأحَادِيث نَثريَّة، يُميِّزها البَاطلُ وخَرقُ العَادَة قَبلَ كُلِّ شَيء، مُندَرجةٌ ضِمنَ مَنظومَةٍ أَدبِيَّة عَامَّة، هي النَّثر، وَلا سِيمَا السَّردُ النَّثرِيّ مِنه."[12]
الأُسطُورَة بِما تَحمِلهُ مِن سِماتٍ كُبرَى لِلسَّردِ النَّثري، كاف لأن يجعَلُها جنسا مِن أَجناسِه، رُفقَةَ أَجنَاسَ أُخرَى، كَالحِكايَةِ والمُذكِّرةِ والرِّحلَةِ وَهلُمَّ جَرّا...
إن ما كان يشغل الباحث في هذا الكتاب هو تفهم طبيعة هذه النصوص الدينية وتجنيسها في إطارها ، وليس القصد إفراغها من معناها، بل إثبات أن هناك ثمة مساحة مشروعة داخل النص الديني، قام نُعيم بن حماد باستغلالها وربطها بنصوصه، وقد تطلب من الكاتب ذلك، مُسايرة نصوص نُعيم الفتية وسبر أغوارها، قصد إماطة اللثام عن السمات البلاغية المخصوصة التي تتضمنها هذه الأساطير الأخروية، و التي تنقل لنا حكايات خيالية[13] كاملة، لها بداية ونهاية، ذات حمولات دلالية عالية، تقوم على علاقة مكونة من ثلاثة أبعاد هي: فساد الزمان، أشراط الساعة الصغرى، ثم علامات الساعة الكبرى، عبَر الكاتب عن هذه العلاقة من خلال عنوان الكتاب نفسه (الفتن).
المصادر والمراجع:
[SIZE=4]· الأساطير الأخروية العربية، من الإهمال والإخمال الديني، إلى سؤال الشرعية الأدبية والأسطورية، للدكتور جعفر ابن الحاج السلمي.[/SIZE]
· الأُسطُورَة المَغربيَّة، دراسَة نقدِيَّة في المَفهُوم والجِنس، لجَعفَر ابن الحَاجّ السّلَمِيّ. مَنشُوراتُ الجَمعيةِ المَغربيةِ للدِّراسَاتِ الأندلسيَّة. تطوان. 1423هـ - 2003م.
· تحقيق النصوص التراثية(التصور والواقع)، الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم: 132. د.ت.
[SIZE=4]· فصول في نظرية الأدب المغربي والأسطورة، للدكتور جعفر ابن الحاج السلمي، منشورات جمعية تطاوين أسمير، مطبعة الخليخ العربي، تطوان. 1430هـ/2009م.
[/SIZE]
[1] مداخلة تقدمت بها في ندوة بجامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، في ندوة علمية عن كتاب الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي: الأساطير الأخروية العربية، من الإهمال والإخمال الديني إلى سؤال الشرعية الأدبية الأسطورية، تنسيق: محمد مشبال، بتاريخ: الأربعاء 28 مارس 2018.
[2] صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية، عدد45، سلسلة كراسات مراصد، مارس 2018، مكتبة الاسكندرية، وهو بحث قد شارك به الكاتب في ندوة بيروت التي نظمها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى عام 2015، بإشراف د. إياس حسن، في إطار مشروع الأدب على هامش الأدب.
[3] أستاذ الدراسات المغربية والأندلسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وصاحب اليد الطّولى في مجالي التأليف والتحقيق
[4] الأُسطُورَة، هي كُلُّ حَكيٍ أَو سَردٍ تَضمَّن أَحداثًا أو تَقريرَاتٍ خَارقَةٍ لِقوَانينِ الطَّبيعَة، وَالعِلم، وَالتَّاريخ، وَحتى الدِّين. وَهيَ عِندَنا خَيالٌ لَطيفٌ يَحضُر عِندَما يَغيبُ التَّاريخ، وَأحيَانا حَتى فِي حُضورِه، أنظر: فصول في نظرية الأدب المغربي، د.جعفر ابن الحاج السلمي، ص: 123.
[5] - الأسطورة المغربية، د.جعفرابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 17.
[6] فصول في نظرية الأدب المغربي، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص : 14.
[7] الأسطورة المغربية، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 17 وما بعدها.
[8] الأسطورة المغربية القديمة. دراسة تمهيدية. أطروحة لدكتوراه الدولة. كلية الاداب بفاس. 1416هـ/1995م. جزءان.
. الأسطورة المغربية، د. جعفرابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 168-[9]
[10] - فصول في نظرية الأدب والأسطورة، د. جعفرابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 123.
[11] - فصول في نظرية الأدب، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 137.
[12] - الأسطورة المغربية، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 85.
[13]-الحكاية لفظ عام يدا على قصة متخيلة،أو على حدث تاريخي خاص،بهدف إلقاء الضوء على خفايا الأمور أو على نفس البشر. كما يدل على أي سرد منسوب إلى راو.
ولكن كيف يمكننا الحديث عن لغة أدبية واصفة في مدونة فقهية؟
وهل ستسعف الكاتب هذه النصوص التي عول عليها، رصدا لأهم سمات الأساطير الأخروية، ومراحل تطورها؟
والحق أن الكتاب الذي بين أيدينا يحمل في طياته رصيدا اصطلاحيا نقديا مهما، له حمولته المعرفية و مفهوميته المشتركة، إذ عمل الكاتب على الإنصات الجيد لهذه النصوص الأسطورية، وخلص إلى تحصيل ودرس مجموعة من السمات و المصطلحات النقدية الأصلية الواردة في نطاق مدونات الأساطير الأخروية الأولى ( كتاب الفتن لنعيم بن حماد أنموذجا)، وجرد مدلولاتها.
في إطار البحث عن نظرية نقدية للأنواع الأسطورية الأدبية، عمل الكاتب على تجاوز المصادر الأدبية والنقدية التقليدية، ليستثمر مصدرا فقهيا في الدرس النقدي، المتمثل في كتاب (الفتن) لنعيم بن حماد كما ذكرنا، وخصوصا المجال الاصطلاحي منه.
فيتساءل الكاتب عن إمكانية التحدث عن أدبية الأساطير الأخروية، في أفق تطوير نظرية نقدية تخص هذا النوع الأدبي.
وهذه التساؤلات الجادة والمحورية، التي أسقطها الكاتب على المدونة الفقهية، رصدا لأهم السمات الأدبية و المصطلحات النقدية الواردة فيها، تتغيى بالأساس تطوير معجم عربي مغربي معاصر وشامل، يواكب تطور نظرية الأجناس الأدبية، والبحث النقدي المعاصر، ويتجنب الكثير من الإسقاط العبثي للمفاهيم الغربية، الذي يحدث كثيرا في معاملتنا للتراث العربي.
ويبدو من البديهي جدا، أن اختيار الباحث لموضوع ما في الدراسة، له ما يبرره من الناحيتين: الذاتية والموضوعية. ومهما يكن من أمر، فإن الوعي بأهمية البحث في مختلف العلوم، أكبر بكثير من أي تبرير.
فالدافع الذي حرك الكاتب هو رغبته في جمع شتات هذه الأساطير المهملة في كتب التراث، وهَاذا مَا يُؤكِّدهُ بِقولِه: " إِنَّ عَدمَ تَحدِيد مَفهومِ الأُسطورَة، لَن يُساعِد أَبدًا عَلى تَجمِيع هَاذه الأَشيَاء، فِي معجَماتٍ ودَواوِينَ ومَوسُوعَات. "[5]
وَلَعلَّ النَّظرَة الإِقصَائِيَّة السائدة، لِهاذا الجِنس السَّردِيّ التَّخيِيلِيّ؛ كانَت وراء هذا الكتاب المهم الذي أصدره الكاتب بفرنسا. ذالِكَ لأَنَّ أغلب الناس " يَحسِبُون أَنَّ الأُسطُورَةَ هِي جِنسٌ أَدَبِيّ يونَانِيّ؛ لا عَلاقَة لِلعَربِ بِه."[6]
وينقسم الكتاب الى ثمانية أجزاء.
