يجهل كثير من العراقيين حقيقة سجن نقرة السلمان وعذابات السجناء الشيوعيين والوطنيين ممن عاشوا في داخل هذا المعتقل البغيض الذي أمسى رمزاً للأضطهاد والقمع والظلم والأستبداد.
يرجع سبب قلة المعلومات المتوفرة عن هذا المعتقل لندرة التدوين عمّـا صاحبه ، منذ تأسيسه ، من أحداث جسام ، ألقت بظلالها على حقبة زمنية طويلة من التاريخ العراقي المعاصر..
ها هي البداية..
بل الصفحة الاولى من السجل التاريخي والانساني للأحداث التي تمخضت عن هذا المعتقل .. نأمل أن يستمر تدوين صفحات أخرى من خلال مشاركة كل عراقي دخل دوامة الصراع والمعاناة والنضال بين جدران ذلك السجن الرهيب ..
الحقيقة يجب ان تصل للأجيال الجديدة من المناضلين ساطعة صادقة ، فهذه أمانة تاريخية من حق أبناء الشعب العراقي ان يطلعواعليها.
ندعو الجميع ونناشدهم للأسهام في رفد الكاتب بما لديه من معلومات وحقائق أضافية أو تصحيحية تثري هذا السجل الذي يمس الكثير من حياة المناضلين .
وشكراً..
ترسل المساهمات والرسائل الى البريد التالي:
[email protected]
( الحلقة الأولى )
تمهيد ..
في بداية كانون ثاني من عام 1964 دخلت الى سجن نقرة السلمان . السجن السيئ الصيت في بلاد العرب كلها ، يعزل ساكنيه عزلاً تاماً عن العالم كله . لا شيء يمتد أمام أعين السجناء غير السماء . لا شيء ينبسط ولا شيء ينطلق . مكان ينعدم فيه التاريخ فلا أحد يعرف الزمن الذي مضى ولا الزمن الذي يأتي . لا السجين يعرف متى ينتهي مصيره ولا السجان يعرف متى تنتهي وظيفته . بين شروق الشمس وغروبها أسئلة كثيرة ومشاكل كثيرة . بين غروب الشمس وشروقها ثانية تتشكل المأساة في كوابيس كل سجين .
الصحراء هي العالم الوحيد المحيط بجدران السجن والسجناء وحتى السجانين أيضاً هم سجناء بمعنى آخر ، حركتهم أوسع ، مكانهم أكبر ، لكن زمانهم له بعض وجود ، مثلنا تماماً كلما مر يوم نزداد تعطشاً الى الحرية . .
لا يمكن لأي واحد أن يتجاوز على حاضره فهو مستبعد من أية قدرة . القضية الوحيدة العائشة في كل لحظة مع السجناء هي قضية الصراع مع الألم . ولا شيء يبعد الألم غير التأملات المتسلسلة المنبثقة عن إيمان السجين بأن القيود لا بد ان تتحطم ذات يوم مهما طال الزمن .
أصطحبتُ معي الى هذا المكان أقلاماً وأوراقاً. فقد كنتُ قد قدرتُ قبل المجيء الى هنا أن تفاعل السجين مع محيطه ومع وجوده القاسي يجب ان يدوّن . أنه طموح لازمني منذ أول لحظة صدر فيها أمر نقلي من مركز شرطة العشار الى سجن نقرة السلمان .
في هذا المكان لن يكون فيه تراث بدون قلم ، بدون شحذ ذاكرتي بمغامرتي في الكتابة عن حياة الناس هنا ، كأنني موكل لقلمي مهمة خاصة هي تدوين بعض المعاناة تدويناً أميناً بواسطة رسائل موجهة من داخل السجن الى خارجه حاملة بالتشفير تارة وبالصريح من التعبير تارة أخرى ما ألاحظه بعيني وما أسمعه بأذني من أحداث وأقوال ، ووقائع ، وأفكار ، و تقاليد ، وهموم ، وأخلاق ، وصراع ، وما يأتيني من ماضي الذكريات . أدى قلمي بعض مهمته بشكل تجسد ، بالتالي ، في هذه الذكريات التي تحمل تدوينات فيها خواطر ، وحقائق ، ووقائع .أنها أمتزاج خالص بين العواطف والأحاسيس والأفكار وأشياء عديدة أخرى من مشاعر الخوف ، والقلق ، وتقلبات المزاج الصعب . لكنها ، جميعاً ، تعبر عن ملتقى كائنات في وحدة لا يتجزأ عنصرها عن أنفاس السجن وقساوة طقوسه ومرارة أيامه .
في رواية من روايات الكاتب اليهودي النمساوي ستيفان زيفايج ( لا أتذكر اسمها ) لكنني أتذكر أنها تتناول معاناة سجين لم يستطع التخلص منها إلاً بممارسة حريته في استعادة ما قرأه من كتب الأدب وفي أستعادة ما حفظه من قصائد الشعر ، واستعادة جميع ذكرياته ، وعندما أنتهى من استعادتها كلها ظل يلعب ، في زنزاته ، الشطرنج مع نفسه . . وقد أفادني زيفايج بتكريس وقتي داخل السجن ليس في استعادة الذكريات حسب ، بل في تدوين ذكريات جديدة مصحوبة بلعب الشطرنج أيضاً ولكن مع آخرين ، فأحياناً ينظم السجناء السلمانيون مباراة شطرنجية كنتُ أتفرج على منافسات أبطالها ..
بعد أكثر من عشرين عاماً على تحرير تلك الرسائل والذكريات واستقرارها في فوطة والدتي المحفوظة بقطعة نايلون داخل صندوق صغير من الحديد مدفونة في حديقة دارنا بحفرة أسمنتية لا تثير انتباها ، هندسها أنور طه البصري ذات يوم ، أعدتُ قراءتها مع مجموعة أخرى من الأوراق التي كنتُ أحتفظ بها مع مجموعة أخرى من رسائل الأهل والأصحاب التي كانت تردني من خارج السجن وبعضها من خارج العراق . يعود الفضل في بقائها وسلامتها الى الصديق سامي أحمد العامري الذي بذل جهداً كبيراً في صيانتها .
تأوهتُ كثيراً وتألمتُ حين ضاع بعضها في سجن آخر ، سجن الحلة ، بعد أن هربتُ منه. فمن أمنته إياها لم يكن في ساعة من ساعات خوفه أميناً عليها فأحرقها .
حاولت أثناء أعادة قراءتي لأوراق السجن تذكر مناسبات كتابتها ، وفك بعض رموزها ، وتخليصها من غموض بعض العبارات التي اضطررت إليها في حينه وأنا أدونها داخل السجن أو أهربها الى خارجه بصيغة معينة ( مبهمة ) بقصد تمويهها على إدارة السجن أو الحذر من وقوعها بأيدي أجهزة الأمن التي لم تكف لا عن مطاردة زوجتي ولا عن تفتيش بيتي ولا عن اعتقال والدتي لمرات عديدة بعد سجني .
المهم أن أوراقي ضمنت لنفسها ، في النهاية ، سلامة العبور فوق جسور عديدة . بعضها عَبَرَ جسر المراقبة البريدية ، وبعضها عَبَرَ جسر المداهمات البوليسية البيتية وبعضها عَبَرَ جسر الرقابة السجنية .
الشيء المهم أن كلمات هذه الذكريات تهمي كلمة كلمة ، يأتي معناها جزءاً جزءاً ، تأخذ طريقها الى الحقيقة المرة في حياة السجين السياسي حيث يتعمق معنى كلماتها تارة ويوهن تارة أخرى ، لكن لا غنى لبعضها عن البعض الآخر ، فهي بكل الأحوال تعبر عن تطلعات شخصية ظننتها عامة ، وعن آمال شخصية ظننتها عامة ، وعن آلام شخصية ظننتها عامة ، وعن وعي شخصي ظننته عاماً . برغم كل شيء فأنها بمجموعها تشكل خطوطاً متصلة كجزء من ذكريات ( نقرة السلمان ) في بعض مراحلها الصعبة .
أن أمر تقييم تلك الظنون متروك للقارئ ، خاصة ذلك القارئ الذي عايش الأحداث نفسها ، أو الذي كان مولعاً أو مهتماً بمتابعة أخبارها وعلاقاتها .
عانيتُ أول ما عانيت قساوة تذكر تاريخ الأحداث السجنية وتاريخ عدم تدوين عدد غير قليل من أوراقي برقم اليوم والشهر والسنة . لكنني ، بعد عجزي ، وجدتُ كتابتها بأهمال ذكر التواريخ مع اعتقادي بأهميتها ، أمراً ضرورياً . وهنا تنازعني أثنان : فتارة أجد أن الصواب هو تجسيد الغاية من الكتابة وفاءً لذكريات السجن وحده ، وتارة أخرى أجد أن طموحي ليس مكتملاً .
القلم بيدي والذكريات تناديني ، فوجدتُ أن لا بأس من تدوينها من دون ذكر أسماء العديد من الأسماء الصريحة لصانعي الأحداث السجنية ، بعد أن كنتُ قد أخفيتها مرمزاً إليها بأسماء مستعارة في ذلك الوقت نظراً لأنها كانت من الأسماء المناضلة المعروفة لدى الأجهزة البوليسية ، وبعضهم من أسماء الشباب الذين نشطوا داخل السجن وهم غير معروفين في خارجه ، مما يعني الكثير من الأذى لهم أو لعوائلهم في حالة وقوعها بيد إحدى تلك الدوائر . مثلاً وجدتُ فيها ثلاث رسائل مطولة تتحدث عن سجين سياسي سميته ( الحاج ذياب ) في رسائلي المرسلة الى الخارج وكان يبدو فيها أنني حاورت هذه الشخصية كثيراً وكم من الوشائج تربطني بها لكن هيهات أن أتذكر حقيقة هذه الشخصية بعد أن بلغتُ من العمر عتيا..! رغم أن ذاكرتي تلمح أن الحاج ذياب هو المقدم الركن سليم الفخري الذي كانت تربطني به علاقات يومية في سجن السلمان .
وكم يؤلمني ضياع ما يقرب من مائتي صفحة فولسكاب من هذه الذكريات . كنتُ قد أعطيتها الى الصديق محمد الجزائري في بداية التسعينات لقراءتها وتدقيقها لغوياً كما كان معيناً دائماً لي في تدقيق ما أكتبه طوال أكثر من أربعين عاماً . كانت الصفحات تتضمن الكثير من جوانب نشاطات الأدباء السجناء في نقرة السلمان . أعادها الصديق محمد الجزائري لي مدققة لكنها وقعت بعد أسبوع واحد ضحية تحرٍ بوليسي فتحولت الى مكان آخر .. !
وجدتُ أثناء المراجعة أن الضرورة تقتضي تفسير بعض المحتويات بإشارات هامشية لم تكن موجودة في المتن الأصلي لرسائلي وأوراقي . كما وجدتُ ضرورة الإشارة الى أسماء أخرى لم تكن واردة في الأصل فوضعتها في هوامش أيضاً لكنها غير مثقلة بالتعليقات أو التعقيبات ، فظلت كما هي نابعة من القلب على بساطتها ، ونابعة من الحقائق الخاصة بمعاناة السجون .
يعود الفضل الأكبر لسلامة هذه الأوراق الى سامي أحمد العامري . فبعضها ، وهو ليس قليلاً، ظل مخبأً زمناً طويلاً معه. (( كان سامي قد قضى فترة غير قصيرة في سجن نقرة السلمان من العام 1961 لغاية العام 1968 حيث كان في أغلب تلك الفترة المسئول الحزبي الثاني لتنظيم الشيوعيين داخل السجن ، إذ كان الأول عبد الوهاب طاهر ، بعده كاظم فرهود ، وبعدهما لا أدري حين غادرتُ النقــرة )).
