يرفدنا التراث الابداعي، قديماً وحديثاً، في هذه المرة وفي مرات أخرى كثيرة بالشواهد والأمثلة التي تعز في الواقع المعاش، لفهم سيكولوجية الرجال والنساء او بعضهم وبعضهن. والعودة الى التراث لا تعني بالضرورة تبرير مطالب ان استراتيجيات راهنة للفكر والعمل النسويين بل فهم الآليات التي ادت تاريخياً الى تشكل الوعي الثقافي بأدوار أو توقعات الرجال والنساء والتي تصلح كمرجعية عالمية ومحلية. وفي حال "ألف ليلة وليلة" يقوم الراوي بمهمته السرد الاساسي او الأصلية وهي كشف السر وهنا: أسرار الطبيعة الانسانية.
وأحياناً يغني الرمز والفانتازيا عن أكداس النظريات والتحليلات والعظات.
تفتح ألف ليلة وليلة الصادرة عن دار صادر، بيروت في مجلدين، على قراءات متعددة، وربما على كل القراءات الممكنة لاكتنازها اشارات في كل الميادين، وهي، بحكم مبررها الأساسي، تحض على قراءة نسوية حيث ان معظم القصص تقوم، في حبكتها الرئيسية أو الثانوية، على اشكاليات علاقة النساء بالرجال، بدءاً بمبرر السرد الأساسي وهو سعي شهرزاد الى ابعاد شبح الموت عنها وعن بقية نساء الدولة، متوسلة تسلية الحاكم العصابي المهتاج، الذي فقد ثقته بنفسه وبنساء الأرض بعد ان ضبط زوجته وزوجة أخيه شاه زمان بالجرم المشهود وفوق ذلك مع "عبد أسود" فرمى عنق زوجته وكذلك أعناق الجواري والعبيد، وصار شهريار كلما يأخذ بنتاً بكراً يزيل بكارتها ويقتلها في ليلتها، ولم يزل على ذلك مدة ثلاث سنوات. فضجت الناس وهربت ببناتها ولم يبق في تلك المدينة بنت "تتحمل الوطء". ثم ان شهريار أمر وزيره أن يأتيه ببنت على جريّ عادته فخرج الوزير وفتش فلم يجد بنتاً، فتوجه الى منزله وهو غضبان مقهور خائف على نفسه منه. وكان للوزير بنتان، الكبيرة اسمها شهرزاد والصغيرة اسمها دينازاد، كانت الكبيرة قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين ولما سألته ما به، حكى لها ما جرى له من الأول الى الآخر مع الملك. فطلبت من والدها أن يزوجها له: إما ان تعيش وإما تكون "فداء لبنات المسلمين" كما قالت. وهكذا يقوم السرد على حال لا توازن وصراع قوى بين رجال ونساء.
إزاء هذا الخطر المحدق، قررت شهرزاد تسلية الحاكم وتبديد مخاوفه، موظفة معلوماتها التاريخية والاجتماعية الوفيرة، وقدرتها على التخييل والابهار. حكايات تتوالد وتتشابك ساخرة من منطق الأشياء والأحداث والنهايات، محولة الحياة الى أسطورة، ليتعذر التمييز، وتتساوى الخيالات والوقائع، فتخف مرارة الواقع أو تشذب، فتحفل الليالي بأشكال وألوان وقضايا وموضوعات منوعة، برجال ونساء، يتجاذبون ويتنافرون، لكنهم يبحثون، كل على طريقته وتصوراته وأفكاره الموروثة أو المكتسبة، عن الحب والإخلاص والتفاهم والاعتراف، ما لم تورطهم "شهواتهم"، وفق روحية المؤلف، وروحية البيئة التي ولد فيها النص، إذا سلمنا انه ولد في العصر العباسي، في مطبات وصعوبات "لا تحمد عقباها".
ونجحت شهرزاد بانقاذ شهريار، إذ صالحته مع نفسه ومع النساء راسمة له شخصيات نسائية عدة سلبية في مقابل أخرى ايجابية وكأنها تدعوه الى تعميق فهمه لتناقضات الطبائع الانسانية لتطهيره من هواجسه وخوافاته phobies واعادته الى أرض الواقع والحياة.
وفي سياقاتها تمنح النساء أدواراً سلبية، فتصورهن شهوانيات، وفوق ذلك عديمات الوفاء، لا يأبهن بعهد يأخذنه على أنفسهن ولا بالإخلاص لرجل يتفانى من أجلهن وتحفل الليالي بالنساء الخائنات، ففي حكاية الصياد مع العفريت، يخدع سلطان الجزائر السود بزوجته وهي ابنة عمه، التي يتوقع ان تكون مخلصة له، وهي توهمه انها مغرمة به، فيما تخدره كل ليلة لتذهب الى عشيقها، وامعاناً في الصلافة، سحرت زوجها وحولته الى نصف حجر، نصف بشر، وكانت تعذبه وتضربه "بسوط من الجلد، مئة ضربة حتى يسيل الدم".
وفيما شهريار وشاه زمان في أوج أزمتهما اعترضتهما امرأة اختطفها جني ليلة عرسها ووضعها داخل صندوق، ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلها في قاع البحر المتلاطم. وما ان نام الجني، حتى رفعت رأسها وأبدت إليهما رغبتها، أي ان المرأة "إذا ارادت امراً لم يغلبها شيء" واستعانت شهرزاد ببعض الأبيات الشعرية المواتية وهي:
لا تأمن الى النساء = ولا تثق بعهودهن
يبدين وداً كاذباً = والغدر حشو ثيابهن
بحديث يوسف فاعتبر = متحذراً من كيدهن
أو ما ترى ابليس أخ = رج آدم من أجلهن
إلا انها تصور أحوالاً أخرى تكون فيها النساء ضحايا سوء ظن، أو سوء فهم الرجال، ففي "حكاية الصبية والتفاح وريحان العبد" يتهم الرجل زوجته زوراً بخيانته ويقتلها ولا يكتشف حقيقة الأمر إلا بعد فوات الأوان، وفي حكاية "اتهام غير عادل في زوجته"، ص 58 - 59 المجلد الثاني، تنجو زوجة وفية من الذبح بعد ان ثبت لزوجها انها ضحية مكيدة وضبها لها عاشق ولهان ولم يتمكن من الايقاع بها أي أنها لا تساوي بين النساء، وتتعاطف مع من تقع ضحية الريبة وسوء الظن وضحية رجل سريع الانفعال والتصديق، وضحية الأفكار المسبقة.
وعلى رغم تعاطفها مع الرجال المتروكين من زوجاتهم أو حبيباتهم، إلا انها كانت تظهر في المقابل خفة الرجال أو سعيهم وراء المغامرات، غير مبالين بامرأة تحبهم بصدق، كما هي حال غرير الذي استخف بابنة عمه الوفية وسعى وراء نساء مستهترات وكأن المرأة المستهترة تجذب أكثر من غيرها والوفية غير مطلوبة، وهكذا تبدو المسألة مسألة اختيار أو سوء اختيار ومسألة عرض وطلب.
أما صورة قدرات المرأة العقلية لديها فمتضاربة وعلى طرفي نقيض، فإذا كن ناقصات عقل ودين، كما يتكرر في أكثر من مكان فهن أفضل على الأقل من الغلمان كما اجتهدت امرأة فقيهة تدعى "سيدة المشايخ" في "حكاية محاسن اختلاف الأجناس" في اقناع محاورها، مشيدة بحسن معاشرة النساء. ص: 674 - 675، فيما هو مصر على ان الغلمان أفضل من النساء متسلحاً بالكلام الإلهي: الرجال قوامون على النساء بما فضل بعضهم على بعض ودية المرأة على النصف من ودية الرجل" فلا تناقشه أو تدحض أقاويله، وتقوم بتكريس دونية المرأة فتوافق على حجج محاورها ولا ترى في النساء الا مزايا وخصائص جسدية جنسية، وهي مكلفة بالترويج، لا للنساء، بل لنمط من العلاقة الجنسية مباح بينما الآخر منكر.
وشيرين زوجة خسرو ملك الملوك أملت رأياً غير صائب على زوجها وبدت أقل حنكة ودهاء وحسن تصرف من الصياد البسيط. وخلص زوجها الى انه لا ينبغي لأحد ان يقتدي برأي النساء، "فمن اقتدى برأيهن خسر مع درهمه درهمين" ص 643 - 639 وزوجة الطحان تسببت بضياع ثروة زوجها بالتواطؤ مع عشيقها الذي ما لبثت ان خســرته.
