تغوص رواية "خريف العصافير" عميقا في أوحال سيرة "جعفر" المتراجع عن تنفيذ عملية ارهابية لحظة انقشاع أمل الحياة من بين سحب اليأس و العدم بعد أن سحب لقاؤه المفاجئ صديقتَه القديمة " فنّة" فتيل تصميمه على تفجير نفسه تزامناً مع دوّي انفجار بل انتحارٍ نفذه صديقه و رفيقه في العملية " مفضل" .
و سعيا إلى اتحاف القارئ بنتف من سيرة " الغدر و الارهاب المبني على التغرير واستغلال الفاقة وذلّ الحاجة و الثورة الدفينة على الظلم و غياب العدل في قسمة الارزاق " ، يقيم الروائي " خالد أقلعي" أوَد روايته "خريف العصافير" على " نمطين شائعين هما : المبنى التعاقبي الذي تسير فيه الأحداث بصورة مُتسلسلة ومُتعاقبة منذ البداية وحتى النهاية، والمَبْنى المقلوب حيث تبدأ فيه القصة مع التوتر ثم تسردُ تفاصيلَ الحدَث التي أدّت لمثل هذا التوتر، وفي حالات أخرى يرى أنّ المَبْنى المقلوب لا يبدأ من نهاية القصة والتوتر إنما يبدأ من نقطة ما بين البداية والنهاية، غالبا ما تكون قريبة من لحل، ثم يعود القاص إلى سرد تفاصيل الحدث حتى يصل إلى النقطة التي بدأ منها ويُتابع تفاصيل القصة حتى النهاية" .
منذ الوهلة الأولى ، يسلمك عنوان الفصل الأول إلى لحظة فارقة من لحظات حياة إحدى شخصيات الرواية الرئيسة : جعفر . إنها لحظة مسجلة ومؤرخة على نحو يبعث على التساؤل عن دلالة الزمن في صناعة الحدث : السبت 18 ماي 1994 ، 23:30 . والمكان : فندق النخيل ، وقد يحيلك التأويل الأولي على أماسي السُّبوت و " السهرات الماجنة مساء كل سبت Samedi soir تخففا من ثقل "أسبوع من العمل " ، لكن أفق توقعك ينهدم و ينهزم عندما تطالعك العبارات الأولى التي تصف المساء و تمهّد الطريق لتكوّن الحدث الذي تتوالد منه و تتوارد " الأفعال " و " الذكريات" ....
"هذا مساء ثمل تائه مرهق ، غيوم لا تزال تعربد على سمائه ، فتبعث قشعريرة البرد في الجلد والأعصاب ... وتلك شوارع خلفية معتمة توشي بما تستره خيوط ضوء واهنة منبعثة من بقايا المصابيح المكسورة ، وها ظلان ينفصلان بعد عناق أو شك ألا ينتهي ... يغيب الآخر في منعطف الليل ، و يخترق هو الشارع الغاص بالأجساد مفخخا" .
يتسلل " جعفر" ، إذن، مفخخاً ذاته إلى فندق النخيل ، يجتاز " حراس الأمن وموظفي الاستقبال ... يحتار برهة في اتخاذ قرار حاسم ، ينتهي إلى أن له مطلق الحرية في تأخير العملية ، تأجيلها أو الغائها ، إن لزم الأمر ، لكن أطياف الآخرين ترهقه ، ردود أفعالهم غير المأمونة ، صورته أمام الله ، أمام الأمير ، أمام مفضّل و الجماعة ، أمام نفسه . وماذا عن قسم العهد و الوعد ، عن النعيم الموعود و الخلاص من الأصفاد، من هذا السجن الفاحش المجرم الذي يسمونه الدنيا ، من الكابوس ، كابوس حياته الغاصب القاهر..." .
لقد أيقظ التفجير الانتحاري الذي نفذه " مفضل" شهوة استرجاع شريط أحداث سيرة " جعفر" الذي يتتبع السارد مساره بشكل تعاقبي من لحظة ولوج الفندق التي تمثل أساسَ النمط السردي المقلوب مرواً بدخول المستشفى (الجمعة 24ماي 1994 ، الساعة 15:11) و الاحالة على غرفة الانعاش (الخميس 23 يونيو 1994) و انتهاءً إلى " التوبة" و الأوبة إلى " عش عصفور جريح" أي السقف ، البيت الذي سيشهد استعادة الذاكرة المفقودة و عودة الأمل إلى حياة جعفر الذي أضحى " يمشي الهوينى على حافة السطح مقلدا العصافير (...) " دون أن ننسى حرص السارد على تكسير رتابة " خطيّة الزمن " عبر تنويع ضمائر السرد و تثوير بركان ذاكرة الشخصيات التي تدلي بشهاداتها عن " جعفر" في مكتب التحقيقات الجنائي (13 غشت 1994) ، و تستعيد ومضات من طفولته المعذبّة ومآسي أسرته المتشرذمة بفعل الطلاق ...
و تأسيساً على ذلك ، فإن استكناه كيفية تسريد الارهاب المنبعث من قاع استغلال جماعة " إسلامية متطرفة " طائفة من المهمشين و المعدمين " من أمثال جعفر و مفضل الذين ينتميان إلى وسط اجتماعي فقير تطحنه الهشاشة و الفاقة التي دفعت نساء " رموش العين" في الرواية إلى ممارسة البغاء لتأمين لقمة العيش ، يتطلب الانتباه إلى التقنيات التي توكأ عليها الناصّTextor مثل الاسترجاع والاستباق و الوصف الذي يشرع " " بابهُ لشيء من عجيب الموصوفات وغريب الصفات " على حد تعبير نجوى الرياحي " . ذلك أن النص مترع مشبع بالوصف الذي لا يعيق انثيال السرد و انسياب الحكي بقدر ما يثير في نفس المتلقي متعة أو لذة النص ، و يسعف في بناء صور سردية هي بالأساس " نتاج ثري لفعالية الخيال الذي لا يعني نقل العالم أو نسخه ،وإنما إعادة التشكيل ...فهي في هذا السياق نقل لغوي لمعطيات الواقع ... وهي ذات مظهر عقلي ووظيفة تمثيلية ...موغلة في امتداداتها إيغال الرموز و الصور النفسية والاجتماعية و الانثروبولوجية و الاثنية ، جماليةٌ في وظائفها مثلما هي سائر صور البلاغة و محسناتها ، ثم هي حسية ، وقبل كل ذلك ، هي إفراز خيالي" .
الصورة السردية في " خريف العصافير " :
من الأهمية بمكان العروج إلى مكامن الجمال في بناء الصور السردية التي شكلّ تصوير " أمير الجماعة " جانباً ثريّا منها ، ذلك أن ظلال السحنة و اللكنة و اللباس " الأفغاني" أسهمت في تشكيل صورة محاكية للواقع مجسدة للعلاقة بين الفن و الواقع باعتبار " الثاني مصدر إلهام للأول الذي يؤثر عبر جدلية العلاقة في الثاني من خلال مجموعة من الرؤى المحمولة فكريا لدى الأديب ، والتي تتناسب طرديا مع حركة الواقع " ، فالأمير كما صوره الكاتب على لسان " جعفر" ، لا يختلف عن صور أمراء الارهاب في الواقع كما تقدمها وسائل الاعلام الحديثة :
"أشقر ضخم ، بارز القسمات ، مكحل العينين الزرقاوين و الحاجبين ، ذو أنف سمين ولحية كثة تتدلى على صدره ، يختفي داخل لباس أفغاني يتكون من سروال قندريسي و بدعية فضفاضة ، و يعتمر كوفية كبيرة تكاد تحجب وجهه ، بينما تشبك طوق بدعيته نظارات شمسية حديثة تخفي لون عينيه ... من خلفه يصطف بعض حرسه يحملون بنادق كلاشينكوف روسية الصنع موجهة نحوكم . استطعتَ أن تميز من كلام الأمير الأشقر شيئين اثنين ظلاّ عالقين ببالك أمدا طويلا ، وبعثا في نفسك من الحيرة و الريبة ما لا يمكن وصفه : لكنته العربية المتكسرة الغريبة ، و أخطاؤه النحوية الفاضحة !، أخذ يلتف حولكم بعصبية حذرة ، وهو يقرأ من مجلد صغير بين يديه ، يوضح من خلاله منهج الجماعة ودواعي اختيارها الجهاد حلاّ أخيراً لا رجعة فيه " .
غير خاف أن هذه الصورة السردية التي أتت في سياق استرجاعي تتسم بواقعية التصوير التي عدّها د. محمد مشبال سمة بلاغية مثلها مثل الشاعرية ، و لعل أهم ما همّت به هذه الصورة السردية هو إبرازُ المفارقة و تجلية التناقض ، فالأمير الذي يقود " شباباً عربا" لا يتقن العربية !، و " أخطاؤه النحوية فاضحة! " ، مما يعني ضعف ثقافته الاسلامية التي تشكل اللغة العربية مصدرها الفيّاض، الأمر الذي يشي بسخرية السارد من ترهل عقول الأتباع الذين يطيعون طاعة عمياء من لا يعرف من العربية والاسلام كوعاً من بوع ، و يؤيد هذا الاستنتاج توثب " جعفر" المنضم حديثا للجماعة التي تنتهج العمل السري إلى مناقشة الأمير ، ليس في قضايا لغوية متصلة بركاكة لفظه ، و إنما في " عقيدة الولاء و البراء " التي تضمنتها خطبته البتراء (لا تتضمن البسملة في الرواية ) قبل أن يهمس صديقه " مفضل " في أذنه : " كلام الأمير أوامر لا تناقش!".
و لا تنفصل صورة " امير التنظيم الارهابي" التي جاءت في سياق استرجاعي flash-back عن الصور السردية المركبة عن الوسط الاجتماعي الضحل الذي بنى فيه الارهاب عشَّه . ذ اك الوسط الموبوء لم يفارق ذاكرة جعفر حين همّ بتفجير نفسه ، إذ ذكر السارد العليم بخفايا الأمور أن تسلله إلى صالة الرقص وأجوائها الماجنة ، ألقى في ذهنه صورة " الماخور " ، حيث قضت أمه فترة من حياتها : " ...ينتهي أخيرا في جوف حلبة رقص رحبة تضجر بالأضواء و قهقهات المبتذلات و تغنج الغواني و لغط السكارى وجلبة كؤوسهم ...ومثل البرق تلمع في ذهنه صور الماخور إياه ، سجن أمه المقيت بمدينة "رموش العروس"، يستعرض في رمشة عين مكنون أسراره ، ضحاياه و جلاديه : مزيود ، الداهي ، طامو، فنة ، سيوانا والأخريات..."(ص10).
نلمس تقابلا بين صورتين في ذهن جعفر : صورة الملهى الليلي وصورة الماخور ، كلاهما وجه لواقع ردئ عنوانه : الفساد والانحلال الاخلاقي ، لكن الصورة القاسية التي جرفته نحو حافة محاولة ارتكاب جرم الارهاب ، ليست هي صورة الملهى الذي أتاه من أجل الانتقام ، بل هي صورة الماخور الذي كانت أمه من ضحاياه بعد طلاقها : " الأنامل الصفراء المرتعشة تفتل خصلات شعر و لفّافات حشيش، شفاه مسخ (...) تهذي لغوا و فحشا ، تفضح أسناناً صفراء متداعية كحولا (...) ثم لا شيء غير الأرداف و السيقان ... سيقان موشومة بقروح وخدوش و حروق أعقاب سجائر و جروح سكاكين معافاة و شفرات حلاقة ... " (ص 10-11).
إنها لوحة مخجلةٌ ، عشٌّ موبوء تناسلت فيه و تكاثرت كل " البلايا" التي كانت سبباً في انتاج تطرف " جعفر " الذي برقتْ في مخيلته صور أخرى عن الفساد منها ، " صورة جاره "العكرود الفاسد " الذي اخترقته رصاصة أحد زملائه في رحلة قنص ، أسبوعاً فقط بعد ما شاع حول مسؤوليته المباشرة في اختفاء الاستاذ كريم التهامي ، مؤسس حركة" شفافية ضد الفساد" ص 16-17.
و يتعمق السارد في كشف أثر هذا الوسط على حياة جعفر ، حين يستعيد قصة تعرضه زمن طفولته لمحاولة اغتصاب من طرف "زنيفح " حارس المدرسة الذي تسترت أطراف على أفعاله الشنيعة تحت ذريعة "حماية سمعة المدرسة" ، وكذا قصة تسكعه مع أطفال الشوارع ، لكن الحادثة التي ألقت به في دوامة التذمر هي قضاؤه عقوبة سجنية إثر اتهامه باختلاس أشياء من معمل الحاج عشيبة .
هذه الأبعاد النفسية و الاجتماعية التي صاغت شخصية " جعفر" المتذمرة ، لم تطفئ جذوة الخير فيه خلافاً لصديقه "مفضل" الهارب إلى " التطرف الديني" من لظى الفقر و الاكتئاب الذي أصيب به إثر موت والده و تشتت أسرته و انحراف أخته "بهيجة " ، فقد كان جعفر يخالفه الرأي في استباحة القتل باسم الدين ، وجادله قائلا : " الروح وديعة أودعها الله أجسادنا ، وهو صاحب الحق في نزعها ، فمن بادر إلى نزعها بنفسه ، فكأنه خان الله في وديعته أو ...." ص 110.
و ههنا نلمس أسلوب مقابلة أخرى بين الاستسلام للاكتئاب و الانخراط في تنظيمات الارهاب الذي يقود إلى الموت (صورة مفضل)، و مقاومة الاكتئاب و الانفكاك من أسار الارهاب و رفض القتل إيماناً بقدسية الحياة التي انتصر لها الناصّ الذي أعاد إلى جعفر الحياة على الورق مرتين : مرة حين عدل عن التفجير تمسكاً بطيف امرأة ، ( فنَّة) ،تمثلت له " نسغ حياة و قشة نجاة " ، ومرّة حين خرج من المستشفى دون متابعة قضائية مستفيداً من ظروف التخفيف نظرا لأوضاعه الصحية المتسمة بفقدان الذاكرة التي لن يستعيدها إلا بفضل تلك المرأة التي أحبها في الماضي ، و أنعشت في الحاضر ذاكرته برضُاب عشق انتهى بالزواج بعد أن تماثل للشفاء ، و تململت شفتاه بأغنية حبهما الشهيرة : " يا ..عصفوري ..الجريح ..كسر حلمك ..عناد الريح".
[SIZE=6]د. بوزيد الغلى[/SIZE]
و سعيا إلى اتحاف القارئ بنتف من سيرة " الغدر و الارهاب المبني على التغرير واستغلال الفاقة وذلّ الحاجة و الثورة الدفينة على الظلم و غياب العدل في قسمة الارزاق " ، يقيم الروائي " خالد أقلعي" أوَد روايته "خريف العصافير" على " نمطين شائعين هما : المبنى التعاقبي الذي تسير فيه الأحداث بصورة مُتسلسلة ومُتعاقبة منذ البداية وحتى النهاية، والمَبْنى المقلوب حيث تبدأ فيه القصة مع التوتر ثم تسردُ تفاصيلَ الحدَث التي أدّت لمثل هذا التوتر، وفي حالات أخرى يرى أنّ المَبْنى المقلوب لا يبدأ من نهاية القصة والتوتر إنما يبدأ من نقطة ما بين البداية والنهاية، غالبا ما تكون قريبة من لحل، ثم يعود القاص إلى سرد تفاصيل الحدث حتى يصل إلى النقطة التي بدأ منها ويُتابع تفاصيل القصة حتى النهاية" .
منذ الوهلة الأولى ، يسلمك عنوان الفصل الأول إلى لحظة فارقة من لحظات حياة إحدى شخصيات الرواية الرئيسة : جعفر . إنها لحظة مسجلة ومؤرخة على نحو يبعث على التساؤل عن دلالة الزمن في صناعة الحدث : السبت 18 ماي 1994 ، 23:30 . والمكان : فندق النخيل ، وقد يحيلك التأويل الأولي على أماسي السُّبوت و " السهرات الماجنة مساء كل سبت Samedi soir تخففا من ثقل "أسبوع من العمل " ، لكن أفق توقعك ينهدم و ينهزم عندما تطالعك العبارات الأولى التي تصف المساء و تمهّد الطريق لتكوّن الحدث الذي تتوالد منه و تتوارد " الأفعال " و " الذكريات" ....
