من «سلا» المغربية إلى ضاحية «سان دوني» الباريسية، عاش الشاعر والروائي محمد حمودان تجربة الفقر والتهميش بوجهيها الشرقي والغربي. في فرنسا أيضا حيث صدرت للأديب أشعاره وروايته عرف أن التمييز ليس له من حدود أو هوية، وأن المكر قد يأتي من أي نافذة، وأن ينصفك العالم فهذا مجرد حلم جميل عليك أن تعيشه باستمرار، حتى ولو اشتممت منه رائحة الكوابيس.
ولد محمد حمودان بقرية المعازيز، نواحي مدينة الخميسات سنة 1968. كبر وترعرع بمدينة سلا. هذه المدينة النائمة على الضفة اليمنى للعاصمة الرباط. لم تكن عائلة حمودان هي الوحيدة التي فضّلت نداء سلا الأندلسية لتلتحق بعتمة ضواحيها، بل المئات والآلاف من سكان المدن المجاورة وحتى البعيدة. بابل جديدة تحتفي بالأغراب. لم لا؟ كان حي السلام الأرض التي استضافت آل حمودان الأمازيغ. «ارتبط بمدينة سلا بعلاقة عاطفية وشبه حسيّة، لأني قضيت فيها طفولتي ومراهقتي وشبابي. وما زالت ذاكرتي تحتفظ بصورتين حييتين: المقبرة والبحر. وكنت أقضي فيهما، مع صديق تعرفت عليه آنذاك، معظم أوقاتي، حيث دخنت أولى سجائري السرية وتجرعت كؤوسي الأولى وسط جيش عرمرم من «المهمّشين». لم تكن هذه المعالم سيرة ذاتية استثنائية لمغربي في عزّ الشباب، بل سيرة الشباب المغربي قاطبة، ومن ضمن حمودان، في مملكة أرّقها الأفق الديمقراطي. غذى هذا السواد الحس الغريزي لمحمد حمودان مما أهله للسير بلا هوادة على طريق الحرية الشائك.
رحل الشاب إلى مدينة باريس مقتفيا آثار جان جينيه لإنجاز أطروحة عنه. كاتب حدودي لامتحان جموح الكتابة والشباب. فمحمد حمودان يكتب الشعر ويحلم بآفاق أخرى يرتادها الحالمون في ليل الذئاب التي تركها تنهش لحم القبيلة في مغرب سنوات الرصاص. لكن لماذا اختار هذا «الوينخ» الخارج من جلباب قرية المعازيز أن يكتب الشعر بالفرنسية؟ «تعتبر القصيدة بالنسبة لي فضاء للتلاقي حيث تعيد اللغة تنظيم وتحويل اتجاه الخطابات التي تعبر العالم متبنية أشكالا مختلفة لهذا الغرض. «نشر إذن الشاب حمودان دواوينه الأولى عن دار نشر «لارمتان». وكان أحدهما بمقدمة مبتسرة لعبد اللطيف اللعبي الذي لم يعط لهذا الديوان حقه. ربما لأنه اشتم فيه رائحة مجلة «أنفاس» التي كان يديرها مع مجموعة من الكتاب المغاربة الشباب المفرنسين الذين صار لهم شأن فيما بعد، كمحمد خير الدين والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي أو مصطفى النيسابوري. غير أن حمودان يرى غير ذلك: «لا يمكن لأحد أن ينفي أهمية مجلة «أنفاس» التي أثرت في الحقل الأدبي المغربي. بيد أنه من العبث، كما فعل الباحث مارك غونتار في الماضي واللعبي نفسه مؤخرا، الادعاء أن كل الإبداع المغربي، ولا سيما الشعري الناطق بالفرنسية نبع من نهر «أنفاس» العظيم. إن هذا عبث لا نقيس خطورته. شخصيا، لم يكن عندي البتة ميل نحو الشكلانية المفرطة التي ميزت نصوص «أنفاس» الأولى ولا للقصائد ـ المناشير الساسية حيث كان الخطاب يأخذ بخناق القصيدة، كما كان الحال في السبعينات والثمانينات. كما أن الكاتب المغربي سليم الجاي جانب الصواب، لمّا اعتبرني وريث محمد خير الدين في قاموسه عن الكتّاب المغاربة. لأنه كان يصفي حسابه مع «أحياء» مجلة «أنفاس».
