إهداء:
إليها دائما:
إلى دمشق العتيقة
حبا وكرامة
" هو أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان.
كان يلقب بالمكتفي بالله، وكان مصروف الهمة إلى اللهو والأكل والشرب وسماع الغناء.
وكان نقش خاتمه: يا وليد، احذر الموت"
مآثر الإنافة في معالم الخلافة
القلقشندي
أسأل الله سكرة قبل موتي = وصياح الصبيان يا سكران
ابن هرمة
في البحث عن كنز التاجر التمبكتي
- 1 –
بدأنا الحفر تحت أسوار المسجد الجامع في موفى شهر ّ ماي " .
كان العمل بطيئا جدا ومرهقا ، فقد كانت الحجارة التي قد منها السور قديمة ومتآكلة . هي حجارة ضخمة استعارها البناؤون القدامى من بقايا القرية الرومانية ّ تيقيوس "التي كانت تعد ذات يوم من حواضر الصحراء . ففيها ملتقى للطرق الذاهبة إلى تخوم إفريقيا السوداء للمتاجرة ومقايضة الملح بالتبر، والقمح وزيت الزيتون بعاج أنياب الفيلة ، والسيوف والتروس الرومية بالعبيد والزنجيات .
ما كان عالم الآثار القادم لتوه من مدينة تونس في عجلة من أمره ، فقد جعله جماعة من العمال الشباب أصيلي هذه الواحة ذات المليون نخلة يغرم منذ ليلته الأولى بشرب " اللاقمي " ويجن بهذه الخمرة المقطرة من عصير جمار النخل ، والتي تصرع شاربها متى جاور الكأس الثالثة .
عالم الآثار هذا ، ما رأيت في حياتي أغرب منه من بين من عرفت من الرجال . ففي الوقت الذي كان يجاهر فيه بزندقته ومجونه كان لا يترك صلاة الجمعة تمر دون أن يكون قد استحم ولبس أجمل ما يملك من الثياب التونسية التقليدية : القميص الحريري والسروال التركي القصير والجبة بديعة التطريز . وكان يميل الشاشية على جانب رأسه المحلوق حديثا . ويتعطر ويسبق الجميع إلى المسجد الجامع ليقف مباشرة وراء الإمام ، وليرفع صوته الشجي عاليا مع المؤذن مرددا البسملة والحمدلة ثم يكف عن ارتياد المسجد حتى الجمعة القادمة .
هو حقيقة رجل غريب الأطوار في كل شيء . ففي اليوم الذي وصل فيم من تونس إلى القرية ، ذهب إلى مركز البريد وأبدل مجموعة كبيرة من أوراق النقد بقطع ذات دينار واحد واصطفاني من بين العمال المتجمهرين تحت سور المسجد وطلب مني أن أكون دليله داخل القرية .
ترددت أول الأمر ، لكنني حين نظرت في عينيه ، رأيت فيهما رجاء وإلحاحا . و خفت ألا يسجل اسمي ضمن العاملين في مشروعه فطلبت منه أن يتبعني . ثم صرت تابعا له بعد أن تجاوزني بخطوات ثابتة مقدامة ذكرتني بمشية الجنود .
وصار يدق الأبواب التي تعرضه ، ولا يخجل أبدا . ثم بدون استئذان من ربة البيت يدلف إلى الداخل ويذهب مباشرة يفتش داخل الحجرات مستغلا البهتة التي تلجم أصحاب البيوت عن الكلام والفعل . فإذا صادف أن وجد صورا قديمة معلقة على الحيطان الطينية أو طشتا عتيقا من الفخار ، أو صندوق خشب تفوح منه رائحة الصندل ، أو سلاحا تركيا من بقايا الدولة العلية العثمانية ، أو أي شيء يسره. كان لا يتوانى أبدا عن أخذه . يضع في يد المرأة التي تكون قد غطت رأسها بمحرمة من القماش الرخيص ، قطعة نقود ، فإذا احتجت زادها قطعا أخرى ، فإذا زادت في الاحتجاج ، أخرج من جيبه ورقة نقدية ذات خمسة دنانير ورماها بها . ثم يغادر وكأن شيئا لم يكن متأبطا صور بدء الخليقة والسيد آدم وحرمه يقصفان من ورق الجنة ويغطيان السوأة الملعونة ، والحسن والحسين في حضن علي بن أبي طالب ، والبراق الشريف يطير بألف جناح ، ورأس الغول مشطورا بسيف أبي تراب ، والجازية الهلالية على ناقة حمراء يقودها عبد أسود وبجانها ذياب الهلالي معقوف الشاربين ، ومعارك صحابة رسول الله في أيام الفتح الأولى ، ومجالس الطرب في غرناطة وقرطبة ، ومشاهد صيد وفروسية وغيرها كثير مم جمع الأهالي طيلة قرون لتزيين حيطان البيوت . صناعة برع فيها يهود الأندلس الذين استقروا في هذه الواحة بعد أن هججهم الإسبان منذ أربعة قرون ، فجاء هذا الرجل ينبش تلك الذاكرة ليعرضها في قاعات الرسم بعاصمة تونس .
مرة دخل دار " للا فاطمة " ، وهي عجوز زنجية لا يعرف أحد كم عمرها ، والأرجح أنها جاوزت المائة سنة ، لكنها حين تسأل عن عمرها تقول إنها ابنة ألف عام .
جاءت الزنجية من بلاد السودان ، وابتاعها تاجر من نفطة حين كانت في ريعان الشباب ، وكان لها قوة أربعين رجلا قالت إنها عملت في خدمة سيدي " أبي علي السني " سلطان الجريد وإنه وهبها إلى خادمه " مرزوق العجمي " حين استقل بزاويته وإن مرزوقا أعطاها بركته وسماها " شيخة " على زنوج بلاد الجريد .
وتضرب كفا بكف وتقول : كان هذا منذ مئات السنين ، أما اليوم فقد طارت البركة .
وجد عالم الآثار" للا فاطمة " تعجن الدقيق لتصنع خبز الطابونة الذي لا تأكل سواه ، تزدرده مخلوطا بزيت الزيتون الصافي منذ ثلاثين سنة . لفت نظره أساورها الفضية . أساور مزخرفة بنقوش بديعة التشكيل قيل إن رئيس القافلة التي جاءت بها من " تمبكتو " وهبها لها بعد أن خدمته طيلة الرحلة .
كانت الأساور تشقشق كلما حركت يديها ، فجلس قبالتها على الأرض وراح يتابع حركة اليدين كالمأخوذ ، فلم تعره العجوز اهتماما في بادئ الأمر هي التي ترفض الكلام منذ خمسين سنة بعد أن طلقها زوجها وشاع في القرية أنه وجدها في أحضان اليهودي " بنحاس " البائع الجوال الذي كان يقايض قطع القماش المصنوعة من الحرير المزيف المهرب من فرنسا بالبرانس الجريدي وجبائب الصوف والعمائم .
كان اليهودي وسيما كيوسف ، وكانت فاطمة كالمهرة الجامحة ، فاستفتى الزوج المخدوع إمام جامع القرية فأفتاه بقتلهما وحرضه على تطبيع شرع الله . فتل اليهودي رجما بالحجارة . وشاركه الأطفال الرجم ، فشدخوا رأس اليهودي ثم نهبوا بضاعته ووزعوها فيما بينهم . وظلت جثته زمنا ملقاة في العراء تنهشها الكلاب والقطط السائبة .
واحتمت فاطمة بزاوية " سيدي الصحبي " وهي تدعي البراءة من هذه التهمة الكيدية التي لفقت لها حتى تنهب بضاعة اليهودي ، فتطهرت بالماء ووضعت يدها على نسخة قديمة من القرأن وحلفت بأن زوجها رماها بهذه التهمة باطلا ، وبأنها أشرف من أن مارس الرذيلة مع يهودي ، هي سليلة أمراء " تمبكتو " .
طلب منها صاحب الزاوية أن تنام ليلتها تلك وحدها في المحراب ، فإن ماتت تكون السماء قد انتقمت منها وإن أصبحت معافاة فإن جوار سيدي الصحبي سيكون من حقها
وعندما وصل المؤذن لصلاة الصبح ، وجدها جاثية على ركبتيها تقرأ القرآن ، فأجارها صاحب الزاوية . وعاشت هناك إلى أن جاءها خبر موت زوجها في سجن " غار الملح " .
وتكدست الحجارة واللعنات فوق بقايا جثة اليهودي " بنحاس " الذي كنا نتعمد المرور بجواره في غدونا ورواحنا إلى الجامع حتى نلعنه ونرميه بحجر .
وبمرور الزمن تراكمت اللعنات فوق القبر الذي تحول إلى هرم صغير تخيف به الأمهات الأطفال الذين لم تنجل غمتهم إلا في أواخر الستينات حين وصل الحاخام
" ميناحيم " إلى القرية ورحل الرفاة إلى مقبرة اليهود في تونس .
التفتت " للا فاطمة " إلى الرجل ، فرأته يراود الأساور . وهالها بريق عينيه ، فقامت تضع الخبز على جدار " الطابونة " المحمى بنار خشب النخل ، فقام وراءها ووضع في يديها أوراقا نقدية وأشار إلى الأساور ، فأرجعت له نقوده وزجرته بهمهمة وطنين ، فلم يخف . وعاد يكرر الطلب ويزيد في عدد الأوراق النقدية . ثم هم بيديها يروم سلبها أساورها ، فالتقطت خشبة وخبطته خبطة أسالت الدم من جبهته . حينها فقط عرف عالم الآثار أنه لن يقدر عليها ، فجلس على الأرض يكفكف دمه .
تركته العجوز دون اهتمام إلى أن هدأ وكف الدم على السيلان، ثم جاءته بضميدة: بصلة مهروسة داخل الفم ومخلوطة بالريق والفيجل والشيح من نبات الصحراء، فوضعت الضميدة على جبهته وربطت رأسه بقطعة قماش نظيفة ثم وضعت أمامه الخبز والزيت ودعته بإشارة من وجهها إلى الأكل .
أكلا معا الخبز السخن مغموسا في زيت الزيتون ثم وقفت العجوز وبهدوء الساحرة راحت تسحب الأساور من معصميها النحيلين وتضعها في كف الرجل . والرجل يتابع حركاتها مدهوشا فاغرا فاه كالمخبول إلى أن أشارت بسبابتها اليمنى إلى الباب ، فقام . وتناثرت دنانيره على الأرض محدثة ضجة وصخبا وهربت في كل الاتجاهات ...
- 2 –
وتواصل الحفر تحت سور المسجد الجامع ...
كان " عالم الآثار " يتابع عملنا بهدوء العرف .، يوجه لنا نصائحه وينزل إلى الخنادق بخفة فيختطف الفأس من يد أحد العمال ويهوي بها برشاقة تحت الصخور الكبيرة أو بين شقوق الجدران إلى أن اكتشفنا صدفة ذات صباح رقعة صغيرة من الأرض مكسوة بالفسيفساء ، فكاد صاحبنا يرقص طربا . طلب منا أن نواصل الحفر في اتجاه الرسوم ولكن بحذر شديد . وصار يقدم نصائحه للعملة تارة بهدوء وطورا بصراخ يكاد يصم الآذان ، إلى أن ظهرت للعيان لوحة رائعة من الفسيفساء تمسح خمسة أمتار في خمسة وتمثل راهبا نصرانيا يرتل صلواته أمام جمع من الرجال الذين حلقوا رؤوسهم وتركزا في أمها سبلة طويلة
على شكل ضفيرة . قال " عالم الآثار " إنهم من البربر الذين ترومنوا ، وخرج بنتيجة مفادها أن الجامع قد بني فوق كنيسة رومانية في أواخر القرن السادس للميلاد .
وأصابه هوس البحث عن مخلفات هذه الكنيسة ، فطلب منا أن نواصل العمل تحت السور وداخل أرضية الجامع وقرب المحراب ، وأن لا نترك مكانا دون نبشه ، فحذره العمال من أن النبش قد يحول الجامع إلى خراب وأن المصلين لن يجدوا مكانا لإقامة صلواتهم ، فزجرهم وزمجر في وجوههم صائحا بأنه يحمل ترخيصا من مصلحة الآثار تخول له ذلك ، وأنه مستعد لتحمل كل مسؤولياته .
فلم نجد بدا من مواصلة العمل .
- 3 –
بدأت شمس شهر جوان تلهب الأجساد . والشمس في بلاد الجريد في شهور الصيف قاسية جدا ، لهذا بنى الأجداد قراهم في جوار الواحة حتى تكاد جدران المنازل تلامس سواقي عيون الماء التي تشق مجاريها بين أرجل الأطفال وحوافر البهم .
حين انتصف النهار ، وزاغت أبصار العمال الذين كانوا يتابعون الحفر في الخنادق المحاذية للسور ، دعانا عالم الآثار إلى الدخول إلى المسجد الجامع .
قال بهدوء وتؤدة :
- اليوم سنحفر داخل قاعة الصلاة .
ارتبك الجماعة ، وتساقطت الفؤوس من الأيدي . وبرك الشيوخ على مؤخراتهم يمسحون العرق ويحركون الهواء بمراوح السعف .
اختار العالم جماعة من الشبان وطلب منهم الاهتمام برفع الحسر والزرابي المفروشة على الأرضية ، واقترب مني ليوشوش في أذني :
- لا تخف ، نحن لم نأت منكرا .إننا نقوم بواجب تجاه تاريخ هذا الوطن .
توقف مدة يلتقط أنفاسه ويحرك الهواء بيديه ، ثم واصل :
- إذا لم نرمم الجامع ، فإن جدرانه ستنهار خلال أعوام .
ما رأيك في الترميم السابق ؟ أنظر التشويهات التي لحقت المحراب ، وكيف وضعت الحجارة المنقوشة في غير مكانها . أنا أجزم أن البناء الذي وضعها هكذا كان جاهلا . ولكن اللوم على إمام الجامع الذي لم يهتد إلى وضع النقوش في أماكنها السليمة لأنها تحتوي على سر نص رهيب .
وعاد إلى تحريك الهواء بيديه ليقول بعد ذلك :
هذا الجامع يا صديقي بني قبل الجامع الذي اختطه " عقبة بن نافع " بالقيروان .وهو من أول أماكن الصلاة التي بناها جيش الإسلام الأول الذي جاء غازيا – عفوا أردت أن أقول فاتحا بلاد إفريقية .
وحين رأى ارتباكي وعجزي عن تصديقه أو تكذيبه قال :
- هل تعرف أن جيش العبادلة السبعة مر من هنا قبل أن يذهب إلى " سفيطلة " ويهزم " أرشفيك " الروم " جريجوريوس "، ويأسر ابنته الجميلة ؟
ويضحك صديقي " عالم الآثار " حتى تدمع عيناه ، فيستلقي على ظهره من شدة الضحك ، ويهمس لنفسه هذه المرة :
يا الله . كم كانت جميلة تلك البنت التي تقاتل من أجلها جيشان : جيش الكفر وجيش الإيمان .
ليتني كنت حاضرا يومها .
- 4 –
مرة ، كنا عالم الآثار وأنا في الواحة . كان الوقت ليلا وكنا وحيدين لا ثالث بيننا . شربنا عدة أقداح من " القيشم " خمرة الجريد الرهيبة مخلوطة بقارورة " ويسكي – جوني وولكر " ، كان الرجل قد جلبها معه من تونس .
قال لي مازحا ، حين انتصبت الأقداح فوق المائدة :
- الليلة يا صاحبي ، سنخلط الأصالة بالمعاصرة .
وقهقه بصوت كالنباح .
تركته يواصل ضحكه ورحت أعب من الخليط إلى أن أصابني خدر لذيذ وأحسست بدبيب كدبيب النمل يجتاح كامل بدني ، فتمددت على الرمل .
كنت مهموما بأمور تافهة ، وكان بصدد تحريك الماء الجاري في الساقية برجليه . بقيت مدة أراقب جريان الماء بين شجيرات الطماطم والفلفل الحار والبطيخ رافضا احتساء كؤوس الخمرة التي كان يمدني بها . فيكرع الرجل كأسي وكأسه ويزيد . وطالت بنا السهرة ، فأغفيت قليلا أو كنت كالنائم حين أفقت على صراخ الرجل .
كان صراخه الذي يشبه العويل يجرح صمت الواحة ، فيزيد في خوفي وارتباكي .
فسألته :
- لماذا كل الصراخ يا سيدي ؟ من تنادي برب السماء في هذا الليل البهيم ؟
فأجابني :
- أنا أصيح بملء صوتي حتى يسمعني مخلد بن كيداد
لم أستوعب رده بسرعة ، فقد ظننته يحكي عن رجل يعرفه إلى أن خرجت من حيرتي وارتباكي فقلت له :
- ملعون أنت وذلك الخارجي النكاري المارق عن ملة سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم .
فقال ، وعلى وجهه ابتسامة هزء لم أحسن تفسيرها :
- لا تظلم الرجل يا صاحبي . إني أعلم ما لا تعلم .
فسكت ، وسكت مدة حسبتها طالت دهورا إلى أن عاد للحديث من جديد :
- أتعرف أنه كان يدرس القرآن والحديث والفقه في جامعكم هذا ؟ وأنه كان يؤم المسلمين في يوم الجمعة ؟ وأنه رفض وهو في عز ملكه الركوب على الخيل وواصل امتطاء ظهر حماره ؟
قلت :
- لا والله .
فقال ، والابتسامة تملأ وجهه :
- إن ما ذكرت دعاية مغرضة لزعماء الشيعة أطلقوها ضد الرجل ولقيت آذانا صاغية بعد ذلك من فقهاء المذهب المالكي الذين كانوا يعادون فكر الخوارج .
إن صاحب الحمار يا صاحبي حرض البربر على ظلم خلفاء الدولة الفاطمية من هنا ، من عندكم . وخرج بجيشه الصغير من أرضكم .
إنني أراه الآن أمام ناظري كما على شاشة سينما كبيرة يعرج برجله القصيرة ، ويقف أمام المحراب . وأسمع صوته الأجش يرفع النداء للصلاة ، فأقشعر و تصيبني رهبة المكان .
يا الله كم كانت جميلة تلكم الأيام .
وتصرعني الدهشة ، فأتغابى وأسأله :
- هل كنت معهم يا عزيزي ؟
فيرد باسما :
- أظن أنني صاحب الحمار بلحمه ودمه .
وأقول له :
- لكن لحم صاحب الحمار أكلته كلاب المهدية منذ ألف عام
فيضحك حتى يفحص الأرض برجله الاثنتين ويهطل الدمع من عينيه . فأجاريه في الضحك حتى لا يغضب .
ويصيبني العجب العجاب حين نقوم لنعود إلى القرية ، فأراه يسير أمامي ماشيا مشية صاحب الحمار برجل عرجاء أقصر بقليل من الرجل الثانية ...
- 5 –
وتمادينا في الحفر حتى موفى شهر " جويلية " ، فلم نعثر على أشياء مهمة سوى بقايا جرار من الفخار وعضام آدمية وجمجمة في صندوق من النحاس تكاد تكون محنطة لأن الشعر مازال مكدسا على الرأس . وكان الجفنان يرمشان فوق عينين بلون الفيروز . كما اهتدى بعض العمال إلى مخزن السلاح وجدوا فيه كدسا من السيوف والرماح والدبابيس المسننة ، ومن أعجب ما وجدوا ، مدفعا رشاشا .
وصاح ذات صباح عامل حين تحطمت تحت ضربات فأسه جرة ملأى نقودا نحاسية وفضية ، فرمى الفأس وراح يحثو التراب في كل الاتجاهات وهو يصيح:
- وجدت كنز الرومان يا أصحابي . وجدت الكنز . وجدت الكنز .
فتجع الخلق ، وافتكوا منه بقية الجرة . وجمعت النقود في برنس . وترقب الناس وصول عالم الآثار الذي فحص النقود بلهفة ، ثم قال :
- هذه بقايا كنز " دقليانيوس "الذي جاء إلى هنا غازيا هذه الديار التي ثارت على سلطته . وبعد أن أخمد الثورة بنى كنيسة وردم في أساساتها هذه النقود حتى تعمر إلى أبد الدهر .
ثم صاح وهو يلف البرنس :
واصلوا العمل يا رجال . بارك الله في سعيكم .
- 6 –
كنت أحفر قريبا من المحراب ، حين رأيت قطعة من الخشب . لم أعرها اهتماما في أول الأمر لأننا وجدنا كثيرا من بقايا الخشب مطمورا في أرضية الجامع . إلا أني وأنا أحفر جنبها صارت القطعة تكبر كلما تساقط التراب بعيدا عنها ، إلى أن ظهرت جوانب صندوق كبير .
ما أردت تكرار ما جرى حين اكتشاف نقود " دقليانيوس " لذلك أهلت التراب على الصندوق وواصلت العمل وكأن شيئا لم يكن . بل أنني زيادة في التضليل والتعمية صرت أحفر في الاتجاه المعاكس للصندوق . ولم أخرج يومها من الخندق حتى لا يعوضني عامل آخر فيفتضح الأمر وأخسر المفاجأة التي كنت أنوي تقديمها لصديقي عالم الآثار .
ثم فجأة ، وكمن لسعته عقرب ، نبتت في رأسي فكرة . قلت لم لا أحتفظ بما في الصندوق لنفسي . وتذكرت لصوص الآثار التي يتاجرون بها مع الأجانب فيكسبون من بيعها آلاف الدنانير. وراقت لي الفكرة فقررت عدم التفريط في الصندوق لأي كان ... إلا أن الارتباك تملكني وسكن حركاتي ، فكاد أمري ينكشف حين اقترب مني عالم الآثار وسألني عن حالي . فقلت له إنني مريض وإنني لن أستطيع منادمته هذه الليلة ، فتركني وذهب يتفقد عمل الآخرين . لكنه حين هم بالخروج ، ناديته وهمست في أذنه بأنني أخبئ له مفاجأة ستسره لا محالة . فابتسم ، وذهب يحرك رأسه يمنة ويسرة .
مساء ، بعد أن غادر العملة ساحة المسجد ، ناديت عالم الآثار ، فجاء خفيفا . طلبت منه أن يتثبت من خلو المكان من الغرباء ثم عرضت عليه الصندوق . اندهش .ظل واجما في مكانه مدة ، ثم بدأ في الإلتفات يمنة ويسرة وهو يرد على مفاجأتي هامسا :
- يا ملعون . لماذا لم تعلن عن لقيتك حين اكتشافها ؟
ثم يستدرك :
لا .. لا.. أنا مغفل ... لقد أحسنت الصنع ، يجب أن نكتشف أولا ما بداخل الصندوق ...
ويقفز خارج الخندق ويتجه نحو باب الجامع متلصصا ، ثم يعود إلى تفحص الصندوق والشرر يتطاير من عينيه إلى أن تداركت الأمر، فطلبت منه أن يكشف على السر .
طلب مني أن أساعده على رفع غطاء الصندوق، وقد كان مصيبا حين طلب العون لأن الغطاء كان ثقيلا جدا. فكأنه قد من صخر. وبعد لأي وعنت عظيمين فتحنا الصندوق. كنت أمني النفس باكتشاف كنز من الجواهر الثمينة لكن الصندوق كانت به أشياء أخرى : مخطوطات كثيرة داخل لفائف من الجلد تفوح منها روائح التاريخ . تفحصها عالم الآثار وعيناه تبرقان بريقا غريبا.
كانت اللفائف تحتوي على مصاحف قرآن مكتوبة بماء الذهب وكتب فقه وأحاديث نبوية ودواوين شعر وكتب تاريخ وجغرافيا ورحلات وسحر وتنجيم ...
كدسنا الكتب فوق حصير ، ونفضنا الصندوق ، ثم عدنا إلى ترتيبها من جديد .كانت عناوين المخطوطات غريبة على مسمعي . وكنت أتابع حركات عالم الآثار وهو يضعها بحنان وسط الصندوق . كان الرجل يهذي ، يضع الكتب على رأسه ثم يدسها في قلبه ويعود فيقبلها وينفض عنها غبار الزمن .
كان يأتي حركات كحركات المجانين ، فأكتم ضحكي خوفا منه ولكن في آخر الأمر انفجرت مقهقها وجعلت أتلوى على الأرض والدموع تسيل على خدي . ولم أفق إلا وصفعة من كفه الغليظة تنزل على قفاي ، فعدت إلى الصواب . وجاءني صوته حادا كوخز الإبر :
- قف متأدبا في حضرة أدب الخوارج الإباضية يا ... مخنث فانتصبت واقفا وقفة المتأدبين ، وأديت له التحية العسكرية . لكنه لم يأبه لتمثيلي وواصل همهماته وتمتماته عن هذا الكنز الذي لا يوجد له مثيل في العالم .
وبعد أن أعاد مرة أخرى ترتيب المخطوطات في الصندوق ، طلب مني أن أحضر في الحال بغلا وأن لا أخبر أحدا بما رأيت . فقلت له :
- السمع والطاعة يا مولاي .
وذهبت أبحث عن بغل وعربة .
وجدت ضالتي عند العربجي الأخرس " ميمون " . قلت هو من يليق بهذه المهمة ، فلن يكثر من السؤال والقيل والقال خاصة إذا أغريناه بمال وفير .
عرضت على الأخرس مصاحبتي إلى الجامع ، فوافق . وساعدنا على وضع الصندوق على العربة .
كان عالم الآثار أثناء غيابي قد رتب كل شيء . وضع أدوات حفر فوق الصندوق حتى لا يجلب النتباه وحتى يظن العربجي أننا نحمل في هذا الصندوق الكبير فؤوسا ورفوشا ومساحي .
وذهبنا إلى دار عام الآثار .
- 7 –
وعدنا إلى الحفر داخل المسجد . كنا نعمل طيلة أيام الصيف القائضة ولكنني لاحظت أن همة عالم الآثار قد فترت في مراقبتنا وحثنا على الاجتهاد في العمل .
كان كلما ازدادت حرارة الصيف ، عزف أكثر على المجيء إلى ميدان العمل واختار الركون إلى الراحة في الدهاليز الظليلة صحبة شيوخ يهشون الذباب عن وجوههم بفتور وهم يصنعون من سعف النخيل مراوح وسلال وزنابيل ، ويلعبون " الخربقة " لقتل الوقت والانتصار على قيظ القيلولة .فإذا جاء وقت صلاة العصر ينفض الجمع ويذهب عالم الآثار إلى داره التي كان شيد الحرص على رش أرضيتها بالماء وتهوئة غرفها بمروحة كبيرة مصنوعة من ريش النعام ، ثم ينهمك في تقليب المخطوطات والنظر فيها إلى أن تغيب الشمس فيذهب أمام بائع دكان المكسرات يترقب مجيئي .
كان يجلس على كرسي ويضع بجانب رجليه على الأرض قفة ملآى باللوز والحمص والغلال واللحم ، ويخرج بين الفينة والأخرى من جيب قميصه قطعة قماش معطرة يمسح بها العرق الهاطل من جبينه . ولا يتحرك قيد أنملة من أمام الدكان حتى حين وصولي . فيهش في وجهي ويبش ويسألني عن سير العمل . ويعو د ليؤكد لي للمرة الألف أنه لا يثق بأحد هناك سواي . وأنني عينه التي يرى بها . ثم يمتطي ظهر الحمار ويحاذر حتى لا تتزحزح البردعة ، فيسقط على الأرض كما كان يحصل له في المرات الأولى لما كان يجرب امتطاء الحمار .
ويحرك رجليه على الجانبين ، فتركض الدابة ، فيضحك مقرقرا قرقرة الأولاد الصغار . وأنا مغتبط لفرحه وانشراحه إلى أن نصل إلى بستان النخيل فيرمي بنفسه على الرمل بجانب الساقية ويغرف الماء بيديه ويرش به كامل جسمه المقهور بحرارة الطقس . ثم يطلب باطية " اللاقمي " فيكرع ثلاثة أقداح متتالية ويرمي في فيه بحبات لوز . ويتمدد على ظهره فوق الرمل مغمضا عينيه ومتمتما بأشعار بلغة لا أعرفها بالرغم من شبهها الكبير باللغة العربية . قال لي مرة أنها " الأرامية " ، وإنها من أجمل اللغات التي تكلم بها البشر .
- 8 –
كان عالم الآثار إذا اشتد به السكر يرق حد الذوبان وتلين حركته حتى يصبح ألطف مخلوق على وجه البسيطة ، فيقرأ لي الأشعار ، ويحكي لي طرفا ونوادر غريبة وبذيئة في أغلب الأحيان . أو يروي لي حكايات من تاريخ الشعوب البائدة.
كان يعشق كثيرا تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء التي زار أغلب بلدانها كما زعم ، أكثر من عشر مرات. فكان يرطن بكلمات من لغات الزنوج ، ثم يقوم واقفا ويعري صدره وينهمك في رقص محموم خابطا الأرض برجليه ومحدثا بفمه شقشقة كشقشقة آلات الطرب الحديدية التي يحركها الزنوج بأيديهم ساعة التخميرة . ولا يهدأ إلا ساعة أحدثه عن " للا فاطمة " التي عشقها بعدما عرف قصتها ، فصار يزورها في منزلها في كل يوم تقريبا .يجلب لها السكر والشاي الذي لا تنتهي من طبخه حتى تعود إلى ذلك مرة أخرى . ويحدثها بلغة عربية مخلوطة بكلمات من لغة " الهوسا " و" الفولاني " ، فترد عليه وصدرها منشرح وأسارير وجهه تطفح بالبشر .ثم يتركان العربية جانبا وينهمكان في حديث بلغة الزنوج الخالصة وأنا كالمخبول أتابع دمدمة أصواتهما التي تلين حينا وتعلو أحيانا إلى أن تملأ رائحة الشاي المحروق غرفة العجوز، ويفوح الشياط في كل مكان .
- 9 –
ذات ليلة ، أخرج من القفة صندوقا مبطنا بالحرير . رأيت داخل الصندوق كتابا . فتح عالم الآثار الكتاب وبدأ في القراءة على ضوء شمعة .
قال إته واحد من المخطوطات التي عثر عليها داخل الصندوق . وحين حاولت الاقتراب منه ، أطفأ الشمعة .
قال إن شرطه أن أبقى بعيدا وأن أستمع إليه بهدوء ، وإلا فإنه لن يقرأ من الكتاب ولن يعلمني اللغة الأرامية التي أحيا بها سيدنا " المسيح " الأموات .
امتثلت لأمره ومددت له قارورة جعة باردة أخرجتها في تلك اللحظة من ساقية الماء ، فكرع منها وتنهد وأشعل الشمعة .
قال : سأحكي لك ما دونه " صاحب ستر الوليد بن يزيد الأموي " ضمن ما وجدت داخل صندوق المخطوطات .
أتعرف أن الخلفاء كانوا يجلسون وراء ستارة بينها وبين الندماء عشرون ذراعا وأنهم كانوا يؤكلون بهذه الستارة حاجب ينهي إلى المغنين ما يريده الخليفة ؟
قلت : لا والله .
قال : اسمع إذن هذه الحكاية التي تناقلها الخوارج ووزعوها في كل الأمصار الإسلامية حتى يشهروا بخلفاء بني أمية .
وطلب مني مرة أخرى أن أصمت ، وأن لا أقاطعه أبدا . وسكت إلى أن سمع همهمة الليل الذي يلف المكان .
فبدأ يقرأ بصوت كزمزمة المجوس :
إليها دائما:
إلى دمشق العتيقة
حبا وكرامة
" هو أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان.
كان يلقب بالمكتفي بالله، وكان مصروف الهمة إلى اللهو والأكل والشرب وسماع الغناء.
وكان نقش خاتمه: يا وليد، احذر الموت"
مآثر الإنافة في معالم الخلافة
القلقشندي
أسأل الله سكرة قبل موتي = وصياح الصبيان يا سكران
ابن هرمة
في البحث عن كنز التاجر التمبكتي
- 1 –
بدأنا الحفر تحت أسوار المسجد الجامع في موفى شهر ّ ماي " .
كان العمل بطيئا جدا ومرهقا ، فقد كانت الحجارة التي قد منها السور قديمة ومتآكلة . هي حجارة ضخمة استعارها البناؤون القدامى من بقايا القرية الرومانية ّ تيقيوس "التي كانت تعد ذات يوم من حواضر الصحراء . ففيها ملتقى للطرق الذاهبة إلى تخوم إفريقيا السوداء للمتاجرة ومقايضة الملح بالتبر، والقمح وزيت الزيتون بعاج أنياب الفيلة ، والسيوف والتروس الرومية بالعبيد والزنجيات .
ما كان عالم الآثار القادم لتوه من مدينة تونس في عجلة من أمره ، فقد جعله جماعة من العمال الشباب أصيلي هذه الواحة ذات المليون نخلة يغرم منذ ليلته الأولى بشرب " اللاقمي " ويجن بهذه الخمرة المقطرة من عصير جمار النخل ، والتي تصرع شاربها متى جاور الكأس الثالثة .
عالم الآثار هذا ، ما رأيت في حياتي أغرب منه من بين من عرفت من الرجال . ففي الوقت الذي كان يجاهر فيه بزندقته ومجونه كان لا يترك صلاة الجمعة تمر دون أن يكون قد استحم ولبس أجمل ما يملك من الثياب التونسية التقليدية : القميص الحريري والسروال التركي القصير والجبة بديعة التطريز . وكان يميل الشاشية على جانب رأسه المحلوق حديثا . ويتعطر ويسبق الجميع إلى المسجد الجامع ليقف مباشرة وراء الإمام ، وليرفع صوته الشجي عاليا مع المؤذن مرددا البسملة والحمدلة ثم يكف عن ارتياد المسجد حتى الجمعة القادمة .
هو حقيقة رجل غريب الأطوار في كل شيء . ففي اليوم الذي وصل فيم من تونس إلى القرية ، ذهب إلى مركز البريد وأبدل مجموعة كبيرة من أوراق النقد بقطع ذات دينار واحد واصطفاني من بين العمال المتجمهرين تحت سور المسجد وطلب مني أن أكون دليله داخل القرية .
ترددت أول الأمر ، لكنني حين نظرت في عينيه ، رأيت فيهما رجاء وإلحاحا . و خفت ألا يسجل اسمي ضمن العاملين في مشروعه فطلبت منه أن يتبعني . ثم صرت تابعا له بعد أن تجاوزني بخطوات ثابتة مقدامة ذكرتني بمشية الجنود .
وصار يدق الأبواب التي تعرضه ، ولا يخجل أبدا . ثم بدون استئذان من ربة البيت يدلف إلى الداخل ويذهب مباشرة يفتش داخل الحجرات مستغلا البهتة التي تلجم أصحاب البيوت عن الكلام والفعل . فإذا صادف أن وجد صورا قديمة معلقة على الحيطان الطينية أو طشتا عتيقا من الفخار ، أو صندوق خشب تفوح منه رائحة الصندل ، أو سلاحا تركيا من بقايا الدولة العلية العثمانية ، أو أي شيء يسره. كان لا يتوانى أبدا عن أخذه . يضع في يد المرأة التي تكون قد غطت رأسها بمحرمة من القماش الرخيص ، قطعة نقود ، فإذا احتجت زادها قطعا أخرى ، فإذا زادت في الاحتجاج ، أخرج من جيبه ورقة نقدية ذات خمسة دنانير ورماها بها . ثم يغادر وكأن شيئا لم يكن متأبطا صور بدء الخليقة والسيد آدم وحرمه يقصفان من ورق الجنة ويغطيان السوأة الملعونة ، والحسن والحسين في حضن علي بن أبي طالب ، والبراق الشريف يطير بألف جناح ، ورأس الغول مشطورا بسيف أبي تراب ، والجازية الهلالية على ناقة حمراء يقودها عبد أسود وبجانها ذياب الهلالي معقوف الشاربين ، ومعارك صحابة رسول الله في أيام الفتح الأولى ، ومجالس الطرب في غرناطة وقرطبة ، ومشاهد صيد وفروسية وغيرها كثير مم جمع الأهالي طيلة قرون لتزيين حيطان البيوت . صناعة برع فيها يهود الأندلس الذين استقروا في هذه الواحة بعد أن هججهم الإسبان منذ أربعة قرون ، فجاء هذا الرجل ينبش تلك الذاكرة ليعرضها في قاعات الرسم بعاصمة تونس .
مرة دخل دار " للا فاطمة " ، وهي عجوز زنجية لا يعرف أحد كم عمرها ، والأرجح أنها جاوزت المائة سنة ، لكنها حين تسأل عن عمرها تقول إنها ابنة ألف عام .
جاءت الزنجية من بلاد السودان ، وابتاعها تاجر من نفطة حين كانت في ريعان الشباب ، وكان لها قوة أربعين رجلا قالت إنها عملت في خدمة سيدي " أبي علي السني " سلطان الجريد وإنه وهبها إلى خادمه " مرزوق العجمي " حين استقل بزاويته وإن مرزوقا أعطاها بركته وسماها " شيخة " على زنوج بلاد الجريد .
وتضرب كفا بكف وتقول : كان هذا منذ مئات السنين ، أما اليوم فقد طارت البركة .
وجد عالم الآثار" للا فاطمة " تعجن الدقيق لتصنع خبز الطابونة الذي لا تأكل سواه ، تزدرده مخلوطا بزيت الزيتون الصافي منذ ثلاثين سنة . لفت نظره أساورها الفضية . أساور مزخرفة بنقوش بديعة التشكيل قيل إن رئيس القافلة التي جاءت بها من " تمبكتو " وهبها لها بعد أن خدمته طيلة الرحلة .
كانت الأساور تشقشق كلما حركت يديها ، فجلس قبالتها على الأرض وراح يتابع حركة اليدين كالمأخوذ ، فلم تعره العجوز اهتماما في بادئ الأمر هي التي ترفض الكلام منذ خمسين سنة بعد أن طلقها زوجها وشاع في القرية أنه وجدها في أحضان اليهودي " بنحاس " البائع الجوال الذي كان يقايض قطع القماش المصنوعة من الحرير المزيف المهرب من فرنسا بالبرانس الجريدي وجبائب الصوف والعمائم .
كان اليهودي وسيما كيوسف ، وكانت فاطمة كالمهرة الجامحة ، فاستفتى الزوج المخدوع إمام جامع القرية فأفتاه بقتلهما وحرضه على تطبيع شرع الله . فتل اليهودي رجما بالحجارة . وشاركه الأطفال الرجم ، فشدخوا رأس اليهودي ثم نهبوا بضاعته ووزعوها فيما بينهم . وظلت جثته زمنا ملقاة في العراء تنهشها الكلاب والقطط السائبة .
واحتمت فاطمة بزاوية " سيدي الصحبي " وهي تدعي البراءة من هذه التهمة الكيدية التي لفقت لها حتى تنهب بضاعة اليهودي ، فتطهرت بالماء ووضعت يدها على نسخة قديمة من القرأن وحلفت بأن زوجها رماها بهذه التهمة باطلا ، وبأنها أشرف من أن مارس الرذيلة مع يهودي ، هي سليلة أمراء " تمبكتو " .
طلب منها صاحب الزاوية أن تنام ليلتها تلك وحدها في المحراب ، فإن ماتت تكون السماء قد انتقمت منها وإن أصبحت معافاة فإن جوار سيدي الصحبي سيكون من حقها
وعندما وصل المؤذن لصلاة الصبح ، وجدها جاثية على ركبتيها تقرأ القرآن ، فأجارها صاحب الزاوية . وعاشت هناك إلى أن جاءها خبر موت زوجها في سجن " غار الملح " .
وتكدست الحجارة واللعنات فوق بقايا جثة اليهودي " بنحاس " الذي كنا نتعمد المرور بجواره في غدونا ورواحنا إلى الجامع حتى نلعنه ونرميه بحجر .
وبمرور الزمن تراكمت اللعنات فوق القبر الذي تحول إلى هرم صغير تخيف به الأمهات الأطفال الذين لم تنجل غمتهم إلا في أواخر الستينات حين وصل الحاخام
" ميناحيم " إلى القرية ورحل الرفاة إلى مقبرة اليهود في تونس .
التفتت " للا فاطمة " إلى الرجل ، فرأته يراود الأساور . وهالها بريق عينيه ، فقامت تضع الخبز على جدار " الطابونة " المحمى بنار خشب النخل ، فقام وراءها ووضع في يديها أوراقا نقدية وأشار إلى الأساور ، فأرجعت له نقوده وزجرته بهمهمة وطنين ، فلم يخف . وعاد يكرر الطلب ويزيد في عدد الأوراق النقدية . ثم هم بيديها يروم سلبها أساورها ، فالتقطت خشبة وخبطته خبطة أسالت الدم من جبهته . حينها فقط عرف عالم الآثار أنه لن يقدر عليها ، فجلس على الأرض يكفكف دمه .
تركته العجوز دون اهتمام إلى أن هدأ وكف الدم على السيلان، ثم جاءته بضميدة: بصلة مهروسة داخل الفم ومخلوطة بالريق والفيجل والشيح من نبات الصحراء، فوضعت الضميدة على جبهته وربطت رأسه بقطعة قماش نظيفة ثم وضعت أمامه الخبز والزيت ودعته بإشارة من وجهها إلى الأكل .
أكلا معا الخبز السخن مغموسا في زيت الزيتون ثم وقفت العجوز وبهدوء الساحرة راحت تسحب الأساور من معصميها النحيلين وتضعها في كف الرجل . والرجل يتابع حركاتها مدهوشا فاغرا فاه كالمخبول إلى أن أشارت بسبابتها اليمنى إلى الباب ، فقام . وتناثرت دنانيره على الأرض محدثة ضجة وصخبا وهربت في كل الاتجاهات ...
- 2 –
وتواصل الحفر تحت سور المسجد الجامع ...
كان " عالم الآثار " يتابع عملنا بهدوء العرف .، يوجه لنا نصائحه وينزل إلى الخنادق بخفة فيختطف الفأس من يد أحد العمال ويهوي بها برشاقة تحت الصخور الكبيرة أو بين شقوق الجدران إلى أن اكتشفنا صدفة ذات صباح رقعة صغيرة من الأرض مكسوة بالفسيفساء ، فكاد صاحبنا يرقص طربا . طلب منا أن نواصل الحفر في اتجاه الرسوم ولكن بحذر شديد . وصار يقدم نصائحه للعملة تارة بهدوء وطورا بصراخ يكاد يصم الآذان ، إلى أن ظهرت للعيان لوحة رائعة من الفسيفساء تمسح خمسة أمتار في خمسة وتمثل راهبا نصرانيا يرتل صلواته أمام جمع من الرجال الذين حلقوا رؤوسهم وتركزا في أمها سبلة طويلة
على شكل ضفيرة . قال " عالم الآثار " إنهم من البربر الذين ترومنوا ، وخرج بنتيجة مفادها أن الجامع قد بني فوق كنيسة رومانية في أواخر القرن السادس للميلاد .
وأصابه هوس البحث عن مخلفات هذه الكنيسة ، فطلب منا أن نواصل العمل تحت السور وداخل أرضية الجامع وقرب المحراب ، وأن لا نترك مكانا دون نبشه ، فحذره العمال من أن النبش قد يحول الجامع إلى خراب وأن المصلين لن يجدوا مكانا لإقامة صلواتهم ، فزجرهم وزمجر في وجوههم صائحا بأنه يحمل ترخيصا من مصلحة الآثار تخول له ذلك ، وأنه مستعد لتحمل كل مسؤولياته .
فلم نجد بدا من مواصلة العمل .
- 3 –
بدأت شمس شهر جوان تلهب الأجساد . والشمس في بلاد الجريد في شهور الصيف قاسية جدا ، لهذا بنى الأجداد قراهم في جوار الواحة حتى تكاد جدران المنازل تلامس سواقي عيون الماء التي تشق مجاريها بين أرجل الأطفال وحوافر البهم .
حين انتصف النهار ، وزاغت أبصار العمال الذين كانوا يتابعون الحفر في الخنادق المحاذية للسور ، دعانا عالم الآثار إلى الدخول إلى المسجد الجامع .
قال بهدوء وتؤدة :
- اليوم سنحفر داخل قاعة الصلاة .
ارتبك الجماعة ، وتساقطت الفؤوس من الأيدي . وبرك الشيوخ على مؤخراتهم يمسحون العرق ويحركون الهواء بمراوح السعف .
اختار العالم جماعة من الشبان وطلب منهم الاهتمام برفع الحسر والزرابي المفروشة على الأرضية ، واقترب مني ليوشوش في أذني :
- لا تخف ، نحن لم نأت منكرا .إننا نقوم بواجب تجاه تاريخ هذا الوطن .
توقف مدة يلتقط أنفاسه ويحرك الهواء بيديه ، ثم واصل :
- إذا لم نرمم الجامع ، فإن جدرانه ستنهار خلال أعوام .
ما رأيك في الترميم السابق ؟ أنظر التشويهات التي لحقت المحراب ، وكيف وضعت الحجارة المنقوشة في غير مكانها . أنا أجزم أن البناء الذي وضعها هكذا كان جاهلا . ولكن اللوم على إمام الجامع الذي لم يهتد إلى وضع النقوش في أماكنها السليمة لأنها تحتوي على سر نص رهيب .
وعاد إلى تحريك الهواء بيديه ليقول بعد ذلك :
هذا الجامع يا صديقي بني قبل الجامع الذي اختطه " عقبة بن نافع " بالقيروان .وهو من أول أماكن الصلاة التي بناها جيش الإسلام الأول الذي جاء غازيا – عفوا أردت أن أقول فاتحا بلاد إفريقية .
وحين رأى ارتباكي وعجزي عن تصديقه أو تكذيبه قال :
- هل تعرف أن جيش العبادلة السبعة مر من هنا قبل أن يذهب إلى " سفيطلة " ويهزم " أرشفيك " الروم " جريجوريوس "، ويأسر ابنته الجميلة ؟
ويضحك صديقي " عالم الآثار " حتى تدمع عيناه ، فيستلقي على ظهره من شدة الضحك ، ويهمس لنفسه هذه المرة :
يا الله . كم كانت جميلة تلك البنت التي تقاتل من أجلها جيشان : جيش الكفر وجيش الإيمان .
ليتني كنت حاضرا يومها .
- 4 –
مرة ، كنا عالم الآثار وأنا في الواحة . كان الوقت ليلا وكنا وحيدين لا ثالث بيننا . شربنا عدة أقداح من " القيشم " خمرة الجريد الرهيبة مخلوطة بقارورة " ويسكي – جوني وولكر " ، كان الرجل قد جلبها معه من تونس .
قال لي مازحا ، حين انتصبت الأقداح فوق المائدة :
- الليلة يا صاحبي ، سنخلط الأصالة بالمعاصرة .
وقهقه بصوت كالنباح .
تركته يواصل ضحكه ورحت أعب من الخليط إلى أن أصابني خدر لذيذ وأحسست بدبيب كدبيب النمل يجتاح كامل بدني ، فتمددت على الرمل .
كنت مهموما بأمور تافهة ، وكان بصدد تحريك الماء الجاري في الساقية برجليه . بقيت مدة أراقب جريان الماء بين شجيرات الطماطم والفلفل الحار والبطيخ رافضا احتساء كؤوس الخمرة التي كان يمدني بها . فيكرع الرجل كأسي وكأسه ويزيد . وطالت بنا السهرة ، فأغفيت قليلا أو كنت كالنائم حين أفقت على صراخ الرجل .
كان صراخه الذي يشبه العويل يجرح صمت الواحة ، فيزيد في خوفي وارتباكي .
فسألته :
- لماذا كل الصراخ يا سيدي ؟ من تنادي برب السماء في هذا الليل البهيم ؟
فأجابني :
- أنا أصيح بملء صوتي حتى يسمعني مخلد بن كيداد
لم أستوعب رده بسرعة ، فقد ظننته يحكي عن رجل يعرفه إلى أن خرجت من حيرتي وارتباكي فقلت له :
- ملعون أنت وذلك الخارجي النكاري المارق عن ملة سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم .
فقال ، وعلى وجهه ابتسامة هزء لم أحسن تفسيرها :
- لا تظلم الرجل يا صاحبي . إني أعلم ما لا تعلم .
فسكت ، وسكت مدة حسبتها طالت دهورا إلى أن عاد للحديث من جديد :
- أتعرف أنه كان يدرس القرآن والحديث والفقه في جامعكم هذا ؟ وأنه كان يؤم المسلمين في يوم الجمعة ؟ وأنه رفض وهو في عز ملكه الركوب على الخيل وواصل امتطاء ظهر حماره ؟
قلت :
- لا والله .
فقال ، والابتسامة تملأ وجهه :
- إن ما ذكرت دعاية مغرضة لزعماء الشيعة أطلقوها ضد الرجل ولقيت آذانا صاغية بعد ذلك من فقهاء المذهب المالكي الذين كانوا يعادون فكر الخوارج .
إن صاحب الحمار يا صاحبي حرض البربر على ظلم خلفاء الدولة الفاطمية من هنا ، من عندكم . وخرج بجيشه الصغير من أرضكم .
إنني أراه الآن أمام ناظري كما على شاشة سينما كبيرة يعرج برجله القصيرة ، ويقف أمام المحراب . وأسمع صوته الأجش يرفع النداء للصلاة ، فأقشعر و تصيبني رهبة المكان .
يا الله كم كانت جميلة تلكم الأيام .
وتصرعني الدهشة ، فأتغابى وأسأله :
- هل كنت معهم يا عزيزي ؟
فيرد باسما :
- أظن أنني صاحب الحمار بلحمه ودمه .
وأقول له :
- لكن لحم صاحب الحمار أكلته كلاب المهدية منذ ألف عام
فيضحك حتى يفحص الأرض برجله الاثنتين ويهطل الدمع من عينيه . فأجاريه في الضحك حتى لا يغضب .
ويصيبني العجب العجاب حين نقوم لنعود إلى القرية ، فأراه يسير أمامي ماشيا مشية صاحب الحمار برجل عرجاء أقصر بقليل من الرجل الثانية ...
- 5 –
وتمادينا في الحفر حتى موفى شهر " جويلية " ، فلم نعثر على أشياء مهمة سوى بقايا جرار من الفخار وعضام آدمية وجمجمة في صندوق من النحاس تكاد تكون محنطة لأن الشعر مازال مكدسا على الرأس . وكان الجفنان يرمشان فوق عينين بلون الفيروز . كما اهتدى بعض العمال إلى مخزن السلاح وجدوا فيه كدسا من السيوف والرماح والدبابيس المسننة ، ومن أعجب ما وجدوا ، مدفعا رشاشا .
وصاح ذات صباح عامل حين تحطمت تحت ضربات فأسه جرة ملأى نقودا نحاسية وفضية ، فرمى الفأس وراح يحثو التراب في كل الاتجاهات وهو يصيح:
- وجدت كنز الرومان يا أصحابي . وجدت الكنز . وجدت الكنز .
فتجع الخلق ، وافتكوا منه بقية الجرة . وجمعت النقود في برنس . وترقب الناس وصول عالم الآثار الذي فحص النقود بلهفة ، ثم قال :
- هذه بقايا كنز " دقليانيوس "الذي جاء إلى هنا غازيا هذه الديار التي ثارت على سلطته . وبعد أن أخمد الثورة بنى كنيسة وردم في أساساتها هذه النقود حتى تعمر إلى أبد الدهر .
ثم صاح وهو يلف البرنس :
واصلوا العمل يا رجال . بارك الله في سعيكم .
- 6 –
كنت أحفر قريبا من المحراب ، حين رأيت قطعة من الخشب . لم أعرها اهتماما في أول الأمر لأننا وجدنا كثيرا من بقايا الخشب مطمورا في أرضية الجامع . إلا أني وأنا أحفر جنبها صارت القطعة تكبر كلما تساقط التراب بعيدا عنها ، إلى أن ظهرت جوانب صندوق كبير .
ما أردت تكرار ما جرى حين اكتشاف نقود " دقليانيوس " لذلك أهلت التراب على الصندوق وواصلت العمل وكأن شيئا لم يكن . بل أنني زيادة في التضليل والتعمية صرت أحفر في الاتجاه المعاكس للصندوق . ولم أخرج يومها من الخندق حتى لا يعوضني عامل آخر فيفتضح الأمر وأخسر المفاجأة التي كنت أنوي تقديمها لصديقي عالم الآثار .
ثم فجأة ، وكمن لسعته عقرب ، نبتت في رأسي فكرة . قلت لم لا أحتفظ بما في الصندوق لنفسي . وتذكرت لصوص الآثار التي يتاجرون بها مع الأجانب فيكسبون من بيعها آلاف الدنانير. وراقت لي الفكرة فقررت عدم التفريط في الصندوق لأي كان ... إلا أن الارتباك تملكني وسكن حركاتي ، فكاد أمري ينكشف حين اقترب مني عالم الآثار وسألني عن حالي . فقلت له إنني مريض وإنني لن أستطيع منادمته هذه الليلة ، فتركني وذهب يتفقد عمل الآخرين . لكنه حين هم بالخروج ، ناديته وهمست في أذنه بأنني أخبئ له مفاجأة ستسره لا محالة . فابتسم ، وذهب يحرك رأسه يمنة ويسرة .
مساء ، بعد أن غادر العملة ساحة المسجد ، ناديت عالم الآثار ، فجاء خفيفا . طلبت منه أن يتثبت من خلو المكان من الغرباء ثم عرضت عليه الصندوق . اندهش .ظل واجما في مكانه مدة ، ثم بدأ في الإلتفات يمنة ويسرة وهو يرد على مفاجأتي هامسا :
- يا ملعون . لماذا لم تعلن عن لقيتك حين اكتشافها ؟
ثم يستدرك :
لا .. لا.. أنا مغفل ... لقد أحسنت الصنع ، يجب أن نكتشف أولا ما بداخل الصندوق ...
ويقفز خارج الخندق ويتجه نحو باب الجامع متلصصا ، ثم يعود إلى تفحص الصندوق والشرر يتطاير من عينيه إلى أن تداركت الأمر، فطلبت منه أن يكشف على السر .
طلب مني أن أساعده على رفع غطاء الصندوق، وقد كان مصيبا حين طلب العون لأن الغطاء كان ثقيلا جدا. فكأنه قد من صخر. وبعد لأي وعنت عظيمين فتحنا الصندوق. كنت أمني النفس باكتشاف كنز من الجواهر الثمينة لكن الصندوق كانت به أشياء أخرى : مخطوطات كثيرة داخل لفائف من الجلد تفوح منها روائح التاريخ . تفحصها عالم الآثار وعيناه تبرقان بريقا غريبا.
كانت اللفائف تحتوي على مصاحف قرآن مكتوبة بماء الذهب وكتب فقه وأحاديث نبوية ودواوين شعر وكتب تاريخ وجغرافيا ورحلات وسحر وتنجيم ...