يبحث الجزء الأول في تحديد مفهوم الأسطورة والأسطورة الأخروية.
وفي هذا الجزء من الكتاب تم التركيز على مسألة أدبية جنس الأسطورة، وتنوعها ما بين أسطورة تكوينية وكرامية وعجائبية غرائبية. [7] وبحسب تعبير الكاتب فإن الأسطورة الكرامية تشكل المظهر الأكثر بروزا للأساطير العربية.
يشير الكاتب إلى أن هناك جملة من الأساطير التي لا زالت تعاني الإهمال والإخمال ومن بينها الأساطير الأخروية.
فجعل الكاتب نصب عينيه هدف محدد وهو العمل على إثبات أدبية هذه الأساطير الأخروية. وتجنيسها ضمن جنس الأسطورة العربية، والكشف عن هذا النوع الأسطوري وسماته وبلاغته وإشكالاته، في إطار نحت مشروعه حول الأساطير.
وفي الجزء الثاني يؤرخ الكاتب لنشأة الأسطورة الأخروية في التراث العربي، ويضع تحديدا أكثر دقة لمفهومي الأسطورة والأسطورة الأخروية، فيشير إلى أنه من المفاهيم التي لا تخلو من التباس، فليس هناك مصطلحا جامعا لها، وإنما تستعمل فيه مفاهيم متعددة من قبيل: الفتن، الملاحم، أشراط الساعة، ويربطها الكاتب بــ ( الإسكاطولوجيا) نسبة للغرب، فكل حكي أو سرد مقدس تضمن أحداثا خارقة للعادة يسميه أسطورة ، أما الأسطورة الأخروية في نظره فهي كل أسطورة تتنبأ بالمصير الحتمي المقدور للإنسان والكون، كله أو بعضه، في آخر الزمان، أو في الدار الآخرة.
لقد كان هَدفَ الكاتب مِن ذِكرِ ما سَبق، هُو التَّمهيدُ للوُقوفِ عند جنس الأُسطُورة الأخروية، باعتِبارِها النَّوعَ الأُسطُوريَّ الأَغزَر والأَوفَر فِي المدونة المدروسة، بل فِي التُّراثِ الإسلامي ككل، لاكِنَّنا لا نَجدُ دِراسَاتٍ كثَيرَة فِيها، بِاعتِبارِها نَوعاً أسطُورِيّا، إِلا مِن كُتبِ د.جَعفَر ابنِ الحَاجّ السُّلمِيّ، المُهمَّة فِي مَجَالِ الأسطُورَة .
وفي الجزء الثالث يستمر الكاتب في الكشف عن بدايات الأسطورة الأخروية في التراث العربي.
ليخلص إلى عرض و مناقشة الكيفية التي تم بها تزيف النصوص الدينية بفعل الوضاعين من زنادقة وقصاص، كما يكشف لنا طرق مقاومة هذا التزييف من طرف مجموعة من العلماء الجهابذة.
كما يشرح في هذا الجزء الموقف السني من مدونة الأساطير الأخروية الأولى: كتاب الفتن لنعيم بن حماد ( 229هـ/843-844م)، نموذجا.
ويستعرض الكاتب أيضا كيف أن نعيم بن حماد لم يكن من فئة الزنادقة والقصاص، بل كان سنيا، بذل نفسه لمذهب أهل السنة، ومدونته جماعية تدمج ما هو من خياله وما هو من خيال غيره، الأمر الذي جعل أهل السنة يعرضون عن كتابه، وأفتوا بعدم جواز الاحتجاج به.
وهذا ما أسماه الكاتب بالإخمال والإهمال الديني لهذه الأساطير الأخروية.