يتقابل هذا الوجه السلبي أو الاختزالي لأدوار المرأة، كشهوانيات، خائنات، وناقصات، الذي يتطور الى حدود التنظير كما في حكاية "محاسن اختلاف الأجناس" صور لنساء عالمات مثقفات ومبدعات. فإذا كانت زمرد في حكاية "علي شاروزمرد" تحفظ رقائق الأشعار وتقرأ القرآن العظيم بالقراءات السبع وتروي الأحاديث الشريفة وصحيح الروايات وتكتب بالأقلام السبعة وتعرف من العلوم ما لا يعرفه عالم ويداها أحسن من الذهب والفضة وتعمل الستور الحرير وتبيعها ص 547 - 548 وإذا كانت محبوبة عازفة عود بارعة ومغنية فتودد "حكاية الجارية تودد" ص 689 - 690، تعرف النحو والشعر والفقه والتفسير واللغة والموسيقى وعلم الفرائض والحساب والقسمة والمساحة وأساطير الأولين وتنظر في علوم الرياضة والهندسة والفلسفة وعلم الحكمة والمنطق والمعاني والبيان وحفظت كثيراً من العلم وهزمت العلماء بمعارفها ومعلوماتها وهن لسن فقط قادرات على التثقيف والابداع الفني بل قادرات على دخول ما نسميه اليوم الحياة العامة. فزبيدة في "الجمال والثلاث بنات" تتعاطى التجارة وتعبر البحار بحثاً عن الرزق، وزمرد حكمت ولاية بحنكة ونجاح ورفعت المظالم عن المظــلومين وفي عهــدها استتب الأمن وان اضطرت للتخفي في ثياب رجل! إلا ان دونية النساء وهمية ومفتعلة؟
عندما لا تقدمهن في شكل حيادي كعاشقات محبات يخشى عليهن وعلى من يحبهن عشقاً ولا يعدم من وسيلة لحفظ عهدهن ازاء كل الاغراءات الممكنة حفاظاً على عهد قطعنه على أنفسهن كما في حكاية الاعرابي وزوجته الوفية ص 194 المجلد الثاني والتي تصبر على الفقر والعوز وترفض الرفاهية والنعيم وفاءً لزوجها.
هكذا تقدم الليالي صوراً متناقضة للنساء والرجال، ولكن بعض الحكايات تصوب الهدف فيرهف السرد، فتظهر السلوكات البشرية محرومة أيضاً بلا وعيها ولمحمولات المخيال الشعبي وربما الوهم والخيال والحلم والتصورات الخاطئة الرائجة عن أدوار وطبائع الجنسين، التي تسيء الى انماط العلاقة بينهما وتؤدي الى تباعد مفتعل، وتعطل التواصل.
هذه التصورات التي لا تعترف بالتفرد، بالشخصيات المتفردة تضع كل النساء والرجال في صف واحد. فهل تريد شهرزاد تصحيح أفكار شهريار المسبقة التي تحول النساء الى امرأة واحدة بتصحيح تلك التي تحول الرجال الى رجل واحد؟
لشرح دور الأوهام في علاقة الرجال بالنساء تحكي شهرزاد لشهريار قصة "الأميرة دنيا وتاج الملوك"، التي تلخص أحداثها الرئيسية كالآتي:
كانت الأميرة دنيا ابنة حاكم جزائر الكافور وقلعة البلور شهرمان تصنع في كل سنة صورة لها وترسلها الى أقاصي البلاد فيراها الناس ويعشقونها، ويتوافدون الى قصر أبيها من جميع الانحاء فيطلبون يدها منه، لكنها ترفض الزواج بأي منهم لأنها تكره الرجال ولا تطيق ان ترى لهم وجهاً وكان كل من يرى صورتها يتجشم في سبيل ذلك الاخطار والأهوال، ثم لا يلبث ان يرجع خائباً وقد ازداد حباً لها ويأساً منها الى ان رأى صورتها تاج الملوك ابن ملك المدينة الخضراء الواقعة وراء جبال اصبهان وهو شاب وسيم جذاب رائع الطباع وقع في غرامها ونوى الوصول اليها والزواج بها.
فما ان باح لأبيه الملك برغبته حتى ارسل هذا الأخير وزيره الى حاكم جزائر الكافور طالباً يدها لابنه، فأوعز والد الأميرة الى الوزير بنقل الطلب الى الأميرة فما كاد يخبرها حتى غضبت غضباً شديداً وانقضت عليه بهراوة غليظة تريد ان تحطم بها رأسه، وقالت له اذا كان أبي يريد ان يزوجني عنوة فإنني سأقتل الرجل الذي أزف اليه.
لم يفقد "تاج الملوك" الأمل وحاول الوصول الى بغيته بنفـسه فسافر الى جزر الكافور حيث اشترى حانوتاً وادعى انه تاجر قماش كي يقرب مــن الأمــيرة ويخطط بروية للوصول اليها.
