عبدالقادر وساط - عطور صافو

في الرابعة زوالا، من يوم سبت ممطر، دخلَ (س) متْجَراً للعطور، بشارع الميموزا، بالدار البيضاء.
كانت صاحبة المتجر امرأة شابة، جميلة العينين، ذات ملامح متناسقة وابتسامة خلابة. وكانت في منتهى الأناقة.
ألقى (س) التحية فردّتْ بأحسن منها. قال إنه يريد عطرا نسائيا من النوع الرفيع. نظرتْ إليه بابتسامتها التي لا تقاوم، وقالت:
- ومن أخبرك يا سيدي أننا نبيع العطور في هذا المحل؟
قال مستغربا:
- هناك عند المدخل لوحة كبيرة، مكتوب عليها "عطور صافو".
نظرتْ إليه متمعنة، دون أن تتخلى عن ابتسامتها، ثم قالت:
- يبدو أنك لم تقرأ جيدا ما هو مكتوب...هذا ليس محلا لبيع العطور، أيها الرجل الطيب!
شرع يَنظرُ إلى الرفوف المليئة بالزجاجات والقوارير البديعة الصنع. استدارت المرأة وتناولتْ منها ثلاث قوارير، ثم وضعتها على المنضدة أمامها وقالت له:
- انظر جيدا يا سيدي. هل هذه عطور؟
شرعَ (س) يتأمل القوارير وهو يشعر بالحيرة. كان كل شيء يوحي بأنها عطور، لكن صاحبة المتجر قالت بنبرة اليقين:
- هذه سموم يا سيدي...سموم وليست عطوراً. هذا المتجر متخصص في بيع مختلف أنواع السموم .
قال لها غير مصدق:
- ولمن يا تُرى تبيعون هذه السموم؟
أجابت:
- ثمة أشخاص كثيرون يزوروننا في هذا المحل، لأنهم تعبوا من الحياة، أو لأن الحياة تعبتْ منهم، فيشترون واحدة من هذه القوارير، ويتناولون محتواها أمام أنظارنا، بعد أداء ثمنها بطبيعة الحال !
سألَها:
- أمام أنظاركم؟
قالت:
- طبعا أمام أنظارنا! فنحن لا نثق كثيرا في الزبائن. وإذا تركنا الواحدَ منهم يحمل قارورة السم إلى منزله، فقد يغير رأيه ويمتنع عن تناول محتواها. وربما ناولَ ذلك المحتوى لشخص آخر.
قال بنبرة مسالمة:
- شكرا جزيلا على هذه المعلومات، سيدتي. الحق أني لم أسمع قط بمتجركم هذا.سأمضي الآن لكي أبحث عن محل عطور. مع السلامة.
همَّ (س) بمغادرة المحل، لكنّ حارسَين في غاية القوة والضخامة حالا بينه وبين الباب. خاطبته المرأة قائلة:
- لا يمكنك الخروج يا سيدي. كل من دخل هذا المحل يكون ملزما بشراء قارورة سم وبتناولها أمام أنظارنا.
ثم سكتتْ قليلا وألقت عليه نظرة متفحصة بعينيها الجميلتين، قبل أن تتابع:
- بعد أداء ثمن القارورة طبعا!
بقي واقفا مكانه دون حراك، بينما انشغلتْ هي بوضع عدد كبير من القوارير على المنضدة البيضاء أمامها. ثم طلبت منه أن يقترب:
- كما ترى، فإن لدينا سموماً من مختلف الأنواع...هذه القارورة مثلا تجد فيها السم الذي مات به سقراط...وفي هذه تجد السم الذي دسّته والدة نيرون للإمبراطور كلوديوس، أما هذه، ففيها السم الذي مات به والدُ هاملت. وتأمل معي الآن الشكل الرائع لهذه القارورة الصغيرة، إنها غاية في جمال الصنع، والسائل الشفاف الذي بداخلها هو السم الذي مات به إدريس الأول، أما هذه الزجاجة اللازوردية الصغيرة، فهي تحتوي على السم الذي مات به هنيبعل.
قاطعَها ( س) قائلا:
- سيدتي، حسب ما فهمته من كلامك، فأنتم تقترحون خدماتكم على زبائن تعبوا من الحياة، أو تعبت منهم الحياة. وأنا لست منهم، صدقيني.
هزت كتفيها ثم قالت:
- لاداعي لإضاعة الوقت، يا سيدي. هيا، تفضل باختيار نوع السم الذي يناسبك !
نظرَ إلى الباب، فلاح له العملاقان الاثنان. كانت نظراتهما تنذر بكل أنواع الشرور. وكان واضحا أنه لن يستطيع الهرب. قال وهو يتصنع الابتسام:
- طيب، إذا كان الأمر كما تقولين، فأنا أفضل أن تناوليني خليطا من هذه السموم المختلفة!
- فليكن، قالت وهي تضحك...الخليط أفضل وميتته أسهل، لكن ثمنه أغلى بطبيعة الحال.
قال إنه يحمل معه دفتر شيكاته.
نظرت إليه مبتسمة. قالت إن متجرهم هو متجر السم الوحيد الذي يقبل الشيكات من الزبائن. بعد ذلك طلبت منه أن ينتظر قليلا وأخذتْ بطاقة هُويته، وجلستْ لترقن على الحاسوب اسمه وعمره ومهنته وعنوانه.
ولما انتهتْ طلبتْ منه أن يملأ لها شيكا بقيمة عشرة آلاف درهم.
أخرج قلمه من جيب المعطف وملأ الشيك. سألها وهو يناولها الشيك:
- ماذا لو كان هذا الشيك دون رصيد؟
قالت وقد ارتسمت على وجهها الجميل ابتسامة غامضة:
- فراستنا لا تخطئ.
ساد صمت قصير ثم عادت تسأله:
- هل ترغب في أوراق بيضاء لكتابة وصيتك؟
أجابها بالنفي. وعندئذ شرعت تعد له الخليط المطلوب، ثم مدته إليه فتناولَه منها دون تردد، وشربَه أمامها دفعة واحدة، بينما هي تراقبه بعينيها الساحرتين وبابتسامتها الخلابة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى