- 2 -
مضت ساعة على هذه الحال ولم نصل بعد إلى مخرج الوادي، فقال صاحبي ألا من نهاية لهذا الوادي؟ فقلت لم يبق إلا ساعة واحدة، فقال وماذا بعد ذلك؟ قلت إما أن نقصد (طره) ونركب القطار إلى باب اللوق، وأما أن نذهب إلى المنشية عن طريق البساتين ومدافن الإمام الشافعي. فقال أنه يفضل الطريق الأخير، فقلت لا بأس وعلى كل حال فالزمن اللازم لقطع المسافة في الحالتين لا يقل عن ساعتين من مدخل الوادي، فتضجّر صاحبي ونظر إلى ساعته ثم قال. . أننا لن نصل إلى بيوتنا قبل نصف الليل. فلم أجبه بشيء، وبعد سكون طويل عاد وسألني: هل من خوف علينا في هذه الجهات النائية الموحشة من الوحوش أو اللصوص؟ فقلت كن مطمئنا فالله معنا وهو يحمينا. فقال: كيف ذلك وليس معنا ما ندفع به عن أنفسنا غير هذه العصا (مشيرا إلى عصا قصيرة كنت أحملها في يدي) وقبل أن أجيبه عن سؤاله عثرت قدماه بحجر كبير فكاد يسقط، فتألم وتضجر ثم سكت، وغشينا سكون عميق، لا نسمع فيه غير وقع أقدامنا على أرض الوادي الصخرية وصفير الريح في صدوع الصخور وثقوبها.
ولا أطيل القول. فقد كانت الساعة التاسعة عندما وصلنا مدخل الوادي. وما كدنا نتجه نحو بلدة البساتين حتى أمطرتنا السماء مدرارا مرة أخرى، واشتد الظلام حتى لا نرى أمامنا أكثر من نصف المتر، ولكن ذلك لم يمنعنا من الاستمرار في السير والجد فيه، ثم أخذنا نرتقي أول تل في طريقنا وهو يرتفع عن السهل نحو 50 مترا. وحدث هنا أمر كان يقضي علي لولا لطف الله في تلك الليلة الليلاء، فعندما كنا نتسلق التل إلى ظهره صاح بي صاحبي مستنجدا فالتفت فجأة إلى الوراء لأتبين ما حل به، وكنت متشبثا بكلتا يدي بحجر في جدار التل، فلم أشعر إلا وقد زلقت يداي واختل توازني وأخذ جسمي يتدحرج بعنف إلى الأرض، ولكن قدرت لي السلامة، فصدمني حجر آخر منعني من الهبوط بعد أن أصبت في رأسي وركبتي إصابة بسيطة، ولما استعدت توازني انتصبت واقفا وأنا أكاد لا أصدق بالنجاة، ثم سمعت صاحبي يناديني وقد بلغ ظهر التل، فاتكأت على عصاي وأخذت طريقي إليه وفي رأسي دوار من أثر الصدمة، وعندما أدركته استرحنا قليلا وقد سرى عني بعض الغم، ثم لحظت الريح تهب من الجنوب الغربي فاستغربت ذلك وأدركت السر في وجودنا مكان يبعد عن الغابة المتحجرة الكبرى بنحو 12 كيلو مترا جهة الجنوب الغربي مع أن سيرنا منذ الظهر كان في اتجاه الشمال حسب ظني. فلما تغير اتجاه الريح من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي درنا معها في منحنى واسع من غير انتباه. فلما استرحنا قمنا متجهين نحو البساتين فبعد أن قطعنا في التل مسافة طويلة أخذنا ننحدر نحو القرية، وهنا انقشعت السحب وصفا أديم السماء وظهرت النجوم فألقيت نظرة على ما حولي ولشد ما دهشت حين وجدتنا لا نزال نسير أمام مدخل وادي دجلة قاطعين عرض المدخل من الجنوب إلى الشمال؛ فكظمت دهشتي وحيرتي وعدلت اتجاهي مرة أخرى. وعدنا فارتقينا التل مرة أخرى وبعد قليل تبين لي أيضاً أننا لا نزال نسير أمام وادي دجلة. أمر غريب محير لم أر في تعليله إلا شيئا واحدا وهو أن رأسي فقد الاتجاه! فلما صرت إلى هذه الحال أشرت على صاحبي بالجلوس للراحة، فقال ولماذا؟ فقلت له قد ضللنا الطريق مرة أخرى! فما كاد يسمع هذه الكلمة حتى خارت قواه وسقط على الأرض، وأخذت جسمه رعدة شديدة، وأقسم أنه لا يبرح مكانه، ثم استولى عليه النعاس فنام نوما عميقا، فجلست بجانبه وأخذت أفكر في الأمر وأنا حزين بائس، وقام بعقلي أن أعود إلى الوادي ملتمسا لنا ملجأ نأوي إليه حتى الصباح. بيد أني رأيت قبل تنفيذ هذه الفكرة أن أقوم بمحاولة أخيرة، فخلعت سترتي وألبستها عصاي وغرست العصا بالأرض بجانب صاحبي لتكون علما أستدل به عن مكانه عند عودتي، ثم صعدت أعلى قمة بالقرب منا مستكشفا ما حولنا، فأدرت بصري في الجهات الأربع فلمحت جهة الغرب وراء الأفق ضوءا ساطعا ظننته أول وهلة ضوء مصانع شركة الأسمنت بالمعصرة. فهرولت إلى صاحبي أزف إليه هذه البشرى فأيقظته من نومه قائلا لقد أبصرت ضوءا قويا جهة الغرب سوف يهديني طريق السلامة. فلم يكترث لقولي. ويظهر أن النوم كان قد أراح عقله وجسمه نوعا، فنهض في نشاط وقال: هيا بنا مغمغما بكلمات لم أتبينها، ثم اعتمد على كتفي بإحدى يديه وأخذنا نسير وقد عولت هذه المرة أن أتبع مسيل الوادي من غير انحراف، فأخذت طريقي مع مجرى السيل خطوة خطوة، وكان جسمي وعقلي متعبين. وعيناي غائرتين ضعيفتين. وعلى الجملة كانت حالتي سيئة، وكنت أشعر بيده على كتفي كأنها حجر ثقيل. فكنت أنقلها من كتف إلى كتف من غير أن أزعجه في سكونه. بعد أن سرنا على هذه الحال ساعة ونصفا انكشفت أمامنا أضواء شديدة ساطعة انشرح لها صدر صاحبي وعاودته بشاشته، فأخذ يمزح ويعيب هيئتي الرثة، فوجهي مغبر شاحب، وطربوشي من الأمطار فقد شكله وأصبح متهدلا كاسيا رأسي حتى أذني، وبدلتي تقلصت وضاقت؛ فارتفع طرف بنطلوني إلى قرب ركبتي واسترخى جوربي، فغطى حذائي وامتلأ الحذاء بالماء والوحل، وعلى الجملة فإن شكلي كان مضحكا وهيئتي تدعو إلى الشفقة والرثاء.
بعد أن فرج صاحبي بعض كربه بأمثال هذه المهاترة سألني فيم أفكر؟ فقلت أني أستغرب وجود هذه الأضواء الشديدة في هذه البقعة؛ فقال مازحاً: لا تستغرب فربما كان الجن قد نصبوا لهم هنا عرسا، فقلت تعوّذ بالله فحسبنا ما أصابنا هذا اليوم. وبينما نحن في هذا الحوار سمعنا صوتا غريبا يرن في الفضاء، فوجمنا لهذه المفاجأة الجديدة ثم أنصتنا بشدة خلت معها أني أسمع دبيب الحشرات في بطن الأرض، وأخذنا نحدق يمينا وشمالا عسى أن نهتدي لمصدر الصوت فلم نر شيئا. وبينما نحن في اضطراب وحيرة رن الصوت في الفضاء ثانية، وكان في هذه المرة جليا: سمعنا (هولت!) (هولت!) فقلت لصاحبي بلهفة: قف! فقال ما الخطب؟ قلت يظهر أننا في وسط معسكر للجنود الإنجليزية، فقال يا سوء المصير! فقلت له اطمئن ولا تخف، وبعد قليل تقدم إلينا ثلاثة من الجنود الإنجليزية مدججين بالسلاح وسألونا هل معكم سلاح؟ فأجبنا مأخوذين ليس معنا سوى هذه العصا. فقالوا تقدما، فتقدمنا ثم قادونا إلى خيمة قريبة مضروبة بالقرب من المعسكر فوجدنا بها ضابطا شابا على كرسي وأمامه منضدة وهو مشغول بالقراءة في كتاب أمامه. فلما لمحنا نظر إلينا شزراً وسألنا وهو يتثاءب: هل أنتما هاربان من المعسكر؟ فأجبت: لسنا جنودا، فقال بخشونة: أقصد أنكما أسيران هاربان من المعسكر، فقلت: عفوا لسنا من الأسرى، فقال وهو يحملق فينا: من أنتما إذن؟ فقلت: أنا فلان ووظيفتي كذا وزميلي فلان ووظيفته كذا، فكتب ذلك في ورقة أمامه، ثم قال: ما خطبكما؟ فقصصت عليه حكايتنا بإيجاز، فلم يكد يسمع طرفا منها حتى اعتدل في كرسيه وألقى الكتاب جانبا، وأصغى إلينا بانتباه، وما كدت أنتهي حتى مد يده إلينا مصافحا ثم غمرنا بلطفه وكرمه، أمر لنا بكرسيين من القماش فجلسنا، ثم أمر لنا بقدحين من الشاي وبعض البسكويت فشربنا وأكلنا، وبعد أن شكرته على إحسانه وجميل عواطفه قال أن واجبه يقضي عليه بعد أن سمع قصتنا، وتحقق من صدقنا أن يخلي سبيلنا، ولكنه يرى أننا في غاية التعب والضعف، فهو يدعونا لنكون في ضيافته حتى الصباح، فشكرته كثيرا على معروفه واعتذرت إليه ثم رجوت منه أن يأمر لنا بمرشد يقودنا إلى محطة السكة الحديد، فقال ولماذا لا تمكثان هنا هذه الليلة؟ فقلت ألا ترى يا سيدي أننا في الساعة الثانية صباحا ولا بد أن أولادنا الآن في قلق شديد على مصيرنا. وقبيح بنا أن نطيل عذابهم أكثر من ذلك، فاطرق قليلا ثم أمعن النظر فينا وقال: حسنا هيا بنا. فأركبنا سيارة أقلتنا إلى محطة طره، ثم ركبنا القطار إلى باب اللوق، ومنها قصدنا منزلينا شاكرين لله سبحانه فضل العناية والرعاية.
=================
(في المقالة الأولى وصف الكاتب كيف ظل هو وصديقه في جبل المقطم حتى اهتديا بعد الغروب إلى واد لهما به معرفة سابقة، وهو وادي دجلة، فاتخذا طريقهما فيه نحو مدخله.)
مجلة الرسالة - العدد 7
بتاريخ: 15 - 04 - 1933
محمد الدمرداش محمد
مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
مضت ساعة على هذه الحال ولم نصل بعد إلى مخرج الوادي، فقال صاحبي ألا من نهاية لهذا الوادي؟ فقلت لم يبق إلا ساعة واحدة، فقال وماذا بعد ذلك؟ قلت إما أن نقصد (طره) ونركب القطار إلى باب اللوق، وأما أن نذهب إلى المنشية عن طريق البساتين ومدافن الإمام الشافعي. فقال أنه يفضل الطريق الأخير، فقلت لا بأس وعلى كل حال فالزمن اللازم لقطع المسافة في الحالتين لا يقل عن ساعتين من مدخل الوادي، فتضجّر صاحبي ونظر إلى ساعته ثم قال. . أننا لن نصل إلى بيوتنا قبل نصف الليل. فلم أجبه بشيء، وبعد سكون طويل عاد وسألني: هل من خوف علينا في هذه الجهات النائية الموحشة من الوحوش أو اللصوص؟ فقلت كن مطمئنا فالله معنا وهو يحمينا. فقال: كيف ذلك وليس معنا ما ندفع به عن أنفسنا غير هذه العصا (مشيرا إلى عصا قصيرة كنت أحملها في يدي) وقبل أن أجيبه عن سؤاله عثرت قدماه بحجر كبير فكاد يسقط، فتألم وتضجر ثم سكت، وغشينا سكون عميق، لا نسمع فيه غير وقع أقدامنا على أرض الوادي الصخرية وصفير الريح في صدوع الصخور وثقوبها.
ولا أطيل القول. فقد كانت الساعة التاسعة عندما وصلنا مدخل الوادي. وما كدنا نتجه نحو بلدة البساتين حتى أمطرتنا السماء مدرارا مرة أخرى، واشتد الظلام حتى لا نرى أمامنا أكثر من نصف المتر، ولكن ذلك لم يمنعنا من الاستمرار في السير والجد فيه، ثم أخذنا نرتقي أول تل في طريقنا وهو يرتفع عن السهل نحو 50 مترا. وحدث هنا أمر كان يقضي علي لولا لطف الله في تلك الليلة الليلاء، فعندما كنا نتسلق التل إلى ظهره صاح بي صاحبي مستنجدا فالتفت فجأة إلى الوراء لأتبين ما حل به، وكنت متشبثا بكلتا يدي بحجر في جدار التل، فلم أشعر إلا وقد زلقت يداي واختل توازني وأخذ جسمي يتدحرج بعنف إلى الأرض، ولكن قدرت لي السلامة، فصدمني حجر آخر منعني من الهبوط بعد أن أصبت في رأسي وركبتي إصابة بسيطة، ولما استعدت توازني انتصبت واقفا وأنا أكاد لا أصدق بالنجاة، ثم سمعت صاحبي يناديني وقد بلغ ظهر التل، فاتكأت على عصاي وأخذت طريقي إليه وفي رأسي دوار من أثر الصدمة، وعندما أدركته استرحنا قليلا وقد سرى عني بعض الغم، ثم لحظت الريح تهب من الجنوب الغربي فاستغربت ذلك وأدركت السر في وجودنا مكان يبعد عن الغابة المتحجرة الكبرى بنحو 12 كيلو مترا جهة الجنوب الغربي مع أن سيرنا منذ الظهر كان في اتجاه الشمال حسب ظني. فلما تغير اتجاه الريح من الشمال الغربي إلى الجنوب الغربي درنا معها في منحنى واسع من غير انتباه. فلما استرحنا قمنا متجهين نحو البساتين فبعد أن قطعنا في التل مسافة طويلة أخذنا ننحدر نحو القرية، وهنا انقشعت السحب وصفا أديم السماء وظهرت النجوم فألقيت نظرة على ما حولي ولشد ما دهشت حين وجدتنا لا نزال نسير أمام مدخل وادي دجلة قاطعين عرض المدخل من الجنوب إلى الشمال؛ فكظمت دهشتي وحيرتي وعدلت اتجاهي مرة أخرى. وعدنا فارتقينا التل مرة أخرى وبعد قليل تبين لي أيضاً أننا لا نزال نسير أمام وادي دجلة. أمر غريب محير لم أر في تعليله إلا شيئا واحدا وهو أن رأسي فقد الاتجاه! فلما صرت إلى هذه الحال أشرت على صاحبي بالجلوس للراحة، فقال ولماذا؟ فقلت له قد ضللنا الطريق مرة أخرى! فما كاد يسمع هذه الكلمة حتى خارت قواه وسقط على الأرض، وأخذت جسمه رعدة شديدة، وأقسم أنه لا يبرح مكانه، ثم استولى عليه النعاس فنام نوما عميقا، فجلست بجانبه وأخذت أفكر في الأمر وأنا حزين بائس، وقام بعقلي أن أعود إلى الوادي ملتمسا لنا ملجأ نأوي إليه حتى الصباح. بيد أني رأيت قبل تنفيذ هذه الفكرة أن أقوم بمحاولة أخيرة، فخلعت سترتي وألبستها عصاي وغرست العصا بالأرض بجانب صاحبي لتكون علما أستدل به عن مكانه عند عودتي، ثم صعدت أعلى قمة بالقرب منا مستكشفا ما حولنا، فأدرت بصري في الجهات الأربع فلمحت جهة الغرب وراء الأفق ضوءا ساطعا ظننته أول وهلة ضوء مصانع شركة الأسمنت بالمعصرة. فهرولت إلى صاحبي أزف إليه هذه البشرى فأيقظته من نومه قائلا لقد أبصرت ضوءا قويا جهة الغرب سوف يهديني طريق السلامة. فلم يكترث لقولي. ويظهر أن النوم كان قد أراح عقله وجسمه نوعا، فنهض في نشاط وقال: هيا بنا مغمغما بكلمات لم أتبينها، ثم اعتمد على كتفي بإحدى يديه وأخذنا نسير وقد عولت هذه المرة أن أتبع مسيل الوادي من غير انحراف، فأخذت طريقي مع مجرى السيل خطوة خطوة، وكان جسمي وعقلي متعبين. وعيناي غائرتين ضعيفتين. وعلى الجملة كانت حالتي سيئة، وكنت أشعر بيده على كتفي كأنها حجر ثقيل. فكنت أنقلها من كتف إلى كتف من غير أن أزعجه في سكونه. بعد أن سرنا على هذه الحال ساعة ونصفا انكشفت أمامنا أضواء شديدة ساطعة انشرح لها صدر صاحبي وعاودته بشاشته، فأخذ يمزح ويعيب هيئتي الرثة، فوجهي مغبر شاحب، وطربوشي من الأمطار فقد شكله وأصبح متهدلا كاسيا رأسي حتى أذني، وبدلتي تقلصت وضاقت؛ فارتفع طرف بنطلوني إلى قرب ركبتي واسترخى جوربي، فغطى حذائي وامتلأ الحذاء بالماء والوحل، وعلى الجملة فإن شكلي كان مضحكا وهيئتي تدعو إلى الشفقة والرثاء.
بعد أن فرج صاحبي بعض كربه بأمثال هذه المهاترة سألني فيم أفكر؟ فقلت أني أستغرب وجود هذه الأضواء الشديدة في هذه البقعة؛ فقال مازحاً: لا تستغرب فربما كان الجن قد نصبوا لهم هنا عرسا، فقلت تعوّذ بالله فحسبنا ما أصابنا هذا اليوم. وبينما نحن في هذا الحوار سمعنا صوتا غريبا يرن في الفضاء، فوجمنا لهذه المفاجأة الجديدة ثم أنصتنا بشدة خلت معها أني أسمع دبيب الحشرات في بطن الأرض، وأخذنا نحدق يمينا وشمالا عسى أن نهتدي لمصدر الصوت فلم نر شيئا. وبينما نحن في اضطراب وحيرة رن الصوت في الفضاء ثانية، وكان في هذه المرة جليا: سمعنا (هولت!) (هولت!) فقلت لصاحبي بلهفة: قف! فقال ما الخطب؟ قلت يظهر أننا في وسط معسكر للجنود الإنجليزية، فقال يا سوء المصير! فقلت له اطمئن ولا تخف، وبعد قليل تقدم إلينا ثلاثة من الجنود الإنجليزية مدججين بالسلاح وسألونا هل معكم سلاح؟ فأجبنا مأخوذين ليس معنا سوى هذه العصا. فقالوا تقدما، فتقدمنا ثم قادونا إلى خيمة قريبة مضروبة بالقرب من المعسكر فوجدنا بها ضابطا شابا على كرسي وأمامه منضدة وهو مشغول بالقراءة في كتاب أمامه. فلما لمحنا نظر إلينا شزراً وسألنا وهو يتثاءب: هل أنتما هاربان من المعسكر؟ فأجبت: لسنا جنودا، فقال بخشونة: أقصد أنكما أسيران هاربان من المعسكر، فقلت: عفوا لسنا من الأسرى، فقال وهو يحملق فينا: من أنتما إذن؟ فقلت: أنا فلان ووظيفتي كذا وزميلي فلان ووظيفته كذا، فكتب ذلك في ورقة أمامه، ثم قال: ما خطبكما؟ فقصصت عليه حكايتنا بإيجاز، فلم يكد يسمع طرفا منها حتى اعتدل في كرسيه وألقى الكتاب جانبا، وأصغى إلينا بانتباه، وما كدت أنتهي حتى مد يده إلينا مصافحا ثم غمرنا بلطفه وكرمه، أمر لنا بكرسيين من القماش فجلسنا، ثم أمر لنا بقدحين من الشاي وبعض البسكويت فشربنا وأكلنا، وبعد أن شكرته على إحسانه وجميل عواطفه قال أن واجبه يقضي عليه بعد أن سمع قصتنا، وتحقق من صدقنا أن يخلي سبيلنا، ولكنه يرى أننا في غاية التعب والضعف، فهو يدعونا لنكون في ضيافته حتى الصباح، فشكرته كثيرا على معروفه واعتذرت إليه ثم رجوت منه أن يأمر لنا بمرشد يقودنا إلى محطة السكة الحديد، فقال ولماذا لا تمكثان هنا هذه الليلة؟ فقلت ألا ترى يا سيدي أننا في الساعة الثانية صباحا ولا بد أن أولادنا الآن في قلق شديد على مصيرنا. وقبيح بنا أن نطيل عذابهم أكثر من ذلك، فاطرق قليلا ثم أمعن النظر فينا وقال: حسنا هيا بنا. فأركبنا سيارة أقلتنا إلى محطة طره، ثم ركبنا القطار إلى باب اللوق، ومنها قصدنا منزلينا شاكرين لله سبحانه فضل العناية والرعاية.
=================
(في المقالة الأولى وصف الكاتب كيف ظل هو وصديقه في جبل المقطم حتى اهتديا بعد الغروب إلى واد لهما به معرفة سابقة، وهو وادي دجلة، فاتخذا طريقهما فيه نحو مدخله.)
مجلة الرسالة - العدد 7
بتاريخ: 15 - 04 - 1933
محمد الدمرداش محمد
مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف