إذا كانت الجاهلية - في جميع الشعوب- تقوم حياتها على مقومات الصراع الفردي والجماعي، وإذا كان الشاعر لسان حال جماعته، ومرءاة ينعكس عليها ما يصطخب في تلك الجماعة، وصدى يردد ما يتجاوب فيها من أصوات، فلا محالة أن يعتمد شعره- في ذلك- على المثل العليا التي تطمح إليها أبصار جماعته، وتعدها مظهرا من مظاهر سؤددها وعظمتها....
ومن المعلوم أن هذه المثل الجاهلية تعد في قائمتها الأولى الشجاعة في الحروب، والغلبة على الخصوم، بشتى ألوان القهر وأعنف وسائل الاستظهار. لهذا نجد الشعراء في هذا المضمار يشيدون بمواقف أبطالهم، وبمواقفهم- هم- أن كانوا من ذوي السيف والسنان، بل أنهم يشيدون- أو بعضهم- بمواقفهم هذه حتى ولو لم يكونوا من هؤلاء، كما نجد ذلك مسجلا لهم في كتب الآداب، مثل كتاب " الكامل" الذي سجل فيه المبرد أكاذيبهم، في الباب الذي عنونه بأكاذيب العرب.....
هذا النابغة- مثلا- يمدح عمر بن الحارث، فيصف شجاعته و شجاعة قومه بأوصاف بالغة في الفتك بالأعداء، يعرفها الناس منهم كما تعرفها الطيور الكواسر التي تحلق عصائبها فوق رؤوسهم عند الغزو.
وهذا عمرو بن كلثوم يفخر بنفسه وبقومه، فيصف شدتهم في الحروب التي تطحن رحاهم فيها الناس، فتكون " ثفالها شرقي نجد، ولهوتها قضاعة أجمعينا"... وهذا وذاك من مئات الشعراء الذين تطفح دواوين الحماسة بأشعارهم في هذا الباب....
نعم، هذه قضية لا يحتاج فيها إلى تعليل ولا ضرب للأمثلة، مادام الشاعر أبن بيئته، والمصور لما يتراءى فيها من شخوص، والمعبر عما يفكر فيها من رؤوس... وعلى هذا فموقف شعراء الجاهلية من السلم، موقف لاشك أنه مخالف تمام المخافة، ومناهض لمن يقول به إن كان ثمة من يقول بهذه الفكرة... إلا أن هناك شاعرا أجمع - فيما نعلم- مؤرخو الأدب على أن له موقفا يناقض موقف باقي الشعراء إزاء الحروب.
هذا الشاعر- كما يقولون- هو زهير بن أبي سلمى، فهم يعدونه شاعر السلام، الداعي إلى " نزع السلاح"إن عبرنا عنه بلغة اليوم.
ولكني أخالف هذه الجماعة، فيما أجمعت عليه، فالحقيقة أن موقف الشاعر لا يختلف عن مواقف زملائه في هذه القضية، فنحن إذا ما أردنا أن نقارن بينه، وهو شاعر السلام، وبين عنترة، وهو شاعر الحروب، فإننا نقول:لا ننتظر أن نجد لهذين الشاعرين رأيا في الحرب ولا في السلم من حيث الفكرة المجردة، كما للمفكرين والكتاب من النوعين... وإنما نحاول أن نبحث عن موقفهما في هذه الحرب التي تكتوي بها قبيلة الشاعر نفسه، أو يشارك في هذه الحرب الخصوصية، كما نبحث عن موقفهما من مسألة السلام إن كان لهما موقف فيها....
ففي معلقة زهير- التي نوه بها القوم- نلاحظ أنه يكره الحرب فيها، ولكنها الحرب التي شبت بين قومه عبس وذبيان، وكرهه هذا يتجلى فيما يأتي:
أولا، مدحه الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، حيث أوقفا رحى الحرب بين هاتين القبيلتين، واحتملا في سبيل هذا الصلح، الديات، ثم وصفه إياهما بأنهما قد أصبحا على خير موطن، فهما بعيدان عن عقوق الأقارب وإثم قطع الرحم:
يمينـا لنعم السيـدان وجدتـما = على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بـعدمـا = تفانوا ودقوا بينهم عطر منشـم
وقد قلتما أن ندرك السلم واسـعا = بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن = بعيدين فيها من عقوق ومـأثم
ثانيا، سعيه الحثيث في أخذ العهود والمواثيق، من ذبيان وحلفائها، بأن لا يعودوا لمثل هذه الحرب وإراقة الدماء، وأن لا يكتمون الله ما في نفوسهم من الغدر، والحنث بهذه الإيمان المغلظة، ثم تحذيره إياهم بأن الله يعلم ما تكن الصدور، وأنه سوف يحاسب على ذلك يوم الحساب، أو يجعل العقوبة عليه في هذه الدار:
ألا أبلغا لأحلاف عني رسالة = وذبيان هل اقسمتموا كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم = ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر = ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
ثالثا، وصفه لهذه الحرب بالأوصاف المنفرة المتعددة وما تأتي به من الويلات والثبور:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم = وماهو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة = وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها = وتلقح كشافها ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشام كلهم = كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها = قرى بالعراق من قفيز ودرهم
رابعا، تصوير حال هؤلاء المقاتلين، وقد كانوا يعيشون في دعة وهناء، ثم دفعوا إلى الحرب فخاضوا غمارها بهذين البيتين:
رعوا ظمأهم حتى إذا تم أوردوا = غمارا تفري بالسلاح وبالدم
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا = إلى كلا مستوبل متوخم
ومن هذه القصيدة، نستنتج أن زهيرا لم يكره الحرب مطلقا، وإنما كره الحرب التي شبت بين قومه، لأن فيها فناء لعشيرته، ولأن فيها قطع الأرحام بينهم، ولأنها تنشيء جيلا يرث هذه الأحقاد، وهذه الضغائن، أما الحرب التي يفرضها واجب البقاء والنعرة العربية فلا يكرهها، بل يوجبها، كما نجد ذلك في القصيدة نفسها:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه = يهدم ومن لايظلم الناس يظلم
وفيها يمدح هذا الحي بقوله:
لحي حلال يعصم الناس أمرهم = إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
كرام فلا ذو الضغن يدرك تبله = ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم
كما يمدح فيها حصينا، بأنه أخذ ثار أخيه، واستعد لملاقاة عدوه:
لعمري لنعم الحي جر عليهم = بما لا يؤاتيهم حصين بن ضمضم
وكان طوي كشحا على مستكنة = فلا هو أبداها ولم يتقدم
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي = عدوي بألف من ورائي ملجم
فشد فلم يفرغ بيوتا كثيرة = لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
لدى أسد شاكي السلاح مقذف = له لبد اظفاره لم تقلم
جرىء متى يظلم يعاقب بظلمه = سريعا والا يبد بالظلم يظلم
فزهير – إذن- في قصيدته لم يختلف عنه رجلا عربيا جاهليا، يحارب لكرامته بكل عنف، ويأخذ بثأره، بل ويحب العدوان على غير قبيلته، فيظلم من لا يظلمه، ويأبى كل الإباء أن يدرك من قبيلته تبله، فمبدأ " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" مستحكم فيه تماما. وكل ما في الأمر أنه يكره الحرب التي تدور رحاها بين قومه، لما في ذلك من الأضرار التي عددها في قصيدته.أما أنه يكره الحرب كما يكرهها من يكرهها عن عقيدة وفكرة إنسانية، لأنها الحرب التي تفني الإنسان وتسبب له الأضرار الجسيمة، فلا تبدو هذه الفكرة في شعره بالمرة، لأن طبيعة الرجل الجاهلي لا تسمح له بذلك...
وإذ قد عرفنا موقف زهير من الحرب، فإننا لا نجد فرقا كبيرا بينه وبين عنترة الذي اشتهر بمواقفه العنيفة فيها، وإن كان ثمة فرقا فإنما هو ظاهري فقط يقول عنترة:
أثني على بما علمت فإنني = سمح مخالفتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل = مر مذاقه كطعم العلقم
إذن فعنترة- من هذين البيتين- لا يبدو محبا للحرب لأنها حرب وكفى، وإنما هو- كزهير- يغضب لشرفه فيدافع عنه، وكذلك يخشى أن يموت ( ولم تكن للحرب دائرة على ابني ضمضم) لأنهما شتما عرضه. فحبه لهذه الحرب إنما هو حب لشرفه وتقديس لكرامته:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن = للحرب دائرة على إبني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما = والناذرين إذا لم ألقهما دمي
وشيء واحد يختلف فيه الشاعران، هو أن زهيرا يصف الحرب بأوصاف التنفير- هذه الحرب التي نالت قومه- أما عنترة فيصفها بأوصاف يتلذذ بها ويفتخر بشناعتها:
وحليل غانية تركت مجدلا = تمكو فريصته كشدق الأعلم
سبقت يداي له بعاجل طعنة = ورشاش نافذة كلون العندم
هلا سألت الخيل يا إبنة مالك = إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
إذ لا أزال على رحالة سابح = نهد تعاوره الكماة مكلم
طورا يجرد للطعان وتارة = يأوي إلى حصدي القسي عرمرم
يخبرك من شهد الوقيعة إنني = أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولكن الحرب التي ينفر منها زهير غير الحرب التي يتفنن في وصفها عنترة ويتلذذ بشناعتها، وللكلام مواضع....: زهير ينفر من هاته الحرب ( الداخلية) وعنترة يفخر بهذه الحرب التي نال بها حريته - كما يقول الرواة- والتي لم تكن حربا داخلية وإنما كانت حربا (خارجية) مع عبس وبعض الأعراب من غير عبس... فإذا قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وابرأ سقمها = قيل الفوارس ويك عنترة أقدم
والخيل تقتحم الغبار عوابسا = من بين شيظمة وآخر شيظم
فلا نقول، إن عنترة بذلك محب للحرب، ها وللقتال وإنما نقول أنه يشفى نفسه ويبرىء سقمها من هذه الأحقاد وهاته الحزازات التي ألمت بقلبه، ونالته من هذا الذي ظلمه أو مس عرضه. يدل على ذلك قوله الذي سبق في البيتين:
أثني على بما علمت إلخ............
وقوله:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن إلخ...
وعلينا أن نظر إلى هذا الاحتراس ( ولم أشتمهما) فما غاظه منهما إلا أنه لا يشتمهما وهما يشتمانه....
والنتيجة من هذا كله أن موقف الشاعرين من الحرب والسلام غير مختلف تمام الاختلاف، أو اختلافا جوهريا، وإنما هو مختلف شكليا، وظاهريا، فزهير هذا الذي كره تلك الحرب، هو نفسه الذي يمدح قومه بقوله:
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم = طوال الرماح لا ضعاف ولانكل
بخيل عليها جنة عبقرية = جديرون يوما إن ينالوا فيستعلوا
عليها أسود ضاريات لبوسهم = سوابغ بيض لا تخرقها النبل
إذا لقحت حرب عوان مضرة = ضروس تهر الناس أنيبها عصل
قضاعية أو أختها مضرية = يحرق في حافاتها الحطب الجزل
تجدهم على ما خيلتم إزاءها = وأن أفسد المال الجماعة والأزل إلخ
فهذه الأبيات وهي لزهير لا تختلف كثيرا عن هذه الأبيات وهي لعنترة:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى = إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الحرب التي لاتشتكي = غمراتها الأبطال غير تغمغم
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم = عنها ولكني تضايق مقدمي
لما رأيت القوم أقبل جمعهم = يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها = أشطان بئر في لبان الأدهم
فهذه وإن اختلفت عن الأولى فذلك لاختلاف المقامين، فلو اتحدا لكان الشاعران معا متحدين في اللهجة والتصوير، ومهما يكن فلا يمكن أن نتصور الشاعر الجاهلي " زهيرا" داعيا إلى السلام وعاملا على أغماد السيوف وتكسير النصال وهو أبن الجاهلية والحامي لذمارها والمعلن عن آرائها....
* دعوة الحق ع/8
ومن المعلوم أن هذه المثل الجاهلية تعد في قائمتها الأولى الشجاعة في الحروب، والغلبة على الخصوم، بشتى ألوان القهر وأعنف وسائل الاستظهار. لهذا نجد الشعراء في هذا المضمار يشيدون بمواقف أبطالهم، وبمواقفهم- هم- أن كانوا من ذوي السيف والسنان، بل أنهم يشيدون- أو بعضهم- بمواقفهم هذه حتى ولو لم يكونوا من هؤلاء، كما نجد ذلك مسجلا لهم في كتب الآداب، مثل كتاب " الكامل" الذي سجل فيه المبرد أكاذيبهم، في الباب الذي عنونه بأكاذيب العرب.....
هذا النابغة- مثلا- يمدح عمر بن الحارث، فيصف شجاعته و شجاعة قومه بأوصاف بالغة في الفتك بالأعداء، يعرفها الناس منهم كما تعرفها الطيور الكواسر التي تحلق عصائبها فوق رؤوسهم عند الغزو.
وهذا عمرو بن كلثوم يفخر بنفسه وبقومه، فيصف شدتهم في الحروب التي تطحن رحاهم فيها الناس، فتكون " ثفالها شرقي نجد، ولهوتها قضاعة أجمعينا"... وهذا وذاك من مئات الشعراء الذين تطفح دواوين الحماسة بأشعارهم في هذا الباب....
نعم، هذه قضية لا يحتاج فيها إلى تعليل ولا ضرب للأمثلة، مادام الشاعر أبن بيئته، والمصور لما يتراءى فيها من شخوص، والمعبر عما يفكر فيها من رؤوس... وعلى هذا فموقف شعراء الجاهلية من السلم، موقف لاشك أنه مخالف تمام المخافة، ومناهض لمن يقول به إن كان ثمة من يقول بهذه الفكرة... إلا أن هناك شاعرا أجمع - فيما نعلم- مؤرخو الأدب على أن له موقفا يناقض موقف باقي الشعراء إزاء الحروب.
هذا الشاعر- كما يقولون- هو زهير بن أبي سلمى، فهم يعدونه شاعر السلام، الداعي إلى " نزع السلاح"إن عبرنا عنه بلغة اليوم.
ولكني أخالف هذه الجماعة، فيما أجمعت عليه، فالحقيقة أن موقف الشاعر لا يختلف عن مواقف زملائه في هذه القضية، فنحن إذا ما أردنا أن نقارن بينه، وهو شاعر السلام، وبين عنترة، وهو شاعر الحروب، فإننا نقول:لا ننتظر أن نجد لهذين الشاعرين رأيا في الحرب ولا في السلم من حيث الفكرة المجردة، كما للمفكرين والكتاب من النوعين... وإنما نحاول أن نبحث عن موقفهما في هذه الحرب التي تكتوي بها قبيلة الشاعر نفسه، أو يشارك في هذه الحرب الخصوصية، كما نبحث عن موقفهما من مسألة السلام إن كان لهما موقف فيها....
ففي معلقة زهير- التي نوه بها القوم- نلاحظ أنه يكره الحرب فيها، ولكنها الحرب التي شبت بين قومه عبس وذبيان، وكرهه هذا يتجلى فيما يأتي:
أولا، مدحه الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، حيث أوقفا رحى الحرب بين هاتين القبيلتين، واحتملا في سبيل هذا الصلح، الديات، ثم وصفه إياهما بأنهما قد أصبحا على خير موطن، فهما بعيدان عن عقوق الأقارب وإثم قطع الرحم:
يمينـا لنعم السيـدان وجدتـما = على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بـعدمـا = تفانوا ودقوا بينهم عطر منشـم
وقد قلتما أن ندرك السلم واسـعا = بمال ومعروف من القول نسلم
فأصبحتما منها على خير موطن = بعيدين فيها من عقوق ومـأثم
ثانيا، سعيه الحثيث في أخذ العهود والمواثيق، من ذبيان وحلفائها، بأن لا يعودوا لمثل هذه الحرب وإراقة الدماء، وأن لا يكتمون الله ما في نفوسهم من الغدر، والحنث بهذه الإيمان المغلظة، ثم تحذيره إياهم بأن الله يعلم ما تكن الصدور، وأنه سوف يحاسب على ذلك يوم الحساب، أو يجعل العقوبة عليه في هذه الدار:
ألا أبلغا لأحلاف عني رسالة = وذبيان هل اقسمتموا كل مقسم
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم = ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر = ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
ثالثا، وصفه لهذه الحرب بالأوصاف المنفرة المتعددة وما تأتي به من الويلات والثبور:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم = وماهو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة = وتضر إذا ضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها = وتلقح كشافها ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشام كلهم = كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها = قرى بالعراق من قفيز ودرهم
رابعا، تصوير حال هؤلاء المقاتلين، وقد كانوا يعيشون في دعة وهناء، ثم دفعوا إلى الحرب فخاضوا غمارها بهذين البيتين:
رعوا ظمأهم حتى إذا تم أوردوا = غمارا تفري بالسلاح وبالدم
فقضوا منايا بينهم ثم أصدروا = إلى كلا مستوبل متوخم
ومن هذه القصيدة، نستنتج أن زهيرا لم يكره الحرب مطلقا، وإنما كره الحرب التي شبت بين قومه، لأن فيها فناء لعشيرته، ولأن فيها قطع الأرحام بينهم، ولأنها تنشيء جيلا يرث هذه الأحقاد، وهذه الضغائن، أما الحرب التي يفرضها واجب البقاء والنعرة العربية فلا يكرهها، بل يوجبها، كما نجد ذلك في القصيدة نفسها:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه = يهدم ومن لايظلم الناس يظلم
وفيها يمدح هذا الحي بقوله:
لحي حلال يعصم الناس أمرهم = إذا طرقت إحدى الليالي بمعظم
كرام فلا ذو الضغن يدرك تبله = ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم
كما يمدح فيها حصينا، بأنه أخذ ثار أخيه، واستعد لملاقاة عدوه:
لعمري لنعم الحي جر عليهم = بما لا يؤاتيهم حصين بن ضمضم
وكان طوي كشحا على مستكنة = فلا هو أبداها ولم يتقدم
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي = عدوي بألف من ورائي ملجم
فشد فلم يفرغ بيوتا كثيرة = لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم
لدى أسد شاكي السلاح مقذف = له لبد اظفاره لم تقلم
جرىء متى يظلم يعاقب بظلمه = سريعا والا يبد بالظلم يظلم
فزهير – إذن- في قصيدته لم يختلف عنه رجلا عربيا جاهليا، يحارب لكرامته بكل عنف، ويأخذ بثأره، بل ويحب العدوان على غير قبيلته، فيظلم من لا يظلمه، ويأبى كل الإباء أن يدرك من قبيلته تبله، فمبدأ " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" مستحكم فيه تماما. وكل ما في الأمر أنه يكره الحرب التي تدور رحاها بين قومه، لما في ذلك من الأضرار التي عددها في قصيدته.أما أنه يكره الحرب كما يكرهها من يكرهها عن عقيدة وفكرة إنسانية، لأنها الحرب التي تفني الإنسان وتسبب له الأضرار الجسيمة، فلا تبدو هذه الفكرة في شعره بالمرة، لأن طبيعة الرجل الجاهلي لا تسمح له بذلك...
وإذ قد عرفنا موقف زهير من الحرب، فإننا لا نجد فرقا كبيرا بينه وبين عنترة الذي اشتهر بمواقفه العنيفة فيها، وإن كان ثمة فرقا فإنما هو ظاهري فقط يقول عنترة:
أثني على بما علمت فإنني = سمح مخالفتي إذا لم أظلم
فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل = مر مذاقه كطعم العلقم
إذن فعنترة- من هذين البيتين- لا يبدو محبا للحرب لأنها حرب وكفى، وإنما هو- كزهير- يغضب لشرفه فيدافع عنه، وكذلك يخشى أن يموت ( ولم تكن للحرب دائرة على ابني ضمضم) لأنهما شتما عرضه. فحبه لهذه الحرب إنما هو حب لشرفه وتقديس لكرامته:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن = للحرب دائرة على إبني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما = والناذرين إذا لم ألقهما دمي
وشيء واحد يختلف فيه الشاعران، هو أن زهيرا يصف الحرب بأوصاف التنفير- هذه الحرب التي نالت قومه- أما عنترة فيصفها بأوصاف يتلذذ بها ويفتخر بشناعتها:
وحليل غانية تركت مجدلا = تمكو فريصته كشدق الأعلم
سبقت يداي له بعاجل طعنة = ورشاش نافذة كلون العندم
هلا سألت الخيل يا إبنة مالك = إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
إذ لا أزال على رحالة سابح = نهد تعاوره الكماة مكلم
طورا يجرد للطعان وتارة = يأوي إلى حصدي القسي عرمرم
يخبرك من شهد الوقيعة إنني = أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولكن الحرب التي ينفر منها زهير غير الحرب التي يتفنن في وصفها عنترة ويتلذذ بشناعتها، وللكلام مواضع....: زهير ينفر من هاته الحرب ( الداخلية) وعنترة يفخر بهذه الحرب التي نال بها حريته - كما يقول الرواة- والتي لم تكن حربا داخلية وإنما كانت حربا (خارجية) مع عبس وبعض الأعراب من غير عبس... فإذا قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وابرأ سقمها = قيل الفوارس ويك عنترة أقدم
والخيل تقتحم الغبار عوابسا = من بين شيظمة وآخر شيظم
فلا نقول، إن عنترة بذلك محب للحرب، ها وللقتال وإنما نقول أنه يشفى نفسه ويبرىء سقمها من هذه الأحقاد وهاته الحزازات التي ألمت بقلبه، ونالته من هذا الذي ظلمه أو مس عرضه. يدل على ذلك قوله الذي سبق في البيتين:
أثني على بما علمت إلخ............
وقوله:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تكن إلخ...
وعلينا أن نظر إلى هذا الاحتراس ( ولم أشتمهما) فما غاظه منهما إلا أنه لا يشتمهما وهما يشتمانه....
والنتيجة من هذا كله أن موقف الشاعرين من الحرب والسلام غير مختلف تمام الاختلاف، أو اختلافا جوهريا، وإنما هو مختلف شكليا، وظاهريا، فزهير هذا الذي كره تلك الحرب، هو نفسه الذي يمدح قومه بقوله:
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم = طوال الرماح لا ضعاف ولانكل
بخيل عليها جنة عبقرية = جديرون يوما إن ينالوا فيستعلوا
عليها أسود ضاريات لبوسهم = سوابغ بيض لا تخرقها النبل
إذا لقحت حرب عوان مضرة = ضروس تهر الناس أنيبها عصل
قضاعية أو أختها مضرية = يحرق في حافاتها الحطب الجزل
تجدهم على ما خيلتم إزاءها = وأن أفسد المال الجماعة والأزل إلخ
فهذه الأبيات وهي لزهير لا تختلف كثيرا عن هذه الأبيات وهي لعنترة:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى = إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الحرب التي لاتشتكي = غمراتها الأبطال غير تغمغم
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم = عنها ولكني تضايق مقدمي
لما رأيت القوم أقبل جمعهم = يتذامرون كررت غير مذمم
يدعون عنتر والرماح كأنها = أشطان بئر في لبان الأدهم
فهذه وإن اختلفت عن الأولى فذلك لاختلاف المقامين، فلو اتحدا لكان الشاعران معا متحدين في اللهجة والتصوير، ومهما يكن فلا يمكن أن نتصور الشاعر الجاهلي " زهيرا" داعيا إلى السلام وعاملا على أغماد السيوف وتكسير النصال وهو أبن الجاهلية والحامي لذمارها والمعلن عن آرائها....
* دعوة الحق ع/8