هناك في التراث العربي بيتان من الشعر طغت شهرتهما على شهرة قائلهما، هما :ـ
كم مـنزل في الأرض يألفـه الفتى = يـبـقـى حنـيـه أبدا ً لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى = مـا الـحـب إلا للـحـبـيـب الأول
في الأيام الأولى من الشهر العاشر من العام 1992م ، وقعت عيني لأول مرة على الآنسة ( ر.ل.ر ) في قسم اللغة العربية بإحدى الكليات في العراق ، دخلت قلبي من النظرة الأولى ، وكان في البداية إعجابا ً تحول إلى حب كبير فيما بعد ، لم يكن في البداية جادا ً ، لكنه في النهاية اتسم بالصدق والمشاعر النبيلة ، وكان ينطبق عليها ـ إلا في لونها ـ قول القائل :ـ
طرقتك زائرة فـحـيي خيالها = بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادتْ فؤادك فاستـقـاد ومثلها = قاد الفؤاد إلى الصبا فأمالها
ولم تكن بيضاء ولا سمراء بل كانت حنطاوية ، ولم تكن أجمل الجميلات ، لكنها عندي كذلك ، وتمضي الأيام وتأتي محاضرة للأدب الجاهلي يديرها الأستاذ ـ طيب الذكر ـ الدكتور طارق عبد الوهاب العوسج ، فيطلب من أحد الطلبة قراءة معلقة امرئ القيس ( قفا نبك … ) ، ويستوقفه ليطلب من حبيبتي أنْ تكمل ، فتقرأ :ـ
ويـوم دخـلـت الخـدر خـدر عـنـيـزةٍ = فـقـالـت لـك الـويلات إنـَّك مرجـل ِ
تـقـول وقــد مـال الـغـبـيـط بنا معـا ً = عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل ِ
هنا يقاطعها الدكتور العوسج معجبا ً بطريقة إلقائها وجمال صوتها ، قائلا ً :ـ (( ممتاز يا ابنتي ، بارك الله فيك ، ولكن حاولي التخلص من لكنة حرف الرَّاء في قراءتك ، أو حاولي التخفيف منها )) ، فكانت تقرأ ( الخدر خدر ) ( الخدغ خدغ ) ، و ( مرجل ) ( مغجل ) ، و ( عقرت بعيري ) ( عقغت بعيغي ) ، و ( امرأ القيس ) ( امرغ القيس ) ؛ ولا أستطيع اليوم أن أصف لكم جمال لكنة حرف الراء عندها ، على خلاف قبح اللكنات عند الآخرين ، ودليلي على ذلك إعجاب الدكتور العوسج بها ، وثناؤه على أدائها ، فجمال صوتها وروعة إلقائها غطت على لكنتها ، وهذا من النادر أن يحدث .
وفي الفصل الثاني من الدراسة تقيم الكلية عندنا مهرجانا ً للشعر والخطابة ، ويتم اختياري عريفا ً لحفل المهرجان ، مع أني لست شاعرا ً ولا خطيبا ً ، بل لكوني من المتفوقينَ والمجدينَ في الدراسة ، وأثناء التحضير للمهرجان أعجبتني قصيدتين ِ ، لشاعرين ِ من زملائي ، وهما حسن البلداوي ، وطعمة أمين عمر ؛ والاثنان من مدينة بلد بمحافظة صلاح الدين ، الأول كان ظريفا ً دمث الخلق حلو الحديث وكان في المرحلة الثالثة ، والثاني عصبي المزاج طيب القلب في الوقت ذاته وكان في المرحلة الثانية ، ربطتني بالاثنين ِ علاقة صداقة ثقافية جميلة ، فكنا نجلس ساعات طوال أحيانا ً نتناقش في معنى بيت شعر واحد ونختلف في تفسيره ، وقد لا نتفق في أحيان كثيرة على رأي واحد ، ولم يكن اختلاف آرائنا يفسد للود قضية بيننا .
