تحاول القاصة والكاتبة العراقية بثينة الناصري في كتابها الجديد “الحكاية الشعبية: دراسة وتحليل”، الافتراض أن الحكاية الشعبية بمثابة “حلم يقظة” الشعوب، فالحلم المشترك للإنسانية بحياة أفضل يعوّض فشلها ومعاناتها. وقد اقتصرت دراستها على حكايات الجان والخوارق تحديدا.
الحكايات متشابهة
تقول الناصري في مقدمة الكتاب، الصادر حديثا عن وكالة الصحافة العربية (ناشرون) في القاهرة، “إن الحياة البدائية الصعبة، التي عاشتها الإنسانية في العصور الأولى، جعلت حلمها الأوحد هو في حياة سهلة مرفهة، حيث يحصل الإنسان على قوته، ويتملك الثروة، وينتصر على أعدائه بمساعدة قوى أخرى تعينه في ضعفه البشري. هذا هو الحلم المشترك للإنسانية جمعاء. ولم يختلف من مكان إلى آخر إلاّ بالتفاصيل والوسائل، إذ إن الطبيعة البشرية تؤثر فيها الظروف والبيئات المحيطة بها، فتؤقلم وجهات نظرها وتشكّل ذهنيتها. والحكاية الشعبية، بخوارقها ونهاياتها السعيدة، حلم الإنسانية في حياة أفضل، حلم يعوّض عن فشلها ومعاناتها”.
تأخذ الناصري بتعريف عالم الفولكلور الكزاندر كراب لحكاية الجان، ذلك التعريف الذي يقول إنها نوع من القصص الشعبي البدائي الأول، وإنها تستمد مادتها من مصادر متباينة، وتتخذ موادها شكل الجزئيات المتكررة، التي يتصف بعضها بقدر كافٍ من الواقعية، في حين يكون بعضها الآخر عبارة عن بقايا متخلفة من الماضي تمثل أشكال المعتقدات الأولى التي نشأت قبل تكوين الحكاية بفترة طويلة. وقد يكون بعض هذه الجزئيات تكملة أو استطرادا من أوهام الأحلام. واستنادا إلى المصادر الثلاثة التي حددها كراب يجمع الفولكلوريون على أن حكايات الجان كالأساطير “تعبّر عن وجهة نظر الجماعة التي ترى العالم والتاريخ بواسطة موقفها”.
كما تلتفت الناصري إلى رأي الباحث مزاحم الطائي، الذي يقول في مقاله “الأسطورة من خلال الذات”، “سيطرت على الأذهان فكرة كاد يقلبها البعض إلى بديهية أدبية لا جدال فيها ترى في الأسطورة والخيال الشعبي عامة مجرد انعكاس موضوعي للعلائق الاجتماعية، وآمال وأحلام الناس اليومية، وبصورة عامة لما دعوه “وجدان الجماعة”، ونافية لكل طابع ذاتي فردي لها، وليس البطل الأسطوري في نظرها غير مرآة عاكسة لصورة المجتمع الذي ولد فيه. ثم يفترض انبثاق الأساطير من الذات البشرية التي يحكمها مبدأ واحد أبدا هو مبدأ اللذة والفهم العنيف للحياة.
وتتمثل ميزات البناء الذاتي للأسطورة في الانفعال الحاد، والمبالغة والتهويل، والحسية البصرية، والتوتر أو شدة الإحساس، واللامعقول.
لكن الناصري تنفي وجود تعارض بين كون الأسطورة نابعة من الذات البشرية وبين أن تكون نابعة من واقع البيئة، معبرة عنها، وعن وجهة نظر الجماعة، فإن الجزء هو بعض الكل، والذات الإنسانية الفردية هي ذاتها في كل مكان وزمان، ورغباتها وأحلامها ومتطلباتها الأساسية البدائية واحدة. هكذا هي أساطير الخلق السومرية والبابلية والمصرية والإغريقية والهندوسية، التي تُعد أصل الحكاية الشعبية كما تعتقد، متشابهة من حيث المدلول وصراعات الآلهة بعضها مع بعض من جهة، ومع الإنسان من جهة أخرى.
ويؤكد هذا التشابه وحدة التفكير الإنساني، والأصل الفكري الذي انبعثت منه الرؤى الميتافيزيقية والغيبية، كما يؤكد تشابه الاهتمامات البشرية. وإن كان الاختلاف بين الحكايات الشعبية في التفاصيل، فإن جوهرها واحد.
ولا تبتعد الناصري في رأيها هذا عن نظرية فلاديمير بروب البنائية في “مورفولوجية الحكاية الشعبية”، حيث يلاحظ أن الذي يتبدل في الحكايات هو أسماء الشخصيات، لكن الثابت هو أفعالها ووظائفها (إحدى وثلاثون وظيفة)، مهما تكن هذه الشخصيات، ومهما تكن طريقة إنجازها لوظائفها.
الإشارات الجنسية
ترى الناصري أن الدراسة المتعمقة لحكايات الجان تكشف عن مجموعة وسائل تلجأ إليها، منها: الفردية والدوافع، حيث البطولة فيها فردية دائما، ويكون البطل فقيرا، أو وحيدا في بداية الحكاية، فهو إما ابن وحيد أو ابنة وحيدة، لكن في الأغلب هو أصغر ثلاثة أخوة أو سبعة أو تسعة.
وهو بمثابة الحلم نفسه، لذا يكون كامل الأوصاف: طيب القلب، ذكيا، شفوقا، وسيما، وشجاعا. وإن كان فتاة فهي بارعة الجمال لا تضاهيها في الحسن فتاة أخرى. أما الدوافع التي تبعث الأحلام فتكون إما رغبات مكبوتة (الرغبات الجنسية، أو النزعات الأخرى المحرمة) وإما رغبات غير محققة، وتشمل الأنواع الأخرى التي لا تدخل ضمن الصنف الأول.
تلفت نظر الناصري، في هذا السياق، الإشارات الجنسية الصريحة المكشوفة في الحكاية الشعبية، إضافة إلى تلك المقنعة بالرموز. وتشير إلى أن الحكايات الشعبية العراقية فيها الكثير الذي يبلغ حد البذاءة. والغريب أن الراوية والمستمع يتقبلانها بشكل طبيعي لا يحدث في “الحياة الواقعية”. ولا تفسير لذلك، حسب رأيها، إلاّ أن كلا الشخصين (الراوية والمستمع) يجدان في الحكاية حجة للتنفيس عن مكبوتاتهما. ولا يحدث مثل هذا إلاّ في الأحلام.
وتدرس الناصري أيضاً حكايات ألف ليلة وليلة، مستنتجة أنها من أولها إلى آخرها زاخرة بالخيالات الجنسية المحمومة، المبالغ فيها إلى حد الانحراف. فهناك الحفلات الماجنة التي تقوم بها نساء السادة مع عبيدهن، والاتصال الجنسي بين الإنسان والحيوان، والشذوذ، وكذلك العلاقات السهلة التي لا يمكن أن تحدث حتى في أشد البلدان تحررا. ويدفع ذلك بثينة الناصري إلى الجزم بأن “ألف ليلة وليلة” كانت أحلام يقظة مجنونة لأناس كُبتت رغباتهم كبتا شديدا، فتفجرت بشكل صريح حتى دون اللجوء إلى التستر عليها بالرموز.
ومن الواضح أن استنتاجها هذا مبني على منظور فرويدي، فهي تعقبه بتأكيدها أن الجنس في الأحلام والحكايات يلعب دورا مهما، فما من غريزة، كما يقول فرويد في كتابه “تفسير الأحلام”، “لاقت منذ الطفولة مثل الكبت الذي لاقته الغريزة الجنسية، وما من غريزة خلّفت وراءها رغبات على هذا القدر من الكثرة والقوة تعمل اليوم على إحداث الحلم في حالة النوم”.
* العرب
الحكايات متشابهة
تقول الناصري في مقدمة الكتاب، الصادر حديثا عن وكالة الصحافة العربية (ناشرون) في القاهرة، “إن الحياة البدائية الصعبة، التي عاشتها الإنسانية في العصور الأولى، جعلت حلمها الأوحد هو في حياة سهلة مرفهة، حيث يحصل الإنسان على قوته، ويتملك الثروة، وينتصر على أعدائه بمساعدة قوى أخرى تعينه في ضعفه البشري. هذا هو الحلم المشترك للإنسانية جمعاء. ولم يختلف من مكان إلى آخر إلاّ بالتفاصيل والوسائل، إذ إن الطبيعة البشرية تؤثر فيها الظروف والبيئات المحيطة بها، فتؤقلم وجهات نظرها وتشكّل ذهنيتها. والحكاية الشعبية، بخوارقها ونهاياتها السعيدة، حلم الإنسانية في حياة أفضل، حلم يعوّض عن فشلها ومعاناتها”.
تأخذ الناصري بتعريف عالم الفولكلور الكزاندر كراب لحكاية الجان، ذلك التعريف الذي يقول إنها نوع من القصص الشعبي البدائي الأول، وإنها تستمد مادتها من مصادر متباينة، وتتخذ موادها شكل الجزئيات المتكررة، التي يتصف بعضها بقدر كافٍ من الواقعية، في حين يكون بعضها الآخر عبارة عن بقايا متخلفة من الماضي تمثل أشكال المعتقدات الأولى التي نشأت قبل تكوين الحكاية بفترة طويلة. وقد يكون بعض هذه الجزئيات تكملة أو استطرادا من أوهام الأحلام. واستنادا إلى المصادر الثلاثة التي حددها كراب يجمع الفولكلوريون على أن حكايات الجان كالأساطير “تعبّر عن وجهة نظر الجماعة التي ترى العالم والتاريخ بواسطة موقفها”.
كما تلتفت الناصري إلى رأي الباحث مزاحم الطائي، الذي يقول في مقاله “الأسطورة من خلال الذات”، “سيطرت على الأذهان فكرة كاد يقلبها البعض إلى بديهية أدبية لا جدال فيها ترى في الأسطورة والخيال الشعبي عامة مجرد انعكاس موضوعي للعلائق الاجتماعية، وآمال وأحلام الناس اليومية، وبصورة عامة لما دعوه “وجدان الجماعة”، ونافية لكل طابع ذاتي فردي لها، وليس البطل الأسطوري في نظرها غير مرآة عاكسة لصورة المجتمع الذي ولد فيه. ثم يفترض انبثاق الأساطير من الذات البشرية التي يحكمها مبدأ واحد أبدا هو مبدأ اللذة والفهم العنيف للحياة.
وتتمثل ميزات البناء الذاتي للأسطورة في الانفعال الحاد، والمبالغة والتهويل، والحسية البصرية، والتوتر أو شدة الإحساس، واللامعقول.
لكن الناصري تنفي وجود تعارض بين كون الأسطورة نابعة من الذات البشرية وبين أن تكون نابعة من واقع البيئة، معبرة عنها، وعن وجهة نظر الجماعة، فإن الجزء هو بعض الكل، والذات الإنسانية الفردية هي ذاتها في كل مكان وزمان، ورغباتها وأحلامها ومتطلباتها الأساسية البدائية واحدة. هكذا هي أساطير الخلق السومرية والبابلية والمصرية والإغريقية والهندوسية، التي تُعد أصل الحكاية الشعبية كما تعتقد، متشابهة من حيث المدلول وصراعات الآلهة بعضها مع بعض من جهة، ومع الإنسان من جهة أخرى.
