سجل شالوم وايزمان في هذه المذكرات، مرحلة طفولته وشبابه في ملاح الدار البيضاء خلال فترة الحماية الفرنسية، وما تخلل هذه الفترة من أحداث، أهمها نزول الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، واستقلال المغرب، وحال الضياع الثقافي الذي عاناه اليهود، وكذلك الأوضاع الاجتماعية المزرية. ثم روى رحلته إلى إسرائيل للمشاركة في ما يسميه “حرب استقلال إسرائيل”، واحتجازه في مخيم في قبرص، وعودته إلى المغرب ليهاجر بصفة نهائية مع عائلته إلى إسرائيل. وأفاض في استعراض صعوبات اندماج المغاربة اليهود في الحياة الجديدة هناك، وما عانوه من ظروف معيشية قاسية وميز عنصري واحتجاجهم على أوضاعهم.
كان فرض الحماية الفرنسية على المغرب في 1912 تتويجا لعقود من تربص الغرب الإمبريالي بالمغرب، وخلالها دخل المغرب ما يعرف بمرحلة التحولات الكبرى، فكانت الصدمة عنيفة والتحولات سريعة، وليس بعد “أحقاب متطاولة”، وفقا للتعبير الخلدوني، زلزت بنية الدولة والمجتمع، فكانت الطائفة اليهودية أكثر تأثرا بها، فحصل لها تحول في الأنموذج، أي تغير في نظرتها إلى نفسها والعالم وعلاقتها بالآخر. وشكلت هذه التحولات الخيط الناظم لمذكرات شالوم وايزمن.
صدرت المذكرات باللغة الإنجليزية في نسخة الكترونية بصيغة Kindle وقسمها المؤلف على 20 عنوانا سنكتفي بالوقوف على بعضها؛ لأن المقام لايتسع لها كلها. ومما تجدر الإشارة إليه أن المذكرات يشوبها اضطراب في الترتيب الزماني والمكاني حاولت تفاديهما قدر الإمكان.
استهل شالوم مذكراته بتقديم كرنولوجيا لأهم أحداث حياته، فذكر أنه ولد في 1923 بمدينة الدار البيضاء وتلقي تعليمه في “الحدر” (التعليم التقليدي) في الفترة من 1926 إلى 1929، ثم انتقل إلى مدرسة الرابطة اليهودية العالمية فقضى بها نحو خمس سنوات ليخرج إلى سوق العمل ويعمل في مصنع للأحذية. وخلال الحرب العالمية الثانية تطوع للقتال في صفوف الجيش الفرنسي، وفي الفترة من 1948 إلى 1950 قاتل في صفوف منظمة “الهاكَانا” بفلسطين، ثم عاد إلى الدار البيضاء. وبعد نحو ست سنوات من عودته هاجر مع والديه وإخوانه إلى فلسطين حيث مكث هناك إلى 1968 ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
تحدث وايزمان في العنوان الأول من مذكراته عن أصول عائلته، وعن الحياة في ملاح الدار البيضاء وعن جيرانهم اليهود والمسلمين وطبيعة علاقتهم بهؤلاء.
“لا تقترب من العرب” وبهذه العبارة كانت والدة شالوم تحذره كلما هم بالخروج للعب في أزقة ملاح الدار البيضاء حيث قضى طفولته وشبابه. وعن أصول عائلته يقول إن اسمه العائلي “وايزمان” اسم ألماني، ذلك أن رجلا شابا غادر في القرن السادس عشر أو السابع عشر قريته في أوروبا وسافر بعيداً لجمع التبرعات من الجماعات اليهودية لكنيسه، فحط الرحال في مراكش وتزوج من فتاة يهودية محلية، ثم انتقل إلى تازناخت حيث تكاثر نسله، وكان اليهود يعيشون تحت حماية “العرب” (يقصد المسلمين)، وفي هذا الصدد روى شالوم عن والده أن أحد “العرب” من قبيلة أخرى سلب يهوديا وضربه؛ فأمر زعيم تازناخت أن يعاقب الجاني أمام الملأ.
وروى شالوم وايزمن عن والدته، وهي من عائلة عمار، أنها لما كانت ترضعه توسلت إليها جدة طفل مسلم أن ترضع حفيدها الذي عاف ثدي أمه. فقبلت أمه القيام بهذه المهمة؛ لأنها أحبت أن ترد لأم الطفل المعادية لليهود بإرضاع طفلها حليب ثدي يهودي مصحوباَ بتهويدات يهودية.
ومما يدل على تغير نظرة اليهود للأغلبية المسلمة تشبيه شالوم أحد المسلمين بالكلب، فقد حكى في مذكراته عن رجل “عربي” حافي القدمين حَرَنَ حماره المثقل، فظل يضربه ليحثه على المسير، فلما عيل صبره نبح في وجهه: “أسرع يا ابن اليهودي”.
ورأى شالوم أن المغاربة اليهود عانوا من الأوروبيين أكثر من المغاربة “العرب”، وتحدث عن أجواء الحرب العالمية الثانية ومعاناة اليهود القوانين العنصرية لحكومة فيشي. وذكر أنه بعد وجبة يوم السبت الدسمة يتجمع اليهود في ساحة بالملاح لتبادل الأخبار، ومراعاة للسرية كانوا يلقبون الولايات المتحدة بـ “كوهين”، وانجلترا “ليفي”، وألمانيا وحكومة فيشي “الشيطان الأكبر”، و”الشيطان الأصغر”.
وختم شالوم هذه العنصر من مذكراته بالحديث عن فيلم شاهده في مدينة الدار البيضاء. لقد أصبحت السينما في هذه الفترة الفن الشعبي بامتياز، ولم تكن ثمة وسيلة للوصول إلى الجمهور أفضل من الفيلم السينمائي، وقد وظفت الحركة الصهيونية السينما في دعايتها بالمغرب كما كان الشأن في البلدان حيث كانت تنشط. ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن السينما كانت الأداة الأكثر نجاعة التي توسلت بها لتحقيق هدفها، والمتمثل في إحداث تحول في الأنموذج لدى الجمهور بواسطة “سحر الصورة”، وهو سحر فعال له تأثير سريع ومباشر.
ويحمل الفيلم المذكور عنوان “حياة اليهود في بولندا” يصور “معاناتهم” في هذا البلد حيث الثلج، والبرد، والفقر.
ورغم أن شالوم كان صهيونيا، وقاتل في صفوف “الهاكَانا”، فإن تعليقه على الفيلم اتسم بالموضوعية.
يقول: “خلال تلك السنوات كان الفقر في كل مكان، في الولايات المتحدة عاشت الأسر في الخيام وكانت جوعى، وفي باريس وغيرها من المدن الكبيرة، كانت البطالة كثيرة، وكان لكل طابق كامل من السكان مرحاض واحد.
كان اليهود المغاربة محظوظين. كل يوم تشرق الشمس، وكان لنا جيران أفضل من يهود أوروبا البؤساء”.
خصص شالوم العنصر الثاني من مذكراته لمرحلة الدراسة، فذكر أنه ولج “الحدر” وهو في الثالثة من عمره. لقد شكّل “الحدر” مثل “المسيد” لدى المسلمين الشكل الوحيد للتعليم الأساس الذي كان سائدا وسط المغاربة اليهود قبل الحماية.
ووصف المؤلف بتفصيل قاعة الدرس في “الحدر” حيث كان يحشر التلاميذ، وتنعدم أدنى الشروط الصحية، وأن التلاميذ كانوا يتبولون في سطل من فولاذ وضع في الشارع، ومن يريد منهم التغوط يؤذن له بالذهاب إلى بيته.
ولم يغفل المؤلف الحديث عن المواد الدراسية والمناهج المعتمدة. وذكر أن التلاميذ كانوا يحفظون دون أن يفهم أحد منهم ما يقرأ بالعبرية. وأن ستة أطفال إلى سبعة كانوا يقرأون في كتاب واحد.
وعن الأوضاع الاجتماعية التي عاناها اليهود في هذه الفترة أكد شالوم أن الفقر والجوع دفع يهود الجنوب إلى الهجرة نحو الدار البيضاء ومدن كبرى أخرى طلبا للعمل وظروف اجتماعية أفضل. وقد أدت أمواج المهاجرين الجدد إلى زيادة معتبرة في عدد يهود الدار البيضاء، فنتج عن النمو السريع، وفي فترة وجيزة، لسكان المدينة مشاكل اجتماعية لا حصر زادت استفحالا مع مرور الزمن.
إن الزيادة المعتبرة في عدد يهود الدار البيضاء، جعل حصول الأطفال على مقعد في مدرسة الرابطة اليهودية العالمية أمراً صعب المنال، ولم يستطع شالوم الالتحاق بهذه المدرسة إلا بوساطة من إحدى قريباته الحاملة للجنسية البرتغالية والتي تتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، فكانت تعتبر أوروبية بحقوق خاصة بخلاف عامة اليهود الذين كانوا مواطنين من الدرجة الثانية وفقا لشالوم,
وقد أجاد المؤلف وأفاد في تصوير حال الضياع الثقافي الذي عانه المغاربة اليهود خلال هذه الفترة، فقال: “كنا جميعا نحيى حيوات مختلفة في معيشنا اليومي. نتحدث الفرنسية في المدرسة، واللهجة اليهودية-المغربية في البيت، ونقرأ العبرية في البيعة”.
وواصل شالوم في العنوان الرابع الحديث عن هذه الأوضاع الثقافية للمغاربة اليهود، فقال في هذا الصدد: “ومن السخرية أن ندرس تاريخ فرنسا وجغرافيتها بكل تعقيداتها ونتجاهل تماما تاريخ المغرب وجغرافيته”
وقد سجل في هذا العنوان جانبا من الأوضاع الاجتماعية المزرية التي كابدها اليهود،. وعن معاناته الشخصية، والتي تجسد معاناة معظم اليهود فقال: “إن الشتاء البارد والمطر الغزير جعلا حياتي بئيسة. إذ أن فردة من حذائي ضاع كعبها، والأخرى بها ثقب في أسفلها. وعندي معطف خفيف، ودائما أشعر بالبرد”. ونقل عن شاعر فرنسي قوله: “الشتاء عدو الفقراء”، “وهذا كان يصدق على معظمنا” كما أكده الكاتب.
وفي العنوان السادس توقف شالوم وايزمن عن التغيير في أسلوب لباس المغاربة اليهود نتيجة التأثير الاستعماري، فتحدث عن عهد تاق فيه الشباب اليهودي إلى هجر التأثير العربي القروسطي، ومعانقة الثقافة الفرنسية. وكانت للفتيات نزعة أشد من الفتيان للتعلق باللغة الفرنسية والأساليب النسائية في اللباس. وتسخر أغنية من الفتيات الصغار اللواتي لبسن كعوبا عالية وغيرن أسماءهن لتصبح فرنسية. تقول الأغنية: “بدلا من يطو أصبحت دينيس بالشعر القصير والكعب العالي”.
وتحدث المؤلف عن جانب مهم من التحول الذي مس الحياة الاجتماعية للمرأة اليهودية والمتمثل في خروجها إلى العمل خارج البيت، وذلك في ظل الواقع الجديد الذي فرضته الحماية، مما جعل الأدوار تنقلب بينها وبين الرجل، الذي أصبح أحيانا يبقى في البيت ليقوم بما تقوم به من طبخ وتنظيف وأشغال منزلية، وهذا يعتبر كارثة للرجل في الثقافة المغربية، حسب شالوم، عند تعليقه على خروج عمته وبناتها إلى العمل، وقيام زوجها بالمهام المنزلية.
