عرفت إدوارد سعيد أستاذا منذ أوائل السبعينيات عندما التحقت في قسم الدراسات العليا في جامعة كولومبيا في نيويورك. كان محاضرا مبهرا يجمع بين المعرفة الموسوعية والعمق الفكري والرؤية الإنسانية.
وقد شكل سعيد في مجال النقد والتنظير ظاهرة نادرة, حيث التحم عنده اتجاهان في النقد الأدبي: أحدهما يبرز البعد الجمالي والاستيطيقي في الأدب والفن, والاخر يلح علي البعد الاجتماعي والانساني في الإبداع, ولم يكن هذا التلاحم بين هذين الخطين توفيقا أو تلفيقا, مجاورة أو ممازجة, وإنما نبع من رؤية فلسفية لاتقوم بفصل قسري بين ما هو جميل في النص وما هو جميل في الحياة.
عرفت إدوارد سعيد عن كثب, فقد كان مشرفا علي رسالتي وعلي دراستي عند التحضير للماجستير والدكتوراه. لم يكن يهمه أن يكون طلابه تابعين ومريدين له, فقد كان يستنكر الشللية الأكاديمية وكان لايطيق الاتباع والتقليد ويدفع طلابه ليستكشفوا بأنفسهم إمكانياتهم الكامنة والمطمورة, وكان يلح علي دفعنا نحو أقصي قدراتنا وتمثل مسئولياتنا.
وكان في هذا نموذجا لنا, فقد قاوم بشراسة كل الضغوط التي حاولت إسكاته عبثا عن قول الحق وعن الدفاع عن القضية الفلسطينية بشكل خاص وقضايا المستضعفين في العالم بشكل عام. ولم يتراجع عندما هدده الإرهابيون الصهاينة مرارا وتكرارا بالقتل والاغتيال, كما أنه قاوم مرض سرطان الدم لأكثر من عقد واستمر ينتج ويبدع, يحاضر وينشر, علي الرغم من الآلام المزمنة والمستمرة, كان مرضه حرب استنزاف لم يستسلم له إلا بعد أن أدي رسالته النبيلة.
تتضمن مسيرة سعيد كلا من إرادة التجويد والإتقان ومن نبل المواطنة والالتزام ولا يعبر سعيد عن هذين الهاجسين بشكل منفصل عن بعضه البعض فيكون أحيانا مناضلا وأحيانا أكاديميا, إن إدوارد سعيد الدليل القاطع علي أن لاتجويد وإجادة إلا بالمواطنة والالتزام الإنساني, ولا مواطنة إلا بالإجادة.
اعتمدت استراتيجية سعيد في النقد والتنظير في مختلف العلوم الإنسانية علي الكشف عن الجوانب المهملة والمبعدة في الخطاب السائد, ومن ثم تقديم وجهات نظر المغيب والمستبعد. فهو يستحضر المهمش ويزحزحه من مكانه المنزوي ليأتي به الي متن الخطاب المهيمن. ينتقد سعيد بمهارة سجالية ودقة معرفية تعميم التجربة الغربية ورفعها الي مستوي المثل الأعلي والنموذج الإنساني الكلي, بحيث يصبح ما هو غير أوروبي/ أمريكي في الحضارة الإنسانية هامشيا وثانويا.
عكف سعيد علي تفكيك الهيمنة ورأب الصدع في ممارسة غير متكافئة بين الأنا والآخر, فلم ينخرط متعصبا ومتحزبا لأيهما, لكنه اجتهد في أن يكون مع من لاصوت لهم في الساحة العالمية وتشهد أعمال سعيد الغزيرة علي أهمية أن نعرف أنفسنا وثقافتنا كما نعرف ثقافة الآخرين, ونتحمس لما هو نبيل سواء كان في سياق ثقافتنا وحضارتنا أو في سياق ثقافة الآخرين وحضارتهم.
وفي مجمل أعمال سعيد هاجس طاغ ومكنون, وهو علاقة الكلمة بالفعل وكيف يمكن تجسير المسافة بينهما. لقد كانت علاقة الدال بالمدلول واللغة بالعالم موضوع تساؤل منذ أفلاطون وحتي ميشيل فوكو. أما عندنا ـ وربما لأننا مغلوبون ومقهورون نسعي الي النهوض من كبواتنا وانكساراتنا ـ تأتي مسألة العلاقة بين الكلمة والفعل, بين السلوك والخطاب, بين الممارسة والتنظير, في المقام الأول. يقدم سعيد نموذجا نحن في أشد الحاجة له, ينأي عن الازدواجية المتفشية بين القول والفعل, وبين النظر والعمل.
ليبقي إدوارد سعيد ذخرا ونبراسا في هذا الليل العربي الطويل ولنتعلم منه ألا نلبس الحق بالباطل وان ننتظر الفجر, لا بالصبر فحسب, بل بالعمل المتواصل, المدروس والهادف, كما كان إدوارد سعيد يؤمن إيمانا لا يرقي الشك له. نقول لترابه مستعينين بصورة مجازية من تراثنا الشعري: جادك الطل والغيث!
