الطبيعة مصدر إلهام عظيم في الأدب، وللشعر فيها مجال فسيح. افتن بها الشعراء، وتردد إليها الملهمون من أهل الفنون، فوجدوا بين أحضانها منفسحاً من القول ومتسعاً من الكلام. ووجدوا في مختلف مظاهرها صوراً تستحق التسجيل؛ فانتضوا أقلامهم، وجردوا ريشتهم، يجمعون الألوان من هناك وهناك. ويؤلفون بين الظلال، ويوانمون بين الأضواء، ويخرجون من ذلك لوحات شعرية تمتاز من لوحات المصريين.
ولاشك أن اللوحة التي يخرجها الشاعر الموهوب يكون فيها من صدق الأداء وبراعة الوصف وإظهار الدقائق والتفاصيل وحرارة الإحساس ما لا يكون في لوحة يخرجها رسام أو مصور
ولقد اولع الشعراء من قديم بالطبيعة؛ فأووا إليها وصوروها في شعرهم تارة باسمة، وأخرى عابسة ساخطة. ووصفوها على اختلاف الحالين كما فعل هوميروس في الإلياذة، فلم يجعلها ملحمة فقط للحروب والغارات؛ ولكنها كانت معرضاً لألوان شتى من الطبيعة.
ولم يغفل شعراء العرب في الجاهلية وصف الطبيعة؛ ولكن اللوحات التي خلفوها لنا ليست من التنوع والكثرة وخصب الألوان وغناها بحيث تستحق أن نطيل الوقوف عندها والتحدث عنها. ولكنها على كل حال لوحات صادقة التصوير لتلك البيئة.
ولو قد أطال الشاعر الجاهلي تأملاته إلى الطبيعة، وأمعن التفكير في ظواهرها، وعود نفسه السكون إليها والأنس بها والتحديق فيها لأخرج لنا صوراً رائعة من تلك الفيافي الممتدة، والرمال المتناثرة والصخور العارية، كما فعل الشاعر (توماس هاردي) في بعض قصصه وفي كثير من أشعاره. فقد صور منطقة (المور) في جنوبي إنجلترا تصويراً صادقاً؛ وهي إقليم مملوء بالصخور الموحشة، والأشواك الجافة، والوحشة الرهيبة. ولكن ريشة (هاردي) استطاعت أن تقلب وحشة هذا الإقليم أنساً، وأن تخرج من تلك الطبيع الجافة الخشنة ألواناً تعجب النفس. لهذا تهافت السياح والزوار على مشاهدة هذا الإقليم بعد ما قرءوا رواية هاردي التي عنوانها (عودة المواطن)
وقد ترتبط ذكريات خاصة ببعض الأمكنة أو ما دار فيها من حوادث، ويحن إلى الماضي الذي انطوى في غبار اليوم، كما فعل (امرؤ القيس) في يوم الغدير بدارة جلجل. فقد أشار إلى ذلك في بيت واحد من معلقته التي تبلغ الثمانين بيتاً. والبيت هو:
ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
وكان حق امرؤ القيس أن يقف طويلاً عند هذا الغدير، لا أن يمر عليه مروراً عابراً سريعاً؛ ولكن شاعراً فرنسياً كان له مثل هذا الموقف فصنع قصيدة عنوانها (البحيرة). والبحيرة هي بحيرة ليمان بسويسرا، والشاعر هو (لامارتين)
والبحيرات والغدر والبرك كانت وحياً وإلهاما للشعراء في كل أمة وجيل؛ فامرؤ القيس يشير إشارة سريعة إلى دارة جلجل وغديرها؛ والبحتري يصف بركة المتوكل على الله العباسي في قصيدة واحدة، ويطول فيها نفسه ويجود فيها وصفه،
فيقول:
تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها
فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ... وريّق الغيث أحيانا يباكيها
إذا المجوم تراءت في جوانبها ... ليلاً حسبت سماء ركبت فيها
والسرى الرفاء الموصلي الذي خرج من الموصل إلى حلب واتصل بسيف الدولة بن حمدان له شعر جميل في وصف الغدر والبرك والمياه. وقل أن تجد لشاعر عربي ما للسرى من الشعر في البحيرات كثرة إجادة.
ولعبد الله بن المعتز الشاعر الحسن التشبيه الكثير الوصف شعر في البحيرات، إلا أن الصنعة تغلب عليه وتعمل التشبيه يلوح فيه. ولو أنه أطلق الوصف على سجيته، وأرسله على فطرته لكان شعراً تصويرياً للطبيعة التي أولع ابن المعتز بتصوير كثير من مظاهرها. فإذا سمعته يقول:
غدير ترجرج أمواجه ... هبوب الرياح ومر الصَّبا
إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشنا مذهبا بدا لك أثر الصنعة. وأين هذا من قول البحتري في المعنى نفسه:
كأنما الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حُبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها
ولقد أوحت بحيرات سويسرا الجميلة إلى كثيرين من الشعراء أمثال (لامارتين الفرنسي) (واللورد بيرون)، (وشيلي) الإنجليزيين. واللورد بيرون له في رحلته الأولى إلى جنوبي أوربا أشعار طبعها ما بين سنتي 1812، 1818. وفيها إشارات جميلة إلى ذكرياته السعيدة على بحيرات سويسرة
وفي هذه المناسبة أستطيع أن أذكر اسم الكاتب الأمريكي (هنري دافيد ثورو) الذي نزح من المدينة الصاخبة سنة 1845 إلى غدير (والدن) وغابته الفيحاء؛ ووجد في زقزقة الطيور، وطنين الحشرات، وخرير المياه وحفيف الشجر أنساً لنفسه الظامئة إلى رحيق الطبيعة. وله في ذلك كتاب اسمه والدن) كتبه بالنثر إلا إنه يفيض بالشعور والأحاسيس والفناء الكلي في الطبيعة وتقديسها كما تقدس الآلهة
ولا تجد شاعراً - فيما نعرف من الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي - أعطى من نفسه وشعره للبحيرات والغدر ومساقط المياه ما أعطاه الشاعر الإنجليزي (وليام وردسورث) لمنطقة البحيرات الإنجليزية المعروفة باسم
كان (وردسورث) شاعر الطبيعة في أي مظهر من مظاهرها، وكان يعتقد أن الطبيعة تحمي الإنسان من الشرور، وتجعل الخير أليفاً عنده حبيباً لديه، كما أشار إلى ذلك في ديوانه المعروف (الفاتحة) قضى حياته جوالاً في منازه أوربا وإنجلترا. وعاش في قرية (جراسمير) بين البحيرات الإنجليزية التي ألهمته ديوانه المعروف باسم (شعر البحيرات) ودفن هناك في الأرض التي ألهمته، وأوحت إليه أسرار جمالها. وقد أتيح لي أن أزور قبره وقبر شقيقته في تلك البقعة الجميلة الهادئة من بقاع شمالي إنجلترا
ومنطقة البحيرات الإنجليزية مدينة في التعريف بجمالها للكاتب النقاد (جون رسكين) الذي أدرك (وردسورث) وعاش بعده زماناً؛ فقد أبان للإنجليز جمال هذه المنطقة مما جعل أغنياءهم يشدون إليها الرحال بدلاً من زيارة بحيرات سويسرة. ولهذا أقام له الإنجليز في تلك المنطقة تمثالاً اعترافاً بفضله ووفاء لحقه أما وصف السماء والنجوم والسحاب والمطر والرعد والبرق والليل، فقد ورد كثيراً في شعر العرب. وهو وصف مجرد لا تمسه عاطفة، ولا تدخله خوالج النفس ولا هزات الحس. ولكنه على كل حال تصوير صادق، كثير الإحاطة للتفاصيل. ومن فرسان هذا الميدان ابن خفاجة الأندلسي والسري الرفاء الموصلي وأبو تمام الذي أكثر من وصف الغيث والسحاب، وابن الرومي، وابن المعتز الذي يقول في وصف سحابة
وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادي فوق أعناق الرياح
كأن سماءها لما تجلت ... خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل نداه ... تفتح بينه نوْر الأقاحي
ولأبي تمام هذه الأبيات الرائعة في وصف الغيث:
لما بدت للأرض من قريب ... تشوقت لو بلها المسكوب
تشوق المريض للطبيب ... وطرب المحب للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب ... وخيمت صادقة الشؤبوب
فقام فيها الرعد كالخطيب ... وحنت الريح حنين النوب
والشمس ذات حاجب محجوب ... قد غربت من غير ما غروب
والأرض من ردائها القشيب ... في زاهر من نبتها رطيب
ومن شعراء الإنجليز في هذا الباب (شيلي) وله قصيدة عنوانها (إلى الليل)، وهي من النوع العاطفي؛ والشاعر (جراي) وله (أغنية الربيع)، والشاعر (كيتس) وله (أغنية الخريف)، والشاعر (كامبل) وله (أغنية الشتاء). وهو شعر يذكرنا بما قاله البحتري في وصف الليل والربيع. ويذكرنا كذلك بقصائد رائعة للسري الرفاء وأبي تمام والبحتري وابن الرومي في وصف الربيع والخريف والشتاء والسحاب، وهو شعر منثور في مواضع من دواوينهم ومن السهل الرجوع إليه.
أما البحر ذلك الخضم الواسع الذي يقصر الطرف عن إدراك مداه، وتعجز السنون عن سبر أغواره، فقد كان له من الشعر العربي نصيب، إلا أنه ضئيل، وقد أشار إليه امرؤ القيس إشارة عابرة في معلقته وهو يشبه الليل بموجه، كما وصفه ابن خفاجة الأندلسي بثلاثة أبيات. ووصفه الشاعر الأندلسي يحيى ابن الحكم البكري المشهور بالغزال في قصيدة طويلة قالها يصف رحلته إلى القسطنطينية موفداً من قبل الخليفة عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام سنة 225 هـ إلى قيصر إمبراطور الروم في مهمة سياسية، والقصيدة لطيفة البحر والتصوير، ومنها:
قال لي يحيى وصرنا ... بين موج كالجبال
وتولتنا رياح ... من دبور وشمال
شقت القلمين وانبت ... َّت عرى تلك الحبال
وتمطَّي ملك المو ... ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأي ال ... عين حالاً بعد حال
ولن يذكر نفح (الطيب) من القصيدة إلا أحد عشر بيتاً اخترنا منها هذه الخمسة. وهي في الجزء الأول ص 444
وللدكتور جورج صوايا من شعراء المهجر في أمريكا الجنوبية قصيدة في البحر المتوسط تجدها في الصفحة التاسعة وما بعدها من ديوانه (همس الشاعر) المطبوع في (بونس أيرس) ألا إنها ضعيفة الصياغة، على الرغم من حفولها ببعض المعاني التي توحيها وقفة أمام هذا البحر الذي شهد ازدهار حضارات ومصارع دولات
وأحجم شاعر أو - ناظم - عن ركوب البحر خشية أن يذوب فيه، لأنه من طين. . .! ولكن شوقي وحافظ ركبا البحر ووصفاه. ولحافظ رائيته التي مطلعها:
عاصف يرتمي وبحر يغير ... أنا بالله منهما مستجير
ألا إن ذلك قليل على الشعر العربي، وأين ذلك من قصيدة (وردسورث) التي عنوانها (على شاطئ البحر)؟
أما الرياض والأشجار والأزهار، فلم يترك شعراء العرب نوعاً مبها إلا وصفوه، فابن خفاجة له في شجر النارنج والأراك والريحان شعر كثير. والسري الرفاء له شعر كثير جداً في وصف الرياض والبساتين والنرجس وشجر الليمون وزهر السوسن والورد وشقائق النعمان والأترج والنخيل ورياض الموصل ومتنزهات الشام
وتلك ناحية في الشعر العربي تذكرنا بشعر (هربك) في النوار والبراعم، وبقصيدته الفاتنة في زهرة (الدافودلس) التي يفتتحها ويختتمها بهذين البيتين:
أيتها الزهرة الجميلة! نحن نبكي لأن نراك
تسرعين الخطوات إلى الذبول
مثل أمطار الصيف أو قطرات الندى
التي تمضي إلى غير رجوع
كما تذكرنا بقصيدة (مارفل) الإنجليزي التي عنوانها (أفكار في حديقة)
ولقد أخذ الشعور بوصف الطبيعة يزداد عند نفر من شعراء المشرق، وشاع عند شعراء المغرب؛ وظهرت الطبيعة مجلوة في شعر أمثال ابن خفاجة وابن حمديس وابن جهور وابن زيدون وابن عبدون وابن سهل. وهذا الأخير كان يمزج في شعره بين وصف الطبيعة ووصف العواطف وخلجات النفس كما يفعل الفرنسيون أمثال: هوجو، ولامارتين، والكونت دي ليل، وألفريد دي موسيه. ولكن الفرق بعيد. .
ولقد ظهر في مصر في أيامنا هذه (الشاعر الهمشري)، الذي عني بتصوير الطبيعة المصرية في مختلف صوره. تسمع وترى وتحس وتشم في شعره كل شيء في الطبيعة، حتى رائحة الكلأ. وكان يرجى له في هذا الباب مجال، وتناط به آمال لولا أن الموت عاجله وهو نضير الشباب
ولعل قراء العربية يجدون في (شاعر البراري) مثالاً لشاعر الطبيعة المصرية البحت الذي يغنى على قيثارتها في كل مكان.
محمد عبد الغني حسن
مجلة الرسالة - العدد 549
بتاريخ: 10 - 01 - 1944
ولاشك أن اللوحة التي يخرجها الشاعر الموهوب يكون فيها من صدق الأداء وبراعة الوصف وإظهار الدقائق والتفاصيل وحرارة الإحساس ما لا يكون في لوحة يخرجها رسام أو مصور
ولقد اولع الشعراء من قديم بالطبيعة؛ فأووا إليها وصوروها في شعرهم تارة باسمة، وأخرى عابسة ساخطة. ووصفوها على اختلاف الحالين كما فعل هوميروس في الإلياذة، فلم يجعلها ملحمة فقط للحروب والغارات؛ ولكنها كانت معرضاً لألوان شتى من الطبيعة.
ولم يغفل شعراء العرب في الجاهلية وصف الطبيعة؛ ولكن اللوحات التي خلفوها لنا ليست من التنوع والكثرة وخصب الألوان وغناها بحيث تستحق أن نطيل الوقوف عندها والتحدث عنها. ولكنها على كل حال لوحات صادقة التصوير لتلك البيئة.
ولو قد أطال الشاعر الجاهلي تأملاته إلى الطبيعة، وأمعن التفكير في ظواهرها، وعود نفسه السكون إليها والأنس بها والتحديق فيها لأخرج لنا صوراً رائعة من تلك الفيافي الممتدة، والرمال المتناثرة والصخور العارية، كما فعل الشاعر (توماس هاردي) في بعض قصصه وفي كثير من أشعاره. فقد صور منطقة (المور) في جنوبي إنجلترا تصويراً صادقاً؛ وهي إقليم مملوء بالصخور الموحشة، والأشواك الجافة، والوحشة الرهيبة. ولكن ريشة (هاردي) استطاعت أن تقلب وحشة هذا الإقليم أنساً، وأن تخرج من تلك الطبيع الجافة الخشنة ألواناً تعجب النفس. لهذا تهافت السياح والزوار على مشاهدة هذا الإقليم بعد ما قرءوا رواية هاردي التي عنوانها (عودة المواطن)
وقد ترتبط ذكريات خاصة ببعض الأمكنة أو ما دار فيها من حوادث، ويحن إلى الماضي الذي انطوى في غبار اليوم، كما فعل (امرؤ القيس) في يوم الغدير بدارة جلجل. فقد أشار إلى ذلك في بيت واحد من معلقته التي تبلغ الثمانين بيتاً. والبيت هو:
ألا رُبَّ يوم لك منهن صالح ... ولا سيما يوم بدارة جلجل
وكان حق امرؤ القيس أن يقف طويلاً عند هذا الغدير، لا أن يمر عليه مروراً عابراً سريعاً؛ ولكن شاعراً فرنسياً كان له مثل هذا الموقف فصنع قصيدة عنوانها (البحيرة). والبحيرة هي بحيرة ليمان بسويسرا، والشاعر هو (لامارتين)
والبحيرات والغدر والبرك كانت وحياً وإلهاما للشعراء في كل أمة وجيل؛ فامرؤ القيس يشير إشارة سريعة إلى دارة جلجل وغديرها؛ والبحتري يصف بركة المتوكل على الله العباسي في قصيدة واحدة، ويطول فيها نفسه ويجود فيها وصفه،
فيقول:
تنصبُّ فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها
فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها ... وريّق الغيث أحيانا يباكيها
إذا المجوم تراءت في جوانبها ... ليلاً حسبت سماء ركبت فيها
والسرى الرفاء الموصلي الذي خرج من الموصل إلى حلب واتصل بسيف الدولة بن حمدان له شعر جميل في وصف الغدر والبرك والمياه. وقل أن تجد لشاعر عربي ما للسرى من الشعر في البحيرات كثرة إجادة.
ولعبد الله بن المعتز الشاعر الحسن التشبيه الكثير الوصف شعر في البحيرات، إلا أن الصنعة تغلب عليه وتعمل التشبيه يلوح فيه. ولو أنه أطلق الوصف على سجيته، وأرسله على فطرته لكان شعراً تصويرياً للطبيعة التي أولع ابن المعتز بتصوير كثير من مظاهرها. فإذا سمعته يقول:
غدير ترجرج أمواجه ... هبوب الرياح ومر الصَّبا
إذا الشمس من فوقه أشرقت ... توهمته جوشنا مذهبا بدا لك أثر الصنعة. وأين هذا من قول البحتري في المعنى نفسه:
كأنما الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصبا أبدت لها حُبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها
ولقد أوحت بحيرات سويسرا الجميلة إلى كثيرين من الشعراء أمثال (لامارتين الفرنسي) (واللورد بيرون)، (وشيلي) الإنجليزيين. واللورد بيرون له في رحلته الأولى إلى جنوبي أوربا أشعار طبعها ما بين سنتي 1812، 1818. وفيها إشارات جميلة إلى ذكرياته السعيدة على بحيرات سويسرة
وفي هذه المناسبة أستطيع أن أذكر اسم الكاتب الأمريكي (هنري دافيد ثورو) الذي نزح من المدينة الصاخبة سنة 1845 إلى غدير (والدن) وغابته الفيحاء؛ ووجد في زقزقة الطيور، وطنين الحشرات، وخرير المياه وحفيف الشجر أنساً لنفسه الظامئة إلى رحيق الطبيعة. وله في ذلك كتاب اسمه والدن) كتبه بالنثر إلا إنه يفيض بالشعور والأحاسيس والفناء الكلي في الطبيعة وتقديسها كما تقدس الآلهة
ولا تجد شاعراً - فيما نعرف من الأدب العربي والإنجليزي والفرنسي - أعطى من نفسه وشعره للبحيرات والغدر ومساقط المياه ما أعطاه الشاعر الإنجليزي (وليام وردسورث) لمنطقة البحيرات الإنجليزية المعروفة باسم
كان (وردسورث) شاعر الطبيعة في أي مظهر من مظاهرها، وكان يعتقد أن الطبيعة تحمي الإنسان من الشرور، وتجعل الخير أليفاً عنده حبيباً لديه، كما أشار إلى ذلك في ديوانه المعروف (الفاتحة) قضى حياته جوالاً في منازه أوربا وإنجلترا. وعاش في قرية (جراسمير) بين البحيرات الإنجليزية التي ألهمته ديوانه المعروف باسم (شعر البحيرات) ودفن هناك في الأرض التي ألهمته، وأوحت إليه أسرار جمالها. وقد أتيح لي أن أزور قبره وقبر شقيقته في تلك البقعة الجميلة الهادئة من بقاع شمالي إنجلترا
ومنطقة البحيرات الإنجليزية مدينة في التعريف بجمالها للكاتب النقاد (جون رسكين) الذي أدرك (وردسورث) وعاش بعده زماناً؛ فقد أبان للإنجليز جمال هذه المنطقة مما جعل أغنياءهم يشدون إليها الرحال بدلاً من زيارة بحيرات سويسرة. ولهذا أقام له الإنجليز في تلك المنطقة تمثالاً اعترافاً بفضله ووفاء لحقه أما وصف السماء والنجوم والسحاب والمطر والرعد والبرق والليل، فقد ورد كثيراً في شعر العرب. وهو وصف مجرد لا تمسه عاطفة، ولا تدخله خوالج النفس ولا هزات الحس. ولكنه على كل حال تصوير صادق، كثير الإحاطة للتفاصيل. ومن فرسان هذا الميدان ابن خفاجة الأندلسي والسري الرفاء الموصلي وأبو تمام الذي أكثر من وصف الغيث والسحاب، وابن الرومي، وابن المعتز الذي يقول في وصف سحابة
وموقرة بثقل الماء جاءت ... تهادي فوق أعناق الرياح
كأن سماءها لما تجلت ... خلال نجومها عند الصباح
رياض بنفسج خضل نداه ... تفتح بينه نوْر الأقاحي
ولأبي تمام هذه الأبيات الرائعة في وصف الغيث:
لما بدت للأرض من قريب ... تشوقت لو بلها المسكوب
تشوق المريض للطبيب ... وطرب المحب للحبيب
وفرحة الأديب بالأديب ... وخيمت صادقة الشؤبوب
فقام فيها الرعد كالخطيب ... وحنت الريح حنين النوب
والشمس ذات حاجب محجوب ... قد غربت من غير ما غروب
والأرض من ردائها القشيب ... في زاهر من نبتها رطيب
ومن شعراء الإنجليز في هذا الباب (شيلي) وله قصيدة عنوانها (إلى الليل)، وهي من النوع العاطفي؛ والشاعر (جراي) وله (أغنية الربيع)، والشاعر (كيتس) وله (أغنية الخريف)، والشاعر (كامبل) وله (أغنية الشتاء). وهو شعر يذكرنا بما قاله البحتري في وصف الليل والربيع. ويذكرنا كذلك بقصائد رائعة للسري الرفاء وأبي تمام والبحتري وابن الرومي في وصف الربيع والخريف والشتاء والسحاب، وهو شعر منثور في مواضع من دواوينهم ومن السهل الرجوع إليه.