وذات يوم دخلت الحانوت سيدة عجوز ترغب بشراء قطعة قماش للأميرة ولما علمت بقضيته حاولت مساعدته وشرحت له سبب بغض الأميرة للرجال، وأفهمته ان الأميرة تبغض الرجال اثر حلم حلمته وترك في نفسها اثراً سيئاً ومفاده ان الأميرة رأت صياداً نصب شركاً في الأرض ونثر حوله حبات من القمح. ثم جلس قريباً ليقتنص ما يقع فيه، فأقبل سرب من الطيور وجعل يأكل حبات القمح، وكان بينه حمامتان، ذكر وأنثى، فعلقت رجل الذكر في الشرك وأنشأ يتخبط محاولاً النجاة، فنفرت جميع الطيور وفرت هاربة، الا انثى ذلك الذكر الذي ظلت تحوم حوله، وتنقر الفخ الذي علقت رجله فيه، وتجذبه بمنقارها، حتى أنقذته منه. فنصب الصياد شركه من جديد، جلس ينتظر، فما هي الا ساعة حتى عادت الطيور الى التقاط حبات القمح وبينها ذلك الطير، فعلقت في هذه المرة رجل الأنثى. فنفرت الطيور وهربت وبينها الطير الذكر الذي أنقذته انثاه فلما وقعت رفيقته في الفخ لم يبذل أي محاولة لانقاذها. فجاء الصياد وقبض على تلك الحمامة وذبحها.
استيقظت الأميرة دنيا من نومها مذعورة، وظل هذا الحلم ماثلاً في حياتها، وقد اعتقدت على أثره ان الأنثى خير من الذكر، وان الذكور جميعاً، سواء أكانوا طيوراً أم أناساً، أنانيون ظالمون لا يخلصون لنسائهم. وراحت تضع كل الرجال في المنزلة نفسها.
ففكر "تاج الملوك" بخطة علاجية لتغيير نظرة الأميرة فأحضر رساماً الى البستان الجميل المتصل بقصرها والذي تزوره بين الفينة والأخرى وجعله يرسم على أحد جدرانه شركاً والى جانبه طائران من الحمام، الذكر منهما علق في الشرك، والأنثى تنقره ويجذبها حتى تنقذ رفيقها من الفخ ثم طلب اليه ان يرسم على الجدار المقابل صورة الصياد نفسه وقد نصب شركاً، ولتكن أنثى الحمام هي العالقة به هذه المرة، وبدا الذكر من بعيد وكأنه يهم بالدنو من الشرك وفي لوحة ثالثة بدا الصياد وقد قبض على أنثى الحمام وهم بذبحها، وفي الجانب الآخر ذكر الحمام وقد اختطفه جارح من الجوارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه وقضى عليه، ولما شاهدت الأميرة اللوحات غمرها فرح جارف هز أعماق نفسها، وأخذت تحدث جارتها وكأنها تحدث نفسها واكتشفت انها كانت على ضلال في كراهيتها للرجال، وطلبت لاحقاً التحدث الى الشاب الذي لمحته في البستان ولم يكن غير تاج الملوك والذي رأت فيه ملامح الرجولة والرقة معاً، وشغفت به فور تحررها من عقدتها واكتشفت كما تقول القصة "عاطفة لم تكن تعلم ان القلب يتسع لمثلها وهي أعمق وأكبر من كل عاطفة أخـرى".
هذه القصة التي تمجد الحب تبرز بعض التصورات المغلوطة أو الدوغمائية، التي تبنيها النساء حول الرجال وأحياناً العكس والتي تؤدي الى سوء فهم وتفاهم عميقين ومؤذيين أحياناً، تدعو الى تصحيح التصورات الخاصة بالجنسين ومنها التصورات النسائية الخاصة بالذكور، وتكشف من وجهة أخرى، رغبة النساء الأزلية بالاعتراف بهن في مجتمع ذكوري ومعاملتهن بالمثل والاقرار بحقهن بالحياة والتعاون، والا انطوت النساء على أنفسهن وصرن نرجسيات وساديات مكتفيات بأنفسهن كما كانت عليه الأميرة دنيا أول الأمر، كما تكشف هذه القصة عن حاجة هؤلاء النساء الى رجولة مقرونة بالرقة، التي يمثلها تاج الملوك، الذي نجح باستعادة ثقة الأميرة دنيا بالرجال وبعلاجها إذا صح التعبير وهي الغاية نفسها التي سعت اليها شهرزاد التي جاملت وداورت وهادنت وصبرت وكابدت وثابرت كي تتبدل نظرة شهريار السلبية للنساء وأجبرته خلسةً على الاستماع والانصات والتفهـم.