طلبت من حسن أن يغيب عن قاعة المهرجان حتى يتسنى لي إلقاء قصيدته بدلا ً عنه لشدة إعجابي بها ، رفض في البداية ، لكنه وافق بعد شدة إلحاحي عليه ، وأخبرني أنه سينسحب من القاعة قبل أن يأتي دوره في الإلقاء ، حيث كان ترتيب الشعراء حسب الحروف الأبجدية ، أما طعمة فلم يرضَ منذ البداية الاشتراك في المهرجان ، حيث كان يبخل حتى علينا بشعره ، ولا يسمعنا إياه في جلساتنا الخاصة إلا بعد إلحاح شديد منا أنا وحسن ، وما زلت إلى اليوم أتعجب كيف استطعنا إقناعه الاشتراك بذاك المهرجان .
ويبدأ حفل الافتتاح ، وأنا على المنصة ، أبدأ بالترحيب بعميد الكلية ، كان وقتها الدكتور نايف عبد الله العزاوي وضيوفه من الوزارة ، وأبرزهم الدكتور سطام الجبوري المدير العام بها ، والأساتذة الحضور من تدريسيي الجامعة ، ويبدأ الشعراء بإلقاء قصائدهم ، وكانوا جميعا ً من الطلبة ، ويتفاعل الحضور ـ وكانت حبيبتي بينهم ـ معهم إيجابا ً وسلبا ً ، كل على هواه ، إلى يقترب دور صديقي البلداوي ، فينسحب خلسة من القاعة كما اتفقنا ، لأعتلي أنا المنصة فألقي قصيدته بدلا عنه ـ وعيني تنظر إلى حبيبتي ـ وكأنها تجلس في القاعة وحدها ـ قائلا ً :ـ هذه قصيدة ( يا غادة الكرخ ) للشاعر حسن البلداوي ، وأنشد : ـ
يا غادة الكرخ هذا المدنف الباكي = تركته موحشا ً في ليل جفواكِ
يشكـو إلـيـك على بعد المـزار به = قلبا ً ولـبا ً ونفسا ً ليس تسلاكِ
ويلاحظ القارئ أنَّ هذه القصيدة هي معارضة لقصيدة أبي عبادة البحتري ( يا ظبية البان ) ، وقد تدخل في باب السرقات الشعرية أيضا ً ، فشاعرنا أخذ منه الوزن والقافية ، وربما سرق بعض المعاني الجميلة ، هذا ما نوه به الأستاذ الدكتور علي عباس علوان ـ صاحب كتاب ( لغة الشعر العربي الحديث في العراق ـ اتجاهات الرؤيا وجماليات النسيج ) ـ في الجلسة النقدية بعد ذلك ، وهو عينه ما اعترف لي به الشاعر نفسه قبلا ً ، والقصيدة تتألف من أحد عشر بيتا ً جميلا ً متناسقا ً ، لم يبقَ في ذاكرتي منها إلا البيت الرائع الأخير :ـ
قـبـلـت كـف زماني وانحنيـت له = وكنت للدهر خصما ً قبل ألقاكِ
ولما انتهيت صفق الحضور بحرارة ، وكان في الجلسة عالم اقتصاد كبير ، هو الدكتور محمد فريد عارف الگيالي ، وهو مثقف حقيقي من مثقفي سوريا ، له اهتمامات بالشعر والأدب والبلاغة والتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وبقية العلوم الإنسانية ، فهو يعرف شيئا ً عن كل شيء ، ويعرف كل شيء في مجال اختصاصه ، أقول استمر الدكتور الگيالي بالتصفيق وحدة بعد توقف الجمهور ، فصفق معه الجمهور ثانية ، وكان قد لاحظ نظرتي إلى حبيبتي وأنا ألقي القصيدة ، فلم يفوت الموضوع ، فقام إلى المنصة ، وقال لي أمام الحضور أنت لم تقرأ قصيدة صاحبك لنا ، بل قرأتها لفتاة تجلس أمامك ، فأنت لم ترَ منا غيرها ، وقد فضحتك عيناك يا ولدي ، وضحك ؛ فأجبته محاولا ً التمويه عليه وعلى الحاضرينَ ، لم يبقَ منك إلا أنْ تشير إليها بإصبعك وتفضحني يا دكتور ، فضحك ثانية ، وصفق ثالثة ، فصفق معه الحضور أيضا ً ، وجلس في مكانه .