أ. د. فريال جبوري غزول
الجامعة الأمريكية ــ القاهرة
وقد شكل سعيد في مجال النقد والتنظير ظاهرة نادرة, حيث التحم عنده اتجاهان في النقد الأدبي: أحدهما يبرز البعد الجمالي والاستيطيقي في الأدب والفن, والاخر يلح علي البعد الاجتماعي والانساني في الإبداع, ولم يكن هذا التلاحم بين هذين الخطين توفيقا أو تلفيقا, مجاورة أو ممازجة, وإنما نبع من رؤية فلسفية لاتقوم بفصل قسري بين ما هو جميل في النص وما هو جميل في الحياة.
عرفت إدوارد سعيد عن كثب, فقد كان مشرفا علي رسالتي وعلي دراستي عند التحضير للماجستير والدكتوراه. لم يكن يهمه أن يكون طلابه تابعين ومريدين له, فقد كان يستنكر الشللية الأكاديمية وكان لايطيق الاتباع والتقليد ويدفع طلابه ليستكشفوا بأنفسهم إمكانياتهم الكامنة والمطمورة, وكان يلح علي دفعنا نحو أقصي قدراتنا وتمثل مسئولياتنا.
وكان في هذا نموذجا لنا, فقد قاوم بشراسة كل الضغوط التي حاولت إسكاته عبثا عن قول الحق وعن الدفاع عن القضية الفلسطينية بشكل خاص وقضايا المستضعفين في العالم بشكل عام. ولم يتراجع عندما هدده الإرهابيون الصهاينة مرارا وتكرارا بالقتل والاغتيال, كما أنه قاوم مرض سرطان الدم لأكثر من عقد واستمر ينتج ويبدع, يحاضر وينشر, علي الرغم من الآلام المزمنة والمستمرة, كان مرضه حرب استنزاف لم يستسلم له إلا بعد أن أدي رسالته النبيلة.
تتضمن مسيرة سعيد كلا من إرادة التجويد والإتقان ومن نبل المواطنة والالتزام ولا يعبر سعيد عن هذين الهاجسين بشكل منفصل عن بعضه البعض فيكون أحيانا مناضلا وأحيانا أكاديميا, إن إدوارد سعيد الدليل القاطع علي أن لاتجويد وإجادة إلا بالمواطنة والالتزام الإنساني, ولا مواطنة إلا بالإجادة.
اعتمدت استراتيجية سعيد في النقد والتنظير في مختلف العلوم الإنسانية علي الكشف عن الجوانب المهملة والمبعدة في الخطاب السائد, ومن ثم تقديم وجهات نظر المغيب والمستبعد. فهو يستحضر المهمش ويزحزحه من مكانه المنزوي ليأتي به الي متن الخطاب المهيمن. ينتقد سعيد بمهارة سجالية ودقة معرفية تعميم التجربة الغربية ورفعها الي مستوي المثل الأعلي والنموذج الإنساني الكلي, بحيث يصبح ما هو غير أوروبي/ أمريكي في الحضارة الإنسانية هامشيا وثانويا.
عكف سعيد علي تفكيك الهيمنة ورأب الصدع في ممارسة غير متكافئة بين الأنا والآخر, فلم ينخرط متعصبا ومتحزبا لأيهما, لكنه اجتهد في أن يكون مع من لاصوت لهم في الساحة العالمية وتشهد أعمال سعيد الغزيرة علي أهمية أن نعرف أنفسنا وثقافتنا كما نعرف ثقافة الآخرين, ونتحمس لما هو نبيل سواء كان في سياق ثقافتنا وحضارتنا أو في سياق ثقافة الآخرين وحضارتهم.
وفي مجمل أعمال سعيد هاجس طاغ ومكنون, وهو علاقة الكلمة بالفعل وكيف يمكن تجسير المسافة بينهما. لقد كانت علاقة الدال بالمدلول واللغة بالعالم موضوع تساؤل منذ أفلاطون وحتي ميشيل فوكو. أما عندنا ـ وربما لأننا مغلوبون ومقهورون نسعي الي النهوض من كبواتنا وانكساراتنا ـ تأتي مسألة العلاقة بين الكلمة والفعل, بين السلوك والخطاب, بين الممارسة والتنظير, في المقام الأول. يقدم سعيد نموذجا نحن في أشد الحاجة له, ينأي عن الازدواجية المتفشية بين القول والفعل, وبين النظر والعمل.
ليبقي إدوارد سعيد ذخرا ونبراسا في هذا الليل العربي الطويل ولنتعلم منه ألا نلبس الحق بالباطل وان ننتظر الفجر, لا بالصبر فحسب, بل بالعمل المتواصل, المدروس والهادف, كما كان إدوارد سعيد يؤمن إيمانا لا يرقي الشك له. نقول لترابه مستعينين بصورة مجازية من تراثنا الشعري: جادك الطل والغيث!
أ. د. فريال جبوري غزول
الجامعة الأمريكية ــ القاهرة