وفي كل الأحوال تسعى شخوص "ألف ليلة وليلة" للحب والود والعشق والوصال فيخشى على العاشقين عندما ينفذون من المرض والهزال واللوعة، وتعلن هذه الشخوص، رغباتها من دون خفر ولا ذكورية.
وأحياناً يغني الرمز والفانتازيا عن أكداس النظريات والتحليلات والعظات.
تفتح ألف ليلة وليلة الصادرة عن دار صادر، بيروت في مجلدين، على قراءات متعددة، وربما على كل القراءات الممكنة لاكتنازها اشارات في كل الميادين، وهي، بحكم مبررها الأساسي، تحض على قراءة نسوية حيث ان معظم القصص تقوم، في حبكتها الرئيسية أو الثانوية، على اشكاليات علاقة النساء بالرجال، بدءاً بمبرر السرد الأساسي وهو سعي شهرزاد الى ابعاد شبح الموت عنها وعن بقية نساء الدولة، متوسلة تسلية الحاكم العصابي المهتاج، الذي فقد ثقته بنفسه وبنساء الأرض بعد ان ضبط زوجته وزوجة أخيه شاه زمان بالجرم المشهود وفوق ذلك مع "عبد أسود" فرمى عنق زوجته وكذلك أعناق الجواري والعبيد، وصار شهريار كلما يأخذ بنتاً بكراً يزيل بكارتها ويقتلها في ليلتها، ولم يزل على ذلك مدة ثلاث سنوات. فضجت الناس وهربت ببناتها ولم يبق في تلك المدينة بنت "تتحمل الوطء". ثم ان شهريار أمر وزيره أن يأتيه ببنت على جريّ عادته فخرج الوزير وفتش فلم يجد بنتاً، فتوجه الى منزله وهو غضبان مقهور خائف على نفسه منه. وكان للوزير بنتان، الكبيرة اسمها شهرزاد والصغيرة اسمها دينازاد، كانت الكبيرة قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين ولما سألته ما به، حكى لها ما جرى له من الأول الى الآخر مع الملك. فطلبت من والدها أن يزوجها له: إما ان تعيش وإما تكون "فداء لبنات المسلمين" كما قالت. وهكذا يقوم السرد على حال لا توازن وصراع قوى بين رجال ونساء.
إزاء هذا الخطر المحدق، قررت شهرزاد تسلية الحاكم وتبديد مخاوفه، موظفة معلوماتها التاريخية والاجتماعية الوفيرة، وقدرتها على التخييل والابهار. حكايات تتوالد وتتشابك ساخرة من منطق الأشياء والأحداث والنهايات، محولة الحياة الى أسطورة، ليتعذر التمييز، وتتساوى الخيالات والوقائع، فتخف مرارة الواقع أو تشذب، فتحفل الليالي بأشكال وألوان وقضايا وموضوعات منوعة، برجال ونساء، يتجاذبون ويتنافرون، لكنهم يبحثون، كل على طريقته وتصوراته وأفكاره الموروثة أو المكتسبة، عن الحب والإخلاص والتفاهم والاعتراف، ما لم تورطهم "شهواتهم"، وفق روحية المؤلف، وروحية البيئة التي ولد فيها النص، إذا سلمنا انه ولد في العصر العباسي، في مطبات وصعوبات "لا تحمد عقباها".
ونجحت شهرزاد بانقاذ شهريار، إذ صالحته مع نفسه ومع النساء راسمة له شخصيات نسائية عدة سلبية في مقابل أخرى ايجابية وكأنها تدعوه الى تعميق فهمه لتناقضات الطبائع الانسانية لتطهيره من هواجسه وخوافاته phobies واعادته الى أرض الواقع والحياة.
وفي سياقاتها تمنح النساء أدواراً سلبية، فتصورهن شهوانيات، وفوق ذلك عديمات الوفاء، لا يأبهن بعهد يأخذنه على أنفسهن ولا بالإخلاص لرجل يتفانى من أجلهن وتحفل الليالي بالنساء الخائنات، ففي حكاية الصياد مع العفريت، يخدع سلطان الجزائر السود بزوجته وهي ابنة عمه، التي يتوقع ان تكون مخلصة له، وهي توهمه انها مغرمة به، فيما تخدره كل ليلة لتذهب الى عشيقها، وامعاناً في الصلافة، سحرت زوجها وحولته الى نصف حجر، نصف بشر، وكانت تعذبه وتضربه "بسوط من الجلد، مئة ضربة حتى يسيل الدم".