ويؤكد هذا التشابه وحدة التفكير الإنساني، والأصل الفكري الذي انبعثت منه الرؤى الميتافيزيقية والغيبية، كما يؤكد تشابه الاهتمامات البشرية. وإن كان الاختلاف بين الحكايات الشعبية في التفاصيل، فإن جوهرها واحد.
ولا تبتعد الناصري في رأيها هذا عن نظرية فلاديمير بروب البنائية في “مورفولوجية الحكاية الشعبية”، حيث يلاحظ أن الذي يتبدل في الحكايات هو أسماء الشخصيات، لكن الثابت هو أفعالها ووظائفها (إحدى وثلاثون وظيفة)، مهما تكن هذه الشخصيات، ومهما تكن طريقة إنجازها لوظائفها.
الإشارات الجنسية
ترى الناصري أن الدراسة المتعمقة لحكايات الجان تكشف عن مجموعة وسائل تلجأ إليها، منها: الفردية والدوافع، حيث البطولة فيها فردية دائما، ويكون البطل فقيرا، أو وحيدا في بداية الحكاية، فهو إما ابن وحيد أو ابنة وحيدة، لكن في الأغلب هو أصغر ثلاثة أخوة أو سبعة أو تسعة.
وهو بمثابة الحلم نفسه، لذا يكون كامل الأوصاف: طيب القلب، ذكيا، شفوقا، وسيما، وشجاعا. وإن كان فتاة فهي بارعة الجمال لا تضاهيها في الحسن فتاة أخرى. أما الدوافع التي تبعث الأحلام فتكون إما رغبات مكبوتة (الرغبات الجنسية، أو النزعات الأخرى المحرمة) وإما رغبات غير محققة، وتشمل الأنواع الأخرى التي لا تدخل ضمن الصنف الأول.
تلفت نظر الناصري، في هذا السياق، الإشارات الجنسية الصريحة المكشوفة في الحكاية الشعبية، إضافة إلى تلك المقنعة بالرموز. وتشير إلى أن الحكايات الشعبية العراقية فيها الكثير الذي يبلغ حد البذاءة. والغريب أن الراوية والمستمع يتقبلانها بشكل طبيعي لا يحدث في “الحياة الواقعية”. ولا تفسير لذلك، حسب رأيها، إلاّ أن كلا الشخصين (الراوية والمستمع) يجدان في الحكاية حجة للتنفيس عن مكبوتاتهما. ولا يحدث مثل هذا إلاّ في الأحلام.
وتدرس الناصري أيضاً حكايات ألف ليلة وليلة، مستنتجة أنها من أولها إلى آخرها زاخرة بالخيالات الجنسية المحمومة، المبالغ فيها إلى حد الانحراف. فهناك الحفلات الماجنة التي تقوم بها نساء السادة مع عبيدهن، والاتصال الجنسي بين الإنسان والحيوان، والشذوذ، وكذلك العلاقات السهلة التي لا يمكن أن تحدث حتى في أشد البلدان تحررا. ويدفع ذلك بثينة الناصري إلى الجزم بأن “ألف ليلة وليلة” كانت أحلام يقظة مجنونة لأناس كُبتت رغباتهم كبتا شديدا، فتفجرت بشكل صريح حتى دون اللجوء إلى التستر عليها بالرموز.
ومن الواضح أن استنتاجها هذا مبني على منظور فرويدي، فهي تعقبه بتأكيدها أن الجنس في الأحلام والحكايات يلعب دورا مهما، فما من غريزة، كما يقول فرويد في كتابه “تفسير الأحلام”، “لاقت منذ الطفولة مثل الكبت الذي لاقته الغريزة الجنسية، وما من غريزة خلّفت وراءها رغبات على هذا القدر من الكثرة والقوة تعمل اليوم على إحداث الحلم في حالة النوم”.
* العرب