سبع عربات مسافرة، هي المجموعة القصصية الثالثة للكاتب المصريّ: “محمد عبد المنعم زهران”، بعد مجموعتين؛ صدرت أولاهما عن حكومة الشارقة، إثر فوز المجموعة بالمركز الأول في جائزة الشارقة للإبداع الأدبيّ، عام 2001م، وكانت تحت عنوان “حيرة الكائن”، أما مجموعته الثانية؛ “بجواركَ بينما تُمطر”، فقد صدرت عن دار الأدهم للنشر والتوزيع، القاهرة عام 2013م
محمد عبد المنعم زهران كاتبٌ مفتتن بالتفاصيل، يشيد من أشيائه الصغيرة عالماً مدهشاً في غاية الدقة والكمال، حيث تبدو المَشاهد أكثر جاذبية، وأكثر وضوحاً.. تسحبنا شخوص قصصه نحو بؤرة الحدث بقوة وجاذبية، حيث تتفوق رغبة الشخصيات على رغبة الكاتب- المتربص في خلفية السرد- على استلام زمام الأمور وتوجيه دفة الحكي. يقول الكاتب في تصديره للمجموعة: “أعتقد أنه وبمجرد أن أحكي، يتشيَّد العالم وفق طريقتي البسيطة للعيش”.
إن المتتبع لأعمال زهران القصصية يلاحظ أن هذه الطريقة البسيطة للعيش والتي يُسمع نبضها جليَّا في أعماله السابقة، وفي كل قصص المجموعة التي نحن بصدد الحديث عنها، هي طرق العيش ذاتها، الخاصة بالشخصيات. حتى لنشعر أن كل شخصية من تلك الشخصيات قد عاشت شطراً كبيراً من حياتها مع الكاتب، وتشاركت معه صروف الحياة. إن الكاتب قد أحب شخوص قصصه، بلا ريب، وقضى معهم أوقاتاً طويلة، مما حدا بكل شخصية أن تزاحم الكاتب في مهمته الوحيدة (الكتابة)، فنجده يتنحى جانباً – مرغماً أو بإرادته- مُفسحاً الطريق لبطل القصة: قائد القطار، بائع العسلية، صديقه القتيل، النادل، صاحب المقهى، والطفل الذي يلعب مع أصدقائه لعبة الاستخفاء.. إلخ، كي يسرد قصته بنفسه، من منظور وظيفته ومن واقع حياته، وعبر رؤاه الشخصية، متوجهاً بحديثه هذا أو بحكايته الشخصية تلك إلى القارئ وإلى الكاتب على حد سواء وذلك عن طريق “تيار الوعي”، كما ألفناه في النصوص السردية في القرن الأخير، فبفضل ضمير المخاطب “أنت” يمكن أن تتحول القصص– كما يقول دكتور خيري دومة في كتابه “أنت: ضمير المخاطب في السرد العربي”- إلى عالم مربك على حافة الحلم أو الجنون، لأنك لا تعلم مَن يتحدث إلى مَن في هذا العالم القصصي، أو، على الأقل، لأن شخصيات هذا العالم محمومة لا تكف عن حديث المحمومين إلى أنفسهم، ولكن أمامنا نحن القراء، وعلى مسمع منا، وبطريقة تكاد تمحو المسافة المستقرة نسبيًّا، بين الراوي والبطل والمروي عليه والقارئ الفعلي.. ففي قصة “أصابعي منك في أطرافها قبلُ، تسرد كل شخصية من شخصيات القصة موقفها، إلا إن الكاتب يتدخل، بصفته كاتباً، بين الفينة والأخرى. تلك القصة، يستهلها مدير المطعم هكذا:”أنا سعيدٌ لأنني سأروي هذه القصة بنفسي، توقَّف أنت!! أنت كتبتَ الكثير من القصص، اتركني من فضلك، هذا وقتٌ ملائمٌ تماماً لأروي حكاية ما، في النهاية أنا مدير المطعم الذي جرى فيه كل شيء، وسأروي كل ما حدث كما رأيته، دون خيال؛ كما اعتدت أنتَ أن تكتب”. لكن الكاتب لا يترك الأمور تسير كيفما اتفق، فيتدخل في الحوار وفي طريقة السرد بين الحين والأخر ليوجّه ويعطي نصائحه: “انتظر.. انتظر قليلاً، أرى أنه من الملائم أن أتدخل لألفت نظرك إلى تفاصيل أخرى لا يمكن تجاهلها…” هكذا يتدخل الكاتب في معظم قصص المجموعة ليسرد جزءا من الأحداث أو ليصحح مسار واتجاه القصة. قد لا يظهر طيف الكاتب- في بعض قصص المجموعة- إلا عندما يُوَجَّه إليه الحديث كما في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها: سبع عربات مسافرة، حيث نكتشف في النهاية أن صاحب القطار كان- طوال القصة- يحلم، بعد حادثة القطار الشهيرة التي راح ضحيتها مئات الركاب.. يقول قائد القطار في نهاية القصة: “… وأنت، أنت الذي تكتب، أتتذكر؟ كنتَ آخر راكبٍ يغادر القطار، في المحطة السابقة لتحركه إلى الكارثة…”، لنكتشف في آخر أسطر القصة أن الكاتب الذي غادر القطار لينجو من الزحام قد لحق بالعربة السابعة، والأخيرة، بعد تردد، كي يلقى حتفه هو الآخر، مثل كل شخوص القصة بما فيهم قائد القطار الذي يحكي، وبهذا تصبح القصة الشبحية التي قرأناها للتو، قد سُردت أحداثها على لسان أشباح قتلى القطار أنفسهم: “لم أكن أعرف أبدا أنك عاودت الركوب في العربة السابعة، قبل أن يتحرك القطار، بعد أن ترددتَ قليلاً، وكنت تنوي كتابة قصة جميلة عن أحلام ركاب بسطاء تغمرهم سكينة غامضة في سبع عربات مسافرة، تتحرك في هدوء.” .
“أصبح ضمير المخاطب هذا يشير إلى الراوي المتكلم وهو منقسم على ذاته يكلمها ويذكِّرها، كما يشير وفي اللحظة نفسها، إلى القارئ الذي لا يستطيع أن يتفادى الاصطدام بهذا الضمير، إذ يتوجه إليه بالخطاب، فيفاجئه ويربكه”.
إن أسلوب السرد بهذا “الأنت” إذ يتوجه به السارد إلى نفسه وإلى القارئ في الوقت ذاته فيفاجئه ويربكه، بينما يقف الكاتب هناك؛ في خلفية ضبابية، ينظر إلى القراء منقسماً على ذاته، مبتسماً، بينما قرينه، أو شبيهه الطيفيّ الآخر، المنبثق من جسده المادي، يشرع في كتابة قصته/ قصتك/ قصتكما، وقصة الإنسانية البسطة، المعذبة.. في ذلك الفضاء، كلنا مُثُل بأرواحنا وأجسادنا وكل شيء أرضيّ، هو واقعي وملموس، وطيفي وسماويّ في ذات الوقت.. هناك، حيث يصبح الجسد، في تلك المنطقة الضبابية- كما يقول ميشال فوكو-: ” جسدٌ غامض، جسدٌ قابل ٌ للنفاذ وغير مُنفذ، جسد مفتوح ومغلق، جسدٌ طوباوي. جسدٌ مرئيّ بشكل مطلق، من جانب واحد: أعرفُ جيداً معنى أن يُنظر إليك من شخص آخر من رأسك حتى أخمص قدميك، أعرف ما يعنيه أن تتم مراقبتك من وراء، وأن تُراقَب من أعلى الكتف، وأن تُفاجَأ رغم توقعك للأمر..”. هكذا، نكاد نصل إلى مرتبة اليقين أن الكاتب لم يفعل شيئاً سوى أنه تلقى- على يد قرينه الذي يسكنه، ذلك الآخر الذي عاصر الأحداث المختلفة ورآها بأم عينيه- مسودات هذه القصص، وأنه (أي الكاتب) جلس ليقرأ مثلما جلسنا لنقرأ. في قصة “مطر خفيف”، يتداخل الجسدان؛ جسد الكاتب وجسد القتيل حتى لا نستطيع أن نجزم من المقتول فيهما، من ينطلق وراء مَن؟ من منهما الذي تطوح جسده ليخرّ صريعاً على أرض موحلة مشبعة بالمطر؛ يقول: “لأقدامي التي تمشي صوت مكتوم على أرضية الشارع… لأقدامه صوت مكتوم أيضا… دائماً كلما اسرعت في المشي تتسارع خطواته أيضا…” هكذا حتى تتوقف قدماه أمام بيت القتيل:
“في المكان المناسب توقفتُ، فتوقفت قدماه، أمسكتُ هاتفي:
– ألوو “حسن”.
– ……..
– أنا أنتظرك أمام البيت.
– ……..
– لا تتأخر”.
نكتشف، في النهاية، أنه لا وجود للمدعو “حسن”، لا وجود للبيت، ولا لشارع مبلل بالمطر، أو ربما كل هذه الموجودات حاضرة بقوة في مخيلة الراوي، الذي يشككنا الكاتب- بطريقته المدهشة في السرد- في وجوده أيضاً. إن “سبع عربات مسافرة”؛ نموذج مبهر لصعود ضمير “أنت” في سماء السرد العربي.