وفيما شهريار وشاه زمان في أوج أزمتهما اعترضتهما امرأة اختطفها جني ليلة عرسها ووضعها داخل صندوق، ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلها في قاع البحر المتلاطم. وما ان نام الجني، حتى رفعت رأسها وأبدت إليهما رغبتها، أي ان المرأة "إذا ارادت امراً لم يغلبها شيء" واستعانت شهرزاد ببعض الأبيات الشعرية المواتية وهي:
لا تأمن الى النساء = ولا تثق بعهودهن
يبدين وداً كاذباً = والغدر حشو ثيابهن
بحديث يوسف فاعتبر = متحذراً من كيدهن
أو ما ترى ابليس أخ = رج آدم من أجلهن
إلا انها تصور أحوالاً أخرى تكون فيها النساء ضحايا سوء ظن، أو سوء فهم الرجال، ففي "حكاية الصبية والتفاح وريحان العبد" يتهم الرجل زوجته زوراً بخيانته ويقتلها ولا يكتشف حقيقة الأمر إلا بعد فوات الأوان، وفي حكاية "اتهام غير عادل في زوجته"، ص 58 - 59 المجلد الثاني، تنجو زوجة وفية من الذبح بعد ان ثبت لزوجها انها ضحية مكيدة وضبها لها عاشق ولهان ولم يتمكن من الايقاع بها أي أنها لا تساوي بين النساء، وتتعاطف مع من تقع ضحية الريبة وسوء الظن وضحية رجل سريع الانفعال والتصديق، وضحية الأفكار المسبقة.
وعلى رغم تعاطفها مع الرجال المتروكين من زوجاتهم أو حبيباتهم، إلا انها كانت تظهر في المقابل خفة الرجال أو سعيهم وراء المغامرات، غير مبالين بامرأة تحبهم بصدق، كما هي حال غرير الذي استخف بابنة عمه الوفية وسعى وراء نساء مستهترات وكأن المرأة المستهترة تجذب أكثر من غيرها والوفية غير مطلوبة، وهكذا تبدو المسألة مسألة اختيار أو سوء اختيار ومسألة عرض وطلب.
أما صورة قدرات المرأة العقلية لديها فمتضاربة وعلى طرفي نقيض، فإذا كن ناقصات عقل ودين، كما يتكرر في أكثر من مكان فهن أفضل على الأقل من الغلمان كما اجتهدت امرأة فقيهة تدعى "سيدة المشايخ" في "حكاية محاسن اختلاف الأجناس" في اقناع محاورها، مشيدة بحسن معاشرة النساء. ص: 674 - 675، فيما هو مصر على ان الغلمان أفضل من النساء متسلحاً بالكلام الإلهي: الرجال قوامون على النساء بما فضل بعضهم على بعض ودية المرأة على النصف من ودية الرجل" فلا تناقشه أو تدحض أقاويله، وتقوم بتكريس دونية المرأة فتوافق على حجج محاورها ولا ترى في النساء الا مزايا وخصائص جسدية جنسية، وهي مكلفة بالترويج، لا للنساء، بل لنمط من العلاقة الجنسية مباح بينما الآخر منكر.
وشيرين زوجة خسرو ملك الملوك أملت رأياً غير صائب على زوجها وبدت أقل حنكة ودهاء وحسن تصرف من الصياد البسيط. وخلص زوجها الى انه لا ينبغي لأحد ان يقتدي برأي النساء، "فمن اقتدى برأيهن خسر مع درهمه درهمين" ص 643 - 639 وزوجة الطحان تسببت بضياع ثروة زوجها بالتواطؤ مع عشيقها الذي ما لبثت ان خســرته.