"هذا مساء ثمل تائه مرهق ، غيوم لا تزال تعربد على سمائه ، فتبعث قشعريرة البرد في الجلد والأعصاب ... وتلك شوارع خلفية معتمة توشي بما تستره خيوط ضوء واهنة منبعثة من بقايا المصابيح المكسورة ، وها ظلان ينفصلان بعد عناق أو شك ألا ينتهي ... يغيب الآخر في منعطف الليل ، و يخترق هو الشارع الغاص بالأجساد مفخخا" .
يتسلل " جعفر" ، إذن، مفخخاً ذاته إلى فندق النخيل ، يجتاز " حراس الأمن وموظفي الاستقبال ... يحتار برهة في اتخاذ قرار حاسم ، ينتهي إلى أن له مطلق الحرية في تأخير العملية ، تأجيلها أو الغائها ، إن لزم الأمر ، لكن أطياف الآخرين ترهقه ، ردود أفعالهم غير المأمونة ، صورته أمام الله ، أمام الأمير ، أمام مفضّل و الجماعة ، أمام نفسه . وماذا عن قسم العهد و الوعد ، عن النعيم الموعود و الخلاص من الأصفاد، من هذا السجن الفاحش المجرم الذي يسمونه الدنيا ، من الكابوس ، كابوس حياته الغاصب القاهر..." .
لقد أيقظ التفجير الانتحاري الذي نفذه " مفضل" شهوة استرجاع شريط أحداث سيرة " جعفر" الذي يتتبع السارد مساره بشكل تعاقبي من لحظة ولوج الفندق التي تمثل أساسَ النمط السردي المقلوب مرواً بدخول المستشفى (الجمعة 24ماي 1994 ، الساعة 15:11) و الاحالة على غرفة الانعاش (الخميس 23 يونيو 1994) و انتهاءً إلى " التوبة" و الأوبة إلى " عش عصفور جريح" أي السقف ، البيت الذي سيشهد استعادة الذاكرة المفقودة و عودة الأمل إلى حياة جعفر الذي أضحى " يمشي الهوينى على حافة السطح مقلدا العصافير (...) " دون أن ننسى حرص السارد على تكسير رتابة " خطيّة الزمن " عبر تنويع ضمائر السرد و تثوير بركان ذاكرة الشخصيات التي تدلي بشهاداتها عن " جعفر" في مكتب التحقيقات الجنائي (13 غشت 1994) ، و تستعيد ومضات من طفولته المعذبّة ومآسي أسرته المتشرذمة بفعل الطلاق ...
و تأسيساً على ذلك ، فإن استكناه كيفية تسريد الارهاب المنبعث من قاع استغلال جماعة " إسلامية متطرفة " طائفة من المهمشين و المعدمين " من أمثال جعفر و مفضل الذين ينتميان إلى وسط اجتماعي فقير تطحنه الهشاشة و الفاقة التي دفعت نساء " رموش العين" في الرواية إلى ممارسة البغاء لتأمين لقمة العيش ، يتطلب الانتباه إلى التقنيات التي توكأ عليها الناصّTextor مثل الاسترجاع والاستباق و الوصف الذي يشرع " " بابهُ لشيء من عجيب الموصوفات وغريب الصفات " على حد تعبير نجوى الرياحي " . ذلك أن النص مترع مشبع بالوصف الذي لا يعيق انثيال السرد و انسياب الحكي بقدر ما يثير في نفس المتلقي متعة أو لذة النص ، و يسعف في بناء صور سردية هي بالأساس " نتاج ثري لفعالية الخيال الذي لا يعني نقل العالم أو نسخه ،وإنما إعادة التشكيل ...فهي في هذا السياق نقل لغوي لمعطيات الواقع ... وهي ذات مظهر عقلي ووظيفة تمثيلية ...موغلة في امتداداتها إيغال الرموز و الصور النفسية والاجتماعية و الانثروبولوجية و الاثنية ، جماليةٌ في وظائفها مثلما هي سائر صور البلاغة و محسناتها ، ثم هي حسية ، وقبل كل ذلك ، هي إفراز خيالي" .
الصورة السردية في " خريف العصافير " :
من الأهمية بمكان العروج إلى مكامن الجمال في بناء الصور السردية التي شكلّ تصوير " أمير الجماعة " جانباً ثريّا منها ، ذلك أن ظلال السحنة و اللكنة و اللباس " الأفغاني" أسهمت في تشكيل صورة محاكية للواقع مجسدة للعلاقة بين الفن و الواقع باعتبار " الثاني مصدر إلهام للأول الذي يؤثر عبر جدلية العلاقة في الثاني من خلال مجموعة من الرؤى المحمولة فكريا لدى الأديب ، والتي تتناسب طرديا مع حركة الواقع " ، فالأمير كما صوره الكاتب على لسان " جعفر" ، لا يختلف عن صور أمراء الارهاب في الواقع كما تقدمها وسائل الاعلام الحديثة :
"أشقر ضخم ، بارز القسمات ، مكحل العينين الزرقاوين و الحاجبين ، ذو أنف سمين ولحية كثة تتدلى على صدره ، يختفي داخل لباس أفغاني يتكون من سروال قندريسي و بدعية فضفاضة ، و يعتمر كوفية كبيرة تكاد تحجب وجهه ، بينما تشبك طوق بدعيته نظارات شمسية حديثة تخفي لون عينيه ... من خلفه يصطف بعض حرسه يحملون بنادق كلاشينكوف روسية الصنع موجهة نحوكم . استطعتَ أن تميز من كلام الأمير الأشقر شيئين اثنين ظلاّ عالقين ببالك أمدا طويلا ، وبعثا في نفسك من الحيرة و الريبة ما لا يمكن وصفه : لكنته العربية المتكسرة الغريبة ، و أخطاؤه النحوية الفاضحة !، أخذ يلتف حولكم بعصبية حذرة ، وهو يقرأ من مجلد صغير بين يديه ، يوضح من خلاله منهج الجماعة ودواعي اختيارها الجهاد حلاّ أخيراً لا رجعة فيه " .
غير خاف أن هذه الصورة السردية التي أتت في سياق استرجاعي تتسم بواقعية التصوير التي عدّها د. محمد مشبال سمة بلاغية مثلها مثل الشاعرية ، و لعل أهم ما همّت به هذه الصورة السردية هو إبرازُ المفارقة و تجلية التناقض ، فالأمير الذي يقود " شباباً عربا" لا يتقن العربية !، و " أخطاؤه النحوية فاضحة! " ، مما يعني ضعف ثقافته الاسلامية التي تشكل اللغة العربية مصدرها الفيّاض، الأمر الذي يشي بسخرية السارد من ترهل عقول الأتباع الذين يطيعون طاعة عمياء من لا يعرف من العربية والاسلام كوعاً من بوع ، و يؤيد هذا الاستنتاج توثب " جعفر" المنضم حديثا للجماعة التي تنتهج العمل السري إلى مناقشة الأمير ، ليس في قضايا لغوية متصلة بركاكة لفظه ، و إنما في " عقيدة الولاء و البراء " التي تضمنتها خطبته البتراء (لا تتضمن البسملة في الرواية ) قبل أن يهمس صديقه " مفضل " في أذنه : " كلام الأمير أوامر لا تناقش!".
و لا تنفصل صورة " امير التنظيم الارهابي" التي جاءت في سياق استرجاعي flash-back عن الصور السردية المركبة عن الوسط الاجتماعي الضحل الذي بنى فيه الارهاب عشَّه . ذ اك الوسط الموبوء لم يفارق ذاكرة جعفر حين همّ بتفجير نفسه ، إذ ذكر السارد العليم بخفايا الأمور أن تسلله إلى صالة الرقص وأجوائها الماجنة ، ألقى في ذهنه صورة " الماخور " ، حيث قضت أمه فترة من حياتها : " ...ينتهي أخيرا في جوف حلبة رقص رحبة تضجر بالأضواء و قهقهات المبتذلات و تغنج الغواني و لغط السكارى وجلبة كؤوسهم ...ومثل البرق تلمع في ذهنه صور الماخور إياه ، سجن أمه المقيت بمدينة "رموش العروس"، يستعرض في رمشة عين مكنون أسراره ، ضحاياه و جلاديه : مزيود ، الداهي ، طامو، فنة ، سيوانا والأخريات..."(ص10).
