مما لا شك فيه أنّ مي زيادة كانت محط أنظار كثير من المعجبين من أدباء ومفكرين ورجال إعلام وسياسيين. وبعد دخولها مستشفى الأمراض العقلية، خذلها بعضهم، وساندها بعضهم الآخر، فأقام الدنيا وأقعدها مدافعا عن صحة عقلها، مثيرا " نظرية المؤامرة" في حقها. مي زيادة أيضا دافعت عن نفسها، وهو ما نلمسه في مخطوطاتها وشهادات أقرب الناس إليها. وبتأثير عشاقها، خرجت من عزلة المستشفى لتفارق الحياة بعد ذلك في عزلة مشابهة، من اختيارها. ويبقى السؤال إلى يومنا هذا: هل كانت مي ضحية مؤامرة أم أنها كانت مريضة حقا؟
المدافعون عن سلامة عقلها
من الذين استماتوا في الدفاع عن نظرية المؤامرة وسلامة عقلها واسيني الأعرج الذي وصف تجربتها بــ " فصل الجنون الكاذب"، مثيراً إمكانية تعرضها للقتل في القاهرة (القدس العربي – 2 كانون الثاني/يناير 2018). أيضاً لطفي السيد الذي لعب دوراً مؤثرا وهو من أمّن خروجها من المستشفى. غادة السمان أيضا تحدثت عن " غدر الأهل وطمعهم في المال والورث، ثم المؤامرات الأخيرة التي فتكت بها تماماً، وقضت على البقية الباقية منها. " وأيضاً الناشطة النسوية نوال السعداوي التي قالت: " مي زيادة لم تكن مريضة نفسياً ولم تكن مريضة بعقلها"، مؤكدة: " مي زيادة أودعت المستشفى النفسي في لبنان إثر مؤامرة الأقارب للاستلاء على أموالها." (قضايا المرأة والفكر والسياسة)
غياب الأدلة من المدافعين عنها
إنّ ما نلمسه ونحن نفحص ما قاله هؤلاء هو غياب أدلة ملموسة، ما يجعلنا نتحدث عن جملة من الافتراضات والاتهامات. لا يمكننا تبرئة شخص من أمراض عقلية من خلال هيئته أو خطابه. فما أكثر الذين يعانون اضطرابات نفسية في الخفاء وقد لا يشعر بهم أقرب الناس إليهم..قد تلتقي بهم في الشارع والمقهى والنادي ومكان العمل ووسائل النقل، وقد يخوضون في الحديث معك بأدب ومنطق، أو يقولون نكتا... وهم في الواقع يعانون إلى حد الانتحار! هذا الانتحار حصد أرواح 6000 شخصا في بريطانيا عام2017! فأكثرهم يتألم بداخله ولا يلتمس المساعدة! وإننا نتساءل لماذا لم يعرض دعاة " المؤامرة" أدلة على القضاء؟! فالقانون، الذي نحترمه جميعا، يؤكد أنّ المتهم يبقى بريئاً حتى يُثبت الجرمُ.
اضطراباتمي بدأت قبل العصفورية
لم تكن اضطرابات مي زيادة وليدة مستشفى العصفورية كما يتصور بعضنا. فشهادات أشخاص مقربين منها تؤكد أنهابدأت بعد فقدان والديها. يقول طه حسين: " مضت مي في طريقها إلى العزلة مضيا رفيقا، أو قل إنها تدرجت بطيئاً في أول الأمر، ولكنه سريع ملح آخر الأمر. أخذ ميلها إلى العزلة يظهر بعد أن فقدت أبويها..." ومي زيادة تؤكد ذلك في رسالة إلى ابن عمها جوزيف: " كان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة لعلي أنسى فارغ مسكني، أنسى غصة نفسي، بل أنسى كل ذاتي."
مي زيادةاعترفت بمرضهاالنفسي
وفي عزلتها، كتبت إلى جوزيف معترفة: " عزيزي جوزيف\ منذ مدة طويلة لم أعد أكتب. وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمد حركة يدي ووثبة الفكر لدي. إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فّي وحولي. لم أتألم أبداً في حياتي كما أتألم اليوم، ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله. وددت لو علمت السبب على الأقل. ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه :لا شيء، إنه وهم شعري تمكن مني."
توقيع الوثيقة يؤكد وجود اختلال
إنّ قيام مي زيادة بتوقيع الوثيقة لابن عمها دون معرفة محتواها وهي المرأة المتعلمة الناقدة دليل آخر على أنها لم تكن في كامل قدراتها العقلية. حتى هي تعجّبت: "كيف لم أرفض التوقيع؟ لست أدري. بحركة ميكانيكية تناولت القلم ورفعت نظري إلى الباشكاتب استفهم عن المكان من الدفتر الذي أكتب فيه اسمي. فنظر إلي نظرة طويلة كأنما هو عالم بما سيجره علي هذا التوقيع من المصائب. ثم أشار إلى مكانين اثنين فوقعت مكرراً: مي زيادة، وتحته ماري جبران."!
جنون الشك والاضطهاد
ويعتمد على الريبة من الآخرين ومن مظاهره الانعزال، والاعتقاد الراسخ بالتعرض للاضطهاد، وامتلاك مشاعرعدائية تجاه الآخرين. مي زيادة، إضافة إلى شعورها المستمر بالاضطهاد وانعزالها، أبدت مشاعر الكراهية والعداء تجاه آخرين كرجال القانون الذين قالت عنهم: " أردتم أن أكلمكم بصراحة عن سبب كرهي لرجال القانون، نعم أنا أكرههم أني لم أغادر مصر، ولم يؤت بي إلى لبنان، ولم أدخل إلى العصفورية، إلا بفضل القانون ورجال القانون، بل أنا صرت مجنونة قانونا ً.
وأظهرت عداء تجاه الأطباء: " هؤلاء الأطباء أكرههم، إني صرت مجنونة طبياً ووقعت في شرك المؤامرة بفضل الطب والأطباء. " وطالت مشاعر العداء الإعلاميين أيضا: "كرهي لهؤلاء أشد" لنشرهم خبر الجنون! ولمتسلم منها حتى الأوطان: " إني كنت أردد، وأنا على تلك الحال، في كل يوم وفي كل ساعة : لعنة الله على لبنان."!
التقاريرالطبيةأكدت مرضها
أكدت تقارير المختصين، بما لا يدع مجالا للشك أو الجدل، أنّ مي زيادة كانت مريضة وتحتاج رعاية وعلاجا! وهذا نص تقريراللجنة الطبية الرسمية:
(بعد درس تفصيلي للحالات والأعراض البادية على المريضة، وإعادة النظر في تاريخ المرض؛ والاطلاع على تقارير الأطباء الذين عالجوها.
فإنّ اللجنة الطبية المؤلفة من:
الجنرال الطبيب مارتان: مديرالشؤون الصحية في المفوضية العليا.
الدكتور كلميت: الأستاذ في الكلية الطبية الفرنساوية في بيروت.
الدكتورجورج مللر: كبير أطباء الكلية الطبية في الجامعة الأمريكية ببيروت.
تعطي الخلاصة التالية:
أولاً: أنّ الآنسة مي زيادة عندما وصلت إلى دور اليأس الدموي، أصيبت بنوبة من نوع الماليخوليا المتواصل، مع رفض الطعام واضطراب ذهني وفقدان الإرادة مع ملازمة فكرة الاضطهاد لها، فكان من الطبيعي أن تصير تغذيتها بواسطة أنبوبة من الكوتشوك وأنّ حالة المريضة العمومية خطيرة جداً.
وهذه الحالة استوجبت معالجتها في مستشفى العصفورية ثم في مستشفى الدكتور ربيز.
ثانياً: أنّ حالة المريضة العمومية بالنسبة للماضي تحسنت جدا غير أنها لم تحصل على الشفاء بعد. أما قواها الجسدية فلا يزال بعضها في شلل، بينما هي لاتزال تواصل البكاء، ويرافق هذا البكاء قلق وأوهام واضطرابات.
أما حالتها العقلية والعاطفية فلاتزال جافة ومحصورة ضمن نطاق فكرة الاضطهاد والخوف من المؤامرات الوهمية وهذه يمكن شفاؤها مع الوقت مع استمرار المعالجة بحكمة متناهية...
ثالثاً: أنّ حالتها هذه، تستدعي وقتاً من الصعب تحديده، لاستعمال العلاجات الطبية والمراقبة الدائمة، ليلاً ونهاراً، بواسطة ممرضة ساهرة وحريصة تتلقى التعليمات المحدودة من أحد الأطباء يشيرعليها بكيفية سلوكها مع المريضة واستعمال الخطة الصالحة التي يجب أن تطبعها في أفكارها، سواء في المعاملات أو في الأحاديث الدائمة معها.
ولا يُستغرب في هذه الحالة إقدام المصابين بهذه الأمراض عندما يقربون من التماثل إلى الشفاء، من أن ينتحروا بشكل فظيع وغير منتظر، تحت تأثير اضطراب أو ضغط داخلي، لذلك ينبغي تنبيه الممرضة عن هذا المحذور.
رابعاً، أما هذه المعالجات والعنايات الطبية فيمكن استعمالها في مستشفى أو في منزل خصوصي.
الدكتور كالميت، الدكتورمللر، الجنرالمارتن)
مي زيادة غادرت المستشفى مريضة
يعتقد المدافعون عن مي أن مأساتها بدأت في مستشفى العصفورية. وفي الواقع، كان خروجها من المستشفى أكبر مأساة في حياتها لأنها خرجت ولم تشف بعد كما أكد تقرير اللجنة الطبية الرسمية. ومن مظاهر ذلك البكاء، والقلق، والأوهام، واضطرابات أخرى، فضلاً عن شعورها المستمر بالاضطهاد ، " عادت إلى مصر وقد تملكها شعور جارف بأن الإيطاليين سيقتلونها، فاعتكفت في بيتها، وامتنعت عن مقابلة أصدقائها، وكانت تتصور أنهم سيقتلونها بتحريض من الدوتشي ورجال الجالية الإيطالية في مصر. وبلغ من خوفها على حياتها أنها طردت الطاهي والسفرجي وفتاة المنزل. وأحضرت جهازا لتحليل ما تتعاطاه من طعام. كانت تحلل اللبن، وتغسل الفاكهة بالمحلول المطهر وتغلي الماء قبل أن تشربه" (الذين أحبوا مي وأوبريت)!
مستشفى العصفورية أنقذ مي زيادة
رغم كل الانتقادات الموجهة إلى مستشفى العصفورية، فإنّ لهذا المستشفى في واقع الأمر دور في إبقاء مي على قيد الحياة بإطعامها والسهر على رعايتها، مثلما أكد التقرير الرسمي.
التقارير الطبية تشكك في نظرية المؤامرة
" الإفراط في الحب والإعجاب قد يقتل". توهّم المعجبون بمي زيادة أنّها لم تكن مريضة، فانتقدوا المستشفى لإطعامها بالقوة، وتدخلوا في مسائل طبية ليست من اختصاصهم، فأخرجوها من المستشفى بالضغط وهي لم تشف بعد كما أكد التقرير، فآلت إلى مصير مشؤوم! فهم بذلك يتحملون قدرا كبيرا من المسؤولية في ما آلت إليه. وهل كانوا قد أقاموا الدنيا وأقعدوها لو تعلق الأمر بمواطن عادي؟!
تجربة مي زيادة تؤكد أنّ المجتمعات العربية كثيرا ما تنظر إلى المسائل بعاطفة وذاتية حتى أنها صدقت مخطوطات كتبتها وهي تعاني بالمستشفى مرددة أن كل العالم يضطهدها! وصدقت مجتمعاتنا افتراضات بغير أدلة، استشهد بعضها بمجرد محاضرة ألقتها في نادي "العروة الوثقى" في وستهول، ونسيت ما تبع ذلك من معاناة يومية وعزلة وشعور مستمر بالاضطهاد وفقدان الرغبة في الطعام والشراب والحياة! وتجاهلت تقارير طبية علمية لا تقبل الجدل، وشككت في نزاهة فرق طبية متعددة الأفراد والجنسيات، تؤدي واجبها المهني، أجمعت إثر فحوصاتها أنّ مي زيادة تعاني من اضطرابات نفسية قد تعرّض حياتها للخطر! لقد حفظ المستشفى مي زيادة من أثر الاضطرابات. ولما خرجت منه بتأثير محبيها، وقعت فريسة لهذه الاضطرابات.. عزلت نفسها وأمسكت عن الطعام والشراب، ولم تجد من يسعفها خارج المستشفى. فبدأ جسدها يهزل، وبدأت أجهزته تتعطل، فدخلت في غيبوبة، فنقلت إلى مستشفى المعادي بالقاهرة حيث بذل الطاقم الطبي جهودا مكثفة لإنقاذها دون جدوى، بعدما فات الأوان، فرحلت في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1941.
مولود بن زادي – كاتب جزائري بريطانيا
المدافعون عن سلامة عقلها
من الذين استماتوا في الدفاع عن نظرية المؤامرة وسلامة عقلها واسيني الأعرج الذي وصف تجربتها بــ " فصل الجنون الكاذب"، مثيراً إمكانية تعرضها للقتل في القاهرة (القدس العربي – 2 كانون الثاني/يناير 2018). أيضاً لطفي السيد الذي لعب دوراً مؤثرا وهو من أمّن خروجها من المستشفى. غادة السمان أيضا تحدثت عن " غدر الأهل وطمعهم في المال والورث، ثم المؤامرات الأخيرة التي فتكت بها تماماً، وقضت على البقية الباقية منها. " وأيضاً الناشطة النسوية نوال السعداوي التي قالت: " مي زيادة لم تكن مريضة نفسياً ولم تكن مريضة بعقلها"، مؤكدة: " مي زيادة أودعت المستشفى النفسي في لبنان إثر مؤامرة الأقارب للاستلاء على أموالها." (قضايا المرأة والفكر والسياسة)
غياب الأدلة من المدافعين عنها
إنّ ما نلمسه ونحن نفحص ما قاله هؤلاء هو غياب أدلة ملموسة، ما يجعلنا نتحدث عن جملة من الافتراضات والاتهامات. لا يمكننا تبرئة شخص من أمراض عقلية من خلال هيئته أو خطابه. فما أكثر الذين يعانون اضطرابات نفسية في الخفاء وقد لا يشعر بهم أقرب الناس إليهم..قد تلتقي بهم في الشارع والمقهى والنادي ومكان العمل ووسائل النقل، وقد يخوضون في الحديث معك بأدب ومنطق، أو يقولون نكتا... وهم في الواقع يعانون إلى حد الانتحار! هذا الانتحار حصد أرواح 6000 شخصا في بريطانيا عام2017! فأكثرهم يتألم بداخله ولا يلتمس المساعدة! وإننا نتساءل لماذا لم يعرض دعاة " المؤامرة" أدلة على القضاء؟! فالقانون، الذي نحترمه جميعا، يؤكد أنّ المتهم يبقى بريئاً حتى يُثبت الجرمُ.
اضطراباتمي بدأت قبل العصفورية
لم تكن اضطرابات مي زيادة وليدة مستشفى العصفورية كما يتصور بعضنا. فشهادات أشخاص مقربين منها تؤكد أنهابدأت بعد فقدان والديها. يقول طه حسين: " مضت مي في طريقها إلى العزلة مضيا رفيقا، أو قل إنها تدرجت بطيئاً في أول الأمر، ولكنه سريع ملح آخر الأمر. أخذ ميلها إلى العزلة يظهر بعد أن فقدت أبويها..." ومي زيادة تؤكد ذلك في رسالة إلى ابن عمها جوزيف: " كان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية، فكنت أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة لعلي أنسى فارغ مسكني، أنسى غصة نفسي، بل أنسى كل ذاتي."
مي زيادةاعترفت بمرضهاالنفسي
وفي عزلتها، كتبت إلى جوزيف معترفة: " عزيزي جوزيف\ منذ مدة طويلة لم أعد أكتب. وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمد حركة يدي ووثبة الفكر لدي. إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف، ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فّي وحولي. لم أتألم أبداً في حياتي كما أتألم اليوم، ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله. وددت لو علمت السبب على الأقل. ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه :لا شيء، إنه وهم شعري تمكن مني."
توقيع الوثيقة يؤكد وجود اختلال
إنّ قيام مي زيادة بتوقيع الوثيقة لابن عمها دون معرفة محتواها وهي المرأة المتعلمة الناقدة دليل آخر على أنها لم تكن في كامل قدراتها العقلية. حتى هي تعجّبت: "كيف لم أرفض التوقيع؟ لست أدري. بحركة ميكانيكية تناولت القلم ورفعت نظري إلى الباشكاتب استفهم عن المكان من الدفتر الذي أكتب فيه اسمي. فنظر إلي نظرة طويلة كأنما هو عالم بما سيجره علي هذا التوقيع من المصائب. ثم أشار إلى مكانين اثنين فوقعت مكرراً: مي زيادة، وتحته ماري جبران."!
جنون الشك والاضطهاد
ويعتمد على الريبة من الآخرين ومن مظاهره الانعزال، والاعتقاد الراسخ بالتعرض للاضطهاد، وامتلاك مشاعرعدائية تجاه الآخرين. مي زيادة، إضافة إلى شعورها المستمر بالاضطهاد وانعزالها، أبدت مشاعر الكراهية والعداء تجاه آخرين كرجال القانون الذين قالت عنهم: " أردتم أن أكلمكم بصراحة عن سبب كرهي لرجال القانون، نعم أنا أكرههم أني لم أغادر مصر، ولم يؤت بي إلى لبنان، ولم أدخل إلى العصفورية، إلا بفضل القانون ورجال القانون، بل أنا صرت مجنونة قانونا ً.