ويقوم الجزء الرابع بتحليل أدبية الأساطير الأخروية، من منظور نظرية الأدب ونظرية السرد.
ويخلص الكاتب إلى أن نقد المحدثين المنبثق من صميم الرؤية الدينية السنية، يمكن استثماره في وصف الأساطير الأخروية، وصفا مُنبثقا من نظريتي الأدب والسرد.
ومن هذه المفاهيم النقدية التي تم استثمارها بغية تطوير نقد أسطوري عربي معاصر للأساطير الأخروية وظف الكاتب ما يلي:
أ. التزييف.
ب. المحال.
ت. التأريخ.
ويبيّن الجزء الخامس من الكتاب مفهوم الفتنة باعتباره مفهوما مركزيا في الأسطورة الأخروية. ففساد الزمان، لا يكون إلا بكثرة الفتن، أي البلايا والمحن المتوقع حدوثها في آخر الزمان، قبل أن تظهر أشراط الساعة الكبرى. ومن معانيها: الشرك والإضلال والقتل والصد والضلالة والقضاء والإثم والمرض والعبرة والعفو والاختبار والعذاب والإحراق والجنون.
هَاذا إِذا هو البناء، التِي تَقومُ عَلَيها الأُسطورَةُ الأخروية، وَالتِي تَنتَمي إِليها أَغلَبُها، لاكِنَّ الهَدفَ مِن ذِكرِها لَيسَ هُو الغَايةُ الأَساسِيَّة، بَل بُغيَةَ إِثباتِ أَدبِيَّتِها، وَالبَحثِ فِيها، عَنِ الأَشياءِ التِي تَجعَلُ مِنها أَدَبًا وَإِنتاجًا بَشرِيًا. وَهاذِه الأَدبِيَّة تَتحَدَّد مِن خِلالِ سِمَتِها الرَّئيسِيَّة، وَالتِي هِيَ القَداسَة.
فكما فعل الكاتب سابقا[8] مع الأسطورة الكرامية، حيث قام بتجريدها من طابع القداسة، يَقولُ د.ابنُ الحاجِّ السُلمِيِّ في هَاذا الصَّدَد: "ذالِكَ أَنَّ أَدبيَّةَ الأُسطورَةِ الكَرامِيَّة، هِي التِي جَسَّدَت بِصُدورِها عَن الأَساطيرِ القَديمَةِ الجاهِليَّةِ والكُتُبِ المُقدَّسَة، وَتَوظيفُها لِلعَجبِ وَالغَرابَةِ وَالخَرقِ لِلعَوائِد سِمَةَ القَداسَةِ وَمثَّلَتها. لِذالِك، فَإنَّهُ لَيسَ مِنَ المَعقولِ في نَظرِنا أَلاَّ تُوجَدَ أَدبِيَّة الأُسطُورَة الكَرامِيَّة، إِلاَّ بَعدَ تَجريدِها مِن سِمَةِ القَداسَة."[9]
يعود الكاتب هنا مرة أخرى ليجرد الأسطورة الأخروية من طابع القداسة، على اعتبار أن الأسطورة هي تفكير بشريّ وضعيٌّ، لهُ بُعدٌ رمزيٌّ وفكريٌّ، يتميّز بخرق العادة، كما أنه فلسفة بشرية مَصوغَةٌ في قالبٍ غير قالبِ الفلسفة العَقلانية، عبر توظيفه لثلاثة مفاهيم أساسية:
بناء الأسطورة الأُخروية:
التزييف: التأريخ - المُحال:
( يقوم على التخييل) - (المؤرخ هو المسطر) - (العجب)
نلاحظ أن هذه النصوص المدروسة، تنتظم ضمن عنصر ثابت، هو ثنائيّة الإسناد والمتن، ويعد هذا الأخير، من أهمّ الخصائص التي ركّز عليها الخطاب النّثريّ القديم، الذي اعتُبرها شرطا من شروط الكتابة النّثريّة عند القدامى.