خصص الكاتب مادة العنوان الثامن لدخوله إلى سوق العمل واستهله بالحديث عن رياح الأزمة الاقتصادية العالمية التي وصلت ريحها إلى المغرب ولم تستثن أحداً. وفي ظل هذه الأوضاع، لم يكن والد شالوم يكف عن توبيخه بالقول: “شالوم أقبل على تعلم حرفة، وإن كنت تريد القراءة، فعليك بالجيمارا أو التلمود بدل إهدار وقتك في كتب الجوييم (الأغيار)”. غير أن وايزمان كان يتجاهل مقالة والده ويقرأ كتب “الجوييم” وصحيفة لوبوتي ماروكان Le Pettit Marocain)) وخاصة أعمدتها السياسية، فاكتسب ثقافة سياسية ساعدته على التمييز بين الأحزاب السياسية الفرنسية. وأصبح شغوفا بقراءة خطب السياسي المفضل لديه، ليون بلوم، Leon Blum)) الذي لم يخف إعجابه بأفكاره الاشتراكية.
وفقا لوثائق هذه الفترة التي اطلعت عليها، فقد نتج عن انتشار التعليم وسط اليهود أزمة تشغيل حادة بين الشباب، إذ أن هؤلاء الذين كان يتم إعدادهم للوظائف المكتبية، سرعان ما ظهر أنه لا يمكن استيعابهم في الإدارة أو القطاع الخاص، وحصل الاقتناع بضرورة تحويل جزء منهم نحو التكوين المهني.
ومن ثم تجندت الصحافة الصهيونية بالدار البيضاء للترويج لأهمية التكوين المهني للشباب اليهودي، والإعلاء من قيمة العمل المهني. وفي هذا السياق التحق شالوم بالمدرسة المهنية للرابطة وهو في سن الثالثة عشرة وقد جرب تعلم عدة حرف لكنه لم يفلح، الأمر الذي أغضب والده الذي يعمل صباغا فأتخذه مساعدا له، وبعد ذلك وجد له شقيقه الأكبر عملا في مطبعة لوبوتي ماروكان.
وفي العنوان التاسع: “الإضراب” تحدث شالوم وايزمن عن انتقاله للعمل في مصنع لصناعة الأحذية يملكه شخص قال عنه إنه ولد في تركيا، وكان يدخن خلال شهر رمضان، بعد أن يتوارى من “العرب”. وذات يوم أعلن شقيقه أمام عمال المصنع أنه مناصر للإخوان المسلمين ويكره الفرنسيين.
تزعم الكاتب إضرابا للعمال احتجاجا على أوضاعهم، وكان حينها يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، أي في 1940 خلال الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي عانى فيها اليهود القوانين العنصرية لحكومة فيشي، وذكر شالوم أن عملية إحصاء ممتلكات اليهود، ومنها الذهب والمجوهرات تحولت إلى مزحة كبرى في أوساط اليهود إذ كانوا يحذرون بعضهم بعضا: “إذا كنت تملك ذهبا فلا تضعه تحت اللحاف؛ لأن هذا هو المكان الذي يفتشه كارهو اليهود”.
وذكر أن شائعات راجت خلال هذه الفترة مفادها أن الألمان يُحضّرون بمساعدة الفرنسيين، والإسبان، والإيطاليين الفاشيين لنقل المغاربة اليهود إلى معسكرات الاعتقال. فأرسل الكثير من اليهود أطفالهم أو ذهبوا مع عائلاتهم ليختبئوا في قرى جنوب المغرب الصغيرة.
وخصص شالوم وايزمن العنوان الحادي عشر من مذكراته للحرب العالمية الثانية؛ فأكد ما ورد في وثائق هذه الفترة وصحافتها من أن الفاشيين الفرنسيين والإيطاليين والإسبان كانوا يحضرون لتنفيذ مذابح لليهود في المدن الكبرى، ومنها مدينة الدار البيضاء التي كانت تؤوي أكبر عدد من يهود المغرب، وحدد يوم 15 نوفمبر 1942 لتنفيذه، فكتبت على الجدران عبارات معادية لليهود وعلقت ملصقات. غير أن نزول الحلفاء قبل أسبوع من التاريخ المذكور أحبط هذا المخطط. وقد عاين شالوم وايزمن دخول الأمريكيين إلى الدار البيضاء وأسهب في وصف هذه الأحداث.
وذكر أنه في الأسبوع الثالث بعد الإنزال توجه مع مجموعة من الشباب اليهود إلى السفارة الأمريكية طلبا للتطوع في الجيش الأمريكي، لكن أحد المسؤولين في السفارة اعتذر لهم بلكنة فرنسية جيدة؛ لأن المسؤولين المغاربة، وفقا لهذا المسؤول يعترضون على ذلك، وأخبرهم بإمكانية الالتحاق بفيلق خاص شكلته فرنسا الحرة، وبالفعل حاول شالوم الانضمام له، لكن لم يُقبل، وذكر في هذا الصدد أن ضابطا سأله عن مهنته فقال له إنه كان يعمل ماسحا للأحذية في شوارع الدار البيضاء، فالتفت هذا الضابط إلى زميله متسائلا : “كيف يمكننا كسب الحرب مع هذه الحفنة من الأغبياء والكسالى؟”
ولم يغفل وايزمان الكلام عن شح المواد الغذائية خلال الحرب العالمية الثانية أو ما يعرف بأزمة التموين حيث تم تقنين توزيع المواد الغذائية، وعن هذه الأزمة يقول إنه باستثناء الدقيق، والسمك، والخضروات كان كل شيء مقنن. وكان نصيب كل فرد من اللحم في الأسبوع 100 غرام فقط، وأن السلطات المحلية الفرنسية كانت تحابي “العرب” وذلك بالسماح لهم بذبح بقرة أو عجل في حفلات الزواج. وللتحايل على القانون والاستفادة من هذه الثغرة كانت السوق السوداء اليهودية تنظم عدداً من حفلات الزواج المزيفة أسبوعيا وتستأجر لهذا الغرض مسلمين للقيام بدور العروس والعروسة.