يتقابل هذا الوجه السلبي أو الاختزالي لأدوار المرأة، كشهوانيات، خائنات، وناقصات، الذي يتطور الى حدود التنظير كما في حكاية "محاسن اختلاف الأجناس" صور لنساء عالمات مثقفات ومبدعات. فإذا كانت زمرد في حكاية "علي شاروزمرد" تحفظ رقائق الأشعار وتقرأ القرآن العظيم بالقراءات السبع وتروي الأحاديث الشريفة وصحيح الروايات وتكتب بالأقلام السبعة وتعرف من العلوم ما لا يعرفه عالم ويداها أحسن من الذهب والفضة وتعمل الستور الحرير وتبيعها ص 547 - 548 وإذا كانت محبوبة عازفة عود بارعة ومغنية فتودد "حكاية الجارية تودد" ص 689 - 690، تعرف النحو والشعر والفقه والتفسير واللغة والموسيقى وعلم الفرائض والحساب والقسمة والمساحة وأساطير الأولين وتنظر في علوم الرياضة والهندسة والفلسفة وعلم الحكمة والمنطق والمعاني والبيان وحفظت كثيراً من العلم وهزمت العلماء بمعارفها ومعلوماتها وهن لسن فقط قادرات على التثقيف والابداع الفني بل قادرات على دخول ما نسميه اليوم الحياة العامة. فزبيدة في "الجمال والثلاث بنات" تتعاطى التجارة وتعبر البحار بحثاً عن الرزق، وزمرد حكمت ولاية بحنكة ونجاح ورفعت المظالم عن المظــلومين وفي عهــدها استتب الأمن وان اضطرت للتخفي في ثياب رجل! إلا ان دونية النساء وهمية ومفتعلة؟
عندما لا تقدمهن في شكل حيادي كعاشقات محبات يخشى عليهن وعلى من يحبهن عشقاً ولا يعدم من وسيلة لحفظ عهدهن ازاء كل الاغراءات الممكنة حفاظاً على عهد قطعنه على أنفسهن كما في حكاية الاعرابي وزوجته الوفية ص 194 المجلد الثاني والتي تصبر على الفقر والعوز وترفض الرفاهية والنعيم وفاءً لزوجها.
هكذا تقدم الليالي صوراً متناقضة للنساء والرجال، ولكن بعض الحكايات تصوب الهدف فيرهف السرد، فتظهر السلوكات البشرية محرومة أيضاً بلا وعيها ولمحمولات المخيال الشعبي وربما الوهم والخيال والحلم والتصورات الخاطئة الرائجة عن أدوار وطبائع الجنسين، التي تسيء الى انماط العلاقة بينهما وتؤدي الى تباعد مفتعل، وتعطل التواصل.
هذه التصورات التي لا تعترف بالتفرد، بالشخصيات المتفردة تضع كل النساء والرجال في صف واحد. فهل تريد شهرزاد تصحيح أفكار شهريار المسبقة التي تحول النساء الى امرأة واحدة بتصحيح تلك التي تحول الرجال الى رجل واحد؟
لشرح دور الأوهام في علاقة الرجال بالنساء تحكي شهرزاد لشهريار قصة "الأميرة دنيا وتاج الملوك"، التي تلخص أحداثها الرئيسية كالآتي:
كانت الأميرة دنيا ابنة حاكم جزائر الكافور وقلعة البلور شهرمان تصنع في كل سنة صورة لها وترسلها الى أقاصي البلاد فيراها الناس ويعشقونها، ويتوافدون الى قصر أبيها من جميع الانحاء فيطلبون يدها منه، لكنها ترفض الزواج بأي منهم لأنها تكره الرجال ولا تطيق ان ترى لهم وجهاً وكان كل من يرى صورتها يتجشم في سبيل ذلك الاخطار والأهوال، ثم لا يلبث ان يرجع خائباً وقد ازداد حباً لها ويأساً منها الى ان رأى صورتها تاج الملوك ابن ملك المدينة الخضراء الواقعة وراء جبال اصبهان وهو شاب وسيم جذاب رائع الطباع وقع في غرامها ونوى الوصول اليها والزواج بها.
فما ان باح لأبيه الملك برغبته حتى ارسل هذا الأخير وزيره الى حاكم جزائر الكافور طالباً يدها لابنه، فأوعز والد الأميرة الى الوزير بنقل الطلب الى الأميرة فما كاد يخبرها حتى غضبت غضباً شديداً وانقضت عليه بهراوة غليظة تريد ان تحطم بها رأسه، وقالت له اذا كان أبي يريد ان يزوجني عنوة فإنني سأقتل الرجل الذي أزف اليه.
لم يفقد "تاج الملوك" الأمل وحاول الوصول الى بغيته بنفـسه فسافر الى جزر الكافور حيث اشترى حانوتاً وادعى انه تاجر قماش كي يقرب مــن الأمــيرة ويخطط بروية للوصول اليها.
وذات يوم دخلت الحانوت سيدة عجوز ترغب بشراء قطعة قماش للأميرة ولما علمت بقضيته حاولت مساعدته وشرحت له سبب بغض الأميرة للرجال، وأفهمته ان الأميرة تبغض الرجال اثر حلم حلمته وترك في نفسها اثراً سيئاً ومفاده ان الأميرة رأت صياداً نصب شركاً في الأرض ونثر حوله حبات من القمح. ثم جلس قريباً ليقتنص ما يقع فيه، فأقبل سرب من الطيور وجعل يأكل حبات القمح، وكان بينه حمامتان، ذكر وأنثى، فعلقت رجل الذكر في الشرك وأنشأ يتخبط محاولاً النجاة، فنفرت جميع الطيور وفرت هاربة، الا انثى ذلك الذكر الذي ظلت تحوم حوله، وتنقر الفخ الذي علقت رجله فيه، وتجذبه بمنقارها، حتى أنقذته منه. فنصب الصياد شركه من جديد، جلس ينتظر، فما هي الا ساعة حتى عادت الطيور الى التقاط حبات القمح وبينها ذلك الطير، فعلقت في هذه المرة رجل الأنثى. فنفرت الطيور وهربت وبينها الطير الذكر الذي أنقذته انثاه فلما وقعت رفيقته في الفخ لم يبذل أي محاولة لانقاذها. فجاء الصياد وقبض على تلك الحمامة وذبحها.
استيقظت الأميرة دنيا من نومها مذعورة، وظل هذا الحلم ماثلاً في حياتها، وقد اعتقدت على أثره ان الأنثى خير من الذكر، وان الذكور جميعاً، سواء أكانوا طيوراً أم أناساً، أنانيون ظالمون لا يخلصون لنسائهم. وراحت تضع كل الرجال في المنزلة نفسها.
ففكر "تاج الملوك" بخطة علاجية لتغيير نظرة الأميرة فأحضر رساماً الى البستان الجميل المتصل بقصرها والذي تزوره بين الفينة والأخرى وجعله يرسم على أحد جدرانه شركاً والى جانبه طائران من الحمام، الذكر منهما علق في الشرك، والأنثى تنقره ويجذبها حتى تنقذ رفيقها من الفخ ثم طلب اليه ان يرسم على الجدار المقابل صورة الصياد نفسه وقد نصب شركاً، ولتكن أنثى الحمام هي العالقة به هذه المرة، وبدا الذكر من بعيد وكأنه يهم بالدنو من الشرك وفي لوحة ثالثة بدا الصياد وقد قبض على أنثى الحمام وهم بذبحها، وفي الجانب الآخر ذكر الحمام وقد اختطفه جارح من الجوارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه وقضى عليه، ولما شاهدت الأميرة اللوحات غمرها فرح جارف هز أعماق نفسها، وأخذت تحدث جارتها وكأنها تحدث نفسها واكتشفت انها كانت على ضلال في كراهيتها للرجال، وطلبت لاحقاً التحدث الى الشاب الذي لمحته في البستان ولم يكن غير تاج الملوك والذي رأت فيه ملامح الرجولة والرقة معاً، وشغفت به فور تحررها من عقدتها واكتشفت كما تقول القصة "عاطفة لم تكن تعلم ان القلب يتسع لمثلها وهي أعمق وأكبر من كل عاطفة أخـرى".
هذه القصة التي تمجد الحب تبرز بعض التصورات المغلوطة أو الدوغمائية، التي تبنيها النساء حول الرجال وأحياناً العكس والتي تؤدي الى سوء فهم وتفاهم عميقين ومؤذيين أحياناً، تدعو الى تصحيح التصورات الخاصة بالجنسين ومنها التصورات النسائية الخاصة بالذكور، وتكشف من وجهة أخرى، رغبة النساء الأزلية بالاعتراف بهن في مجتمع ذكوري ومعاملتهن بالمثل والاقرار بحقهن بالحياة والتعاون، والا انطوت النساء على أنفسهن وصرن نرجسيات وساديات مكتفيات بأنفسهن كما كانت عليه الأميرة دنيا أول الأمر، كما تكشف هذه القصة عن حاجة هؤلاء النساء الى رجولة مقرونة بالرقة، التي يمثلها تاج الملوك، الذي نجح باستعادة ثقة الأميرة دنيا بالرجال وبعلاجها إذا صح التعبير وهي الغاية نفسها التي سعت اليها شهرزاد التي جاملت وداورت وهادنت وصبرت وكابدت وثابرت كي تتبدل نظرة شهريار السلبية للنساء وأجبرته خلسةً على الاستماع والانصات والتفهـم.
وفي كل الأحوال تسعى شخوص "ألف ليلة وليلة" للحب والود والعشق والوصال فيخشى على العاشقين عندما ينفذون من المرض والهزال واللوعة، وتعلن هذه الشخوص، رغباتها من دون خفر ولا ذكورية.