ولقد سعى نعيم إلى إظهار السند ونسبته لمركز القداسة )النُبوة(، بصيغة تختلف عن تلك الأسانيد التي تصبّ في إطار منهجيّ تقليديّ، إذ مع اختلاف الصّيغ التي ترد للسّند، ومع تقنيّات القصّ في السلسلة، تصبح قصّة داخل قصّة أخرى، وذلك لجذب القارئ.
من الواضح أنّ الإسناد والمتن جزئيتان انبثقتا من علم الحديث، للخوض في علم الجرح والتعديل للكشف عن مصداقية الخبر، وقد تأثر الأدب من ذلك، إلا أن هذه المعايير تحولت تدريجيا، وذلك بدخول الإمتاع والإفادة .
إذا انطلقنا من القول، بأنه "فِي البَدءِ كَانتِ الأُسطُورَة، بَل كانَت قَبل العِلمِ وَالتَّارِيخ. بَل مِنَ الأُسطورَة كَان التَّارِيخ. وَلا شَكَّ عِندَنا فِي أنَّ المُسطِّر، أَي كَاتِبَ الأسَاطِير وَمُقيِّدَها وحَاكِيَها، هُوَ المُؤَرِّخ. بَل كَثِيرًا مَا يَكُون المُؤَرِّخُ مُسَطِّرًا، وَالمُسَطِّرُ مُؤَرِّخا."[10]
فيما يقدم الجزء السادس تحليلاً حول تحول الأسطورة الأخروية إلى الأسطورة الجفرية والحدثانية، ويطرح الكاتب تساؤلا حول مسار الأساطير الأخروية، هل هو نهاية أم تطور؟
لينتهي إلى الحكم بأن الأساطير لا تفنى ولا تتلاشى، ولكنها تتطور، وخير مثال على ذلك، الأبراج والتنجيم وقراءة الكف وغيرها من المظاهر.
ويخلص الكاتب في الجزء السابع إلى وضع ملحق بنصوص فتنية جفرية ملحمية، فيما خصص الكاتب الجزء الثامن إلى فهرس المصادر والمراجع المعتمدة في إنجاز الكتاب.
نشير أخيرا إلى أنه من مزايا هذا الكتاب، التحديد الدقيق للمصطلحات النقدية المرتبطة بالأساطير الأخروية، وتأصيلها وتجذيرها في ثقافتنا العربية وذلك في نطاق مدونات الأساطير الأخروية الأولى: كتاب الفتن لنعيم بن حماد، نموذجا.
أَمّا قَبل، وَنحنُ نَطوي، آخِرَ صَفحَةٍ مِن هاذا العرض المُتواضِع. نَجدُ أنَّه عَلَينا، أَن نُحصِيَ النّتائجَ التِي خَلُص إِلَيها، وَالأفكارَ الجَديدَة التي تضمنها. والتي نجمعها فيما يَأتي :
عِندَ الاِطلاعِ على التُّراثِ العربي الفقهي، في ضوء كتاب (الفتن)، لنعيم بن حماد، نَجِدُ أَنَّه يَزخَرُ بِأجنَاسَ نَثريَّةٍ مُتعدِّدَة، وَهُو الأَمرُ الذِي ساعَدَ عَلى بُروزِ مِثلِ هاذِه الأَجناسِ الإِبداعِيَّةِ التَّخيِيلِيَّة، المُتجَذِّرَةِ في عُمقِ الثقافَةِ العربية، حَيثُ مَكنَتهُم مِنَ التَّعبيرِ عَن وَاقِعهِم وَتطلُّعاتِهِم، بِنمَطٍ خارِجٍ عَنِ المَألُوف، وَأبرَزُ جِنسٍ يُمكِنُ الحَديثُ عَنهُ في سِياقِ كَهاذا هُو الأُسطورَة الأخروية.