سبع عربات مسافرة؛ حين تصبح “الأنت” جزءًا من القَصّ
محمد عبد المنعم زهران كاتبٌ مفتتن بالتفاصيل، يشيد من أشيائه الصغيرة عالماً مدهشاً في غاية الدقة والكمال، حيث تبدو المَشاهد أكثر جاذبية، وأكثر وضوحاً.. تسحبنا شخوص قصصه نحو بؤرة الحدث بقوة وجاذبية، حيث تتفوق رغبة الشخصيات على رغبة الكاتب- المتربص في خلفية السرد- على استلام زمام الأمور وتوجيه دفة الحكي. يقول الكاتب في تصديره للمجموعة: “أعتقد أنه وبمجرد أن أحكي، يتشيَّد العالم وفق طريقتي البسيطة للعيش”.
إن المتتبع لأعمال زهران القصصية يلاحظ أن هذه الطريقة البسيطة للعيش والتي يُسمع نبضها جليَّا في أعماله السابقة، وفي كل قصص المجموعة التي نحن بصدد الحديث عنها، هي طرق العيش ذاتها، الخاصة بالشخصيات. حتى لنشعر أن كل شخصية من تلك الشخصيات قد عاشت شطراً كبيراً من حياتها مع الكاتب، وتشاركت معه صروف الحياة. إن الكاتب قد أحب شخوص قصصه، بلا ريب، وقضى معهم أوقاتاً طويلة، مما حدا بكل شخصية أن تزاحم الكاتب في مهمته الوحيدة (الكتابة)، فنجده يتنحى جانباً – مرغماً أو بإرادته- مُفسحاً الطريق لبطل القصة: قائد القطار، بائع العسلية، صديقه القتيل، النادل، صاحب المقهى، والطفل الذي يلعب مع أصدقائه لعبة الاستخفاء.. إلخ، كي يسرد قصته بنفسه، من منظور وظيفته ومن واقع حياته، وعبر رؤاه الشخصية، متوجهاً بحديثه هذا أو بحكايته الشخصية تلك إلى القارئ وإلى الكاتب على حد سواء وذلك عن طريق “تيار الوعي”، كما ألفناه في النصوص السردية في القرن الأخير، فبفضل ضمير المخاطب “أنت” يمكن أن تتحول القصص– كما يقول دكتور خيري دومة في كتابه “أنت: ضمير المخاطب في السرد العربي”- إلى عالم مربك على حافة الحلم أو الجنون، لأنك لا تعلم مَن يتحدث إلى مَن في هذا العالم القصصي، أو، على الأقل، لأن شخصيات هذا العالم محمومة لا تكف عن حديث المحمومين إلى أنفسهم، ولكن أمامنا نحن القراء، وعلى مسمع منا، وبطريقة تكاد تمحو المسافة المستقرة نسبيًّا، بين الراوي والبطل والمروي عليه والقارئ الفعلي.. ففي قصة “أصابعي منك في أطرافها قبلُ، تسرد كل شخصية من شخصيات القصة موقفها، إلا إن الكاتب يتدخل، بصفته كاتباً، بين الفينة والأخرى. تلك القصة، يستهلها مدير المطعم هكذا:”أنا سعيدٌ لأنني سأروي هذه القصة بنفسي، توقَّف أنت!! أنت كتبتَ الكثير من القصص، اتركني من فضلك، هذا وقتٌ ملائمٌ تماماً لأروي حكاية ما، في النهاية أنا مدير المطعم الذي جرى فيه كل شيء، وسأروي كل ما حدث كما رأيته، دون خيال؛ كما اعتدت أنتَ أن تكتب”. لكن الكاتب لا يترك الأمور تسير كيفما اتفق، فيتدخل في الحوار وفي طريقة السرد بين الحين والأخر ليوجّه ويعطي نصائحه: “انتظر.. انتظر قليلاً، أرى أنه من الملائم أن أتدخل لألفت نظرك إلى تفاصيل أخرى لا يمكن تجاهلها…” هكذا يتدخل الكاتب في معظم قصص المجموعة ليسرد جزءا من الأحداث أو ليصحح مسار واتجاه القصة. قد لا يظهر طيف الكاتب- في بعض قصص المجموعة- إلا عندما يُوَجَّه إليه الحديث كما في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها: سبع عربات مسافرة، حيث نكتشف في النهاية أن صاحب القطار كان- طوال القصة- يحلم، بعد حادثة القطار الشهيرة التي راح ضحيتها مئات الركاب.. يقول قائد القطار في نهاية القصة: “… وأنت، أنت الذي تكتب، أتتذكر؟ كنتَ آخر راكبٍ يغادر القطار، في المحطة السابقة لتحركه إلى الكارثة…”، لنكتشف في آخر أسطر القصة أن الكاتب الذي غادر القطار لينجو من الزحام قد لحق بالعربة السابعة، والأخيرة، بعد تردد، كي يلقى حتفه هو الآخر، مثل كل شخوص القصة بما فيهم قائد القطار الذي يحكي، وبهذا تصبح القصة الشبحية التي قرأناها للتو، قد سُردت أحداثها على لسان أشباح قتلى القطار أنفسهم: “لم أكن أعرف أبدا أنك عاودت الركوب في العربة السابعة، قبل أن يتحرك القطار، بعد أن ترددتَ قليلاً، وكنت تنوي كتابة قصة جميلة عن أحلام ركاب بسطاء تغمرهم سكينة غامضة في سبع عربات مسافرة، تتحرك في هدوء.” .
“أصبح ضمير المخاطب هذا يشير إلى الراوي المتكلم وهو منقسم على ذاته يكلمها ويذكِّرها، كما يشير وفي اللحظة نفسها، إلى القارئ الذي لا يستطيع أن يتفادى الاصطدام بهذا الضمير، إذ يتوجه إليه بالخطاب، فيفاجئه ويربكه”.
إن أسلوب السرد بهذا “الأنت” إذ يتوجه به السارد إلى نفسه وإلى القارئ في الوقت ذاته فيفاجئه ويربكه، بينما يقف الكاتب هناك؛ في خلفية ضبابية، ينظر إلى القراء منقسماً على ذاته، مبتسماً، بينما قرينه، أو شبيهه الطيفيّ الآخر، المنبثق من جسده المادي، يشرع في كتابة قصته/ قصتك/ قصتكما، وقصة الإنسانية البسطة، المعذبة.. في ذلك الفضاء، كلنا مُثُل بأرواحنا وأجسادنا وكل شيء أرضيّ، هو واقعي وملموس، وطيفي وسماويّ في ذات الوقت.. هناك، حيث يصبح الجسد، في تلك المنطقة الضبابية- كما يقول ميشال فوكو-: ” جسدٌ غامض، جسدٌ قابل ٌ للنفاذ وغير مُنفذ، جسد مفتوح ومغلق، جسدٌ طوباوي. جسدٌ مرئيّ بشكل مطلق، من جانب واحد: أعرفُ جيداً معنى أن يُنظر إليك من شخص آخر من رأسك حتى أخمص قدميك، أعرف ما يعنيه أن تتم مراقبتك من وراء، وأن تُراقَب من أعلى الكتف، وأن تُفاجَأ رغم توقعك للأمر..”. هكذا، نكاد نصل إلى مرتبة اليقين أن الكاتب لم يفعل شيئاً سوى أنه تلقى- على يد قرينه الذي يسكنه، ذلك الآخر الذي عاصر الأحداث المختلفة ورآها بأم عينيه- مسودات هذه القصص، وأنه (أي الكاتب) جلس ليقرأ مثلما جلسنا لنقرأ. في قصة “مطر خفيف”، يتداخل الجسدان؛ جسد الكاتب وجسد القتيل حتى لا نستطيع أن نجزم من المقتول فيهما، من ينطلق وراء مَن؟ من منهما الذي تطوح جسده ليخرّ صريعاً على أرض موحلة مشبعة بالمطر؛ يقول: “لأقدامي التي تمشي صوت مكتوم على أرضية الشارع… لأقدامه صوت مكتوم أيضا… دائماً كلما اسرعت في المشي تتسارع خطواته أيضا…” هكذا حتى تتوقف قدماه أمام بيت القتيل:
“في المكان المناسب توقفتُ، فتوقفت قدماه، أمسكتُ هاتفي:
– ألوو “حسن”.
– ……..
– أنا أنتظرك أمام البيت.
– ……..
– لا تتأخر”.
نكتشف، في النهاية، أنه لا وجود للمدعو “حسن”، لا وجود للبيت، ولا لشارع مبلل بالمطر، أو ربما كل هذه الموجودات حاضرة بقوة في مخيلة الراوي، الذي يشككنا الكاتب- بطريقته المدهشة في السرد- في وجوده أيضاً. إن “سبع عربات مسافرة”؛ نموذج مبهر لصعود ضمير “أنت” في سماء السرد العربي.
سبع عربات مسافرة؛ حين تصبح “الأنت” جزءًا من القَصّ