ولما جاء دور صاحبي الثاني ـ وأعني طعمة الذي مرَّ بقصة حب مؤلمة ، كان لها أثر كبير في شعره وفي حياته بعد ذلك ـ اعتلى المنصة وهو يلقي قصيدته ( صبا ) ، وما أن وصل إلى البيت الذي يقول في عجزه :ـ ( صدري على صدر صبا صلبا ) ، حتى ذرفت عيناي بالدموع ، ولم أستطع مواصلة الحفل ، فهممت بمغادرة القاعة بعد أنْ كلفت إحدى زميلاتي بتكملة تقديم بقية الشعراء .
بعدها لامني الأستاذ الدكتور قحطان رشيد التميمي ـ وكان رئيسا ً لقسم اللغة العربية حينها ـ على ترك قاعة الحفل بصورة مفاجئة ، فلما شرحت له تأثير القصيدتين ِ في نفسي أجلسني ، وأخذ يحدثني عن تأثير الشعر في الناس ـ كجماعات وأفراد ـ ونسي عتبه ولومه ، وما تزال أحاديثه في ذهني حتى الآن ، وكان أديبا ً راقيا ً متذوقا ً للشعر ، وناقدا ً متفهما ً بعيد النظر ، وهو محقق ديوان مروان بن أبي حفصة والشارح له ، أقول حدثني عن قول الحطيئة في بني بغيض ، وكيف قلب لقب ( أنف الناقة ) الذي كانوا يلقبون به من سبة إلى فخر ، بعدما قال فيهم :ـ
قـوم هـم الأنف والأذناب غيرهم = ومَن يسوي بأنف الناقة الذنبا
وحدثني عن خطبة البنات السبع للمحلق في ليلة واحدة وزواجهن بعدها ، ذلك الرجل الفقير الذي اجتهد في تقديم وليمة للأعشى ميمون بن قيس ، دعا إليها معه علية القوم ، وكانوا قد حضروها إكراما ً للأعشى لا للمحلق المبالغ في إكرام الشاعر ، الذي ما كان منه إلا أن قال بعدما أكل وشرب وشبع :ـ
لعمري لقد لاحت عيون كـثـيـرة = إلى ضـوء نـار بالـيـفـاع تحرق
تـشـب لـمـقـرورين يصطـلـيانها = فبات على النار الندى والمحـلق
كذلك حدثني عن نكبة الراعي النميري وقبيلته بعدما قال فيهم جرير :ـ
فغض الطرف إنـَّك من نمير = فـلا كعبا ً بلغت ولا كـلابا
أما يوم الخطابة فلم أكن حاضرا ً فيه ، ولا أعرف عنه شيئا ً ، فلم أدخل القاعة لأنَّ حبيبتي لم تحضر يومها ، فانزعجت وغادرت الجامعة رفقة صديقي ـ الأديب أو الذي كان مشروع أديب ـ مروان الحديثي إلى مقهى ( حسن عجمي ) في شارع الرشيد ، وجلسنا يومها إلى الأستاذ المرحوم موسى كريدي ، وأخذ يحدثنا كعادته في شؤون الثقافة والأدب .
لم يبقَ لي إلا أنْ أقول إنَّ الأيام باعدت بيني وبين أصدقائي ، فأنا الآن لا أعرف شيئا ً عن حسن وطعمة ، اللذان قد أبعدتهما الظروف عني وعن الأدب ، كما أبعدتني عن الأدب وعنهما ، إلا أني عرفت عن مروان أنه ترك الأدب وهجر وظيفة التعليم وعمل بالجزارة ، فشتان بين الثرى والثريا .
كما باعدت الأيام بيني وبين حبيبتي ، ولا أعرف عنها سوى أنها أستاذة للأدب العربي في إحدى الجامعات العراقية ، وأنا اليوم أعيش في الغربة متزوجا ً ، أحب زوجتي وأولادي ، لكنَّ حبي لحبيبتي لم يبقَ منه إلا تقديري واحترامي وذكرياتي .
وربما يكون للحديث بقية .. والسلام .
