أدب السجون بويسف الركاب - حبي التروتسكي

« أينك يا لوسيل؟ وماذا تفعلين؟ متى سأراك؟ صورة لوسيل الغارقة في صمتها الطويل تختلط مع ألمي وقلقي، استولى علي الخوف من الزمن: علي أن أغادر هذا الجحيم بسرعة، فأنا لا أريد أن أضيعك، أريد أن نلتقي مرة أخرى لكي تعود لنا بسمتنا التي سرقها البوليس منا. وإذا ما ذهبت فمن سيكون لأمي ومن سيساعدها؟ وفي هذه اللحظة بالذات، أخذ الجلاد يصب الماء فنفثت الجرعة الأولى وتمتمت بصعوبة:
انزلوني...
توقف صب الماء في الحال وتحرر أنفي من الضغط...
ماذا قلت أيها السيد س؟
انزلوني من هنا؟
تريد النزول؟!.. ليس بهذه السرعة، عليك أن تقول قبل ذلك، من الذي ربط لك الاتصال بالمنظمة، ألا ترى ذلك؟ إذا اعترفت أعطيناك نقطة خمسة على عشرة، وسننزلك عندما يصل بك التنقيط إلى ثمانية على عشرة.. ستسير الأمور بسرعة وهو الأحسن لك، ألا ترى ذلك؟ وإذن من ربط لك الاتصال مع المنظمة؟»
اصوات التعذيب تصله ويتصور الصوت النسائي الذي تناهى الى سمعه، هو صوتها، فيصف ذلك بالقول«
تردد الصراخ في أحشائي كطلقة نارية، وكان شبيها برفض مفجع للموت، لعلها لوسيل... لا.. ليس صوتها. فمن تكون إذن؟ كان الصوت ناطقا بالفرنسية، والأمر إذن يتعلق بسيدة فرنسية، ولكنة الكلام لا تدع أي مجال للشك. أرهفت السمع، صورة لوسيل الصامتة توخز ذهني. هل اعتقلوها؟ وبعد وقت، سمعت أصوات استغاثة. إنهم يقومون بتعذيبها! هؤلاء الأوغاد! لوسيل، يا حبيبتي لوسيل، لا ليست هي، فأنا شبه متأكد. الأوغاد، الأوغاد ويا أيها الأدنياء!! كنت أحس بغضب لا ينتهي من غضبه، رخاوة ثقيلة أشبه بالموت، دموع عاجزة وقبضة مصممة لا قوة لها. انصرمت ليلة السبت كلها بين ما يشبه الحلم الأسود والواقع الكابوسي، بين صراخ المرأة المعذبة، وصوتها يدور في رأسي كأسطوانة رهيبة محفورة والضجة المجلجلة لطراد الماء الذي يفتح في كل ساعة».
كان كتاب «ظلال للا شافية» من الكتب التي لم تخجل من العاطفة، ولعله الأول بين الأوائل،
وفيه حديث مطول عن لوسيل وعن ذكرياتهما الأولى،«منذ أكثر من ساعتين وأنا ولوسيل نتبادل الحديث في غرفتها، وهي عبارة عن ممر طوله أربعة أمتار وعرضه متران، يقوم في وسطه حائط يفصل بين مكان النوم ومكان الطبخ والاغتسال، ولعلها المرة الثانية أو الثالثة التي أصعد فيها إلى هذا الكوخ الموجود في الطابق الخامس، ذي النافذة الصغيرة المطلة على شارع سان روم. كنا وحيدين جالسين، متباعدين، على حاشية السرير...
لقد عرفت لوسيل في شتنبر 1970 عندما التقينا في فرقة من أربعة أشخاص (مغربيان وفرنسيتان) نجوب بعض الأحياء الشعبية («العمالية» كما نسميها) بصورة منهجية لجمع المال المخصص للمقاومة الفلسطينية بعد أن تعرضت للمجزرة في الأردن.
ماذا جرى لك حتى اخترت السكن في هذا الكوخ يا لوسيل؟
لقد افترقت عن أبي وأمي منذ بضعة شهور، وأنا الآن ملزمة بالعمل نصف الوقت في مؤسسة للمعلوميات.. لا أتقاضى شيئا كثيراً أيضاً، ولك أن تعلم أنني أشتغل في مهنتي مع نساء جد ممتعات..
روت لي بعض النكت، فضحكنا، وهو ما كان ينعش الجو من حولنا، فحوارنا حول موضوع نور الدين وحول والدي لوسيل وإخوانها وعن الأصالة المغربية، وعن معارفنا وعن عملها، رغم ما كنا نغير ونمطط فيه، أخذ يستهلك نفسه وينذبل، بينما كانت كؤوس القهوة قد فرغت منذ أمد طويل.
أتريد مزيداً من القهوة؟
لا شكراً، يكفي..
وكنت متردداً في توديعها بطريقة حازمة..
طيب.. أظن أنه حان الوقت لكي أذهب..
وأي موعد ضربته في هذه الساعة المتأخرة من الليل
عينا لوسيل الواسعتان الماكرتان تبرقان، وشفتاها تبتسمان..
لا.. لا.. ليس الأمر كذلك، لا أدري..
وفي نفس الوقت، أدركت أنها ستصاب بخيبة من جراء ذهابي، فترددت، سادت بيننا لحظة صمت قصيرة تسمرت فيها في مكاني وتكدرت، لحظة كنت خلالها غير مرتاح البال، لا أعرف ماذا أقول وماذا أفعل، كنت خائفاً أن أذهب على حال من الخيبة وأن ينتصر علي خجلي، فحزمت جرأتي بكل يدي وقلت:
أو.. لوسيل.. أريد أن أقول لك شيئا..
حقا؟
هل تريدين.. ماذا أستطيع أن أقول؟.. هل تتفقين أن تصبحي صديقتي؟
نعم
حقا؟
نعم.
نظرنا إلى بعضنا وابتسمنا، أخذت يديها وجذبتها نحوي، ثم قبلتها وقبلتني على الشفتين بحنان، كانت تلك أول قبلة حب بيننا، في يوم من أيام شهر نونبر عام 1970.
كنت أحلم بسعادتنا الغامرة وأنا ممدد على فراشي الخشبي، خلال تلك الليلة التي أمضيناها سويا في عري كامل متعانقين. لم نمارس الجنس، لأن الآنسة كانت في أيام عادتها الشهرية. والمنظر الذي رأيت عليه لوسيل يوم الثلاثاء 13 يناير، وهي تتألم في صمت يعود إلي بدون انقطاع، وكذا خوفي من الوقت المنقضي، غموض المستقبل، وجهلي التام بظروفها وظروف أمي، وأنا الآن متيقن، بعد أن قضيت هنا أزيد من أسبوعين، بأن خروجي لن يتم في أجل قريب. لقد كتبت اعترافي بالفرنسية تحت الرقابة المباشرة والدقيقة للكوميسير الذي أصر ما وسعه الإصرار أن أذكر فيه «بأن نشاطي السياسي كان يهدف إلى الإطاحة بالملكية العلوية وبناء جمهورية ديمقراطية شعبية، وذلك بإثارة القلاقل في المدن والبوادي مع تحرير المناطق الحمراء المتحركة، التي ستشكل فيما بعد مناطق حمراء ثابتة، وتحرير هذه المناطق سيتم بواسطة كتائب عسكرية، ستواجه قوات النظام الرجعي عندما تحاول هذه قمع الجماهير الشعبية، وذلك باستيلاء الفلاحين على ضيعات المعمرين الجدد وإضرابات العمال الزراعيين والمظاهرات». وتسمح هذه «الأطروحة» وأنا على وعي بذلك، بدعم تهمة المس بالأمن الداخلي للدولة. ولم يجد البوليس في منزلي سوى كتب ماركسية وعدد كبير من نشرات المنظمة ذات المحتوى العام وبعض التقارير الخطية تتعلق باجتماعاتي، وترجمة بالفرنسية لتحليل حول البادية المغربية، و «آلة فيتنامية» جديدة لم تستعمل بعد (لأن البوليس لم يمهلنا في ذلك)، و «الآلة الفيتنامية»، كما يعرف ذلك كل مناضل سري يحترم نفسه، ليست إلا آلة يدوية صغيرة لطبع المنشورات وجميع أنواع الأدبيات الداعية إلى الفتنة.»..