كدسنا الكتب فوق حصير ، ونفضنا الصندوق ، ثم عدنا إلى ترتيبها من جديد .كانت عناوين المخطوطات غريبة على مسمعي . وكنت أتابع حركات عالم الآثار وهو يضعها بحنان وسط الصندوق . كان الرجل يهذي ، يضع الكتب على رأسه ثم يدسها في قلبه ويعود فيقبلها وينفض عنها غبار الزمن .
كان يأتي حركات كحركات المجانين ، فأكتم ضحكي خوفا منه ولكن في آخر الأمر انفجرت مقهقها وجعلت أتلوى على الأرض والدموع تسيل على خدي . ولم أفق إلا وصفعة من كفه الغليظة تنزل على قفاي ، فعدت إلى الصواب . وجاءني صوته حادا كوخز الإبر :
- قف متأدبا في حضرة أدب الخوارج الإباضية يا ... مخنث فانتصبت واقفا وقفة المتأدبين ، وأديت له التحية العسكرية . لكنه لم يأبه لتمثيلي وواصل همهماته وتمتماته عن هذا الكنز الذي لا يوجد له مثيل في العالم .
وبعد أن أعاد مرة أخرى ترتيب المخطوطات في الصندوق ، طلب مني أن أحضر في الحال بغلا وأن لا أخبر أحدا بما رأيت . فقلت له :
- السمع والطاعة يا مولاي .
وذهبت أبحث عن بغل وعربة .
وجدت ضالتي عند العربجي الأخرس " ميمون " . قلت هو من يليق بهذه المهمة ، فلن يكثر من السؤال والقيل والقال خاصة إذا أغريناه بمال وفير .
عرضت على الأخرس مصاحبتي إلى الجامع ، فوافق . وساعدنا على وضع الصندوق على العربة .
كان عالم الآثار أثناء غيابي قد رتب كل شيء . وضع أدوات حفر فوق الصندوق حتى لا يجلب النتباه وحتى يظن العربجي أننا نحمل في هذا الصندوق الكبير فؤوسا ورفوشا ومساحي .
وذهبنا إلى دار عام الآثار .
- 7 –
وعدنا إلى الحفر داخل المسجد . كنا نعمل طيلة أيام الصيف القائضة ولكنني لاحظت أن همة عالم الآثار قد فترت في مراقبتنا وحثنا على الاجتهاد في العمل .
كان كلما ازدادت حرارة الصيف ، عزف أكثر على المجيء إلى ميدان العمل واختار الركون إلى الراحة في الدهاليز الظليلة صحبة شيوخ يهشون الذباب عن وجوههم بفتور وهم يصنعون من سعف النخيل مراوح وسلال وزنابيل ، ويلعبون " الخربقة " لقتل الوقت والانتصار على قيظ القيلولة .فإذا جاء وقت صلاة العصر ينفض الجمع ويذهب عالم الآثار إلى داره التي كان شيد الحرص على رش أرضيتها بالماء وتهوئة غرفها بمروحة كبيرة مصنوعة من ريش النعام ، ثم ينهمك في تقليب المخطوطات والنظر فيها إلى أن تغيب الشمس فيذهب أمام بائع دكان المكسرات يترقب مجيئي .
كان يجلس على كرسي ويضع بجانب رجليه على الأرض قفة ملآى باللوز والحمص والغلال واللحم ، ويخرج بين الفينة والأخرى من جيب قميصه قطعة قماش معطرة يمسح بها العرق الهاطل من جبينه . ولا يتحرك قيد أنملة من أمام الدكان حتى حين وصولي . فيهش في وجهي ويبش ويسألني عن سير العمل . ويعو د ليؤكد لي للمرة الألف أنه لا يثق بأحد هناك سواي . وأنني عينه التي يرى بها . ثم يمتطي ظهر الحمار ويحاذر حتى لا تتزحزح البردعة ، فيسقط على الأرض كما كان يحصل له في المرات الأولى لما كان يجرب امتطاء الحمار .
ويحرك رجليه على الجانبين ، فتركض الدابة ، فيضحك مقرقرا قرقرة الأولاد الصغار . وأنا مغتبط لفرحه وانشراحه إلى أن نصل إلى بستان النخيل فيرمي بنفسه على الرمل بجانب الساقية ويغرف الماء بيديه ويرش به كامل جسمه المقهور بحرارة الطقس . ثم يطلب باطية " اللاقمي " فيكرع ثلاثة أقداح متتالية ويرمي في فيه بحبات لوز . ويتمدد على ظهره فوق الرمل مغمضا عينيه ومتمتما بأشعار بلغة لا أعرفها بالرغم من شبهها الكبير باللغة العربية . قال لي مرة أنها " الأرامية " ، وإنها من أجمل اللغات التي تكلم بها البشر .
- 8 –
كان عالم الآثار إذا اشتد به السكر يرق حد الذوبان وتلين حركته حتى يصبح ألطف مخلوق على وجه البسيطة ، فيقرأ لي الأشعار ، ويحكي لي طرفا ونوادر غريبة وبذيئة في أغلب الأحيان . أو يروي لي حكايات من تاريخ الشعوب البائدة.
كان يعشق كثيرا تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء التي زار أغلب بلدانها كما زعم ، أكثر من عشر مرات. فكان يرطن بكلمات من لغات الزنوج ، ثم يقوم واقفا ويعري صدره وينهمك في رقص محموم خابطا الأرض برجليه ومحدثا بفمه شقشقة كشقشقة آلات الطرب الحديدية التي يحركها الزنوج بأيديهم ساعة التخميرة . ولا يهدأ إلا ساعة أحدثه عن " للا فاطمة " التي عشقها بعدما عرف قصتها ، فصار يزورها في منزلها في كل يوم تقريبا .يجلب لها السكر والشاي الذي لا تنتهي من طبخه حتى تعود إلى ذلك مرة أخرى . ويحدثها بلغة عربية مخلوطة بكلمات من لغة " الهوسا " و" الفولاني " ، فترد عليه وصدرها منشرح وأسارير وجهه تطفح بالبشر .ثم يتركان العربية جانبا وينهمكان في حديث بلغة الزنوج الخالصة وأنا كالمخبول أتابع دمدمة أصواتهما التي تلين حينا وتعلو أحيانا إلى أن تملأ رائحة الشاي المحروق غرفة العجوز، ويفوح الشياط في كل مكان .
- 9 –
ذات ليلة ، أخرج من القفة صندوقا مبطنا بالحرير . رأيت داخل الصندوق كتابا . فتح عالم الآثار الكتاب وبدأ في القراءة على ضوء شمعة .
قال إته واحد من المخطوطات التي عثر عليها داخل الصندوق . وحين حاولت الاقتراب منه ، أطفأ الشمعة .
قال إن شرطه أن أبقى بعيدا وأن أستمع إليه بهدوء ، وإلا فإنه لن يقرأ من الكتاب ولن يعلمني اللغة الأرامية التي أحيا بها سيدنا " المسيح " الأموات .
امتثلت لأمره ومددت له قارورة جعة باردة أخرجتها في تلك اللحظة من ساقية الماء ، فكرع منها وتنهد وأشعل الشمعة .
قال : سأحكي لك ما دونه " صاحب ستر الوليد بن يزيد الأموي " ضمن ما وجدت داخل صندوق المخطوطات .
أتعرف أن الخلفاء كانوا يجلسون وراء ستارة بينها وبين الندماء عشرون ذراعا وأنهم كانوا يؤكلون بهذه الستارة حاجب ينهي إلى المغنين ما يريده الخليفة ؟
قلت : لا والله .
قال : اسمع إذن هذه الحكاية التي تناقلها الخوارج ووزعوها في كل الأمصار الإسلامية حتى يشهروا بخلفاء بني أمية .
وطلب مني مرة أخرى أن أصمت ، وأن لا أقاطعه أبدا . وسكت إلى أن سمع همهمة الليل الذي يلف المكان .
فبدأ يقرأ بصوت كزمزمة المجوس :