عندما يُزْعَم أن شكسبير لم يُسافر قطُّ، فالمقصود أنه لم يَتَخَطَّ حدود إنجلترا.
السبت 2019/01/12
من الممكن أن تحل الخرافات المحيطة بشكسبير محل نصوصه نفسها
الكاتب المسرحي الإنجليزي مات بعد شهر واحد من كتابة وصيته التي شغلت ثلاث صفحات كل منها ممهورة بتوقيعه
لا يوجد ذكر في وصيته لأي كتب أو أوراق ضمن الممتلكات الْمُزْمَع توزيعها
القاهرة ـ من أحمد رجب
تتسم الخرافات بطبيعة ديناميكية فهي تتغير وفقا للتطورات التاريخية والثقافية، ولا يتحقق أثر الخرافة من منطلق إنها حقيقية، فهم لا تهتم بالحدث نفسه بقدر اهتمامها بمغزاه، ووفقا لما ذهبت إليه كارين أرمسترونج في كتابها "تاريخ موجز للخرافة"، فالخرافة مصممة كي تكون مؤثرة، لا كي تكون صحيحة، وترى كارين أن البشر كائنات تسعى إلى الخرافة، بمعنى أنهم كائنات تستهويها الحكايات، وتعنى كلمة خرافة مجموعة من المعتقدات الشخصية أو الجمعية.
من هذا الفهم لطبيعة ومعنى الخرافة انطلقت لوري ماجواير، وزميلتها بجامعة أكسفورد إيما سميث في كتابهما "أشهر ثلاثين خرافة عن شكسبير"، وقد نشرته مؤخرا مؤسسة هنداوي بالقاهرة، بترجمة أحمد محمد الروبي، وقد عملتا في كتابهما على تفكيك أكثر الخرافات رواجا حول شخصية الشاعر والكاتب المسرحي الأشهر وليم شكسبير.
الخرافات محل النصوص
عن الجديد الذي يمكن أن تضيفه فصول هذا الكتاب إلى السيل الغزير من الكتب التي تناولت حياة وإبداع شكسبير تقول المؤلفتان: "من الممكن أن تحل الخرافات المحيطة بشكسبير محل نصوصه نفسها"، أما عن منهجهما في الكتاب فتقول المؤلفتان "لقد تخيلنا كل خرافة على هيئة قصة مستقلة بذاتها، حتى بعد أن حاولنا الحد من التكرارات قدر المستطاع. وأملنا أن تقدم تلك المقالات، تراكميٍّا، للقارئ مجموعة مهارات دَحْض الخرافات".
ويبدأ الكتاب بخرافة تتعلق بشهرة شكسبير في عصره، فالقراء اليوم في العالم كله يفترضون أن شكسبيرا كان أشهر كتاب عصره، وهذا ما يفسر عدم اندثار أعماله بتوالي مرور القرون عليها، هنا يؤكد الكتاب على نسبية مفهوم الشهرة، وعلى ضرورة التفرقة بين الشعبية في ميدان المسرح والشعبية في مجال الأعمال المطبوعة. ويصل الكتاب إلى نتيجة أن شكسبير استمد شهرته الأولى من شهرة فرقة رجال اللورد تشامبرلين التي كتب لها بعض مسرحياتها، فلا يمكن أن يكون تزايد شهرة ونفوذ الفرقة راجعا إلى مسرحيات شكسبير وحدها، بل الفائدة كانت متبادلة بينه وبين الفرقة.
وعن عدم تلقي شكسبير لأي تعليم ، يخلص الكتاب إلى أنه تلقي تعليما ساعد على تأسيسه في الأدب الكلاسيكي لكنه واصلَ البناء على هذا الأساس المَتِين بنفسه.
وعن خرافة كراهية شكسبير للسفر وعدم ارتحاله يوضح الكتاب أن الرحلة من مسقط رأس شكسبير في "ستراتفورد – أبون – أفون" إلى لندن هي الآن نزهة لا تستغرق سوى ساعتين، لكنها كانت في القرن السادس عشر رحلة شاقة. لذلك عندما يُزْعَم أن شكسبير لم يُسافر قطُّ، فالمقصود أنه لم يَتَخَطَّ حدود إنجلترا، مع أن مسألة سفر شكسبير إلى أوروبا هي إحدى الفرضيات التي تسد فجوة السنوات المفقودة المزعومة في حياته خلال الفترة بين عامَيْ ١٥٨٨ و١٥٩١، حيث لا يوجد أي دليل يثبت أماكن تواجده أو أنشطته. لكن إذا لم يكن شكسبير قد ارتحل خارج إنجلترا فمن أين عرف بالحكايات التي عرضها في مسرحياته "سيدان من فيرونا"، و"روميو وجولييت"، و"تاجر البندقية" وغيرها من مسرحيات تدور أحداثها في إيطاليا، وهاملت التي تجري في الدانمرك؟ هنا تقول الكاتبتان: وكيف ارتحل شكسبير في عدد من مسرحياته إلى اليونان القديمة، وإلى روما القديمة، وأماكن أخرى كانت مسرحا لأعماله التاريخية، "الإجابة هي إنه ارتحل قارئًا، محمولًا على صفحات الكتب؛ فهو لم يقصد هذه الأماكن، ولكن قرأ عنها".
الوصية الغريبة
مات شكسبير بعد شهر واحد من كتابة وصيته التي شغلت ثلاث صفحات كل منها ممهورة بتوقيعه، ولا يوجد بها ذكر لأي كتب أو أوراق ضمن الممتلكات الْمُزْمَع توزيعها.
كراهية شكسبير للسفر
وقد اشتهرت الوصية شهرة واسعة بسبب غرابة أحد بنودها و هو "أهب زوجتي ثاني أفضل أَسِرَّتي مع الأثاث"، فقد اعتبر البعض في هذا البند دليلا على كراهية شكسبير لزوجته، وقيل إنها حملت منه قبل الزواج فابنته سوزانا ولدت بعد أقل من ستة أشهر من الزواج، كما أنها كانت تكبره بثماني سنوات، كانت تلك إحدى الخرافات الشائعة لكن الكتاب يفندها بالرجوع إلى تقاليد عصر شكسبير، فأيامها كان أفضل الأسِرة يُخَصِّ للضيوف؛ ولذا فإن التَّرِكة رومانسية الطابع، وليست دليلا على زيجة تعسة، ففي واحدة من السونيتات قال "السرير الذي مارسنا فيه الحب كان عالمًا دوَّارًا / من الغابات والقصور وأضواء المشاعل وقمم المنحدرات والبحار / حيث كان يغطس بحثًا عن اللآلئ". فالقائلون بكراهيته لزوجته انطلقوا من النتيجة المنشودة رجوعًا إلى النظر في الدليل، لا من العكس.
كما فعلوا أيضا في ربطهم بين اسم ابن شكسبير "هامنت" واسم بطل مسرحيته الشهيرة "هاملت"، حتى أن فرويد اعتبرهما شخصا واحدا، والسبب لذلك هو أن التراجيديا التي يؤدي هاملت دور البطولة فيها تدور عن العلاقات بين الأب والابن. وهي أيضًا مسرحية أسيرة التأملات في الموت. وكذلك كان عقل مؤلفها بحسب ظن البعض، فقد كان الأسى جزءا من مخزون شكسبير الإبداعي لوفاة ابنه ثم عمه وأبيه، وهذا انعكس على المسرحية. لكن هذا يتجاهل أن الحبكة مستوحاة من أسطورة دنماركية، يُدْعَى فيها البطل المنتقم أملوثي، وقد أسماه شكسبير هاملت، كعادته في تبديل الأسماء الموجودة في مصادره، أما عن اتهام شكسبير بسرقة مسرحياته، فالكتاب يشير إلى أمرين أولهما أن الصدام بين ثقافات المحاكاة المنتمية إلى عصر النهضة بثقافتَيِ السرقة والأصالة المنتميتين إلى العصر الحديث، وثانيهما أن أغلب مسرحيات شكسبير لها مصدر واحد محدد، فإن كان سارقا فهو يسرق نفسه، فكلما يرتقي شكسبير في مشواره الأدبي، نجد أن مسرحياته الخاصة السابقة هي التي ينتفع بها مصدرًا لمسرحياته التالية.
ولعل هذه السرقة الذاتية تبلغ ذروتها في مسرحية "سيمبلين" الرومانسية، كما أن كل الأعمال المتأخرة تُعيد صياغة مواد شكسبيرية؛ فمسرحية "العاصفة" هي نسخة مخففة من "هاملت".
ونظرا لأن سيرة الرجل حافلة بالخرافات التي ظلت تتراكم حوله طوال حياته، بحيث يتطلب تفكيكها وتفسيرها وقوفا على هذه السيرة فإن الكتاب من هذه الناحية يقدم ما يمكن اعتباره "سيرة حياة شكسبير"، منذ القصة الشائعة حول صيده للغزلان في مطلع شبابه، مرورا بتفاصيل زواجه، ومحاولات استكشاف السنوات الضائعة أو غير الموثقة من حياته.
السبت 2019/01/12
من الممكن أن تحل الخرافات المحيطة بشكسبير محل نصوصه نفسها
الكاتب المسرحي الإنجليزي مات بعد شهر واحد من كتابة وصيته التي شغلت ثلاث صفحات كل منها ممهورة بتوقيعه
لا يوجد ذكر في وصيته لأي كتب أو أوراق ضمن الممتلكات الْمُزْمَع توزيعها
القاهرة ـ من أحمد رجب
تتسم الخرافات بطبيعة ديناميكية فهي تتغير وفقا للتطورات التاريخية والثقافية، ولا يتحقق أثر الخرافة من منطلق إنها حقيقية، فهم لا تهتم بالحدث نفسه بقدر اهتمامها بمغزاه، ووفقا لما ذهبت إليه كارين أرمسترونج في كتابها "تاريخ موجز للخرافة"، فالخرافة مصممة كي تكون مؤثرة، لا كي تكون صحيحة، وترى كارين أن البشر كائنات تسعى إلى الخرافة، بمعنى أنهم كائنات تستهويها الحكايات، وتعنى كلمة خرافة مجموعة من المعتقدات الشخصية أو الجمعية.
من هذا الفهم لطبيعة ومعنى الخرافة انطلقت لوري ماجواير، وزميلتها بجامعة أكسفورد إيما سميث في كتابهما "أشهر ثلاثين خرافة عن شكسبير"، وقد نشرته مؤخرا مؤسسة هنداوي بالقاهرة، بترجمة أحمد محمد الروبي، وقد عملتا في كتابهما على تفكيك أكثر الخرافات رواجا حول شخصية الشاعر والكاتب المسرحي الأشهر وليم شكسبير.
الخرافات محل النصوص
عن الجديد الذي يمكن أن تضيفه فصول هذا الكتاب إلى السيل الغزير من الكتب التي تناولت حياة وإبداع شكسبير تقول المؤلفتان: "من الممكن أن تحل الخرافات المحيطة بشكسبير محل نصوصه نفسها"، أما عن منهجهما في الكتاب فتقول المؤلفتان "لقد تخيلنا كل خرافة على هيئة قصة مستقلة بذاتها، حتى بعد أن حاولنا الحد من التكرارات قدر المستطاع. وأملنا أن تقدم تلك المقالات، تراكميٍّا، للقارئ مجموعة مهارات دَحْض الخرافات".
ويبدأ الكتاب بخرافة تتعلق بشهرة شكسبير في عصره، فالقراء اليوم في العالم كله يفترضون أن شكسبيرا كان أشهر كتاب عصره، وهذا ما يفسر عدم اندثار أعماله بتوالي مرور القرون عليها، هنا يؤكد الكتاب على نسبية مفهوم الشهرة، وعلى ضرورة التفرقة بين الشعبية في ميدان المسرح والشعبية في مجال الأعمال المطبوعة. ويصل الكتاب إلى نتيجة أن شكسبير استمد شهرته الأولى من شهرة فرقة رجال اللورد تشامبرلين التي كتب لها بعض مسرحياتها، فلا يمكن أن يكون تزايد شهرة ونفوذ الفرقة راجعا إلى مسرحيات شكسبير وحدها، بل الفائدة كانت متبادلة بينه وبين الفرقة.
وعن عدم تلقي شكسبير لأي تعليم ، يخلص الكتاب إلى أنه تلقي تعليما ساعد على تأسيسه في الأدب الكلاسيكي لكنه واصلَ البناء على هذا الأساس المَتِين بنفسه.
وعن خرافة كراهية شكسبير للسفر وعدم ارتحاله يوضح الكتاب أن الرحلة من مسقط رأس شكسبير في "ستراتفورد – أبون – أفون" إلى لندن هي الآن نزهة لا تستغرق سوى ساعتين، لكنها كانت في القرن السادس عشر رحلة شاقة. لذلك عندما يُزْعَم أن شكسبير لم يُسافر قطُّ، فالمقصود أنه لم يَتَخَطَّ حدود إنجلترا، مع أن مسألة سفر شكسبير إلى أوروبا هي إحدى الفرضيات التي تسد فجوة السنوات المفقودة المزعومة في حياته خلال الفترة بين عامَيْ ١٥٨٨ و١٥٩١، حيث لا يوجد أي دليل يثبت أماكن تواجده أو أنشطته. لكن إذا لم يكن شكسبير قد ارتحل خارج إنجلترا فمن أين عرف بالحكايات التي عرضها في مسرحياته "سيدان من فيرونا"، و"روميو وجولييت"، و"تاجر البندقية" وغيرها من مسرحيات تدور أحداثها في إيطاليا، وهاملت التي تجري في الدانمرك؟ هنا تقول الكاتبتان: وكيف ارتحل شكسبير في عدد من مسرحياته إلى اليونان القديمة، وإلى روما القديمة، وأماكن أخرى كانت مسرحا لأعماله التاريخية، "الإجابة هي إنه ارتحل قارئًا، محمولًا على صفحات الكتب؛ فهو لم يقصد هذه الأماكن، ولكن قرأ عنها".
الوصية الغريبة
مات شكسبير بعد شهر واحد من كتابة وصيته التي شغلت ثلاث صفحات كل منها ممهورة بتوقيعه، ولا يوجد بها ذكر لأي كتب أو أوراق ضمن الممتلكات الْمُزْمَع توزيعها.
كراهية شكسبير للسفر
وقد اشتهرت الوصية شهرة واسعة بسبب غرابة أحد بنودها و هو "أهب زوجتي ثاني أفضل أَسِرَّتي مع الأثاث"، فقد اعتبر البعض في هذا البند دليلا على كراهية شكسبير لزوجته، وقيل إنها حملت منه قبل الزواج فابنته سوزانا ولدت بعد أقل من ستة أشهر من الزواج، كما أنها كانت تكبره بثماني سنوات، كانت تلك إحدى الخرافات الشائعة لكن الكتاب يفندها بالرجوع إلى تقاليد عصر شكسبير، فأيامها كان أفضل الأسِرة يُخَصِّ للضيوف؛ ولذا فإن التَّرِكة رومانسية الطابع، وليست دليلا على زيجة تعسة، ففي واحدة من السونيتات قال "السرير الذي مارسنا فيه الحب كان عالمًا دوَّارًا / من الغابات والقصور وأضواء المشاعل وقمم المنحدرات والبحار / حيث كان يغطس بحثًا عن اللآلئ". فالقائلون بكراهيته لزوجته انطلقوا من النتيجة المنشودة رجوعًا إلى النظر في الدليل، لا من العكس.
كما فعلوا أيضا في ربطهم بين اسم ابن شكسبير "هامنت" واسم بطل مسرحيته الشهيرة "هاملت"، حتى أن فرويد اعتبرهما شخصا واحدا، والسبب لذلك هو أن التراجيديا التي يؤدي هاملت دور البطولة فيها تدور عن العلاقات بين الأب والابن. وهي أيضًا مسرحية أسيرة التأملات في الموت. وكذلك كان عقل مؤلفها بحسب ظن البعض، فقد كان الأسى جزءا من مخزون شكسبير الإبداعي لوفاة ابنه ثم عمه وأبيه، وهذا انعكس على المسرحية. لكن هذا يتجاهل أن الحبكة مستوحاة من أسطورة دنماركية، يُدْعَى فيها البطل المنتقم أملوثي، وقد أسماه شكسبير هاملت، كعادته في تبديل الأسماء الموجودة في مصادره، أما عن اتهام شكسبير بسرقة مسرحياته، فالكتاب يشير إلى أمرين أولهما أن الصدام بين ثقافات المحاكاة المنتمية إلى عصر النهضة بثقافتَيِ السرقة والأصالة المنتميتين إلى العصر الحديث، وثانيهما أن أغلب مسرحيات شكسبير لها مصدر واحد محدد، فإن كان سارقا فهو يسرق نفسه، فكلما يرتقي شكسبير في مشواره الأدبي، نجد أن مسرحياته الخاصة السابقة هي التي ينتفع بها مصدرًا لمسرحياته التالية.
ولعل هذه السرقة الذاتية تبلغ ذروتها في مسرحية "سيمبلين" الرومانسية، كما أن كل الأعمال المتأخرة تُعيد صياغة مواد شكسبيرية؛ فمسرحية "العاصفة" هي نسخة مخففة من "هاملت".
ونظرا لأن سيرة الرجل حافلة بالخرافات التي ظلت تتراكم حوله طوال حياته، بحيث يتطلب تفكيكها وتفسيرها وقوفا على هذه السيرة فإن الكتاب من هذه الناحية يقدم ما يمكن اعتباره "سيرة حياة شكسبير"، منذ القصة الشائعة حول صيده للغزلان في مطلع شبابه، مرورا بتفاصيل زواجه، ومحاولات استكشاف السنوات الضائعة أو غير الموثقة من حياته.