لَقد ظَلَّتِ الأُسطورَةُ لِمُدَّة، فِي نَظرِ مَن لَم يَطلِع عَليها، شَيئا خاصًّا بِمن هُم غَيرُنا، أَي خِطابَ الغَيرِ لَيسَ لَنا مِنهُ شَيء، وَلعلَّ إِثارَةَ أُستاذِنا لِلموضُوع، وَلَمِّ جَوانِبهِ وَسِماتِهِ الرَّئيسَة، جَعل مِنهُ أَمرا بَيِّنا؛ إِلا لِمَن يُريدُ غَضَّ الطَّرفِ عَنه، فكلَّ مَن يَقرأُ هاذِه النُّصوصَ الأُسطورِيَّة الأخروية ، التِي ذَكَرناها حَولَ نصوص نعيم الفتنية، قَد لا يَعتَبرُها نُصوصًا أُسطورِيَّة، وَذالِكَ رُبَّما راجِعٌ إِلى إِعمالِهِ المَقاييسَ الغَربِيَّةَ لِلأسطورَة، " لكِنَّها مِنَ المَنظورِ العَربِيّ، هِيَ مِن الأَساطير، لأَنَّ لَها كُلَّ خَصائِصِ وَسِماتِ الأُسطورَة، كَما دَرَسناها وَتَصوَّرنَاها، أَي السَّردُ وَالقَداسَة، وَالزَّمَنُ الأُسطورِي، وَالأَعمالُ أو الأَحداثُ الخارِقَة، التِي تَترَتَّبُ عَنها أَشيَاء؛ لا تَتفَسَّرُ مِنَ المَنظورِ الأُسطورِيّ، إِلا بِما جَرَى فِي الزَّمنِ الأُسطورِيّ."[11]
مِن خِلالِ هَاذا، يَتبَيَّن لَنا أَنّ عَدمَ وُجودِ تَفسِير لِمفهُومِ الأُسطورَةِ الأخروية، هُو الذِي جَعلهَا مُغيَّبة عَن أَدبِنَا، وَهوَ الشَّيءُ الذِي انتَبهَ إِلَيهِ د.جَعفَر ابنُ الحَاجِّ السُلمِي، حَيثُ اتَّجهَ إِلى الاِهتِمامِ بِها، وَتَفسِيرها، بَلِ الأَهمّ مِن ذَالكَ إِدمَاجُها ضِمنَ نَظرِيَّةِ الأَدبِ، لعد ما لاقته من الإهمال والإخمال في المجال الديني.
فَنَجدُ الكاتب قَد أَعطَاها تَعرِيفا مُحدَّدا وَدقِيقا، وأَلحَقهَا بِأصلِها داخِل المَنظومَة الأَدبيَّة التي ظلَّت لِمدَّة غَائِبة عَنه، فَالأسطُورَة إِذا "بِما هِي أَخبَار وَأحَادِيث نَثريَّة، يُميِّزها البَاطلُ وخَرقُ العَادَة قَبلَ كُلِّ شَيء، مُندَرجةٌ ضِمنَ مَنظومَةٍ أَدبِيَّة عَامَّة، هي النَّثر، وَلا سِيمَا السَّردُ النَّثرِيّ مِنه."[12]
الأُسطُورَة بِما تَحمِلهُ مِن سِماتٍ كُبرَى لِلسَّردِ النَّثري، كاف لأن يجعَلُها جنسا مِن أَجناسِه، رُفقَةَ أَجنَاسَ أُخرَى، كَالحِكايَةِ والمُذكِّرةِ والرِّحلَةِ وَهلُمَّ جَرّا...
إن ما كان يشغل الباحث في هذا الكتاب هو تفهم طبيعة هذه النصوص الدينية وتجنيسها في إطارها ، وليس القصد إفراغها من معناها، بل إثبات أن هناك ثمة مساحة مشروعة داخل النص الديني، قام نُعيم بن حماد باستغلالها وربطها بنصوصه، وقد تطلب من الكاتب ذلك، مُسايرة نصوص نُعيم الفتية وسبر أغوارها، قصد إماطة اللثام عن السمات البلاغية المخصوصة التي تتضمنها هذه الأساطير الأخروية، و التي تنقل لنا حكايات خيالية[13] كاملة، لها بداية ونهاية، ذات حمولات دلالية عالية، تقوم على علاقة مكونة من ثلاثة أبعاد هي: فساد الزمان، أشراط الساعة الصغرى، ثم علامات الساعة الكبرى، عبَر الكاتب عن هذه العلاقة من خلال عنوان الكتاب نفسه (الفتن).
المصادر والمراجع:
[SIZE=4]· الأساطير الأخروية العربية، من الإهمال والإخمال الديني، إلى سؤال الشرعية الأدبية والأسطورية، للدكتور جعفر ابن الحاج السلمي.[/SIZE]
· الأُسطُورَة المَغربيَّة، دراسَة نقدِيَّة في المَفهُوم والجِنس، لجَعفَر ابن الحَاجّ السّلَمِيّ. مَنشُوراتُ الجَمعيةِ المَغربيةِ للدِّراسَاتِ الأندلسيَّة. تطوان. 1423هـ - 2003م.
· تحقيق النصوص التراثية(التصور والواقع)، الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم: 132. د.ت.
[SIZE=4]· فصول في نظرية الأدب المغربي والأسطورة، للدكتور جعفر ابن الحاج السلمي، منشورات جمعية تطاوين أسمير، مطبعة الخليخ العربي، تطوان. 1430هـ/2009م.
[/SIZE]
[1] مداخلة تقدمت بها في ندوة بجامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، في ندوة علمية عن كتاب الدكتور جعفر ابن الحاج السلمي: الأساطير الأخروية العربية، من الإهمال والإخمال الديني إلى سؤال الشرعية الأدبية الأسطورية، تنسيق: محمد مشبال، بتاريخ: الأربعاء 28 مارس 2018.
[2] صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية، عدد45، سلسلة كراسات مراصد، مارس 2018، مكتبة الاسكندرية، وهو بحث قد شارك به الكاتب في ندوة بيروت التي نظمها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى عام 2015، بإشراف د. إياس حسن، في إطار مشروع الأدب على هامش الأدب.
[3] أستاذ الدراسات المغربية والأندلسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، وصاحب اليد الطّولى في مجالي التأليف والتحقيق
[4] الأُسطُورَة، هي كُلُّ حَكيٍ أَو سَردٍ تَضمَّن أَحداثًا أو تَقريرَاتٍ خَارقَةٍ لِقوَانينِ الطَّبيعَة، وَالعِلم، وَالتَّاريخ، وَحتى الدِّين. وَهيَ عِندَنا خَيالٌ لَطيفٌ يَحضُر عِندَما يَغيبُ التَّاريخ، وَأحيَانا حَتى فِي حُضورِه، أنظر: فصول في نظرية الأدب المغربي، د.جعفر ابن الحاج السلمي، ص: 123.
[5] - الأسطورة المغربية، د.جعفرابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 17.
[6] فصول في نظرية الأدب المغربي، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص : 14.
[7] الأسطورة المغربية، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 17 وما بعدها.
[8] الأسطورة المغربية القديمة. دراسة تمهيدية. أطروحة لدكتوراه الدولة. كلية الاداب بفاس. 1416هـ/1995م. جزءان.
. الأسطورة المغربية، د. جعفرابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 168-[9]
[10] - فصول في نظرية الأدب والأسطورة، د. جعفرابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 123.
[11] - فصول في نظرية الأدب، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 137.
[12] - الأسطورة المغربية، د. جعفر ابنُ الحَاجّ السُّلَميّ، ص: 85.
[13]-الحكاية لفظ عام يدا على قصة متخيلة،أو على حدث تاريخي خاص،بهدف إلقاء الضوء على خفايا الأمور أو على نفس البشر. كما يدل على أي سرد منسوب إلى راو.