حين غادرتُ سجن النقرة في ربيع 1967 منقولاً الى سجن الحلة ، أبقيتُ أوراقي ورسائلي مع سامي أحمد الذي أبتلى بمهمة صيانتها لسنوات عديدة مخبأة بطريقة " فنية " مع أغراضه الخاصة وقد سلمني إياها في بغداد عام 1969
بقدر ما كان سامي أحمد رجلاً شفافاً محبوباً من قبل أغلب السجناء لمبادراته الكثيرة في حل المشاكل الشخصية للسجناء ورعاية مطالبهم وأفكارهم ومعاناتهم بغض النظر عما إذا كانوا شيوعيين أم لا ، فأن عبد الوهاب طاهر كان يشعر شعوراً حاداً بوهن المنفى السجني فضرب حول نفسه طوقاً من الممانعة في صحبة رفاقه أو أصدقائه داخل السجن . كان ينطوي على مجموعة من التصرفات والسلوكيات الانعزالية . كان يعيش في حالة من القلق الشديد ملازماً لعلاقاته داخل السجن الى حين خروجه ، فظل قلقه مصاحباً له حتى في تحديد موقفه من القيادة المركزية ، التنظيم المنشق عن الحزب الشيوعي العراقي عام 1967 .
خلال المدة الطويلة التي مرت على هذه الأوراق ـ حوالي 38 سنة ـ كانت أفكار عديدة تتحرك في داخلي بلا إرادة . تريد أن تهاجم جمودها على الورق . تحركت عندي رغبات عديدة قديمة في تحويل بعض مضامينها الى قصص قصيرة أو الى رواية تتحدث عن مآسي وعذابات السجون والسجناء أو عن رحلة عذاب شخصية عشتها في تلك الفترة . لكنني بقيت وفياً لحبها ، مستمداً من ذلك الحب قوة روحية مبعثها إلهام الذكريات وناتجها صياغة الذكريات .ومن المبعث والناتج أهتديتُ الى إبقائها كما هي مدونة في حالتها الأولى من دون إضافة جوهرية . ربما أضطررت الى حذف بعض المقاطع والأسماء لكن الجوهر ظل على حاله ليس من باب الكسل أو حباً بالمرارة الواردة في مضامينها ، بل رغبة في إبقاء إلهام الماضي على حاله ليتراءى لي جارفاً ، فاتناً ، في كل كلمة وفي كل عبارة .
أحس ، الآن ، بأن التفكير المتصل بزمان كتابة هذه الأوراق قد يرضي بعض الرغبات ، ويسعد القارئ أن يتعرف على جزء يسير جداً من بعض التاريخ العراقي للسجناء السياسيين . غير أن" تاريخ " الأوراق شكـّل عندي كابوساً لا مفر منه . ولابد ، بالتالي ، من إبعاده عن هذه الصياغة لتمر الأفكار سلسلة متواصلة سلسة الى قلب القارئ وعقله .
أول بداية لكتابة هذه الأوراق كانت في يوم 28 /1/1964 وآخر ورقة منها في 22/1/1967آملاً أن تكون أوراق ذكرياتي السجنية نقطة أنطلاق لسجناء آخرين ولكتاب آخرين لكي يضعوا موجوداتهم الفكرية ومعاناتهم السجنية على الورق الذي سيشكل بجهود جماعية ، تاريخ الوجود اللاإنساني لسلطات جائرة لا تعرف غير السجون وسيلة للحوار . فاستعانت بهــذه " النقرة " النائية الموحشة المليئة بالعقارب والأفاعي لتجعله ليس سجناً بأربعة جدران شاهقة حسب ، بل لتجعله مقبرة للأحياء ومكاناً احتفاليا في إعلان الترتيب المتجانس لأساليب القمع والعدوان على حق المثقف العراقي والسياسي المعارض مثلما على الإنسان العراقي وحرمانه من الحياة الكريمة ، ومنعه من الحرية وحق التعبير .
خلاصة هذه الأوراق سيجدها القاريء في أوراق سجين سياسي عراقي ، هي أن الماضي بقي موجوداً في المستقبل . فكل لحظة في الزمانين تدين أساليب قمع الانسان لأخيه الأنسان مع التأكيد على حقيقة ان الانسان العراقي المعذب سيظل المشروع الوحيد لحرية شعبنا التي ستنتصر في مستقبل مسيرة الانسان الحرة .
كان النبي يوسف على حق حين وصف السجن بالقول : هذا قبر الأحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء ..
جاسم المطير
يرجع سبب قلة المعلومات المتوفرة عن هذا المعتقل لندرة التدوين عمّـا صاحبه ، منذ تأسيسه ، من أحداث جسام ، ألقت بظلالها على حقبة زمنية طويلة من التاريخ العراقي المعاصر..
ها هي البداية..
بل الصفحة الاولى من السجل التاريخي والانساني للأحداث التي تمخضت عن هذا المعتقل .. نأمل أن يستمر تدوين صفحات أخرى من خلال مشاركة كل عراقي دخل دوامة الصراع والمعاناة والنضال بين جدران ذلك السجن الرهيب ..
الحقيقة يجب ان تصل للأجيال الجديدة من المناضلين ساطعة صادقة ، فهذه أمانة تاريخية من حق أبناء الشعب العراقي ان يطلعواعليها.
ندعو الجميع ونناشدهم للأسهام في رفد الكاتب بما لديه من معلومات وحقائق أضافية أو تصحيحية تثري هذا السجل الذي يمس الكثير من حياة المناضلين .
وشكراً..
ترسل المساهمات والرسائل الى البريد التالي:
[email protected]
( الحلقة الأولى )
تمهيد ..
في بداية كانون ثاني من عام 1964 دخلت الى سجن نقرة السلمان . السجن السيئ الصيت في بلاد العرب كلها ، يعزل ساكنيه عزلاً تاماً عن العالم كله . لا شيء يمتد أمام أعين السجناء غير السماء . لا شيء ينبسط ولا شيء ينطلق . مكان ينعدم فيه التاريخ فلا أحد يعرف الزمن الذي مضى ولا الزمن الذي يأتي . لا السجين يعرف متى ينتهي مصيره ولا السجان يعرف متى تنتهي وظيفته . بين شروق الشمس وغروبها أسئلة كثيرة ومشاكل كثيرة . بين غروب الشمس وشروقها ثانية تتشكل المأساة في كوابيس كل سجين .
الصحراء هي العالم الوحيد المحيط بجدران السجن والسجناء وحتى السجانين أيضاً هم سجناء بمعنى آخر ، حركتهم أوسع ، مكانهم أكبر ، لكن زمانهم له بعض وجود ، مثلنا تماماً كلما مر يوم نزداد تعطشاً الى الحرية . .
لا يمكن لأي واحد أن يتجاوز على حاضره فهو مستبعد من أية قدرة . القضية الوحيدة العائشة في كل لحظة مع السجناء هي قضية الصراع مع الألم . ولا شيء يبعد الألم غير التأملات المتسلسلة المنبثقة عن إيمان السجين بأن القيود لا بد ان تتحطم ذات يوم مهما طال الزمن .
أصطحبتُ معي الى هذا المكان أقلاماً وأوراقاً. فقد كنتُ قد قدرتُ قبل المجيء الى هنا أن تفاعل السجين مع محيطه ومع وجوده القاسي يجب ان يدوّن . أنه طموح لازمني منذ أول لحظة صدر فيها أمر نقلي من مركز شرطة العشار الى سجن نقرة السلمان .
في هذا المكان لن يكون فيه تراث بدون قلم ، بدون شحذ ذاكرتي بمغامرتي في الكتابة عن حياة الناس هنا ، كأنني موكل لقلمي مهمة خاصة هي تدوين بعض المعاناة تدويناً أميناً بواسطة رسائل موجهة من داخل السجن الى خارجه حاملة بالتشفير تارة وبالصريح من التعبير تارة أخرى ما ألاحظه بعيني وما أسمعه بأذني من أحداث وأقوال ، ووقائع ، وأفكار ، و تقاليد ، وهموم ، وأخلاق ، وصراع ، وما يأتيني من ماضي الذكريات . أدى قلمي بعض مهمته بشكل تجسد ، بالتالي ، في هذه الذكريات التي تحمل تدوينات فيها خواطر ، وحقائق ، ووقائع .أنها أمتزاج خالص بين العواطف والأحاسيس والأفكار وأشياء عديدة أخرى من مشاعر الخوف ، والقلق ، وتقلبات المزاج الصعب . لكنها ، جميعاً ، تعبر عن ملتقى كائنات في وحدة لا يتجزأ عنصرها عن أنفاس السجن وقساوة طقوسه ومرارة أيامه .
