نجيب محفوظ يكتب فى 1930..
نواصل نشر المقالات النادرة للأديب الراحل نجيب محفوظ، واختار الزميل أسامة الرحيمي، هذا المقال الذى نشره محفوظ المجلة الجديدة- العدد 12- السنة الأولى- أكتوبر 1930
وإلى المقال:
قامت المدنيات القديمة على معتقدات قوية - كما يقول جوستاف لوبون – سواء كانت هذه المعتقدات دينية أم سياسية وبقيت هذه المدنيات قوية الدعائم متينة البنيان لأن المعتقدات التي تأسست عليها كانت متأصلة في النفوس وفي مأمن من البحث والنقد اللذين يولدان الشك والريبة.
وهذه المعتقدات قد تضمنت أخطاء وخرافات لا يقبلها العقل بحال من الأحوال، وإن اطمأنت إليها المشاعر في أغلب الأحوال. وإذا خالط الشك النفوس في معتقد ما وكان هذا المعتقد أساسًا لمدينته، فقد أن الأوان لانهيارهما معًا ونحن نشاهد - في عصرنا هذا - أن جميع العقائد القديمة التي اطمأنت لها النفوس أجيالا طويلة أخذت تتزعزع رويدًا رويدًا وتتزحزح عن مكانتها الأولى شيئًا فشيئا.
والإنسان بطبعه وبحكم العاطفة الدينية التي تملأ جوانب نفسه يتشوف دائمًا لمعتقد يسلم إليه نفسه وإيمانه ولهذا نجده يعتنق المذاهب الاجتماعية والآراء السياسية ويبذل في سبيلها من نفسه ما كان يبذل سلفه القديم في سبيل الله أو قيصر، غير أن رأيًا من هذه الآراء أو مذهبًا من هذه المذاهب لم يستقر بعد في النفوس كما استقرت الآراء والمذاهب القديمة ولم ينطبع بذلك الطابع الديني المقدس الذي يجعل بحث المذهب أو نقده كفرًا وخيانة. فعصرنا فترة بين اعتقادات ومعتقدات تحتضر وتفنى وبين آراء ومذاهب أخرى لم تستقر استقرارًا تامًا وتأخذ مكانتها من النفوس، فهو عصر اضطراب وتردد لا مثيل لهما في التاريخ، اضطراب في الآراء التي تتصارع للحياة والاستقرار والفوز وتردد بين مذاهب يناقض بعضها البعض الآخر ويحاول القوى منها محو الضعيف المتداعي وهكذا فنحن نشاهد أنه لا يظهر كتاب يدعو لعقيدة من العقائد حتى يظهر آخر يسخف هذه العقيدة وينحى عليها أشد الأنحاء ثم لا يلبث أن يؤلف ثالث يتوسط الرأيين المتناقضين برأي ثالث وهكذا.
ليس ثمة شك في أن استقرار الحياة وثبات المدنيات وسير الأمور في مجراها الطبيعي خير من ذلك الاضطراب المروع. ولكننا مع ذلك لا نبتئس بقرب زوال المعتقدات البالية ولا ندعو المفكرين إلى الكف عن بحثها ونقدها لتتحفظ بما لها من القدسية والمهابة ولتضمن لنا حياة هادئة وديعة، ذلك لأننا نعتقد بأن هذا الاضطراب نتيجة لا حيد عنها تحدثها الطبيعة لتقدم العمران كما نعتقد أنه مظهر للتقدم العقلي ومقياس صادق للتطور الذي يطرأ عليه بين حين وآخر. فالعقل يهدم المعتنقات القديمة لأنه أصبح لا يسيغها أو لأنه ارتقى لدرجة أصبح نقده لهذه المعتنقات فيها ضرورة لازمة لا دخل فيها للاختيار والتدبر.
ومثله في ذلك مثل الشيب الذي يعلو الرأس إذا ما كبر الإنسان، وعليه فمناهضة الحركات التجديدية إنما هي مناهضة لإحدى سنن الطبيعة التي لا تناهض ولا تغلب ونحن أيضًا نتشاءم من تزعزع الإيمان بالمعتقدات القديمة ولا نميل إلى التسليم بأن عاقبة ذلك خراب العالم كما يدعى كثير من المتشائمين. وكل ما في الأمر أن هو إلا ترميم في الأساس أو هو بنيان أساس جديد متين لا نتسرع في تشيده بل نترك ذلك للتطور والزمان وهما كفيلان بأن يحققا لنا ما نحلم به من غير أن نلجأ إلى الثورات التي تفوز بالمرغوب وتقهر الزمان في الظاهر بينما هي في الحقيقة والواقع ليست إلا تخريبًا واضطرابًا لا يسفران إلا عن تقهقر ورجوع إلى نقطة الابتداء.
وهذه العجالة في وصف ما طرأ من الاضطراب على معتقداتنا تفسر لنا بعض التفسير ذلك التطور الهائل الذي نلحظه في الآداب.
ففي الزمن الماضي يوم كانت الاعتقادات القديمة سائدة مستحوذة على المشاعر والنفوس يتأثر بها الخاصة كما يتأثر بها العامة كان الأدباء - بكتبهم وقصصهم - يعبرون أصدق تعبير عما يتأثرون به من المعتقدات، ويكفيك لتقتنع بذلك أن تجيل نظرة في تلك المجلدات الضخمة التي كتبت عقب ظهور الإسلام لتشرح نصوصه الدينية أو لتجمع أحاديث النبي وتفسرها بل يكفيك أن تقرأ دواوين بعض الشعراء ممن لم يكن لهم هم إلا نظم الحكم الدينية أو مدح النبي أو التغزل الإلهي.
والأمر لا يختلف في الدين عنه في الاجتماع والسياسة فكثيرا ما ألفت الكتب والقصص لتأييد مذهب أو نصر مبدأ أو بث دعوة.
فلما أخذت الاعتقادات القديمة في الفناء وأخذ العقل يسلط نوره عليها فيظهر من عيوبها ويكشف عن سوءاتها التي عاشت ورسخت في النفوس أجيالا كحقائق لأمراء فيها، ولا جدال ولما حل الشك محل الإيمان، تأثر الأدباء بذلك التطور الذين هم من أكبر دعاته ومؤيديه بما يؤلفون من كتب تحمل على القديم تحاول أن تأتى عليه وتخلصنا من استعباده ورقه. وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت بين أيدينا مجموعة وافية من الكتب والقصص تبعث قراءتها على الشك في الماضي بآرائه ومعتقداته أو تدعو لمذهب جديد كالاشتراكية والعالمية وغير هما، والذي يجدر بنا أن نلاحظه هو أن جميع الأديان الجديدة ترمى إلى اتحاد العالم وإزالة الفروق الوطنية وهي تتفق في ذلك مع الأديان القديمة مثل المسيحية والإسلام ولكنها تزيد على ذلك فيدعو بعضها إلى إزالة فوارق الطبقات المادية.
ولو أننا أردنا أن نتنبأ بالمذهب الذي سوف يكون له الفوز من بين المذاهب لقلنا - أو لأحببنا أن نقول - بأنه مذهب الاشتراكية، وذلك لأنها تستهوى بوعودها أفئدة الساخطين المتذمرين والفقراء وهم السواد الأعظم من سكان العالم ولأنها تسد النقص الملموس الناتج عن التقدم العلمي وظهور المخترعات والآلات، ولأنها وسط بين نظامين يتأفف منهما المتدينون وهما الشيوعية والفردية. وقد أخذت منهما حسناتهما ونفضت عنها نقائصها الظاهرة.
وهنالك أسباب كثيرة أخرى تجعلنا نكاد نوقن بأن المستقبل للاشتراكية ولكن بحثها الآن لا يعنينا.
ثم لا يفوننا أن نذكر أن سعادة الاشتراكية الموعودة دنيوية تنال في هذه الحياة لا في حياة أخرى وأنها لذلك قد تعجز - لسبب من الأسباب - عن أنجاز وعودها تامة كاملة وعلية فينفض من حولها أعظم مؤيديها حماسة ونشاطا. ولكنا لا ننسى كذلك أن الكمال في الدنيا ضرب من المستحيلات وأنه وأن كانت الاشتراكية لن توصلنا لحالة من النعيم لا مطلب خلفها ألا أنها تستطيع أن تنتشلنا من حالتنا هذه إلى خير منها، وليست الاشتراكية نهاية ما يمكن أن يتطور إليه النظام الاجتماعي وعلية فالتطلع للأحسن سيدفعنا دائمًا للتنقيب عما فيه سعادتنا ورفاهيتنا.
وجمله ما أريد أن أقوله عن هذا الأمر أنه لو خاب أملنا في الاشتراكية بعض الخيبة فليس معنى ذلك أننا نرغب في الرجوع إلى حالتنا الأولى السيئة - الحالة الحاضرة - أنما يجعلنا ذلك نزيد إيمانا بالتطور الذي هو الخالق الوحيد للاشتراكية وغيرها من الآراء والعقائد.
* نقلا عن بوابة الحضارات:
بوابة الحضارات | نجيب محفوظ يكتب فى 1930.. المستقبل للاشتراكية
نواصل نشر المقالات النادرة للأديب الراحل نجيب محفوظ، واختار الزميل أسامة الرحيمي، هذا المقال الذى نشره محفوظ المجلة الجديدة- العدد 12- السنة الأولى- أكتوبر 1930
وإلى المقال:
قامت المدنيات القديمة على معتقدات قوية - كما يقول جوستاف لوبون – سواء كانت هذه المعتقدات دينية أم سياسية وبقيت هذه المدنيات قوية الدعائم متينة البنيان لأن المعتقدات التي تأسست عليها كانت متأصلة في النفوس وفي مأمن من البحث والنقد اللذين يولدان الشك والريبة.
وهذه المعتقدات قد تضمنت أخطاء وخرافات لا يقبلها العقل بحال من الأحوال، وإن اطمأنت إليها المشاعر في أغلب الأحوال. وإذا خالط الشك النفوس في معتقد ما وكان هذا المعتقد أساسًا لمدينته، فقد أن الأوان لانهيارهما معًا ونحن نشاهد - في عصرنا هذا - أن جميع العقائد القديمة التي اطمأنت لها النفوس أجيالا طويلة أخذت تتزعزع رويدًا رويدًا وتتزحزح عن مكانتها الأولى شيئًا فشيئا.
والإنسان بطبعه وبحكم العاطفة الدينية التي تملأ جوانب نفسه يتشوف دائمًا لمعتقد يسلم إليه نفسه وإيمانه ولهذا نجده يعتنق المذاهب الاجتماعية والآراء السياسية ويبذل في سبيلها من نفسه ما كان يبذل سلفه القديم في سبيل الله أو قيصر، غير أن رأيًا من هذه الآراء أو مذهبًا من هذه المذاهب لم يستقر بعد في النفوس كما استقرت الآراء والمذاهب القديمة ولم ينطبع بذلك الطابع الديني المقدس الذي يجعل بحث المذهب أو نقده كفرًا وخيانة. فعصرنا فترة بين اعتقادات ومعتقدات تحتضر وتفنى وبين آراء ومذاهب أخرى لم تستقر استقرارًا تامًا وتأخذ مكانتها من النفوس، فهو عصر اضطراب وتردد لا مثيل لهما في التاريخ، اضطراب في الآراء التي تتصارع للحياة والاستقرار والفوز وتردد بين مذاهب يناقض بعضها البعض الآخر ويحاول القوى منها محو الضعيف المتداعي وهكذا فنحن نشاهد أنه لا يظهر كتاب يدعو لعقيدة من العقائد حتى يظهر آخر يسخف هذه العقيدة وينحى عليها أشد الأنحاء ثم لا يلبث أن يؤلف ثالث يتوسط الرأيين المتناقضين برأي ثالث وهكذا.
ليس ثمة شك في أن استقرار الحياة وثبات المدنيات وسير الأمور في مجراها الطبيعي خير من ذلك الاضطراب المروع. ولكننا مع ذلك لا نبتئس بقرب زوال المعتقدات البالية ولا ندعو المفكرين إلى الكف عن بحثها ونقدها لتتحفظ بما لها من القدسية والمهابة ولتضمن لنا حياة هادئة وديعة، ذلك لأننا نعتقد بأن هذا الاضطراب نتيجة لا حيد عنها تحدثها الطبيعة لتقدم العمران كما نعتقد أنه مظهر للتقدم العقلي ومقياس صادق للتطور الذي يطرأ عليه بين حين وآخر. فالعقل يهدم المعتنقات القديمة لأنه أصبح لا يسيغها أو لأنه ارتقى لدرجة أصبح نقده لهذه المعتنقات فيها ضرورة لازمة لا دخل فيها للاختيار والتدبر.
ومثله في ذلك مثل الشيب الذي يعلو الرأس إذا ما كبر الإنسان، وعليه فمناهضة الحركات التجديدية إنما هي مناهضة لإحدى سنن الطبيعة التي لا تناهض ولا تغلب ونحن أيضًا نتشاءم من تزعزع الإيمان بالمعتقدات القديمة ولا نميل إلى التسليم بأن عاقبة ذلك خراب العالم كما يدعى كثير من المتشائمين. وكل ما في الأمر أن هو إلا ترميم في الأساس أو هو بنيان أساس جديد متين لا نتسرع في تشيده بل نترك ذلك للتطور والزمان وهما كفيلان بأن يحققا لنا ما نحلم به من غير أن نلجأ إلى الثورات التي تفوز بالمرغوب وتقهر الزمان في الظاهر بينما هي في الحقيقة والواقع ليست إلا تخريبًا واضطرابًا لا يسفران إلا عن تقهقر ورجوع إلى نقطة الابتداء.
وهذه العجالة في وصف ما طرأ من الاضطراب على معتقداتنا تفسر لنا بعض التفسير ذلك التطور الهائل الذي نلحظه في الآداب.
ففي الزمن الماضي يوم كانت الاعتقادات القديمة سائدة مستحوذة على المشاعر والنفوس يتأثر بها الخاصة كما يتأثر بها العامة كان الأدباء - بكتبهم وقصصهم - يعبرون أصدق تعبير عما يتأثرون به من المعتقدات، ويكفيك لتقتنع بذلك أن تجيل نظرة في تلك المجلدات الضخمة التي كتبت عقب ظهور الإسلام لتشرح نصوصه الدينية أو لتجمع أحاديث النبي وتفسرها بل يكفيك أن تقرأ دواوين بعض الشعراء ممن لم يكن لهم هم إلا نظم الحكم الدينية أو مدح النبي أو التغزل الإلهي.
والأمر لا يختلف في الدين عنه في الاجتماع والسياسة فكثيرا ما ألفت الكتب والقصص لتأييد مذهب أو نصر مبدأ أو بث دعوة.
فلما أخذت الاعتقادات القديمة في الفناء وأخذ العقل يسلط نوره عليها فيظهر من عيوبها ويكشف عن سوءاتها التي عاشت ورسخت في النفوس أجيالا كحقائق لأمراء فيها، ولا جدال ولما حل الشك محل الإيمان، تأثر الأدباء بذلك التطور الذين هم من أكبر دعاته ومؤيديه بما يؤلفون من كتب تحمل على القديم تحاول أن تأتى عليه وتخلصنا من استعباده ورقه. وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت بين أيدينا مجموعة وافية من الكتب والقصص تبعث قراءتها على الشك في الماضي بآرائه ومعتقداته أو تدعو لمذهب جديد كالاشتراكية والعالمية وغير هما، والذي يجدر بنا أن نلاحظه هو أن جميع الأديان الجديدة ترمى إلى اتحاد العالم وإزالة الفروق الوطنية وهي تتفق في ذلك مع الأديان القديمة مثل المسيحية والإسلام ولكنها تزيد على ذلك فيدعو بعضها إلى إزالة فوارق الطبقات المادية.
ولو أننا أردنا أن نتنبأ بالمذهب الذي سوف يكون له الفوز من بين المذاهب لقلنا - أو لأحببنا أن نقول - بأنه مذهب الاشتراكية، وذلك لأنها تستهوى بوعودها أفئدة الساخطين المتذمرين والفقراء وهم السواد الأعظم من سكان العالم ولأنها تسد النقص الملموس الناتج عن التقدم العلمي وظهور المخترعات والآلات، ولأنها وسط بين نظامين يتأفف منهما المتدينون وهما الشيوعية والفردية. وقد أخذت منهما حسناتهما ونفضت عنها نقائصها الظاهرة.
وهنالك أسباب كثيرة أخرى تجعلنا نكاد نوقن بأن المستقبل للاشتراكية ولكن بحثها الآن لا يعنينا.
ثم لا يفوننا أن نذكر أن سعادة الاشتراكية الموعودة دنيوية تنال في هذه الحياة لا في حياة أخرى وأنها لذلك قد تعجز - لسبب من الأسباب - عن أنجاز وعودها تامة كاملة وعلية فينفض من حولها أعظم مؤيديها حماسة ونشاطا. ولكنا لا ننسى كذلك أن الكمال في الدنيا ضرب من المستحيلات وأنه وأن كانت الاشتراكية لن توصلنا لحالة من النعيم لا مطلب خلفها ألا أنها تستطيع أن تنتشلنا من حالتنا هذه إلى خير منها، وليست الاشتراكية نهاية ما يمكن أن يتطور إليه النظام الاجتماعي وعلية فالتطلع للأحسن سيدفعنا دائمًا للتنقيب عما فيه سعادتنا ورفاهيتنا.
وجمله ما أريد أن أقوله عن هذا الأمر أنه لو خاب أملنا في الاشتراكية بعض الخيبة فليس معنى ذلك أننا نرغب في الرجوع إلى حالتنا الأولى السيئة - الحالة الحاضرة - أنما يجعلنا ذلك نزيد إيمانا بالتطور الذي هو الخالق الوحيد للاشتراكية وغيرها من الآراء والعقائد.
* نقلا عن بوابة الحضارات:
بوابة الحضارات | نجيب محفوظ يكتب فى 1930.. المستقبل للاشتراكية