* عن الناقد العراقي
كم مـنزل في الأرض يألفـه الفتى = يـبـقـى حنـيـه أبدا ً لأول منزل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى = مـا الـحـب إلا للـحـبـيـب الأول
في الأيام الأولى من الشهر العاشر من العام 1992م ، وقعت عيني لأول مرة على الآنسة ( ر.ل.ر ) في قسم اللغة العربية بإحدى الكليات في العراق ، دخلت قلبي من النظرة الأولى ، وكان في البداية إعجابا ً تحول إلى حب كبير فيما بعد ، لم يكن في البداية جادا ً ، لكنه في النهاية اتسم بالصدق والمشاعر النبيلة ، وكان ينطبق عليها ـ إلا في لونها ـ قول القائل :ـ
طرقتك زائرة فـحـيي خيالها = بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادتْ فؤادك فاستـقـاد ومثلها = قاد الفؤاد إلى الصبا فأمالها
ولم تكن بيضاء ولا سمراء بل كانت حنطاوية ، ولم تكن أجمل الجميلات ، لكنها عندي كذلك ، وتمضي الأيام وتأتي محاضرة للأدب الجاهلي يديرها الأستاذ ـ طيب الذكر ـ الدكتور طارق عبد الوهاب العوسج ، فيطلب من أحد الطلبة قراءة معلقة امرئ القيس ( قفا نبك … ) ، ويستوقفه ليطلب من حبيبتي أنْ تكمل ، فتقرأ :ـ
ويـوم دخـلـت الخـدر خـدر عـنـيـزةٍ = فـقـالـت لـك الـويلات إنـَّك مرجـل ِ
تـقـول وقــد مـال الـغـبـيـط بنا معـا ً = عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل ِ
هنا يقاطعها الدكتور العوسج معجبا ً بطريقة إلقائها وجمال صوتها ، قائلا ً :ـ (( ممتاز يا ابنتي ، بارك الله فيك ، ولكن حاولي التخلص من لكنة حرف الرَّاء في قراءتك ، أو حاولي التخفيف منها )) ، فكانت تقرأ ( الخدر خدر ) ( الخدغ خدغ ) ، و ( مرجل ) ( مغجل ) ، و ( عقرت بعيري ) ( عقغت بعيغي ) ، و ( امرأ القيس ) ( امرغ القيس ) ؛ ولا أستطيع اليوم أن أصف لكم جمال لكنة حرف الراء عندها ، على خلاف قبح اللكنات عند الآخرين ، ودليلي على ذلك إعجاب الدكتور العوسج بها ، وثناؤه على أدائها ، فجمال صوتها وروعة إلقائها غطت على لكنتها ، وهذا من النادر أن يحدث .
وفي الفصل الثاني من الدراسة تقيم الكلية عندنا مهرجانا ً للشعر والخطابة ، ويتم اختياري عريفا ً لحفل المهرجان ، مع أني لست شاعرا ً ولا خطيبا ً ، بل لكوني من المتفوقينَ والمجدينَ في الدراسة ، وأثناء التحضير للمهرجان أعجبتني قصيدتين ِ ، لشاعرين ِ من زملائي ، وهما حسن البلداوي ، وطعمة أمين عمر ؛ والاثنان من مدينة بلد بمحافظة صلاح الدين ، الأول كان ظريفا ً دمث الخلق حلو الحديث وكان في المرحلة الثالثة ، والثاني عصبي المزاج طيب القلب في الوقت ذاته وكان في المرحلة الثانية ، ربطتني بالاثنين ِ علاقة صداقة ثقافية جميلة ، فكنا نجلس ساعات طوال أحيانا ً نتناقش في معنى بيت شعر واحد ونختلف في تفسيره ، وقد لا نتفق في أحيان كثيرة على رأي واحد ، ولم يكن اختلاف آرائنا يفسد للود قضية بيننا .