«هذا هو حمودان ذو اللسان الأدبي القاطع كحد السيف. وقد مكنه هذا النقد المتوحش من سبر أغوار الهوامش في العاصمة الفرنسية باريس. من حي السلام الحي الشعبي في مدينة سلا إلى ضاحية سان ـ دوني الشعبية الذي لا يميزها عن المدينة المغربية سوى لجوئها إلى خريطة العم بودلير. ترك جان جينيه لحاله، وتابع طريق الكتابة المحفوفة بالمخاطر. مخاطر الاندماج والبطالة. فكم قضى أوقاته حارسا مؤقتا بمسرح «لزامونديي» أو بمطار شارل دوغول أو مدرسا مؤقتا لشياطين الضواحي، حيث يجن الأستاذ بعد حصص قليلة في الفصل. الفرنسيون، على كل حال، لا يرغبون في تشغيل المغاربة بشهادات جامعية عن جان جينيه، بل يفضلون الاحتفاء بهم في الأمكنة الفاسدة. ثم من الأفضل للجميع أن يعيش كل في حاله. هذه هي فرنسا الاختلاف. العنف الرمزي والواقعي، درس جديد من أرض الإقامة التي لجأ إليها الكاتب الشاب. «تقتات الكتابة عندي من الهجرة. وقد بدأت الكتابة عند وصولي إلى فرنسا. وفي الحقيقة، فقد عشت لمدة طويلة الهجرة باعتبارها تمزقا عنيفا، وهذا المظهر يستشف في نصوصي. الآن، يمكن أن أدّعي أنني روّضته». رضع محمد حمودان العنف في المغرب، وشّب عليه في بلاد الآخرين. «في مدينة سلا، كان العنف لغة الفقر اليومية، وكان الخطر يتربص بنا في كل مكان بأحيائنا الشعبية التي كان وجودنا فيها بمثابة المعجزة. وما زال جسدي يحمل بعض ندوبها الخارقة إلى يومنا هذا».
نخرج من هذا السفر المزدوج بدرس فلسفي باهر: أخوة المعذبين في الأرض هي نفسها في كل مكان. وقد قام حمودان بحسه الشعري الحاد بإعادة قراءة جرحه الشخصي في علاقة بشجرة أنساب بعيدة. وكانت هذه القراءة المتأنية تمرينا وجوديا عسيرا للمضي قدما في غابة البشرية. وحتى تستقيم هذه القراءة غيّر صاحبنا سلاح المعركة، فانتقل من سهام الشعر إلى مدفع الرواية. ورغم تغيير السلاح فالمعركة هي نفسها. من الشعر إلى الرواية، من كثافة العلامات إلى وضوح اليوميّ. «تغيير الشكل لا يعني التخلي عن الشعر، بل هذا الأخير هو عصب روايتي. وهذا المرور تم بسلاسة مطلقة، لأنني في ديواني «ميكانيكا بيضاء» خبرت العمل باقتصاد السرد. لكن الشكل الروائي يسمح لي بتناول فساحة العالم تناولا دقيقا. وبالضبط، الحديث عن ذاتي في دوّامة المجتمعات الحديثة».
«حلم فرنسي»، هو عنوان الرواية القوية التي أصدرها محمد حمودان عن دار «لاديفيرانس» الباريسية. رواية تتناول بمبضع التحليل سنوات الرصاص من خلال سيرة ذاتية مقنعة لشاب متمرد في حي «تابريكت» الشعبي بمدينة سلا. صاحبنا الذي تشبّع بالكتب «الحمراء» التي فتحت عينيه على فظاعة نظام سياسي لم يفكر قط بقلب الإنسان. ثم هاجر إلى فرنسا للالتحاق بأخويه اللذين علماه «العنف الثوري»؛ لكنهما «باعا» الماضي المشترك لينخرطا في عالم «الرأسمال». بقي البطل وحده أمام صفاء الأفكار الثورية متمردا على الجميع. بطل إشكالي، بلا شك. فهو يشرّح الآخرين وينسى كنس باب بيته. التمرد الأعمى يجعلنا ننام في العسل. دون كيشوته، على ما يبدو. هذه الرواية الأولى، رغم بعض الهنات الأسلوبية والإيديولوجية، تمكّنت من فرض نفسها في مشهد روائي، لا سيما المكتوب بالفرنسية، يسمه التشتت والضعف وقوة «الماركتينغ». فالروائيون الذين يصدرون عن دور نشر كبيرة مثل «غاليمار» أو «سوي» هم أوفر حظا في التعريف بروايتهم ممن يصدرونها عن دار نشر صغيرة كـ«لاديفييرانس». وأحسن مثال على ذلك رواية «الخيرية» للروائي الشاب عبد الله الطايع، الصادرة عن «سوي» والتي عرفت حملة دعائية كبرى في فرنسا وفي المغرب. وشاهدنا الرجل في كل المراكز الثقافية الفرنسية في المغرب، وفي الصحافة والتلفزيون، رغم أن الرواية «ضعيفة». وإذا عرف السبب بطل العجب، فالرواية يدافع فيها الروائي عن مثليته الجنسيةّ في مجتمع عربي إسلامي. نتخيل بقية، إذن، السيناريو بسهولة.
يقول حمودان عن هذا الوضع: «في المغرب أصبحنا نخلط بين الأدب و«سطار أكاديمي»، إذ أصبحت الكتابة الإبداعية مجالا للفرجة. النقد غائب تماما والصحافيون المبتدئون هم من يقرر في مضمار الثقافة. وهم جهلة! والخطير في وضعية كهذه أنهم يدافعون عن الرداءة، فتصبح هذه الأخيرة هي معيار النقد. أما في فرنسا فالأمر لا يختلف كثيرا، لأن النقاد يحبون الأدب الذي يكرس المواضعات، وخصوصا فيما يتعلق بالمهاجرين. «هذا التحليل لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة. فكتاب «حلم فرنسي» مرّ مرور الكرام في المغرب، بينما استقبل عبد الله الطايع استقبال الفاتحين! وهذا ما يدفعنا لطرح أسئلة التلقي عندما يتعلق الأمر بالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. ما هي خلفياته وأسراره ولم لا يحتكم النقاد إلى النص؟ تحتاج هذه الأسئلة لسياق آخر لكي نقف على آليات «فبركة» الكتاب الجدد. كتاب المثلية الجنسية الذين يتوسلون بها ليجدوا مكانا تحت الشمس. رحم الله جان جينيه. ففي زمانه كان الأدب أدبا.
يبقى محمد حمودان، في نهاية المطاف، من الكتاب المغاربة القلائل الذين يكتبون بقساوة الحب عن الجرح الشخصي. وهو ما يجعل صوته متفردا في جوقة من يكتبون باللغة الفرنسية، دون أن يتخلصوا من فتنة الآخر أو عقدته. صورة بالأبيض والأسود، يتجاوزها الروائي الواعد ليرسم لنا خريطة كتابة أدبية مغايرة. يكتب هذا «الوينخ» حمودان، كأنه في حالة حصار شامل، يفلت منه على الدوام بفضل نداء الجذور الذي يسكنه. «حلم فرنسي»؟ بل كابوس فرنسي يفتح عيوننا على مجتمعات غربية مريضة بشبح مهاجريها. وسواء كنا مهاجرين في أرض الله الواسعة أو في أوطاننا، يبقى الحلم سلاح المستضعفين، لمواجهة الألفية القادمة.
ولد محمد حمودان بقرية المعازيز، نواحي مدينة الخميسات سنة 1968. كبر وترعرع بمدينة سلا. هذه المدينة النائمة على الضفة اليمنى للعاصمة الرباط. لم تكن عائلة حمودان هي الوحيدة التي فضّلت نداء سلا الأندلسية لتلتحق بعتمة ضواحيها، بل المئات والآلاف من سكان المدن المجاورة وحتى البعيدة. بابل جديدة تحتفي بالأغراب. لم لا؟ كان حي السلام الأرض التي استضافت آل حمودان الأمازيغ. «ارتبط بمدينة سلا بعلاقة عاطفية وشبه حسيّة، لأني قضيت فيها طفولتي ومراهقتي وشبابي. وما زالت ذاكرتي تحتفظ بصورتين حييتين: المقبرة والبحر. وكنت أقضي فيهما، مع صديق تعرفت عليه آنذاك، معظم أوقاتي، حيث دخنت أولى سجائري السرية وتجرعت كؤوسي الأولى وسط جيش عرمرم من «المهمّشين». لم تكن هذه المعالم سيرة ذاتية استثنائية لمغربي في عزّ الشباب، بل سيرة الشباب المغربي قاطبة، ومن ضمن حمودان، في مملكة أرّقها الأفق الديمقراطي. غذى هذا السواد الحس الغريزي لمحمد حمودان مما أهله للسير بلا هوادة على طريق الحرية الشائك.
رحل الشاب إلى مدينة باريس مقتفيا آثار جان جينيه لإنجاز أطروحة عنه. كاتب حدودي لامتحان جموح الكتابة والشباب. فمحمد حمودان يكتب الشعر ويحلم بآفاق أخرى يرتادها الحالمون في ليل الذئاب التي تركها تنهش لحم القبيلة في مغرب سنوات الرصاص. لكن لماذا اختار هذا «الوينخ» الخارج من جلباب قرية المعازيز أن يكتب الشعر بالفرنسية؟ «تعتبر القصيدة بالنسبة لي فضاء للتلاقي حيث تعيد اللغة تنظيم وتحويل اتجاه الخطابات التي تعبر العالم متبنية أشكالا مختلفة لهذا الغرض. «نشر إذن الشاب حمودان دواوينه الأولى عن دار نشر «لارمتان». وكان أحدهما بمقدمة مبتسرة لعبد اللطيف اللعبي الذي لم يعط لهذا الديوان حقه. ربما لأنه اشتم فيه رائحة مجلة «أنفاس» التي كان يديرها مع مجموعة من الكتاب المغاربة الشباب المفرنسين الذين صار لهم شأن فيما بعد، كمحمد خير الدين والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي أو مصطفى النيسابوري. غير أن حمودان يرى غير ذلك: «لا يمكن لأحد أن ينفي أهمية مجلة «أنفاس» التي أثرت في الحقل الأدبي المغربي. بيد أنه من العبث، كما فعل الباحث مارك غونتار في الماضي واللعبي نفسه مؤخرا، الادعاء أن كل الإبداع المغربي، ولا سيما الشعري الناطق بالفرنسية نبع من نهر «أنفاس» العظيم. إن هذا عبث لا نقيس خطورته. شخصيا، لم يكن عندي البتة ميل نحو الشكلانية المفرطة التي ميزت نصوص «أنفاس» الأولى ولا للقصائد ـ المناشير الساسية حيث كان الخطاب يأخذ بخناق القصيدة، كما كان الحال في السبعينات والثمانينات. كما أن الكاتب المغربي سليم الجاي جانب الصواب، لمّا اعتبرني وريث محمد خير الدين في قاموسه عن الكتّاب المغاربة. لأنه كان يصفي حسابه مع «أحياء» مجلة «أنفاس».
«هذا هو حمودان ذو اللسان الأدبي القاطع كحد السيف. وقد مكنه هذا النقد المتوحش من سبر أغوار الهوامش في العاصمة الفرنسية باريس. من حي السلام الحي الشعبي في مدينة سلا إلى ضاحية سان ـ دوني الشعبية الذي لا يميزها عن المدينة المغربية سوى لجوئها إلى خريطة العم بودلير. ترك جان جينيه لحاله، وتابع طريق الكتابة المحفوفة بالمخاطر. مخاطر الاندماج والبطالة. فكم قضى أوقاته حارسا مؤقتا بمسرح «لزامونديي» أو بمطار شارل دوغول أو مدرسا مؤقتا لشياطين الضواحي، حيث يجن الأستاذ بعد حصص قليلة في الفصل. الفرنسيون، على كل حال، لا يرغبون في تشغيل المغاربة بشهادات جامعية عن جان جينيه، بل يفضلون الاحتفاء بهم في الأمكنة الفاسدة. ثم من الأفضل للجميع أن يعيش كل في حاله. هذه هي فرنسا الاختلاف. العنف الرمزي والواقعي، درس جديد من أرض الإقامة التي لجأ إليها الكاتب الشاب. «تقتات الكتابة عندي من الهجرة. وقد بدأت الكتابة عند وصولي إلى فرنسا. وفي الحقيقة، فقد عشت لمدة طويلة الهجرة باعتبارها تمزقا عنيفا، وهذا المظهر يستشف في نصوصي. الآن، يمكن أن أدّعي أنني روّضته». رضع محمد حمودان العنف في المغرب، وشّب عليه في بلاد الآخرين. «في مدينة سلا، كان العنف لغة الفقر اليومية، وكان الخطر يتربص بنا في كل مكان بأحيائنا الشعبية التي كان وجودنا فيها بمثابة المعجزة. وما زال جسدي يحمل بعض ندوبها الخارقة إلى يومنا هذا».
نخرج من هذا السفر المزدوج بدرس فلسفي باهر: أخوة المعذبين في الأرض هي نفسها في كل مكان. وقد قام حمودان بحسه الشعري الحاد بإعادة قراءة جرحه الشخصي في علاقة بشجرة أنساب بعيدة. وكانت هذه القراءة المتأنية تمرينا وجوديا عسيرا للمضي قدما في غابة البشرية. وحتى تستقيم هذه القراءة غيّر صاحبنا سلاح المعركة، فانتقل من سهام الشعر إلى مدفع الرواية. ورغم تغيير السلاح فالمعركة هي نفسها. من الشعر إلى الرواية، من كثافة العلامات إلى وضوح اليوميّ. «تغيير الشكل لا يعني التخلي عن الشعر، بل هذا الأخير هو عصب روايتي. وهذا المرور تم بسلاسة مطلقة، لأنني في ديواني «ميكانيكا بيضاء» خبرت العمل باقتصاد السرد. لكن الشكل الروائي يسمح لي بتناول فساحة العالم تناولا دقيقا. وبالضبط، الحديث عن ذاتي في دوّامة المجتمعات الحديثة».
