عبد القدوس التجكاني - شعرية اللغة في المجموعة القصصية ليسقط الصمت لخناثة بنونة

شعرية اللغة في المجموعة القصصية "ليسقط الصمت " لخناثة بنونة:
إن أول ما يتبادر إلى أذهاننا بعد قراءة المجموعة القصصية "ليسقط الصمت" هو اللغة الشعرية التي اعتمدتها الكاتبة في سردها، فأغلب القصص إن لم نقل كلها، يطغى عليه طابع الشعرية لدرجة قد يتوهم فيها القارئ أنه أمام قصائد نثرية، ولعل سبب ذلك هيمنة البعد الإيحائي على الجانب التواصلي في لغة الكاتبة من خلال تكثيفاتها الاستعارية والتصويرية في قالب سردي تسيده الانزياح وخرق المألوف في المعنى.
وهنا نتساءل:
ـ كيف غلب طابع الشعرية على السرد في المجموعة القصصية؟
ـ أين تتجلى مظاهر الانزياح في لغة الكاتبة؟
كيف وظفت الكاتبة اللغة في تناول شخصية البطل الأنثوي؟
1) مظاهر الانزياح في السرد:
إن عنصر الشعرية بارز بقوة في هذه المجموعة القصصية، ويتجلى ذلك في اقتراب لغتها من الشعر، وهذه السمة تطالعنا للوهلة الأولى من خلال عنوان المجموعة وبعض عناوين القصص التي اختارت الكاتبة أن تضفي عليها صفة الإيحاء كما هو الحال في العناوين (الصمت الممزق، عاصفة من عبير، ليسقط الصمت)، وحسبنا هذا الأخير مثالا على ذلك، فالكاتبة انتقته عنوانا بارزا على غلاف المجموعة نظرا للدلالات الإيحائية التي يتضمنها من خلال تركيبه اللغوي الذي أسند فيه الفاعل المعنوي "الصمت" إلى فعل مادي "يسقط"، كما أشرنا إلى ذلك سابقا في دراسة دلالة العنوان، إذ مزجت فيه خناثة بنونة بين مكونين بلاغين: الأول مرتبط بعلم البيان من خلال الاستعارة المكنية في إسناد ما هو معنوي إلى ما هو محسوس، والثاني متعلق بعلم المعاني، وذلك بتوظيفها أسلوب الأمر عن طريق استعمالها لام الأمر مع الفعل المضارع (يسقط)، مما يدل على انفعالية الكاتبة التي تطلق صرخة من أجل إسقاط الصمت الذي جثم على صدر المرأة عقودا من الزمن في مجتمع أبوي همش المرأة تهميشا.
هكذا استعملت الكاتبة لغة شعرية تصويرية في عنونة مجموعتها القصصية قبل أن تبلغ هذه الشعرية أوجها في المتن السردي، إذ نجد الكاتبة تُذكي جذوة الانزياح في سردها، وهي تتوسل باستعارات ومجازات وتشبيهات خلقت لدى المتلقي توترا في استيعاب مضامين القصة ومقوماتها السردية كما فعلت في قصة "عاصفة من عبير" حين ارتفع أوار شعريتها وهي تنأى بقصتها نحو عالم الشعر مهمشة عناصر السرد (الحدث، الشخصيات...) مطلقة العنان لقريحتها على لسان رجل يخاطب المرأة مستسلما لعنفوانها، معترفا بكيانها بعدما انحنى لعاصفة من عبير، والانزياح هنا واضح فالعاصفة تدل على الاضطراب، أما العبير فدال على الطيب والأريج والهدوء، ولعل الكاتبة تقصد به عاصفة المرأة التي تنتظرها لتجتث جذور الأبوية من مجتمعها، فيرضخ الرجل ويسلم بأن المرأة كفء له.
لقد وظفت خناثة بنونة في هذه القصة لغة تصويرية محضة وهي تتحدث بلسان رجل يخاطب المرأة دون عقدة الأبوية، متوسلة في ذلك باستعارات وتشبيهات ومجازات كما هو واضح في هذا المقطع "أنت يا مبخرة ند تنعش تراكم السنين في عروقي.. تذيبها تحيلها إلى هنيهة ضائعة.. كنت أقطن فجاج السلام، وأمرح بين أعطاف الهدوء، وأتجرع دقائق عمري، وكنت واضحا كقماءة.. ولكني الآن فقدت مرافئي فانزلقت أمخر عباب الهلاك، وأعب من سعير الأشواق" .
إن قارئ هذا المقطع قد يخاله للوهلة الأولى خاطرة أو قصيدة نثر لكثرة الأساليب البلاغية فيه، من قبيل:
ـ الاستعارة: (فجاج السلام، أعطاف الهدوء، عباب الهلاك، سعير الأشواق..).
ـ التشبيه (كنت واضحا كقماءة...).
إن طغيان الشعرية على السرد في هذه المجموعة القصصية يعتبر أمرا عاديا إذا ما نظرنا إليها باعتبارها أول إبداع للكتابة القصصية النسائية في المغرب، كما أن ثقافة الكاتبة وتأثرها بكبار الشعراء في تلك المرحلة كون عندها رصانة لغوية ظهرت معالمها واضحة في أول إصداراتها.

2ـ الاقتباس في لغة الكاتبة: (إني وضعتها أنثى نموذجا).
"الاقتباس" مصطلح بلاغي ينتمي إلى علم البديع، ويعني تضمين الكلام شيئا من القرآن أو الحديث لا على أنه منه" ، وقد استعملته الكاتبة في قصصها، فتارة اقتبست من الشعر كما فعلت في قصة "الصوت الآخر" حين وظفت سطورا من إحدى قصائد الشاعر الفلسطيني سامح درويش، وتارة أخرى نجدها تقتبس من القرآن الكريم كما جاء في عنوان قصة "إني وضعتها أنثى" التي كررت فيها الكاتبة الآية على ألسنة شخصياتها. فكيف وظفته؟ وما دلالاته ضمن تيمة النص القصصي؟
لقدد كررت خناثة بنونة هذا الاقتباس القرآني أكثر من مرة وهي تصور حالة أب امتعض أشد الامتعاض بعد أن رزق أنثى في أقوى تجليات للفكر الأبوي السائد في المجتمع، فالأب قامت قائمته و ثارا تبرما بعد أن أخبروه أن زوجته قد وضعت أنثى، لدرجة أن الكاتبة وصفته بالمصدوم وهي تقول: "وفمه يخشع بترتيله الذي لم يفتر منذ أن صدموه "أنثى"، وفي الطريق المسفوح على صدر الأرض.. ومن البيت الذي أهاجه صياحها، ورمى وجهه القانت ولحيته التعبدية في الدرب الضيق الذي ألهمته وحشته آية (إني وضعتها أنثى) .
إن الكاتبة بوصفها هذا كانت ترمي إلى تقديم صورة الرجل في المجتمع الأبوي وهو يرفض أن تكون له أنثى، وكأن عارا عظيما قد ألحق به، فالشرف عنده أن يكون له ذكر في موقف أشبه بما كان سائدا في الجاهلية حين كان الآباء يئدون البنات درءا للعار، و ويتضح من خلال الوصف الذي قدمته الكاتبة للأب حين قالت "وجه القانت ولحيته التعبدية" أنها تشير إلى الفهم الخاطئ للدين الإسلامي، فهذا الرجل المتعبد المردد للآية القرآنية متشبع بمفهوم خاطئ لمعاني الآيات القرآنية وسياقها، فتكراراها "إني وضعتها أنثى" و"ليس الذكر كالأنثى" دليل على ذلك، لأن الآيات وردت في سورة (آل عمران): (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى، وإني سميتها مريم، وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) ، وقد جاءت على لسان امرأة عمران بنبرة التحسر والاعتذار بعد أن قالت (رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) لأنها كانت تتمنى مولودا ذكرا لخدمة البيت الأقصى، لهذا اعتذرت عن نَذرها قبل أن يأتي الاعتراض في الآية (والله أعلم بما وضعت)، ثم تقول هي (ليس كالذكر كالأنثى) دلالة على أن الأنثى لا يمكن أن تكون من سدنة البيت، لأن هذه المهمة تحتاج إلى قوة الرجل وفزيولوجيته، وهذا في حد ذاته إعلاء من قيمة المرأة، لا انتقاص منها، وجملة الاعتراض تكشف ذلك؛ فالله سبحانه كان أعلم بشأن هذه الأنثى (مريم) التي ستصير معجزة لم تعرف البشرية نظيرها، وهنا لا بد أن نستحضر خصيصة أخرى من خصائص اللغة الشعرية ويتعلق الأمر بتوظيف تقنية "الرمز"، فالكاتبة باقتباسها هذا تحيل إلى رمز مريم الذي سبق وأن وظفه شعراء آخرون في قصائدهم كما فعل بدر شاكر السياب الذي تعود أن يوظف رموزا ترمز إلى المعجزة ارتباطا بنفسيته التواقة إلى معجزة تخلصه من مرضه وتعيده إلى الحياة، ولعله الدافع نفسه الذي جعل خناثة بنونة تقتبس الآية القرآنية، لأنها كانت تنتظر معجزتين؛ الأولى متعلقة بما هو قومي وطني، نظرا للسياق التاريخي لزمن القص، والثاني متعلق باستشرافها مستقبلا تنعتق فيه المرأة من أصفاد الأبوية والذكورة.
إن براعة خناثة بنونة في ترويض لغتها وسيلة للتعبير عن تيمات قصصها وهي تكتب بلغة شعرية يفوح منها أريج الرمزية والاقتباسات، إنما هو حجة ناصعة على مدى رصانتها اللغوية، وغنى زادها المعرفي.
3) البطل الأنثوي بضمير الغائب.
إن الملاحظ في قصص هذه المجموعة هو تسيد الأنثى بطولاتها، وهذه ميزة تميزت بها الكتابات النسائية بصفة عامة، لكننا إذا ما حاولنا جرد أسماء شخصيات البطولة سندرك أن الكاتبة لم تسمها، مقتصرة في ذلك على استعمال ضمير الغائبة دلالة عليها، ويمكن إيعاز ذلك إلى أمرين أساسين:
ـ الأول مرتبط بتلك الصورة النمطية الملصقة بالمرأة في مجتمعنا، وكأننا بالكاتبة تشير إلى ظاهرة الاستحياء من ذكر اسم المرأة في المجالس الأبوية، فالرجل كان يفضل أن يذكر زوجته ب"أم العيال" أو شيء من هذا القبيل، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الحيف الذي جثم على صدر المرأة التي صار ذكر اسمها مدعاة للانتقاص وطعنا في الأعراض.
ـ أما الثاني فيتعلق برغبة الكاتبة في أن تجعل بضمير الغائبة كل امرأة بطلا لقصصها، في دعوة صريحة إلى المتلقية لكي تتقمص البطولة وتفك شفرات القصص بوعي تام بأن وجودها الفعلي لن يتم إلا إذا ما وعت حواء بأنها صنو الرجل لا دونه.
في مقابل ذلك نجد خناثة بنونة قد سمت الشخصيات الذكورية في بعض القصص، حين سمت شخصية الأخ في قصة إني وضعتها أنثى "أحمد" إشارة إلى الميز الذكوري في المجتمعات الأبوية، بل إنها خرقت القاعدة اللغوية وهي تقول واصفة حالة الأنثى التي رفضها أبوها لما ولدت (تمنت لو استحالت إلى ذلك الأحمد)، والغريب اللغوي هنا هو الجمع بين نوعين من المعارف: التعريف ب"ال" والعلمية، فالكاتبة تقصد بالأحمد وهي تصف رغبة البطل في التحول إليه (أي الأحمد) اسم الجنس (الرجل) لا اسم العلم (أحمد)، وتكرارها لهذا العلم بالذات في بعض القصص يحيل على صورة ذلك الرجل المغربي المهيب بشخصيته الأبوية.
خلاصة لما سبق يمكن القول:
إن مجموعة "ليسقط الصمت" شكلت أولى إرهاصات الكتابة القصصية النسائية بالمغرب.
ـ لقد استطاعت خناثة بنونة أن تعالج تيمة الوطن والأنثى بلغة شعرية رصينة، اعتمدت فيها الانزياحات والاستعارات والاقتباسات في قالب سردي.
ـ إن غلبة طابع الشعرية على خصائص السرد القصصي أمر طبعي إذا ما نظرنا إلى المجموعة القصصية باعتبارها أول إبداع قصصي نسائي في المغرب، فالتجربة كانت غضة لم يشتد عودها إلا في الإبداعات التي تلتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى