(يُنشَر هذا الفصل في أجزاء ويصوّر صراع الأديب للوجود في عالم الكتابة اعتمادا على قصة حقيقية)
الجزء الثاني \
إنّي أذكر، يا صديقتي يا وفاء، أنّه استعان يوما بالأصدقاء من خلال منشور تحدّث فيه عن مشروعه، وعبّر فيه عن حاجته إلى من يساعده على إنجازه، وعرض بعض النماذج الفوتوغرافية يختار منها الأصدقاء صورة الغلاف لهذه الصفحة، ودعاهم إلى المشاركة في اقتراح الشكل والمضمون... لكنه لم يتفاعل مع المنشور ولم يعلّق عليه إلاّ قليل منهم لسوء حظه.
- غريب أمر هؤلاء الأصدقاء حقا!
- لست أدري إن كان يحقّ لنا أن نسمي مثل هؤلاء البشر أصدقاء أساساً يا صديقتي. وأيّ أصدقاء هؤلاء الذين يتجمهرون حولنا ساعة اليسر والفرح، وينأون عنّا ساعة العسر والترح!
على كلّ حال، بعدما خذله هؤلاء، اجتهدت معه وتأتّى لنا في آخر الأمر تصميم الصفحة وفتحها. أطلقنا عليها اسم 'الرواية'.
- عظيم! وكيف تجاوب الناس معها؟
- كانت جديدة في بادئ الأمر، فكان الإقبال عليها ضعيفا. وما لبث أن انتبه صديقنا إلى الأمر، وأدرك أهمية الدعاية لها، فاستعان بي على دفع تكاليف الإشهار.
- يا سلام! ولم لا يدفع هو التكاليف والصفحة صفحته؟!
- بكل بساطة لأنّ التكاليف بالعملة الصعبة وهو لا يملك بطاقة ائتمان، ولا حساباً بالعملة الصعبة مثلي. فدفعتُ التكاليف من حسابي دون مقابل إرضاءً لرجل لعمري كنت أعدّه من أعزّ الأصدقاء، راجياً من المولى عز وجل أن يساهم مثل هذا المبادرات في تعزيز روابط الصداقة والأخوة بيننا.
وكان للدعاية بالغ الأثر في نشر الصفحة، فقد تضاعف عدد أعضائها، وازداد اهتمام الناس بها، وإعجابهم بمنشوراتها. فكاد صديقي يطير فرحاً بهذا الإنجاز.
ولشدَّ ما سعدت بهذا الصرح الأدبي أيضاً! ابتهجت واستبشرت خيرا، وكيف لا وقد صرتُ أخيراً أشترك في صفحة تصل إلى آلاف الأعضاء المهتمين بالرواية والأدب، أنشر فيها مقالاتي وخواطري ومقتطفات من روايتي!
واستمرّت الحال كذلك إلى أن شعر باهتمام الجماهير بكتاباتي وزيادة الإعجاب والتعليقات، فاستاء بغتة وفار فائره، فصيّر صفحته الأدبية البريئة الوادعة هذه ساحة وغى يصبّ فيها عليّ نار سخطه، ويقصفني فيها براجمات ألفاظه البذيئة واتهاماته الشنيعة.
- يا إلهي! كيف يفعل ذلك بعد كلّ ما فعلته من أجله! خيراً تفعل، شرّا تلقى!
- حتى أنا استغربت وتعجبت، فقد وقع ما لم يخطر أبدا في خيالي!
- وماذا فعلت إذا؟!
- وماذا بيد الشقيّ أن يفعل ساعة الصدمة عدا الجمود والانهيار! فقد شُلّت حركتي، وتجمّدت أفكاري، وانعقد لساني، فلم أدر ما أفعل أو أقول. وما زاد الطين بلّة تحالف أصحابه معه. فتدفّقت على الصفحة حممُ منشوراتهم الساخرة، وتعليقاتهم الساخطة، وكلماتهم الجارحة في حقي! فقد صرتُ الآن شغلهم الشاغل، يعبثون بمنشورات، ويطعنونني في ظهري، وينهشون لحمي، ويمتصون دمي، على مرأى من الزملاء الأدباء في المشهد الأدبي وكل العالم. وبقيت مشلولا عاجزا عن الرد والدفاع عن نفسي، وردّ الاعتبار لي ولاسمي.
- لا، لا! هذا الكلام غير معقول على الإطلاق!! إذا ظلمك أحد لك الحق في الرد عليه بما تملكه من قوة! السن بالسن والسابق أظلم!
- أفهم ما تقولين يا صديقتي. لستُ أشكّ في أنّ الرد على المعتدي وإعادته إلى مكانه هو عين الصواب، وقد حثّتني نفسي على فعل ذلك. لكنّ عقلي دعاني إلى التريّث والصبر. فأثرتُ سبيل الهدوء والحكمة، مقتنعاً أن الردّ على العدوان بمثله قد يفجر حرباً بيننا، وما للحرب من آثار وعواقب...فقلت في نفسي ليكون ذلك آخر خيار. فلا شيء أفضل من العقل والحكمة والهدوء وضبط النفس في المواقف الصعبة في الحياة حتى وإن أثّرت فينا، وأثارت خيبة أملنا في من حولنا.
خلته سيغفل عن أمري وينشغل بشؤونه مع مرّ الوقت، وإذا به يتصرّف وكأنه ليس له شغل آخر غيري...
- يا الله! إلى هذه الدرجة!
- وأكثر! فمع مرّ الزمن، غلظ قلبه غلظا، وتوغّر صدره حسدا، فصار لا يرى منشورا لي في صفحته هذه إلا وحذفه!
- كيف يفعل ذلك إن كان قد قطع على نفسه عهدا أن ينشر لك ما شئت، وقتما شئت، مثلما أخبرتني قبل قليل!
- كانت تلك مجرّد وعود كاذبة لا تغني ولا تسمن من جوع، وها قد كشف القناع عن وجهه، وكشّر عن أنيابه، وكشف عما يخفيه في باطنه من حقد وحسد.
إنَّه الحسد يا صديقتي يا وفاء. إنَّه ورم الحسد الذي ضرب بجدوره في أعماقه، ونمت أغصانه وتشابكت في نفسه. وداء الحسد شبيه بداء السرطان. فكلاهما ينمو بداخل الإنسان. ويضعفه ويهلكه مع مرّ الزمان. وليس بينهما في واقع الأمر إلاَّ اختلاف طفيف، فإن كان السرطان يقتل الإنسان بمهاجمة جسده، فإنّ الحسد يهلكه بمهاجمة نفْسِه.
- صدقتَ، فالحسد شعور فظيع، وداء قاتل يفتك بالإنسان مثل السرطان تماماً. وعلى ذكر هذا الداء، فإنّي استغرب كيف أنّ هذا الإنسان الذكي الحاذق الذي ابتكر أرقى وسائل تكنولوجية، وأرسل مركباته بعيداً في أعماق الفضاء فاكتشف كواكب جديدة ومجرات بعيدة، وهو اليوم يفكّر في إرسال البشر في رحلات فضائية سياحية، وابتكر الطائرة الشبح تحلّق في السماء بغير طيار ولا يكتشفها الرادار، وطوّر شتى أصناف أسلحة الدمار يبسط بها نفوذه على الآخرين، وهو اليوم يجتهد في المخابر لبعث حيوانات منقرضة منذ ملايين السنين مثل الماموث، لم يستطع حتى الآن أن يخترع دواء يقتل به داء السرطان وينقذ به أرواح ملايين البشر في العالم، يموتون منه أشنع موت!!
- استغرب ذلك أنا أيضاً! وأشعر أنّ الإنسان لا يعنى بالأمر بقدر الكفاية! وأشعر أنه لا يهتمّ بقتل هذه الأمراض بقدر اهتمامه بقتل بشر آخرين يعيشون حوله بما طوّره من سلاح، حبّاً لذاته ومصلحته! ولو استثمر الإنسان وقته وماله في محاربة الأمراض والأوبئة بدلاً من استثمارهما في تطوير أسلحة يقتل بها بشراً مثله، لقضى على كل الأمراض! وبدلاً من سعيه لقتل الأمراض، ها هو يشاركها قتل البشر بأسلحته التقليدية والكيماوية والبيولوجية!!
- يكاد موضوع السرطان هذا ينسينا موضوع الحسد وصديقك الشقي الذي راح يتهجَّم عليك! هههههه! أين توقفنا؟! ذكّرني..
- كنتُ أقول إنّ هذا الرجل الذي وثقتُ به وأعنته على فتح الموقع ودعمتُه بمالي، سرعان ما كشف القناع عن وجهه، وكشّر عن أنيابه...
- وطبعا إن كنت ضعيفا واستسلمت، انقضّ عليك، وغرز هذه الأنياب فيك، ونهش لحمك، مثلما تفعل الحيوانات المفترسة في الغاب! فلا بدّ من الدفاع عن النفس!
- هذا صحيح، فبعد صبر طويل على مكره، ما كان منّي في آخر الأمر إلاّ أن أذود عن نفسي وأن أرد عليه ردا يليق به، وقد بلغ السيل الزبى!
- فماذا فعلت إذا؟! قل لي! فقد شغلت بالي، وأثرتَ فضولي!...
مولود بن زادي كاتب جزائري مقيم في بريطانيا
* البقية تأتي.. ينشر الجزء الثالث من القصة في مثل هذا اليوم الأسبوع المقبل)
الجزء الثاني \
إنّي أذكر، يا صديقتي يا وفاء، أنّه استعان يوما بالأصدقاء من خلال منشور تحدّث فيه عن مشروعه، وعبّر فيه عن حاجته إلى من يساعده على إنجازه، وعرض بعض النماذج الفوتوغرافية يختار منها الأصدقاء صورة الغلاف لهذه الصفحة، ودعاهم إلى المشاركة في اقتراح الشكل والمضمون... لكنه لم يتفاعل مع المنشور ولم يعلّق عليه إلاّ قليل منهم لسوء حظه.
- غريب أمر هؤلاء الأصدقاء حقا!
- لست أدري إن كان يحقّ لنا أن نسمي مثل هؤلاء البشر أصدقاء أساساً يا صديقتي. وأيّ أصدقاء هؤلاء الذين يتجمهرون حولنا ساعة اليسر والفرح، وينأون عنّا ساعة العسر والترح!
على كلّ حال، بعدما خذله هؤلاء، اجتهدت معه وتأتّى لنا في آخر الأمر تصميم الصفحة وفتحها. أطلقنا عليها اسم 'الرواية'.
- عظيم! وكيف تجاوب الناس معها؟
- كانت جديدة في بادئ الأمر، فكان الإقبال عليها ضعيفا. وما لبث أن انتبه صديقنا إلى الأمر، وأدرك أهمية الدعاية لها، فاستعان بي على دفع تكاليف الإشهار.
- يا سلام! ولم لا يدفع هو التكاليف والصفحة صفحته؟!
- بكل بساطة لأنّ التكاليف بالعملة الصعبة وهو لا يملك بطاقة ائتمان، ولا حساباً بالعملة الصعبة مثلي. فدفعتُ التكاليف من حسابي دون مقابل إرضاءً لرجل لعمري كنت أعدّه من أعزّ الأصدقاء، راجياً من المولى عز وجل أن يساهم مثل هذا المبادرات في تعزيز روابط الصداقة والأخوة بيننا.
وكان للدعاية بالغ الأثر في نشر الصفحة، فقد تضاعف عدد أعضائها، وازداد اهتمام الناس بها، وإعجابهم بمنشوراتها. فكاد صديقي يطير فرحاً بهذا الإنجاز.
ولشدَّ ما سعدت بهذا الصرح الأدبي أيضاً! ابتهجت واستبشرت خيرا، وكيف لا وقد صرتُ أخيراً أشترك في صفحة تصل إلى آلاف الأعضاء المهتمين بالرواية والأدب، أنشر فيها مقالاتي وخواطري ومقتطفات من روايتي!
واستمرّت الحال كذلك إلى أن شعر باهتمام الجماهير بكتاباتي وزيادة الإعجاب والتعليقات، فاستاء بغتة وفار فائره، فصيّر صفحته الأدبية البريئة الوادعة هذه ساحة وغى يصبّ فيها عليّ نار سخطه، ويقصفني فيها براجمات ألفاظه البذيئة واتهاماته الشنيعة.
- يا إلهي! كيف يفعل ذلك بعد كلّ ما فعلته من أجله! خيراً تفعل، شرّا تلقى!
- حتى أنا استغربت وتعجبت، فقد وقع ما لم يخطر أبدا في خيالي!
- وماذا فعلت إذا؟!
- وماذا بيد الشقيّ أن يفعل ساعة الصدمة عدا الجمود والانهيار! فقد شُلّت حركتي، وتجمّدت أفكاري، وانعقد لساني، فلم أدر ما أفعل أو أقول. وما زاد الطين بلّة تحالف أصحابه معه. فتدفّقت على الصفحة حممُ منشوراتهم الساخرة، وتعليقاتهم الساخطة، وكلماتهم الجارحة في حقي! فقد صرتُ الآن شغلهم الشاغل، يعبثون بمنشورات، ويطعنونني في ظهري، وينهشون لحمي، ويمتصون دمي، على مرأى من الزملاء الأدباء في المشهد الأدبي وكل العالم. وبقيت مشلولا عاجزا عن الرد والدفاع عن نفسي، وردّ الاعتبار لي ولاسمي.
- لا، لا! هذا الكلام غير معقول على الإطلاق!! إذا ظلمك أحد لك الحق في الرد عليه بما تملكه من قوة! السن بالسن والسابق أظلم!