وختم المؤلف هذا العنوان عن الحرب العالمية الثانية بالإشارة إلى أن رغبته في قتال النازيين تحققت لما طلب الجيش الفرنسي متطوعين، فالتحق بصفوفه في شهر شتنبر 1943. وبعد أن قضى نحو ثلاث سنوات في أوروبا عاد في 1946 إلى الدار البيضاء فأصبح عضوا نشطا في صفوف الحركة الصهيونية بالمدنية. وقد بسط القول عن نشاطه في صفوف هذه الحركة، ثم هجرته إلى إسرائيل في العنوان الثاني عشر “المهاجر”.
في شهر أبريل 1947 غادر شالوم عمله واقتنى تذكرة قطار ذهابا إلى الجزائر. وقال إنه شعر بالحزن؛ لأنه غادر عائلته، لكن قناعاته ومثاليته جعلته مفعما بالثقة بأنه على صواب. وفي منتصف شهر أبريل من السنة نفسها استقل شالوم القطار من مدينة الدار البيضاء إلى الجزائر العاصمة حيث استقبتله عناصر صهيونية، ونقل إلى ضيعة مخصصة لاستقبال المهاجرين كان بها 300 يهودي معظمهم مغاربة وبعض الجزائريين والتونسيين، ثم أبحروا نحو فلسطين في ظروف صعبة كان خلالها الزاد قليل ومكدسين كسمك السردين في قاع الباخرة، لكن في طريقهم اعتقلتهم القوات البريطانية واحتجزتهم في مخيم بقبرص بعد أن رشتهم بمادة (DDT) الكيمائية.
في هذا المخيم الذي كان يضم جماعات سياسية مختلفة من أقصى اليسار إلى المتدينين الأرثودوكس التقى المغاربة اليهود باليهود الأوروبيين (الاشكناز)، فاستعصى عليهم فهم الخلافات السياسية بين هذه الجماعات. في الأِشهر الأولى كانت العلاقات بين المغاربة اليهود والأوروبيين علاقة احترام، لكنها تدهورت مع مرور الوقت بسبب الاختلافات الثقافية.
واستطاع صاحب السيرة الذاتية الفرار من المخيم والوصول إلى ميناء حيفا بفلسطين، ثم نقل مباشرة إلى أحد المعسكرات حيث يخضع المجندون لفحص طبي سريع ويقسمون على التوارة بأنهم سيدافعون عن أرض إسرائيل. وبعد أسابيع من التدريب انتقل إلى الجبهة. واكتشف شالوم خلال مقامه بفلسطين الخلاف الحاد بين الاشكناز والسفارديم مما جعله يشعر بأنه في أرض غريبة وشاهد أحلامه تتبخر أمام عينيه. وهكذا انتهت مغامرته القصيرة في فلسطين، كما يقول، بعد أن شارك في تأسيس دولة إسرائيل، وقد شعر بالارتياح لإنجازاته.لكنه بالمقابل لم يشعر بالأسف لمغادرته إسرائيل حيث يعامل المغاربة اليهود معاملة المنبوذين في الهند، فقد غير عدد من المغاربة اليهود أسماءهم أو مكان مولدهم للهروب من إهانة انتمائهم لأرض المغرب، بحسب شالوم. وفي يناير 1950 غادر إسرائيل عائدا إلى الدار البيضاء بعد أن حصل على وثائق من قنصلية فرنسا في حيفا.
تحت العنوان الأخير من المذكرات وهو “سياسي رغم أنفه” جاء عنوان فرعي هو: “الصدمة 1955″ تحدث فيه الكاتب عن مشاعر الخوف التي انتابت اليهود بعد نشر الصحف خبر عودة محمد الخامس وما رافق ذلك من تكثيف الحركة الوطنية لعملياتها ضد المحتل وقتلها أحد اليهود خطأ في مدينة الدار البيضاء، وتصاعد موجة العداء لليهود في صفوف الأوروبيين وبعض الوطنيين. إن هذه الظروف التي كان يمر بها المغرب دفعت شالوم إلى اتخاذ القرار بالهجرة إلى إسرائيل التي اختارها مضطرا بدل فرنسا؛ لأن والديه لا يعرفان اللغة الفرنسية.
وروى الكاتب في عنوان فرعي آخر هو: “وداعا المغرب” الظروف المرعبة، كما يصفها، التي هاجر فيها مع عائلته إلى إسرائيل، وقد لخص هذه المعاناة في عبارة ختم بها هذا العنوان يقول فيها: “خلال النهار من شأن الحقيقة والواقع الإسرائيلي أن يتسربا في وعينا ويمحوا أحلامنا الجميلة”.
وعن ظروف استقبالهم في إسرائيل ذكر شالوم أن العمال وكل الأوروبيين وقفوا على مسافة منهم كما لو كانوا مجذومين أو نجسين ينظرون إليهم بحدة واستغراب. وبدل من أن يساعدوا المهاجرين المغاربة فإن عمال الحكومة والوكالة اليهودية كانوا ينظرون إليهم كأعداء غزوا بلدهم. ولم تكن هناك ورود ولا ابتسامات كل ما شاهدته، يقول شالوم، وجوههم يعلوها الغضب والعداء والاشمئزاز، وفتحوا كل رزمهم وفتشوها كأنهم يهربون المخدرات أو المنوعات.
وأسهب شالوم في الحديث بمرارة عن هذه المعاملة السيئة، وكيف أن الوكالة اليهودية عاملتهم كالخرفان خلال نقلهم إلى مكان إقامتهم. فلا يحتاج المرء أن يكون اخصائيا نفسانيا، ليقرأ القلق والارتباك في وجوه المهاجرين، خاصة لما أبلغوا أنهم سيساقون إلى مكان مجهول لا يظهر على أي خريطة.
وتحت عنوان: “خيبة الأمل” سطر شالوم معاناة المغاربة اليهود الظلم الاجتماعي، والميز العنصري ونضالهم المرير ضد هذه الأوضاع والذي توج بانتفاضة وادي الصليب في مدينة حيفا.
كان شالوم يقاوم الظلم ولا يستكين كلما تعرض لتصرف عنصري؛ فخلال مشاداة من سائق حافلة قال له السائق: “إذا كنت غير سعيد هنا فارجع من حيث أتيت إلى المغرب” فرد عليه شالوم بتلقائية: “سيدي السائق إذا عدت أنا إلى المغرب سيكون جيراني وأصدقائي سعداء برؤيتي. وإذا عدت أنت إلى بولندا سيقتلونك”.