نلمس تقابلا بين صورتين في ذهن جعفر : صورة الملهى الليلي وصورة الماخور ، كلاهما وجه لواقع ردئ عنوانه : الفساد والانحلال الاخلاقي ، لكن الصورة القاسية التي جرفته نحو حافة محاولة ارتكاب جرم الارهاب ، ليست هي صورة الملهى الذي أتاه من أجل الانتقام ، بل هي صورة الماخور الذي كانت أمه من ضحاياه بعد طلاقها : " الأنامل الصفراء المرتعشة تفتل خصلات شعر و لفّافات حشيش، شفاه مسخ (...) تهذي لغوا و فحشا ، تفضح أسناناً صفراء متداعية كحولا (...) ثم لا شيء غير الأرداف و السيقان ... سيقان موشومة بقروح وخدوش و حروق أعقاب سجائر و جروح سكاكين معافاة و شفرات حلاقة ... " (ص 10-11).
إنها لوحة مخجلةٌ ، عشٌّ موبوء تناسلت فيه و تكاثرت كل " البلايا" التي كانت سبباً في انتاج تطرف " جعفر " الذي برقتْ في مخيلته صور أخرى عن الفساد منها ، " صورة جاره "العكرود الفاسد " الذي اخترقته رصاصة أحد زملائه في رحلة قنص ، أسبوعاً فقط بعد ما شاع حول مسؤوليته المباشرة في اختفاء الاستاذ كريم التهامي ، مؤسس حركة" شفافية ضد الفساد" ص 16-17.
و يتعمق السارد في كشف أثر هذا الوسط على حياة جعفر ، حين يستعيد قصة تعرضه زمن طفولته لمحاولة اغتصاب من طرف "زنيفح " حارس المدرسة الذي تسترت أطراف على أفعاله الشنيعة تحت ذريعة "حماية سمعة المدرسة" ، وكذا قصة تسكعه مع أطفال الشوارع ، لكن الحادثة التي ألقت به في دوامة التذمر هي قضاؤه عقوبة سجنية إثر اتهامه باختلاس أشياء من معمل الحاج عشيبة .
هذه الأبعاد النفسية و الاجتماعية التي صاغت شخصية " جعفر" المتذمرة ، لم تطفئ جذوة الخير فيه خلافاً لصديقه "مفضل" الهارب إلى " التطرف الديني" من لظى الفقر و الاكتئاب الذي أصيب به إثر موت والده و تشتت أسرته و انحراف أخته "بهيجة " ، فقد كان جعفر يخالفه الرأي في استباحة القتل باسم الدين ، وجادله قائلا : " الروح وديعة أودعها الله أجسادنا ، وهو صاحب الحق في نزعها ، فمن بادر إلى نزعها بنفسه ، فكأنه خان الله في وديعته أو ...." ص 110.
و ههنا نلمس أسلوب مقابلة أخرى بين الاستسلام للاكتئاب و الانخراط في تنظيمات الارهاب الذي يقود إلى الموت (صورة مفضل)، و مقاومة الاكتئاب و الانفكاك من أسار الارهاب و رفض القتل إيماناً بقدسية الحياة التي انتصر لها الناصّ الذي أعاد إلى جعفر الحياة على الورق مرتين : مرة حين عدل عن التفجير تمسكاً بطيف امرأة ، ( فنَّة) ،تمثلت له " نسغ حياة و قشة نجاة " ، ومرّة حين خرج من المستشفى دون متابعة قضائية مستفيداً من ظروف التخفيف نظرا لأوضاعه الصحية المتسمة بفقدان الذاكرة التي لن يستعيدها إلا بفضل تلك المرأة التي أحبها في الماضي ، و أنعشت في الحاضر ذاكرته برضُاب عشق انتهى بالزواج بعد أن تماثل للشفاء ، و تململت شفتاه بأغنية حبهما الشهيرة : " يا ..عصفوري ..الجريح ..كسر حلمك ..عناد الريح".
[SIZE=6]د. بوزيد الغلى[/SIZE]