- أفهم ما تقولين يا صديقتي. لستُ أشكّ في أنّ الرد على المعتدي وإعادته إلى مكانه هو عين الصواب، وقد حثّتني نفسي على فعل ذلك. لكنّ عقلي دعاني إلى التريّث والصبر. فأثرتُ سبيل الهدوء والحكمة، مقتنعاً أن الردّ على العدوان بمثله قد يفجر حرباً بيننا، وما للحرب من آثار وعواقب...فقلت في نفسي ليكون ذلك آخر خيار. فلا شيء أفضل من العقل والحكمة والهدوء وضبط النفس في المواقف الصعبة في الحياة حتى وإن أثّرت فينا، وأثارت خيبة أملنا في من حولنا.
خلته سيغفل عن أمري وينشغل بشؤونه مع مرّ الوقت، وإذا به يتصرّف وكأنه ليس له شغل آخر غيري...
- يا الله! إلى هذه الدرجة!
- وأكثر! فمع مرّ الزمن، غلظ قلبه غلظا، وتوغّر صدره حسدا، فصار لا يرى منشورا لي في صفحته هذه إلا وحذفه!
- كيف يفعل ذلك إن كان قد قطع على نفسه عهدا أن ينشر لك ما شئت، وقتما شئت، مثلما أخبرتني قبل قليل!
- كانت تلك مجرّد وعود كاذبة لا تغني ولا تسمن من جوع، وها قد كشف القناع عن وجهه، وكشّر عن أنيابه، وكشف عما يخفيه في باطنه من حقد وحسد.
إنَّه الحسد يا صديقتي يا وفاء. إنَّه ورم الحسد الذي ضرب بجدوره في أعماقه، ونمت أغصانه وتشابكت في نفسه. وداء الحسد شبيه بداء السرطان. فكلاهما ينمو بداخل الإنسان. ويضعفه ويهلكه مع مرّ الزمان. وليس بينهما في واقع الأمر إلاَّ اختلاف طفيف، فإن كان السرطان يقتل الإنسان بمهاجمة جسده، فإنّ الحسد يهلكه بمهاجمة نفْسِه.
- صدقتَ، فالحسد شعور فظيع، وداء قاتل يفتك بالإنسان مثل السرطان تماماً. وعلى ذكر هذا الداء، فإنّي استغرب كيف أنّ هذا الإنسان الذكي الحاذق الذي ابتكر أرقى وسائل تكنولوجية، وأرسل مركباته بعيداً في أعماق الفضاء فاكتشف كواكب جديدة ومجرات بعيدة، وهو اليوم يفكّر في إرسال البشر في رحلات فضائية سياحية، وابتكر الطائرة الشبح تحلّق في السماء بغير طيار ولا يكتشفها الرادار، وطوّر شتى أصناف أسلحة الدمار يبسط بها نفوذه على الآخرين، وهو اليوم يجتهد في المخابر لبعث حيوانات منقرضة منذ ملايين السنين مثل الماموث، لم يستطع حتى الآن أن يخترع دواء يقتل به داء السرطان وينقذ به أرواح ملايين البشر في العالم، يموتون منه أشنع موت!!
- استغرب ذلك أنا أيضاً! وأشعر أنّ الإنسان لا يعنى بالأمر بقدر الكفاية! وأشعر أنه لا يهتمّ بقتل هذه الأمراض بقدر اهتمامه بقتل بشر آخرين يعيشون حوله بما طوّره من سلاح، حبّاً لذاته ومصلحته! ولو استثمر الإنسان وقته وماله في محاربة الأمراض والأوبئة بدلاً من استثمارهما في تطوير أسلحة يقتل بها بشراً مثله، لقضى على كل الأمراض! وبدلاً من سعيه لقتل الأمراض، ها هو يشاركها قتل البشر بأسلحته التقليدية والكيماوية والبيولوجية!!
- يكاد موضوع السرطان هذا ينسينا موضوع الحسد وصديقك الشقي الذي راح يتهجَّم عليك! هههههه! أين توقفنا؟! ذكّرني..
- كنتُ أقول إنّ هذا الرجل الذي وثقتُ به وأعنته على فتح الموقع ودعمتُه بمالي، سرعان ما كشف القناع عن وجهه، وكشّر عن أنيابه...
- وطبعا إن كنت ضعيفا واستسلمت، انقضّ عليك، وغرز هذه الأنياب فيك، ونهش لحمك، مثلما تفعل الحيوانات المفترسة في الغاب! فلا بدّ من الدفاع عن النفس!
- هذا صحيح، فبعد صبر طويل على مكره، ما كان منّي في آخر الأمر إلاّ أن أذود عن نفسي وأن أرد عليه ردا يليق به، وقد بلغ السيل الزبى!
- فماذا فعلت إذا؟! قل لي! فقد شغلت بالي، وأثرتَ فضولي!...
مولود بن زادي كاتب جزائري مقيم في بريطانيا
* البقية تأتي.. ينشر الجزء الثالث من القصة في مثل هذا اليوم الأسبوع المقبل)