إن خيبة الأمل هذه اضطرت شالوم وايزمن أن يكون “يورد” (Yored) للمرة الثانية، وهي صفة قدحية تطلق على من يهاجر من إسرائيل إلى بلد آخر.
كان فرض الحماية الفرنسية على المغرب في 1912 تتويجا لعقود من تربص الغرب الإمبريالي بالمغرب، وخلالها دخل المغرب ما يعرف بمرحلة التحولات الكبرى، فكانت الصدمة عنيفة والتحولات سريعة، وليس بعد “أحقاب متطاولة”، وفقا للتعبير الخلدوني، زلزت بنية الدولة والمجتمع، فكانت الطائفة اليهودية أكثر تأثرا بها، فحصل لها تحول في الأنموذج، أي تغير في نظرتها إلى نفسها والعالم وعلاقتها بالآخر. وشكلت هذه التحولات الخيط الناظم لمذكرات شالوم وايزمن.
صدرت المذكرات باللغة الإنجليزية في نسخة الكترونية بصيغة Kindle وقسمها المؤلف على 20 عنوانا سنكتفي بالوقوف على بعضها؛ لأن المقام لايتسع لها كلها. ومما تجدر الإشارة إليه أن المذكرات يشوبها اضطراب في الترتيب الزماني والمكاني حاولت تفاديهما قدر الإمكان.
استهل شالوم مذكراته بتقديم كرنولوجيا لأهم أحداث حياته، فذكر أنه ولد في 1923 بمدينة الدار البيضاء وتلقي تعليمه في “الحدر” (التعليم التقليدي) في الفترة من 1926 إلى 1929، ثم انتقل إلى مدرسة الرابطة اليهودية العالمية فقضى بها نحو خمس سنوات ليخرج إلى سوق العمل ويعمل في مصنع للأحذية. وخلال الحرب العالمية الثانية تطوع للقتال في صفوف الجيش الفرنسي، وفي الفترة من 1948 إلى 1950 قاتل في صفوف منظمة “الهاكَانا” بفلسطين، ثم عاد إلى الدار البيضاء. وبعد نحو ست سنوات من عودته هاجر مع والديه وإخوانه إلى فلسطين حيث مكث هناك إلى 1968 ثم هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
تحدث وايزمان في العنوان الأول من مذكراته عن أصول عائلته، وعن الحياة في ملاح الدار البيضاء وعن جيرانهم اليهود والمسلمين وطبيعة علاقتهم بهؤلاء.
“لا تقترب من العرب” وبهذه العبارة كانت والدة شالوم تحذره كلما هم بالخروج للعب في أزقة ملاح الدار البيضاء حيث قضى طفولته وشبابه. وعن أصول عائلته يقول إن اسمه العائلي “وايزمان” اسم ألماني، ذلك أن رجلا شابا غادر في القرن السادس عشر أو السابع عشر قريته في أوروبا وسافر بعيداً لجمع التبرعات من الجماعات اليهودية لكنيسه، فحط الرحال في مراكش وتزوج من فتاة يهودية محلية، ثم انتقل إلى تازناخت حيث تكاثر نسله، وكان اليهود يعيشون تحت حماية “العرب” (يقصد المسلمين)، وفي هذا الصدد روى شالوم عن والده أن أحد “العرب” من قبيلة أخرى سلب يهوديا وضربه؛ فأمر زعيم تازناخت أن يعاقب الجاني أمام الملأ.
وروى شالوم وايزمن عن والدته، وهي من عائلة عمار، أنها لما كانت ترضعه توسلت إليها جدة طفل مسلم أن ترضع حفيدها الذي عاف ثدي أمه. فقبلت أمه القيام بهذه المهمة؛ لأنها أحبت أن ترد لأم الطفل المعادية لليهود بإرضاع طفلها حليب ثدي يهودي مصحوباَ بتهويدات يهودية.
ومما يدل على تغير نظرة اليهود للأغلبية المسلمة تشبيه شالوم أحد المسلمين بالكلب، فقد حكى في مذكراته عن رجل “عربي” حافي القدمين حَرَنَ حماره المثقل، فظل يضربه ليحثه على المسير، فلما عيل صبره نبح في وجهه: “أسرع يا ابن اليهودي”.
ورأى شالوم أن المغاربة اليهود عانوا من الأوروبيين أكثر من المغاربة “العرب”، وتحدث عن أجواء الحرب العالمية الثانية ومعاناة اليهود القوانين العنصرية لحكومة فيشي. وذكر أنه بعد وجبة يوم السبت الدسمة يتجمع اليهود في ساحة بالملاح لتبادل الأخبار، ومراعاة للسرية كانوا يلقبون الولايات المتحدة بـ “كوهين”، وانجلترا “ليفي”، وألمانيا وحكومة فيشي “الشيطان الأكبر”، و”الشيطان الأصغر”.
وختم شالوم هذه العنصر من مذكراته بالحديث عن فيلم شاهده في مدينة الدار البيضاء. لقد أصبحت السينما في هذه الفترة الفن الشعبي بامتياز، ولم تكن ثمة وسيلة للوصول إلى الجمهور أفضل من الفيلم السينمائي، وقد وظفت الحركة الصهيونية السينما في دعايتها بالمغرب كما كان الشأن في البلدان حيث كانت تنشط. ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن السينما كانت الأداة الأكثر نجاعة التي توسلت بها لتحقيق هدفها، والمتمثل في إحداث تحول في الأنموذج لدى الجمهور بواسطة “سحر الصورة”، وهو سحر فعال له تأثير سريع ومباشر.
ويحمل الفيلم المذكور عنوان “حياة اليهود في بولندا” يصور “معاناتهم” في هذا البلد حيث الثلج، والبرد، والفقر.
ورغم أن شالوم كان صهيونيا، وقاتل في صفوف “الهاكَانا”، فإن تعليقه على الفيلم اتسم بالموضوعية.