الخجل والحشمة لم يكونا من نتاج الثورة فقط، بل كانا ايضا من اصول مغربية طبيعية في بيوسف الركاب، وهو يروي ، في ذلك مقطعا شهيا عن الحب المحيط بنا كالهواء ولا نلمسه:« وكان يحدث أن نشعل، أثناء الليل، النار في الأعشاب في قلب الجزيرة، قريبا من نهر الرون الذي كان يجري على هواه، ونأكل «النقانق» و «المرگز» المشويان، وكنت أسمع الشباب يغنون على نغمات القيثارة لأول مرة في حياتي. الجو كله هدوء. نتكلم بصفاء، كانت الوجوه جميلة، يسطع فيها طورا لهيب النار، ولا ترى إلا بالكاد في الظلمة طوراً آخر. الأخت الصغرى لبريجيت تمرح مع أحد الشبان... في مرقد للنوم. كوليت تنظر إلي بعين الرغبة... ولكن أنا.. فيما يرجع لأمور الفتيات كنت من جيل القرن الماضي، هذا إذا لم أكن من العصور الوسطى. ممارسة الجنس مع فتاة على هذا المنوال، مباغثة، فقط لأن هناك إعجابا متبادلا وأن في ذلك ما يشعرنا بالرغبة، بدون مغازلتها، أو أن يقسم الواحد منا للآخر بالحب الأبدي... ذلك ما لم يكن قد نفذ إلى مخي».
ذكريات عاشق تحت التعذيب
« في السجن تعود الذاكرة الى الوراد، كالحصان الذي يواجه حاجزا. وتعود ذاكرة الرگاب ليروي عن الحب النابت تحت سماء فرنسية «كنت ممدداً على فراشي الخشبي، ممددا باستمرار على فراشي الخشبي أجتر ذكرياتي، تحضرني في فوضى ثم تغادرني، فتظهر لي من جديد، تتصادم في رأسي بين فترة وأخرى، أعايش نفس الأحداث عشرات المرات، محاولا اكتشاف ما قد يتكون مثله في تطوري. ولكنني أتطلع أيضا إلى المستقبل الذي أرفض تصوره بدون لوسيل، سأتبعها إلى فرنسا بعد أن أتحرر، وسأستعطفها لكي تعود معي، فترفض آنا وتقبل آنا. إنها تساكن مخيلتي سواء ذهبت أم لم تذهب، وهي دائما همي الأكبر. أعد لها مستقبلا لذيذاً، مشتركا، لكي أقنعها، ولكنها صعبة الاقتناع في ظلمة هذا الليل الطويل.
لوسيل يا حبيبتي.. عليك أن تعودي معي، سنبني منزلا صغيراً و سنعيش سعداء أكثر سعادة من السابق وسنحقق ذلك حتى لو تطلب منا الأمر بعض التضحيات، نحن شباب، وبمقدورنا أن نكون حياتنا من جديد، لن نعيش منغلقين على ذاتنا، هل تريدين يا حبيبتي؟ سيكون منزلنا على الطراز العربي، وستكون جدرانه بيضاء ذات لمعان يميل الى الزرقة، بفناء مورد تقوم حواليه الغرف، بطابق وشرفة رائعة تطل على البحر، لأننا سنبنيها على مشارف المتوسط، فالأراضي بالقرب من وادي لو ليست غالية الثمن بدون شك، سنقضي فيها عطلتنا الصيفية، في الخلجان الصغيرة الجميلة المقفرة، حيث نعوم وحيدين عراة تلفحنا الشمس، سنتحاب كما لم نتحاب من قبل..
ولعلك تذكرين أوقات عومنا في منطقة وادي سمير! والمكان، للأسف، لم يكن مقفراً كله، ومع ذلك، فقد كانت لنا زاويتنا في الغابة الصغيرة التي كانت تحجب الطريق السيار، إلى حيث كنا نلتجىء..
أنا لست ضد المنزل يا إدريس، ولكنك لم تقل شيئا عن الأساسي، لا تقول شيئا عن مستقبل نشاطك السياسي، ولا عن دوري أنا في المجتمع المغربي.
اسمعي، لست أدري.. وأنا لا أعرف أي شيء الى الآن، لقد وجدتك... وهذا هو الأساسي بالنسبة إلي، أما المساهمة في النشاط الثوري، فقد تأتي فيما بعد ربما، أما الان فأنا منهوك جداً.
لا.. لا يمكن ذلك، فالمسألة الآن جد متأخرة، إن العودة الى المغرب لا تعني لي أي شيء، حتى ولو كنت معك، ومكاني ليس هناك.
بلى، إذا كنت تريدين البقاء في فرنسا فالأمر سيان بالنسبة إلي، على أننا قد نذهب إلى المغرب لقضاء عطلنا، بل إنه سيكون بمقدورنا أن نناضل سويا في فرنسا دون أن نخاف في سبيل ذلك من السجن، وإذا شئت فبإمكاننا أن نعيش في تولوز يا حبيبتي..
في تولوز يا حبيبتي. ما الذي جعلني أختار تولوز بدلا من بوردو أو مرسيليا أو أية مدينة أخرى أصغر منها لكي أتابع دروسي؟ من الصعب الكشف عن السبب بالضبط: قد يكون بسبب الشمس الساطعة التي كانت تلمع في سماء كلها زرقة ذلك اليوم من أكتوبر 1968، عندما دخلت تلك المدينة ذات القرميد الأحمر لأول مرة، أو لعله ذلك الصيف الممتع في ساحة ويلسن وراء ساحة الكابيطول، أو لعلها كلية الآداب العريقة تلك البناية الوقورة القديمة حيث علمت أن التسجيل لن يبدأ إلا في شهر نونبر (أو ربما دجنبر؟) أو لعله الحلم المحفور في عقلي انطلاقا من دروس الجغرافية في ثانوية ليوطي...
ففي تولوز اكتسبت أصدقاء جيدين جداً.. من ذلك أولا، مجموعة مؤلفة من ثلاثة برتغاليين تعرفت عليهم في منتدى الشباب، ثم صديقات يدرسن معي ومنهن مارتين، وهي فتاة جميلة، بسيطة، خدومة، لطيفة، حنونة، صديقة وجذابة، فلم أعرف منها، مارتين تلك، إلا مزاياها. وفي تلك الليلة من ليالي غشت أو شتنبر 1970، كنا نرقص في مطعم رانگوي، كنت متألقة في تنورتك الصيفية القصيرة، عارية الذراعين والكتفين، قطعة صغيرة من الثوب جعلتك غاية في الفتنة والرقة. ثم خرجنا لنتفسح في ليلة مقمرة، أخذتك من كتفيك وضممتك إلي برفق، وكنت أحس بالارتياح في حضورك، لأنك كنت تنقلين إلي طريقتك البسيطة والعفوية في تذوق الحياة.
مارتين، أتعرفين أن علاقتي بليديا انتهت منذ أن أفهمتني في رسالتها الأخيرة من الباهاماس بكثير من الرقة بأن على كل واحد منا أن يتابع مجرى حياته الخاصة؟ وأن الحب لا يمكن أن يكون عن طريق التراسل؟
نظرت إلي بعينيك الكبيرتين العسلاوين، بابتسامتك الجذابة؟
وماذا تقول أنت؟
أرى أن معها الحق».
حب تروتسكيٌ
محاولة أخرى للتفريق بين الرجل وامرأته باسم الثورة، لكن هذه المرة بتهمة الحب التروتسكي.
«لم يكن ب. رغم وثوقية آرائي، ليلقي السلاح مع ذلك، إذ كان يعتقد أن القدر أوكله لكي يصارع داخل الخلية خطراً تروتسكيا موهوما يشمه في كل مكان. وفي ماي أو يونيو 1972 عرض على الخلية مشكلة رفيقين يعيشان كما قال في استسرار مع فتاتين تروتسكيتين.
إنه من غير الممكن للرفاق الذين يناضلون في سرية أن يواصلوا العيش تحت سقف واحد مع الفتيات التروتسكيات. إن مستقبل منظمتنا يرتبط بهذا الأمر، فالتروتسكيون، موضوعيا هم بوليس، والفتيات اللائي يعشن مع الرفاق سيكون بإمكانهن الاطلاع على وثائقنا السرية وسيتعرفن على مواقفنا، ولن يكون بمقدور أي أحد أن يحملهن على السكوت، وإذا أخذنا بعين الاعتبار الليبرالية السائدة بين اليسراويين فسوف ينشرن ذلك في جميع الاتجاهات. حقا أن معظم وثائقنا مكتوبة بالعربية، ولكنهن يعرفن كثيراً من الطلبة العرب.. .أما النقطة الثانية، فالكل يعلم أن التروتسكيين يمارسون التسلل، فمن يضمن لنا أن الفتاتين لن يتمكنا من إقناع رفيقينا بإيديولوجيتهما التروتسكية؟.. إذا أخذنا بعين الاعتبار الطبيعة الحميمية التي تجمعهما بهما...