طلبت من حسن أن يغيب عن قاعة المهرجان حتى يتسنى لي إلقاء قصيدته بدلا ً عنه لشدة إعجابي بها ، رفض في البداية ، لكنه وافق بعد شدة إلحاحي عليه ، وأخبرني أنه سينسحب من القاعة قبل أن يأتي دوره في الإلقاء ، حيث كان ترتيب الشعراء حسب الحروف الأبجدية ، أما طعمة فلم يرضَ منذ البداية الاشتراك في المهرجان ، حيث كان يبخل حتى علينا بشعره ، ولا يسمعنا إياه في جلساتنا الخاصة إلا بعد إلحاح شديد منا أنا وحسن ، وما زلت إلى اليوم أتعجب كيف استطعنا إقناعه الاشتراك بذاك المهرجان .
ويبدأ حفل الافتتاح ، وأنا على المنصة ، أبدأ بالترحيب بعميد الكلية ، كان وقتها الدكتور نايف عبد الله العزاوي وضيوفه من الوزارة ، وأبرزهم الدكتور سطام الجبوري المدير العام بها ، والأساتذة الحضور من تدريسيي الجامعة ، ويبدأ الشعراء بإلقاء قصائدهم ، وكانوا جميعا ً من الطلبة ، ويتفاعل الحضور ـ وكانت حبيبتي بينهم ـ معهم إيجابا ً وسلبا ً ، كل على هواه ، إلى يقترب دور صديقي البلداوي ، فينسحب خلسة من القاعة كما اتفقنا ، لأعتلي أنا المنصة فألقي قصيدته بدلا عنه ـ وعيني تنظر إلى حبيبتي ـ وكأنها تجلس في القاعة وحدها ـ قائلا ً :ـ هذه قصيدة ( يا غادة الكرخ ) للشاعر حسن البلداوي ، وأنشد : ـ
يا غادة الكرخ هذا المدنف الباكي = تركته موحشا ً في ليل جفواكِ
يشكـو إلـيـك على بعد المـزار به = قلبا ً ولـبا ً ونفسا ً ليس تسلاكِ
ويلاحظ القارئ أنَّ هذه القصيدة هي معارضة لقصيدة أبي عبادة البحتري ( يا ظبية البان ) ، وقد تدخل في باب السرقات الشعرية أيضا ً ، فشاعرنا أخذ منه الوزن والقافية ، وربما سرق بعض المعاني الجميلة ، هذا ما نوه به الأستاذ الدكتور علي عباس علوان ـ صاحب كتاب ( لغة الشعر العربي الحديث في العراق ـ اتجاهات الرؤيا وجماليات النسيج ) ـ في الجلسة النقدية بعد ذلك ، وهو عينه ما اعترف لي به الشاعر نفسه قبلا ً ، والقصيدة تتألف من أحد عشر بيتا ً جميلا ً متناسقا ً ، لم يبقَ في ذاكرتي منها إلا البيت الرائع الأخير :ـ
قـبـلـت كـف زماني وانحنيـت له = وكنت للدهر خصما ً قبل ألقاكِ
ولما انتهيت صفق الحضور بحرارة ، وكان في الجلسة عالم اقتصاد كبير ، هو الدكتور محمد فريد عارف الگيالي ، وهو مثقف حقيقي من مثقفي سوريا ، له اهتمامات بالشعر والأدب والبلاغة والتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وبقية العلوم الإنسانية ، فهو يعرف شيئا ً عن كل شيء ، ويعرف كل شيء في مجال اختصاصه ، أقول استمر الدكتور الگيالي بالتصفيق وحدة بعد توقف الجمهور ، فصفق معه الجمهور ثانية ، وكان قد لاحظ نظرتي إلى حبيبتي وأنا ألقي القصيدة ، فلم يفوت الموضوع ، فقام إلى المنصة ، وقال لي أمام الحضور أنت لم تقرأ قصيدة صاحبك لنا ، بل قرأتها لفتاة تجلس أمامك ، فأنت لم ترَ منا غيرها ، وقد فضحتك عيناك يا ولدي ، وضحك ؛ فأجبته محاولا ً التمويه عليه وعلى الحاضرينَ ، لم يبقَ منك إلا أنْ تشير إليها بإصبعك وتفضحني يا دكتور ، فضحك ثانية ، وصفق ثالثة ، فصفق معه الحضور أيضا ً ، وجلس في مكانه .
ولما جاء دور صاحبي الثاني ـ وأعني طعمة الذي مرَّ بقصة حب مؤلمة ، كان لها أثر كبير في شعره وفي حياته بعد ذلك ـ اعتلى المنصة وهو يلقي قصيدته ( صبا ) ، وما أن وصل إلى البيت الذي يقول في عجزه :ـ ( صدري على صدر صبا صلبا ) ، حتى ذرفت عيناي بالدموع ، ولم أستطع مواصلة الحفل ، فهممت بمغادرة القاعة بعد أنْ كلفت إحدى زميلاتي بتكملة تقديم بقية الشعراء .
بعدها لامني الأستاذ الدكتور قحطان رشيد التميمي ـ وكان رئيسا ً لقسم اللغة العربية حينها ـ على ترك قاعة الحفل بصورة مفاجئة ، فلما شرحت له تأثير القصيدتين ِ في نفسي أجلسني ، وأخذ يحدثني عن تأثير الشعر في الناس ـ كجماعات وأفراد ـ ونسي عتبه ولومه ، وما تزال أحاديثه في ذهني حتى الآن ، وكان أديبا ً راقيا ً متذوقا ً للشعر ، وناقدا ً متفهما ً بعيد النظر ، وهو محقق ديوان مروان بن أبي حفصة والشارح له ، أقول حدثني عن قول الحطيئة في بني بغيض ، وكيف قلب لقب ( أنف الناقة ) الذي كانوا يلقبون به من سبة إلى فخر ، بعدما قال فيهم :ـ
قـوم هـم الأنف والأذناب غيرهم = ومَن يسوي بأنف الناقة الذنبا
وحدثني عن خطبة البنات السبع للمحلق في ليلة واحدة وزواجهن بعدها ، ذلك الرجل الفقير الذي اجتهد في تقديم وليمة للأعشى ميمون بن قيس ، دعا إليها معه علية القوم ، وكانوا قد حضروها إكراما ً للأعشى لا للمحلق المبالغ في إكرام الشاعر ، الذي ما كان منه إلا أن قال بعدما أكل وشرب وشبع :ـ
لعمري لقد لاحت عيون كـثـيـرة = إلى ضـوء نـار بالـيـفـاع تحرق
تـشـب لـمـقـرورين يصطـلـيانها = فبات على النار الندى والمحـلق
كذلك حدثني عن نكبة الراعي النميري وقبيلته بعدما قال فيهم جرير :ـ
فغض الطرف إنـَّك من نمير = فـلا كعبا ً بلغت ولا كـلابا
أما يوم الخطابة فلم أكن حاضرا ً فيه ، ولا أعرف عنه شيئا ً ، فلم أدخل القاعة لأنَّ حبيبتي لم تحضر يومها ، فانزعجت وغادرت الجامعة رفقة صديقي ـ الأديب أو الذي كان مشروع أديب ـ مروان الحديثي إلى مقهى ( حسن عجمي ) في شارع الرشيد ، وجلسنا يومها إلى الأستاذ المرحوم موسى كريدي ، وأخذ يحدثنا كعادته في شؤون الثقافة والأدب .
لم يبقَ لي إلا أنْ أقول إنَّ الأيام باعدت بيني وبين أصدقائي ، فأنا الآن لا أعرف شيئا ً عن حسن وطعمة ، اللذان قد أبعدتهما الظروف عني وعن الأدب ، كما أبعدتني عن الأدب وعنهما ، إلا أني عرفت عن مروان أنه ترك الأدب وهجر وظيفة التعليم وعمل بالجزارة ، فشتان بين الثرى والثريا .
كما باعدت الأيام بيني وبين حبيبتي ، ولا أعرف عنها سوى أنها أستاذة للأدب العربي في إحدى الجامعات العراقية ، وأنا اليوم أعيش في الغربة متزوجا ً ، أحب زوجتي وأولادي ، لكنَّ حبي لحبيبتي لم يبقَ منه إلا تقديري واحترامي وذكرياتي .
وربما يكون للحديث بقية .. والسلام .
* عن الناقد العراقي