يقول: “خلال تلك السنوات كان الفقر في كل مكان، في الولايات المتحدة عاشت الأسر في الخيام وكانت جوعى، وفي باريس وغيرها من المدن الكبيرة، كانت البطالة كثيرة، وكان لكل طابق كامل من السكان مرحاض واحد.
كان اليهود المغاربة محظوظين. كل يوم تشرق الشمس، وكان لنا جيران أفضل من يهود أوروبا البؤساء”.
خصص شالوم العنصر الثاني من مذكراته لمرحلة الدراسة، فذكر أنه ولج “الحدر” وهو في الثالثة من عمره. لقد شكّل “الحدر” مثل “المسيد” لدى المسلمين الشكل الوحيد للتعليم الأساس الذي كان سائدا وسط المغاربة اليهود قبل الحماية.
ووصف المؤلف بتفصيل قاعة الدرس في “الحدر” حيث كان يحشر التلاميذ، وتنعدم أدنى الشروط الصحية، وأن التلاميذ كانوا يتبولون في سطل من فولاذ وضع في الشارع، ومن يريد منهم التغوط يؤذن له بالذهاب إلى بيته.
ولم يغفل المؤلف الحديث عن المواد الدراسية والمناهج المعتمدة. وذكر أن التلاميذ كانوا يحفظون دون أن يفهم أحد منهم ما يقرأ بالعبرية. وأن ستة أطفال إلى سبعة كانوا يقرأون في كتاب واحد.
وعن الأوضاع الاجتماعية التي عاناها اليهود في هذه الفترة أكد شالوم أن الفقر والجوع دفع يهود الجنوب إلى الهجرة نحو الدار البيضاء ومدن كبرى أخرى طلبا للعمل وظروف اجتماعية أفضل. وقد أدت أمواج المهاجرين الجدد إلى زيادة معتبرة في عدد يهود الدار البيضاء، فنتج عن النمو السريع، وفي فترة وجيزة، لسكان المدينة مشاكل اجتماعية لا حصر زادت استفحالا مع مرور الزمن.
إن الزيادة المعتبرة في عدد يهود الدار البيضاء، جعل حصول الأطفال على مقعد في مدرسة الرابطة اليهودية العالمية أمراً صعب المنال، ولم يستطع شالوم الالتحاق بهذه المدرسة إلا بوساطة من إحدى قريباته الحاملة للجنسية البرتغالية والتي تتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، فكانت تعتبر أوروبية بحقوق خاصة بخلاف عامة اليهود الذين كانوا مواطنين من الدرجة الثانية وفقا لشالوم,
وقد أجاد المؤلف وأفاد في تصوير حال الضياع الثقافي الذي عانه المغاربة اليهود خلال هذه الفترة، فقال: “كنا جميعا نحيى حيوات مختلفة في معيشنا اليومي. نتحدث الفرنسية في المدرسة، واللهجة اليهودية-المغربية في البيت، ونقرأ العبرية في البيعة”.
وواصل شالوم في العنوان الرابع الحديث عن هذه الأوضاع الثقافية للمغاربة اليهود، فقال في هذا الصدد: “ومن السخرية أن ندرس تاريخ فرنسا وجغرافيتها بكل تعقيداتها ونتجاهل تماما تاريخ المغرب وجغرافيته”
وقد سجل في هذا العنوان جانبا من الأوضاع الاجتماعية المزرية التي كابدها اليهود،. وعن معاناته الشخصية، والتي تجسد معاناة معظم اليهود فقال: “إن الشتاء البارد والمطر الغزير جعلا حياتي بئيسة. إذ أن فردة من حذائي ضاع كعبها، والأخرى بها ثقب في أسفلها. وعندي معطف خفيف، ودائما أشعر بالبرد”. ونقل عن شاعر فرنسي قوله: “الشتاء عدو الفقراء”، “وهذا كان يصدق على معظمنا” كما أكده الكاتب.
وفي العنوان السادس توقف شالوم وايزمن عن التغيير في أسلوب لباس المغاربة اليهود نتيجة التأثير الاستعماري، فتحدث عن عهد تاق فيه الشباب اليهودي إلى هجر التأثير العربي القروسطي، ومعانقة الثقافة الفرنسية. وكانت للفتيات نزعة أشد من الفتيان للتعلق باللغة الفرنسية والأساليب النسائية في اللباس. وتسخر أغنية من الفتيات الصغار اللواتي لبسن كعوبا عالية وغيرن أسماءهن لتصبح فرنسية. تقول الأغنية: “بدلا من يطو أصبحت دينيس بالشعر القصير والكعب العالي”.
وتحدث المؤلف عن جانب مهم من التحول الذي مس الحياة الاجتماعية للمرأة اليهودية والمتمثل في خروجها إلى العمل خارج البيت، وذلك في ظل الواقع الجديد الذي فرضته الحماية، مما جعل الأدوار تنقلب بينها وبين الرجل، الذي أصبح أحيانا يبقى في البيت ليقوم بما تقوم به من طبخ وتنظيف وأشغال منزلية، وهذا يعتبر كارثة للرجل في الثقافة المغربية، حسب شالوم، عند تعليقه على خروج عمته وبناتها إلى العمل، وقيام زوجها بالمهام المنزلية.
خصص الكاتب مادة العنوان الثامن لدخوله إلى سوق العمل واستهله بالحديث عن رياح الأزمة الاقتصادية العالمية التي وصلت ريحها إلى المغرب ولم تستثن أحداً. وفي ظل هذه الأوضاع، لم يكن والد شالوم يكف عن توبيخه بالقول: “شالوم أقبل على تعلم حرفة، وإن كنت تريد القراءة، فعليك بالجيمارا أو التلمود بدل إهدار وقتك في كتب الجوييم (الأغيار)”. غير أن وايزمان كان يتجاهل مقالة والده ويقرأ كتب “الجوييم” وصحيفة لوبوتي ماروكان Le Pettit Marocain)) وخاصة أعمدتها السياسية، فاكتسب ثقافة سياسية ساعدته على التمييز بين الأحزاب السياسية الفرنسية. وأصبح شغوفا بقراءة خطب السياسي المفضل لديه، ليون بلوم، Leon Blum)) الذي لم يخف إعجابه بأفكاره الاشتراكية.
وفقا لوثائق هذه الفترة التي اطلعت عليها، فقد نتج عن انتشار التعليم وسط اليهود أزمة تشغيل حادة بين الشباب، إذ أن هؤلاء الذين كان يتم إعدادهم للوظائف المكتبية، سرعان ما ظهر أنه لا يمكن استيعابهم في الإدارة أو القطاع الخاص، وحصل الاقتناع بضرورة تحويل جزء منهم نحو التكوين المهني.
ومن ثم تجندت الصحافة الصهيونية بالدار البيضاء للترويج لأهمية التكوين المهني للشباب اليهودي، والإعلاء من قيمة العمل المهني. وفي هذا السياق التحق شالوم بالمدرسة المهنية للرابطة وهو في سن الثالثة عشرة وقد جرب تعلم عدة حرف لكنه لم يفلح، الأمر الذي أغضب والده الذي يعمل صباغا فأتخذه مساعدا له، وبعد ذلك وجد له شقيقه الأكبر عملا في مطبعة لوبوتي ماروكان.
وفي العنوان التاسع: “الإضراب” تحدث شالوم وايزمن عن انتقاله للعمل في مصنع لصناعة الأحذية يملكه شخص قال عنه إنه ولد في تركيا، وكان يدخن خلال شهر رمضان، بعد أن يتوارى من “العرب”. وذات يوم أعلن شقيقه أمام عمال المصنع أنه مناصر للإخوان المسلمين ويكره الفرنسيين.
تزعم الكاتب إضرابا للعمال احتجاجا على أوضاعهم، وكان حينها يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، أي في 1940 خلال الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي عانى فيها اليهود القوانين العنصرية لحكومة فيشي، وذكر شالوم أن عملية إحصاء ممتلكات اليهود، ومنها الذهب والمجوهرات تحولت إلى مزحة كبرى في أوساط اليهود إذ كانوا يحذرون بعضهم بعضا: “إذا كنت تملك ذهبا فلا تضعه تحت اللحاف؛ لأن هذا هو المكان الذي يفتشه كارهو اليهود”.
وذكر أن شائعات راجت خلال هذه الفترة مفادها أن الألمان يُحضّرون بمساعدة الفرنسيين، والإسبان، والإيطاليين الفاشيين لنقل المغاربة اليهود إلى معسكرات الاعتقال. فأرسل الكثير من اليهود أطفالهم أو ذهبوا مع عائلاتهم ليختبئوا في قرى جنوب المغرب الصغيرة.
وخصص شالوم وايزمن العنوان الحادي عشر من مذكراته للحرب العالمية الثانية؛ فأكد ما ورد في وثائق هذه الفترة وصحافتها من أن الفاشيين الفرنسيين والإيطاليين والإسبان كانوا يحضرون لتنفيذ مذابح لليهود في المدن الكبرى، ومنها مدينة الدار البيضاء التي كانت تؤوي أكبر عدد من يهود المغرب، وحدد يوم 15 نوفمبر 1942 لتنفيذه، فكتبت على الجدران عبارات معادية لليهود وعلقت ملصقات. غير أن نزول الحلفاء قبل أسبوع من التاريخ المذكور أحبط هذا المخطط. وقد عاين شالوم وايزمن دخول الأمريكيين إلى الدار البيضاء وأسهب في وصف هذه الأحداث.
وذكر أنه في الأسبوع الثالث بعد الإنزال توجه مع مجموعة من الشباب اليهود إلى السفارة الأمريكية طلبا للتطوع في الجيش الأمريكي، لكن أحد المسؤولين في السفارة اعتذر لهم بلكنة فرنسية جيدة؛ لأن المسؤولين المغاربة، وفقا لهذا المسؤول يعترضون على ذلك، وأخبرهم بإمكانية الالتحاق بفيلق خاص شكلته فرنسا الحرة، وبالفعل حاول شالوم الانضمام له، لكن لم يُقبل، وذكر في هذا الصدد أن ضابطا سأله عن مهنته فقال له إنه كان يعمل ماسحا للأحذية في شوارع الدار البيضاء، فالتفت هذا الضابط إلى زميله متسائلا : “كيف يمكننا كسب الحرب مع هذه الحفنة من الأغبياء والكسالى؟”
ولم يغفل وايزمان الكلام عن شح المواد الغذائية خلال الحرب العالمية الثانية أو ما يعرف بأزمة التموين حيث تم تقنين توزيع المواد الغذائية، وعن هذه الأزمة يقول إنه باستثناء الدقيق، والسمك، والخضروات كان كل شيء مقنن. وكان نصيب كل فرد من اللحم في الأسبوع 100 غرام فقط، وأن السلطات المحلية الفرنسية كانت تحابي “العرب” وذلك بالسماح لهم بذبح بقرة أو عجل في حفلات الزواج. وللتحايل على القانون والاستفادة من هذه الثغرة كانت السوق السوداء اليهودية تنظم عدداً من حفلات الزواج المزيفة أسبوعيا وتستأجر لهذا الغرض مسلمين للقيام بدور العروس والعروسة.
وختم المؤلف هذا العنوان عن الحرب العالمية الثانية بالإشارة إلى أن رغبته في قتال النازيين تحققت لما طلب الجيش الفرنسي متطوعين، فالتحق بصفوفه في شهر شتنبر 1943. وبعد أن قضى نحو ثلاث سنوات في أوروبا عاد في 1946 إلى الدار البيضاء فأصبح عضوا نشطا في صفوف الحركة الصهيونية بالمدنية. وقد بسط القول عن نشاطه في صفوف هذه الحركة، ثم هجرته إلى إسرائيل في العنوان الثاني عشر “المهاجر”.
في شهر أبريل 1947 غادر شالوم عمله واقتنى تذكرة قطار ذهابا إلى الجزائر. وقال إنه شعر بالحزن؛ لأنه غادر عائلته، لكن قناعاته ومثاليته جعلته مفعما بالثقة بأنه على صواب. وفي منتصف شهر أبريل من السنة نفسها استقل شالوم القطار من مدينة الدار البيضاء إلى الجزائر العاصمة حيث استقبتله عناصر صهيونية، ونقل إلى ضيعة مخصصة لاستقبال المهاجرين كان بها 300 يهودي معظمهم مغاربة وبعض الجزائريين والتونسيين، ثم أبحروا نحو فلسطين في ظروف صعبة كان خلالها الزاد قليل ومكدسين كسمك السردين في قاع الباخرة، لكن في طريقهم اعتقلتهم القوات البريطانية واحتجزتهم في مخيم بقبرص بعد أن رشتهم بمادة (DDT) الكيمائية.
في هذا المخيم الذي كان يضم جماعات سياسية مختلفة من أقصى اليسار إلى المتدينين الأرثودوكس التقى المغاربة اليهود باليهود الأوروبيين (الاشكناز)، فاستعصى عليهم فهم الخلافات السياسية بين هذه الجماعات. في الأِشهر الأولى كانت العلاقات بين المغاربة اليهود والأوروبيين علاقة احترام، لكنها تدهورت مع مرور الوقت بسبب الاختلافات الثقافية.
واستطاع صاحب السيرة الذاتية الفرار من المخيم والوصول إلى ميناء حيفا بفلسطين، ثم نقل مباشرة إلى أحد المعسكرات حيث يخضع المجندون لفحص طبي سريع ويقسمون على التوارة بأنهم سيدافعون عن أرض إسرائيل. وبعد أسابيع من التدريب انتقل إلى الجبهة. واكتشف شالوم خلال مقامه بفلسطين الخلاف الحاد بين الاشكناز والسفارديم مما جعله يشعر بأنه في أرض غريبة وشاهد أحلامه تتبخر أمام عينيه. وهكذا انتهت مغامرته القصيرة في فلسطين، كما يقول، بعد أن شارك في تأسيس دولة إسرائيل، وقد شعر بالارتياح لإنجازاته.لكنه بالمقابل لم يشعر بالأسف لمغادرته إسرائيل حيث يعامل المغاربة اليهود معاملة المنبوذين في الهند، فقد غير عدد من المغاربة اليهود أسماءهم أو مكان مولدهم للهروب من إهانة انتمائهم لأرض المغرب، بحسب شالوم. وفي يناير 1950 غادر إسرائيل عائدا إلى الدار البيضاء بعد أن حصل على وثائق من قنصلية فرنسا في حيفا.
تحت العنوان الأخير من المذكرات وهو “سياسي رغم أنفه” جاء عنوان فرعي هو: “الصدمة 1955″ تحدث فيه الكاتب عن مشاعر الخوف التي انتابت اليهود بعد نشر الصحف خبر عودة محمد الخامس وما رافق ذلك من تكثيف الحركة الوطنية لعملياتها ضد المحتل وقتلها أحد اليهود خطأ في مدينة الدار البيضاء، وتصاعد موجة العداء لليهود في صفوف الأوروبيين وبعض الوطنيين. إن هذه الظروف التي كان يمر بها المغرب دفعت شالوم إلى اتخاذ القرار بالهجرة إلى إسرائيل التي اختارها مضطرا بدل فرنسا؛ لأن والديه لا يعرفان اللغة الفرنسية.
وروى الكاتب في عنوان فرعي آخر هو: “وداعا المغرب” الظروف المرعبة، كما يصفها، التي هاجر فيها مع عائلته إلى إسرائيل، وقد لخص هذه المعاناة في عبارة ختم بها هذا العنوان يقول فيها: “خلال النهار من شأن الحقيقة والواقع الإسرائيلي أن يتسربا في وعينا ويمحوا أحلامنا الجميلة”.
وعن ظروف استقبالهم في إسرائيل ذكر شالوم أن العمال وكل الأوروبيين وقفوا على مسافة منهم كما لو كانوا مجذومين أو نجسين ينظرون إليهم بحدة واستغراب. وبدل من أن يساعدوا المهاجرين المغاربة فإن عمال الحكومة والوكالة اليهودية كانوا ينظرون إليهم كأعداء غزوا بلدهم. ولم تكن هناك ورود ولا ابتسامات كل ما شاهدته، يقول شالوم، وجوههم يعلوها الغضب والعداء والاشمئزاز، وفتحوا كل رزمهم وفتشوها كأنهم يهربون المخدرات أو المنوعات.
وأسهب شالوم في الحديث بمرارة عن هذه المعاملة السيئة، وكيف أن الوكالة اليهودية عاملتهم كالخرفان خلال نقلهم إلى مكان إقامتهم. فلا يحتاج المرء أن يكون اخصائيا نفسانيا، ليقرأ القلق والارتباك في وجوه المهاجرين، خاصة لما أبلغوا أنهم سيساقون إلى مكان مجهول لا يظهر على أي خريطة.
وتحت عنوان: “خيبة الأمل” سطر شالوم معاناة المغاربة اليهود الظلم الاجتماعي، والميز العنصري ونضالهم المرير ضد هذه الأوضاع والذي توج بانتفاضة وادي الصليب في مدينة حيفا.
كان شالوم يقاوم الظلم ولا يستكين كلما تعرض لتصرف عنصري؛ فخلال مشاداة من سائق حافلة قال له السائق: “إذا كنت غير سعيد هنا فارجع من حيث أتيت إلى المغرب” فرد عليه شالوم بتلقائية: “سيدي السائق إذا عدت أنا إلى المغرب سيكون جيراني وأصدقائي سعداء برؤيتي. وإذا عدت أنت إلى بولندا سيقتلونك”.
إن خيبة الأمل هذه اضطرت شالوم وايزمن أن يكون “يورد” (Yored) للمرة الثانية، وهي صفة قدحية تطلق على من يهاجر من إسرائيل إلى بلد آخر.