في رواية من روايات الكاتب اليهودي النمساوي ستيفان زيفايج ( لا أتذكر اسمها ) لكنني أتذكر أنها تتناول معاناة سجين لم يستطع التخلص منها إلاً بممارسة حريته في استعادة ما قرأه من كتب الأدب وفي أستعادة ما حفظه من قصائد الشعر ، واستعادة جميع ذكرياته ، وعندما أنتهى من استعادتها كلها ظل يلعب ، في زنزاته ، الشطرنج مع نفسه . . وقد أفادني زيفايج بتكريس وقتي داخل السجن ليس في استعادة الذكريات حسب ، بل في تدوين ذكريات جديدة مصحوبة بلعب الشطرنج أيضاً ولكن مع آخرين ، فأحياناً ينظم السجناء السلمانيون مباراة شطرنجية كنتُ أتفرج على منافسات أبطالها ..
بعد أكثر من عشرين عاماً على تحرير تلك الرسائل والذكريات واستقرارها في فوطة والدتي المحفوظة بقطعة نايلون داخل صندوق صغير من الحديد مدفونة في حديقة دارنا بحفرة أسمنتية لا تثير انتباها ، هندسها أنور طه البصري ذات يوم ، أعدتُ قراءتها مع مجموعة أخرى من الأوراق التي كنتُ أحتفظ بها مع مجموعة أخرى من رسائل الأهل والأصحاب التي كانت تردني من خارج السجن وبعضها من خارج العراق . يعود الفضل في بقائها وسلامتها الى الصديق سامي أحمد العامري الذي بذل جهداً كبيراً في صيانتها .
تأوهتُ كثيراً وتألمتُ حين ضاع بعضها في سجن آخر ، سجن الحلة ، بعد أن هربتُ منه. فمن أمنته إياها لم يكن في ساعة من ساعات خوفه أميناً عليها فأحرقها .
حاولت أثناء أعادة قراءتي لأوراق السجن تذكر مناسبات كتابتها ، وفك بعض رموزها ، وتخليصها من غموض بعض العبارات التي اضطررت إليها في حينه وأنا أدونها داخل السجن أو أهربها الى خارجه بصيغة معينة ( مبهمة ) بقصد تمويهها على إدارة السجن أو الحذر من وقوعها بأيدي أجهزة الأمن التي لم تكف لا عن مطاردة زوجتي ولا عن تفتيش بيتي ولا عن اعتقال والدتي لمرات عديدة بعد سجني .
المهم أن أوراقي ضمنت لنفسها ، في النهاية ، سلامة العبور فوق جسور عديدة . بعضها عَبَرَ جسر المراقبة البريدية ، وبعضها عَبَرَ جسر المداهمات البوليسية البيتية وبعضها عَبَرَ جسر الرقابة السجنية .
الشيء المهم أن كلمات هذه الذكريات تهمي كلمة كلمة ، يأتي معناها جزءاً جزءاً ، تأخذ طريقها الى الحقيقة المرة في حياة السجين السياسي حيث يتعمق معنى كلماتها تارة ويوهن تارة أخرى ، لكن لا غنى لبعضها عن البعض الآخر ، فهي بكل الأحوال تعبر عن تطلعات شخصية ظننتها عامة ، وعن آمال شخصية ظننتها عامة ، وعن آلام شخصية ظننتها عامة ، وعن وعي شخصي ظننته عاماً . برغم كل شيء فأنها بمجموعها تشكل خطوطاً متصلة كجزء من ذكريات ( نقرة السلمان ) في بعض مراحلها الصعبة .
أن أمر تقييم تلك الظنون متروك للقارئ ، خاصة ذلك القارئ الذي عايش الأحداث نفسها ، أو الذي كان مولعاً أو مهتماً بمتابعة أخبارها وعلاقاتها .
عانيتُ أول ما عانيت قساوة تذكر تاريخ الأحداث السجنية وتاريخ عدم تدوين عدد غير قليل من أوراقي برقم اليوم والشهر والسنة . لكنني ، بعد عجزي ، وجدتُ كتابتها بأهمال ذكر التواريخ مع اعتقادي بأهميتها ، أمراً ضرورياً . وهنا تنازعني أثنان : فتارة أجد أن الصواب هو تجسيد الغاية من الكتابة وفاءً لذكريات السجن وحده ، وتارة أخرى أجد أن طموحي ليس مكتملاً .
القلم بيدي والذكريات تناديني ، فوجدتُ أن لا بأس من تدوينها من دون ذكر أسماء العديد من الأسماء الصريحة لصانعي الأحداث السجنية ، بعد أن كنتُ قد أخفيتها مرمزاً إليها بأسماء مستعارة في ذلك الوقت نظراً لأنها كانت من الأسماء المناضلة المعروفة لدى الأجهزة البوليسية ، وبعضهم من أسماء الشباب الذين نشطوا داخل السجن وهم غير معروفين في خارجه ، مما يعني الكثير من الأذى لهم أو لعوائلهم في حالة وقوعها بيد إحدى تلك الدوائر . مثلاً وجدتُ فيها ثلاث رسائل مطولة تتحدث عن سجين سياسي سميته ( الحاج ذياب ) في رسائلي المرسلة الى الخارج وكان يبدو فيها أنني حاورت هذه الشخصية كثيراً وكم من الوشائج تربطني بها لكن هيهات أن أتذكر حقيقة هذه الشخصية بعد أن بلغتُ من العمر عتيا..! رغم أن ذاكرتي تلمح أن الحاج ذياب هو المقدم الركن سليم الفخري الذي كانت تربطني به علاقات يومية في سجن السلمان .
وكم يؤلمني ضياع ما يقرب من مائتي صفحة فولسكاب من هذه الذكريات . كنتُ قد أعطيتها الى الصديق محمد الجزائري في بداية التسعينات لقراءتها وتدقيقها لغوياً كما كان معيناً دائماً لي في تدقيق ما أكتبه طوال أكثر من أربعين عاماً . كانت الصفحات تتضمن الكثير من جوانب نشاطات الأدباء السجناء في نقرة السلمان . أعادها الصديق محمد الجزائري لي مدققة لكنها وقعت بعد أسبوع واحد ضحية تحرٍ بوليسي فتحولت الى مكان آخر .. !
وجدتُ أثناء المراجعة أن الضرورة تقتضي تفسير بعض المحتويات بإشارات هامشية لم تكن موجودة في المتن الأصلي لرسائلي وأوراقي . كما وجدتُ ضرورة الإشارة الى أسماء أخرى لم تكن واردة في الأصل فوضعتها في هوامش أيضاً لكنها غير مثقلة بالتعليقات أو التعقيبات ، فظلت كما هي نابعة من القلب على بساطتها ، ونابعة من الحقائق الخاصة بمعاناة السجون .
يعود الفضل الأكبر لسلامة هذه الأوراق الى سامي أحمد العامري . فبعضها ، وهو ليس قليلاً، ظل مخبأً زمناً طويلاً معه. (( كان سامي قد قضى فترة غير قصيرة في سجن نقرة السلمان من العام 1961 لغاية العام 1968 حيث كان في أغلب تلك الفترة المسئول الحزبي الثاني لتنظيم الشيوعيين داخل السجن ، إذ كان الأول عبد الوهاب طاهر ، بعده كاظم فرهود ، وبعدهما لا أدري حين غادرتُ النقــرة )).
حين غادرتُ سجن النقرة في ربيع 1967 منقولاً الى سجن الحلة ، أبقيتُ أوراقي ورسائلي مع سامي أحمد الذي أبتلى بمهمة صيانتها لسنوات عديدة مخبأة بطريقة " فنية " مع أغراضه الخاصة وقد سلمني إياها في بغداد عام 1969
بقدر ما كان سامي أحمد رجلاً شفافاً محبوباً من قبل أغلب السجناء لمبادراته الكثيرة في حل المشاكل الشخصية للسجناء ورعاية مطالبهم وأفكارهم ومعاناتهم بغض النظر عما إذا كانوا شيوعيين أم لا ، فأن عبد الوهاب طاهر كان يشعر شعوراً حاداً بوهن المنفى السجني فضرب حول نفسه طوقاً من الممانعة في صحبة رفاقه أو أصدقائه داخل السجن . كان ينطوي على مجموعة من التصرفات والسلوكيات الانعزالية . كان يعيش في حالة من القلق الشديد ملازماً لعلاقاته داخل السجن الى حين خروجه ، فظل قلقه مصاحباً له حتى في تحديد موقفه من القيادة المركزية ، التنظيم المنشق عن الحزب الشيوعي العراقي عام 1967 .
خلال المدة الطويلة التي مرت على هذه الأوراق ـ حوالي 38 سنة ـ كانت أفكار عديدة تتحرك في داخلي بلا إرادة . تريد أن تهاجم جمودها على الورق . تحركت عندي رغبات عديدة قديمة في تحويل بعض مضامينها الى قصص قصيرة أو الى رواية تتحدث عن مآسي وعذابات السجون والسجناء أو عن رحلة عذاب شخصية عشتها في تلك الفترة . لكنني بقيت وفياً لحبها ، مستمداً من ذلك الحب قوة روحية مبعثها إلهام الذكريات وناتجها صياغة الذكريات .ومن المبعث والناتج أهتديتُ الى إبقائها كما هي مدونة في حالتها الأولى من دون إضافة جوهرية . ربما أضطررت الى حذف بعض المقاطع والأسماء لكن الجوهر ظل على حاله ليس من باب الكسل أو حباً بالمرارة الواردة في مضامينها ، بل رغبة في إبقاء إلهام الماضي على حاله ليتراءى لي جارفاً ، فاتناً ، في كل كلمة وفي كل عبارة .
أحس ، الآن ، بأن التفكير المتصل بزمان كتابة هذه الأوراق قد يرضي بعض الرغبات ، ويسعد القارئ أن يتعرف على جزء يسير جداً من بعض التاريخ العراقي للسجناء السياسيين . غير أن" تاريخ " الأوراق شكـّل عندي كابوساً لا مفر منه . ولابد ، بالتالي ، من إبعاده عن هذه الصياغة لتمر الأفكار سلسلة متواصلة سلسة الى قلب القارئ وعقله .
أول بداية لكتابة هذه الأوراق كانت في يوم 28 /1/1964 وآخر ورقة منها في 22/1/1967آملاً أن تكون أوراق ذكرياتي السجنية نقطة أنطلاق لسجناء آخرين ولكتاب آخرين لكي يضعوا موجوداتهم الفكرية ومعاناتهم السجنية على الورق الذي سيشكل بجهود جماعية ، تاريخ الوجود اللاإنساني لسلطات جائرة لا تعرف غير السجون وسيلة للحوار . فاستعانت بهــذه " النقرة " النائية الموحشة المليئة بالعقارب والأفاعي لتجعله ليس سجناً بأربعة جدران شاهقة حسب ، بل لتجعله مقبرة للأحياء ومكاناً احتفاليا في إعلان الترتيب المتجانس لأساليب القمع والعدوان على حق المثقف العراقي والسياسي المعارض مثلما على الإنسان العراقي وحرمانه من الحياة الكريمة ، ومنعه من الحرية وحق التعبير .
خلاصة هذه الأوراق سيجدها القاريء في أوراق سجين سياسي عراقي ، هي أن الماضي بقي موجوداً في المستقبل . فكل لحظة في الزمانين تدين أساليب قمع الانسان لأخيه الأنسان مع التأكيد على حقيقة ان الانسان العراقي المعذب سيظل المشروع الوحيد لحرية شعبنا التي ستنتصر في مستقبل مسيرة الانسان الحرة .
كان النبي يوسف على حق حين وصف السجن بالقول : هذا قبر الأحياء ، وبيت الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء ..
جاسم المطير