«حلم فرنسي»، هو عنوان الرواية القوية التي أصدرها محمد حمودان عن دار «لاديفيرانس» الباريسية. رواية تتناول بمبضع التحليل سنوات الرصاص من خلال سيرة ذاتية مقنعة لشاب متمرد في حي «تابريكت» الشعبي بمدينة سلا. صاحبنا الذي تشبّع بالكتب «الحمراء» التي فتحت عينيه على فظاعة نظام سياسي لم يفكر قط بقلب الإنسان. ثم هاجر إلى فرنسا للالتحاق بأخويه اللذين علماه «العنف الثوري»؛ لكنهما «باعا» الماضي المشترك لينخرطا في عالم «الرأسمال». بقي البطل وحده أمام صفاء الأفكار الثورية متمردا على الجميع. بطل إشكالي، بلا شك. فهو يشرّح الآخرين وينسى كنس باب بيته. التمرد الأعمى يجعلنا ننام في العسل. دون كيشوته، على ما يبدو. هذه الرواية الأولى، رغم بعض الهنات الأسلوبية والإيديولوجية، تمكّنت من فرض نفسها في مشهد روائي، لا سيما المكتوب بالفرنسية، يسمه التشتت والضعف وقوة «الماركتينغ». فالروائيون الذين يصدرون عن دور نشر كبيرة مثل «غاليمار» أو «سوي» هم أوفر حظا في التعريف بروايتهم ممن يصدرونها عن دار نشر صغيرة كـ«لاديفييرانس». وأحسن مثال على ذلك رواية «الخيرية» للروائي الشاب عبد الله الطايع، الصادرة عن «سوي» والتي عرفت حملة دعائية كبرى في فرنسا وفي المغرب. وشاهدنا الرجل في كل المراكز الثقافية الفرنسية في المغرب، وفي الصحافة والتلفزيون، رغم أن الرواية «ضعيفة». وإذا عرف السبب بطل العجب، فالرواية يدافع فيها الروائي عن مثليته الجنسيةّ في مجتمع عربي إسلامي. نتخيل بقية، إذن، السيناريو بسهولة.
يقول حمودان عن هذا الوضع: «في المغرب أصبحنا نخلط بين الأدب و«سطار أكاديمي»، إذ أصبحت الكتابة الإبداعية مجالا للفرجة. النقد غائب تماما والصحافيون المبتدئون هم من يقرر في مضمار الثقافة. وهم جهلة! والخطير في وضعية كهذه أنهم يدافعون عن الرداءة، فتصبح هذه الأخيرة هي معيار النقد. أما في فرنسا فالأمر لا يختلف كثيرا، لأن النقاد يحبون الأدب الذي يكرس المواضعات، وخصوصا فيما يتعلق بالمهاجرين. «هذا التحليل لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة. فكتاب «حلم فرنسي» مرّ مرور الكرام في المغرب، بينما استقبل عبد الله الطايع استقبال الفاتحين! وهذا ما يدفعنا لطرح أسئلة التلقي عندما يتعلق الأمر بالأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. ما هي خلفياته وأسراره ولم لا يحتكم النقاد إلى النص؟ تحتاج هذه الأسئلة لسياق آخر لكي نقف على آليات «فبركة» الكتاب الجدد. كتاب المثلية الجنسية الذين يتوسلون بها ليجدوا مكانا تحت الشمس. رحم الله جان جينيه. ففي زمانه كان الأدب أدبا.
يبقى محمد حمودان، في نهاية المطاف، من الكتاب المغاربة القلائل الذين يكتبون بقساوة الحب عن الجرح الشخصي. وهو ما يجعل صوته متفردا في جوقة من يكتبون باللغة الفرنسية، دون أن يتخلصوا من فتنة الآخر أو عقدته. صورة بالأبيض والأسود، يتجاوزها الروائي الواعد ليرسم لنا خريطة كتابة أدبية مغايرة. يكتب هذا «الوينخ» حمودان، كأنه في حالة حصار شامل، يفلت منه على الدوام بفضل نداء الجذور الذي يسكنه. «حلم فرنسي»؟ بل كابوس فرنسي يفتح عيوننا على مجتمعات غربية مريضة بشبح مهاجريها. وسواء كنا مهاجرين في أرض الله الواسعة أو في أوطاننا، يبقى الحلم سلاح المستضعفين، لمواجهة الألفية القادمة.