أما البحر ذلك الخضم الواسع الذي يقصر الطرف عن إدراك مداه، وتعجز السنون عن سبر أغواره، فقد كان له من الشعر العربي نصيب، إلا أنه ضئيل، وقد أشار إليه امرؤ القيس إشارة عابرة في معلقته وهو يشبه الليل بموجه، كما وصفه ابن خفاجة الأندلسي بثلاثة أبيات. ووصفه الشاعر الأندلسي يحيى ابن الحكم البكري المشهور بالغزال في قصيدة طويلة قالها يصف رحلته إلى القسطنطينية موفداً من قبل الخليفة عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام سنة 225 هـ إلى قيصر إمبراطور الروم في مهمة سياسية، والقصيدة لطيفة البحر والتصوير، ومنها:
قال لي يحيى وصرنا ... بين موج كالجبال
وتولتنا رياح ... من دبور وشمال
شقت القلمين وانبت ... َّت عرى تلك الحبال
وتمطَّي ملك المو ... ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأي ال ... عين حالاً بعد حال
ولن يذكر نفح (الطيب) من القصيدة إلا أحد عشر بيتاً اخترنا منها هذه الخمسة. وهي في الجزء الأول ص 444
وللدكتور جورج صوايا من شعراء المهجر في أمريكا الجنوبية قصيدة في البحر المتوسط تجدها في الصفحة التاسعة وما بعدها من ديوانه (همس الشاعر) المطبوع في (بونس أيرس) ألا إنها ضعيفة الصياغة، على الرغم من حفولها ببعض المعاني التي توحيها وقفة أمام هذا البحر الذي شهد ازدهار حضارات ومصارع دولات
وأحجم شاعر أو - ناظم - عن ركوب البحر خشية أن يذوب فيه، لأنه من طين. . .! ولكن شوقي وحافظ ركبا البحر ووصفاه. ولحافظ رائيته التي مطلعها:
عاصف يرتمي وبحر يغير ... أنا بالله منهما مستجير
ألا إن ذلك قليل على الشعر العربي، وأين ذلك من قصيدة (وردسورث) التي عنوانها (على شاطئ البحر)؟
أما الرياض والأشجار والأزهار، فلم يترك شعراء العرب نوعاً مبها إلا وصفوه، فابن خفاجة له في شجر النارنج والأراك والريحان شعر كثير. والسري الرفاء له شعر كثير جداً في وصف الرياض والبساتين والنرجس وشجر الليمون وزهر السوسن والورد وشقائق النعمان والأترج والنخيل ورياض الموصل ومتنزهات الشام
وتلك ناحية في الشعر العربي تذكرنا بشعر (هربك) في النوار والبراعم، وبقصيدته الفاتنة في زهرة (الدافودلس) التي يفتتحها ويختتمها بهذين البيتين:
أيتها الزهرة الجميلة! نحن نبكي لأن نراك
تسرعين الخطوات إلى الذبول
مثل أمطار الصيف أو قطرات الندى
التي تمضي إلى غير رجوع
كما تذكرنا بقصيدة (مارفل) الإنجليزي التي عنوانها (أفكار في حديقة)
ولقد أخذ الشعور بوصف الطبيعة يزداد عند نفر من شعراء المشرق، وشاع عند شعراء المغرب؛ وظهرت الطبيعة مجلوة في شعر أمثال ابن خفاجة وابن حمديس وابن جهور وابن زيدون وابن عبدون وابن سهل. وهذا الأخير كان يمزج في شعره بين وصف الطبيعة ووصف العواطف وخلجات النفس كما يفعل الفرنسيون أمثال: هوجو، ولامارتين، والكونت دي ليل، وألفريد دي موسيه. ولكن الفرق بعيد. .
ولقد ظهر في مصر في أيامنا هذه (الشاعر الهمشري)، الذي عني بتصوير الطبيعة المصرية في مختلف صوره. تسمع وترى وتحس وتشم في شعره كل شيء في الطبيعة، حتى رائحة الكلأ. وكان يرجى له في هذا الباب مجال، وتناط به آمال لولا أن الموت عاجله وهو نضير الشباب
ولعل قراء العربية يجدون في (شاعر البراري) مثالاً لشاعر الطبيعة المصرية البحت الذي يغنى على قيثارتها في كل مكان.
محمد عبد الغني حسن
مجلة الرسالة - العدد 549
بتاريخ: 10 - 01 - 1944