ولم يثر أحد، فيما تلى ذلك من نقاش، أن ممارسة التسلل لا علاقة لها البتة بما فكر فيه ب، بل على العكس من ذلك إذا ما استثنيت نفسي أنا الذي أجلس ساكنا اتفقت الخلية، بما في ذلك الرفيق المتسري الآخر، على ضرورة ابتعادنا، نحن الإثنين، عن «الفتاتين» التروتسكيتين. لم يعد الأمر مقتصراً على الشوكة التي انغرست في لحمي، بل بسهم مسموم انغرس فيه، فأصابني الاضطراب وأخفيت عواطفي على قدر استطاعتي، ثم قلت:
علي أن أفكر في الأمر أكثر فيما يخصني أنا.
حاول ب. أن يرد ولكن ح. م. سبقه قائلا:
إنه لأمر مشروع أن يفكر الرفيق أكثر، وسيكون من الخطأ، طيب، إيقاف هذه العلاقات بصورة مفاجئة، طيب، هناك جوانب إنسانية في المشكل... وشخصية، طيب، لقد اتخذت الخلية قرارها وهو قرار لا رجعة فيه. ومن المناسب الآن، أن يعمل الرفيقان على تمهيد السبيل لإنهاء تلك العلاقات، وفي جميع الأحوال، فالرفيقان غير متزوجين.
وقررت الخلية، بدون تصويت ولا تحديد تاريخ دقيق، تمديد الفترة التي سيكون علينا أن نقطع فيها العلاقة. ولم يتكلم أحد عن الطرد، ولكن الفكرة كانت تحوم في الفضاء، بيد أنني لم أكن أرغب لا في التخلي عن نضاليتي ولا مفارقتي صديقتي، تلك «الفتاة» التروتسكية التي أحبها. على أنه كان من بين الأخطاء التي ارتكبتها هو اعتبار أن ذلك القرار قراراً داخليا ليس علي أن أفاتح لوسيل فيه. ولكنني موقن بأنني لن أتخلى عنها مهما كانت إرادة ب في سبيل ذلك.
ومنذ دجنبر 1970، وبالضبط منذ اللحظة التي تأكدت فيها لوسيل بأنني لا أنوي التسلي معها لحظة ثم أتخلى عنها، قررنا السكن معا في شقة اكتريناها مع طلبة آخرين في شارع فيلان، في وسط المدينة القديمة بتولوز. فكنا نتحاب ونتفاهم جيدا ونتذوق معا طعم سعادتنا الصغيرة، ولكننا لم نكن نتناقش في السياسة كثيراً، إلا ما كان يخص الأحداث الراهنة التي كنا نتفق حولها بصفة عامة. وفي الحقيقة، فقد كنت أتجنب ما وسعني ذلك المناقشات المتعلقة بستالين وتروتسكي والثورة الدائمة والثورة في بلد واحد. لقد كنت أتهرب من حججها... ولكن لماذا؟ حتى لا أستمع إليها ولا أفكر فيما تحكيه تحديداً؟ لقد كان السبب العميق لموقفي يكمن في أنني كنت أخاف أن تتحطم أحلامي وتتبدد أوهامي، إذ عندما يعانق المرء قضية ما ويضع فيها كل عنفوانه وآماله وإيمانه، فإن خوفه الدفين الذي يرفضه عقله، هو أن يدرك بأنه كان على خطأ. كنت أعاني إذن من صراع قلبي وعقلي: فمع اعتقادي الجازم بالقضية الشعبية والبروليتارية التي كنت أكد من أجلها، فإن عقلي كان يسر بمكر بأن النظرية التي يرتكز عليها عملي ومستقبلي فيها بعض الثغرات أو الأخطاء، إذا ما قورنت بنظريات تعلن انتسابها هي الأخرى إلى الماركسية اللينينية. في تلك المرحلة كانت الغلبة دائما لقلبي على عقلي، ولقد لعبت الصداقة والروابط التي تولدت بفضل عملنا السري بدون شك دورها أيضا في مكبوتاتي. (أما مثال د. الذي كان يشغلني فقد تعاملت معه كقضية شخص. معاند ومعقد نوعا ما).
أمامي، عاليا في السماء شمس تعمي بصري، علي أن أغمض عيني لوقت حتى أتعود النظر إليها. ورائي بناء ضخم أسود، أبتعد عنه ببطء. لمحت جمعاً من الناس في زاوية شارع يشيرون إلينا بعلامات الفرح، أين لوسيل؟ إني لا أراها، هناك أصدقاء وآباء وأمهات يعانقون الرفاق حولي.. آ.. ها هي في السيارة المركونة هناك جانبا.
لوسيل...!
تستديرين، تسقط الجريدة من يدك، ثم تندفعين نحوي، أضمك إلي بكل قواي، أحس بيديك المرتعشتين حول عنقي، آخذ وجهك بين يدي وأنظر في عينيك المليئتين بالحب الهامس والحار.
هل نعود يا حبيبي؟
نعم، هيا بنا.
وما أن دخلت الى السيارة حتى وجدت سلام، فعانقته بعاطفة دافئة.
لابأس عليك أيها الدكتور؟
بل الدكتور المستقبلي أيها الأستاذ العزيز، وأنت بخير؟ حدثني كيف جرى..
دعنا من ذلك الآن، من فضلك، إنني أريد أن أستلذ بطعم اللحظات الحاضرة، أنسى الماضي لبعض الوقت.
أخي ينظر إلي بتفهم ولا يلح.
كنت أقود السيارة على امتداد طريق عطر، على جنبيه حقول تغمرها الورود بكل الألوان. أنت تجلسين إلى جانبي تضعين رأسك على صدري، أضمك بذراعي اليمنى. ابتسامتك الحانية ويداك المرتعشتان يصعدان من ذكري إلى صدري، شفتاك النديتان تلتصقان بخدي فأهتاج وأرتعش كمدور حريري.
أرغب في ممارسة الجنس معك يا حبيبي.
تصوري، وأنا كذلك معك.
لقد مضى علينا وقت طويل..
فعلا، ولكن إذا واصلت مداعتبك لي بهذه الطريقة فسنجد أنفسنا في وسط حقل من الورد.
ولكنها فكرة ممتازة هذه. أن نمارس الحب في حقل من الورود...
لا.. كوني عاقلة يا حبيبتي، فقد نتعرض للأذى.
ثم توليت أنت قيادة السيارة على امتداد طريق عطر، وأنا إلى جنبك أشم الرائحة المدوخة لشعرك القصير الذي تفوح منه النظافة، أقبلك في عنقك، وراء أذنك، بينما يدي تندس تحت صداريتك بحثا عن نهديك.
انتبه يا حبيبي، فأنت تحجب عني النظر.
اهدئي.. دعيني أتصرف..
أنت وغد كبير.
أنا أحبك.
تنزلق يداي تحت تنورتك القصيرة، ثم تصعد إلى أعلى فخذيك المرتعشتين من الرغبة.
لا يا إدريس.. لا أستطيع قيادة السيارة هكذا.
السيارة خالية، مركونة تحت أشجار مورقة. على الشاطىء يستحم أصدقاؤنا القاطنين في شارع سوسة. جلسنا، نحن الإثنين، على الرمل في منأى عن النظرات المزعجة، جسدانا العاريان يلتصقان في حمية متبادلة، تتشابك أفخاذنا، وأضمك إلي من الخصر، أستلذ بطعم شفتيك النديتين الحارتين. ومع القذف أفقت من النوم. غمرني إحساس كبير بالسعادة.. استمر لوقت عاد فيه إلي وعيي بالواقع من حولي. الصمت يحيط بي والمصباح الباهت الثابت مضاء باستمرار. من وقت لآخر يسمع صوتك محرك في الليل البيضاوي. وأنا من جديد مع الطرقات المظلمة ، مع جمود الزمن، ماذا تفعلين؟ وما أصبحت، وأي عذاب هو عذابك؟ أعلم الآن أنك تبحثين عني، وأعلم أنه ليس بمقدورك أن تعثرين علي حاليا.
بعد زواجنا، أنا ولوسيل، وعودتنا الى المغرب، اشتغل كل واحد منا خلال سنة 74/1973 على بعد 200 كلم من الآخر، هي تدرس الفرنسية في الثانوية الوحيدة بأصيلا وأنا أدرس الإسبانية في كلية الآداب بالرباط كأستاذ مساعد. وكنت ألتحق بها خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع. وكانت سنة بالغة الصعوبة: نقص في المال الى أن توصلت براتبي لأول مرة في حدود أبريل 1974، تعذر تأقلم لوسيل، بل وكانت زيادة على ذلك تعاني من زملائها، فتشعر بنفسها معزولة في مدينة صغيرة جد محافظة وجد منغلقة على نفسها، بل ومزهوة بقيمها مخادعة أكثر منها حقيقية مدينة صغيرة لا تقبل بأنماط الحياة الأجنبية التي اندمج فيها أهاليها، وترفض ذلك أكثر بالنسبة لأولئك الذين كانوا يتحملون مسؤولية تربية أبنائها.
أما السنة الموالية 75/1974 قد كانت مبشرة بالخير أكثر، بحيث انتقلت لوسيل إلى ممارسة مهنتها بالرباط، فأقمنا بشقة صغيرة جد مشمسة تقع في شارع سوسة. وساد بيننا تفاهم جيد نحن الإثنين، على أن الضجر مع ذلك، لم يتخلف عن تنغيص حياتنا في هذه القرية الواسعة والكئيبة التي هي الرباط، فالفراغ الثقافي والمحيط الاجتماعي حالا دون تجاوز ذلك، فكنا نزور الصديق تلو الصديق، ولا نعرف سبيلا للخروج من الحديث حول آخر فيلم في سينما الزهوة، وحفلات الزواج والولادة، ومشاريع العطل والنميمة. وعندما كان يجري الحديث في السياسة فلم يكن يتم ذلك إلا مع أفراد قلائل خشية من كل أذن راصدة، بل وخوفا من كل جدار ليس بالسمك المطلوب. فكنا بذلك نريح ضميرنا نحن الأشخاص الذين نعلن انتماءنا لليسار، ننتقد المحاباة والفساد وتهاون الإدارة والسياسة الاجتماعية والاقتصادية والقمع البوليسي، ولكننا نعيش تقريبا في نفس اللامبالاة وفي نفس السبات الحلو وبنفس الكروش المنتفخة كأفراد طبقتنا المتوسطة، أي في رخاء بدون بذخ صارخ ولكن في عيش رغيد، ونحن ننظر من بعيد الى الخسائر التي تتم حولنا، متصدقين أو غير متصدقين على المساكين، على ما يتسببون فيه من إزعاج وروائح كريهة وكدر وحزن. وكانت لوسيل تتحمل أكثر مني بقساوة بالغة هذه الوضعية الراكدة، التي كانت تتعفن وتجعلنا نتعفن معها، بنفس الطريقة التي يتعفن بها ماء مستنقع فيصيب كل ما مسه. ذلك أننا لم نكن نقوم بأي نضال (لا هي ولا أنا) فقد غادرت المنظمة فعلا عندما عدت إلى المغرب، وكان الرفقاء الأعزاء في تولوز قد ألحوا علي لكي أفترق عن «الفتاة التروتسكية».



=============


بويسف الركاب، الذي اعتقل بدوره لانتمائه السياسي ، يتحدث في كتابه « ظلال للا شافية» عن لوسيل ، حبيبته، وعن اللحظة التي يراها وهم يعذبونه ، يناجيها، بلا تحفظ ويعترف لها بضعفه « اليوم، بعد بضع ساعات بدون شك، هل سأكون قادرا على الصمود؟ البارحة بعد الظهيرة، 13 يناير، اليوم الأول لاعتقالي، أصبت بانهيار، ولكنني لم أعترف لهم بشيء، كذبت عليهم. لماذا لم أستطع الصمود يا لوسيل؟ وفي أي عدم تبخرت حماستي الثورية وتلك الإرادة العنيدة التي سكنتني وجعلتني مصمما على ألا أتلفظ بأي شيء؟ أن أبقي الرأس مرفوعاً حتى ولو أرادوا تحطيمه على صخرة رحى؟ هذه الإرادة التي حافظت عليها الى أن علقوني وأغرقوني، وفي أية غيمة ضاعت قناعتي بأنني قادر على مجابهة آلاف الجلادين الدمويين؟».
ثم ايضا ، هي سبب بحثه عن الخروج من الجحيم والعودة اليها.



* عن:
بويسف الركاب: حبي التروتسكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
1,305
آخر تحديث
أعلى