وأظهرت عداء تجاه الأطباء: " هؤلاء الأطباء أكرههم، إني صرت مجنونة طبياً ووقعت في شرك المؤامرة بفضل الطب والأطباء. " وطالت مشاعر العداء الإعلاميين أيضا: "كرهي لهؤلاء أشد" لنشرهم خبر الجنون! ولمتسلم منها حتى الأوطان: " إني كنت أردد، وأنا على تلك الحال، في كل يوم وفي كل ساعة : لعنة الله على لبنان."!
التقاريرالطبيةأكدت مرضها
أكدت تقارير المختصين، بما لا يدع مجالا للشك أو الجدل، أنّ مي زيادة كانت مريضة وتحتاج رعاية وعلاجا! وهذا نص تقريراللجنة الطبية الرسمية:
(بعد درس تفصيلي للحالات والأعراض البادية على المريضة، وإعادة النظر في تاريخ المرض؛ والاطلاع على تقارير الأطباء الذين عالجوها.
فإنّ اللجنة الطبية المؤلفة من:
الجنرال الطبيب مارتان: مديرالشؤون الصحية في المفوضية العليا.
الدكتور كلميت: الأستاذ في الكلية الطبية الفرنساوية في بيروت.
الدكتورجورج مللر: كبير أطباء الكلية الطبية في الجامعة الأمريكية ببيروت.
تعطي الخلاصة التالية:
أولاً: أنّ الآنسة مي زيادة عندما وصلت إلى دور اليأس الدموي، أصيبت بنوبة من نوع الماليخوليا المتواصل، مع رفض الطعام واضطراب ذهني وفقدان الإرادة مع ملازمة فكرة الاضطهاد لها، فكان من الطبيعي أن تصير تغذيتها بواسطة أنبوبة من الكوتشوك وأنّ حالة المريضة العمومية خطيرة جداً.
وهذه الحالة استوجبت معالجتها في مستشفى العصفورية ثم في مستشفى الدكتور ربيز.
ثانياً: أنّ حالة المريضة العمومية بالنسبة للماضي تحسنت جدا غير أنها لم تحصل على الشفاء بعد. أما قواها الجسدية فلا يزال بعضها في شلل، بينما هي لاتزال تواصل البكاء، ويرافق هذا البكاء قلق وأوهام واضطرابات.
أما حالتها العقلية والعاطفية فلاتزال جافة ومحصورة ضمن نطاق فكرة الاضطهاد والخوف من المؤامرات الوهمية وهذه يمكن شفاؤها مع الوقت مع استمرار المعالجة بحكمة متناهية...
ثالثاً: أنّ حالتها هذه، تستدعي وقتاً من الصعب تحديده، لاستعمال العلاجات الطبية والمراقبة الدائمة، ليلاً ونهاراً، بواسطة ممرضة ساهرة وحريصة تتلقى التعليمات المحدودة من أحد الأطباء يشيرعليها بكيفية سلوكها مع المريضة واستعمال الخطة الصالحة التي يجب أن تطبعها في أفكارها، سواء في المعاملات أو في الأحاديث الدائمة معها.
ولا يُستغرب في هذه الحالة إقدام المصابين بهذه الأمراض عندما يقربون من التماثل إلى الشفاء، من أن ينتحروا بشكل فظيع وغير منتظر، تحت تأثير اضطراب أو ضغط داخلي، لذلك ينبغي تنبيه الممرضة عن هذا المحذور.
رابعاً، أما هذه المعالجات والعنايات الطبية فيمكن استعمالها في مستشفى أو في منزل خصوصي.
الدكتور كالميت، الدكتورمللر، الجنرالمارتن)
مي زيادة غادرت المستشفى مريضة
يعتقد المدافعون عن مي أن مأساتها بدأت في مستشفى العصفورية. وفي الواقع، كان خروجها من المستشفى أكبر مأساة في حياتها لأنها خرجت ولم تشف بعد كما أكد تقرير اللجنة الطبية الرسمية. ومن مظاهر ذلك البكاء، والقلق، والأوهام، واضطرابات أخرى، فضلاً عن شعورها المستمر بالاضطهاد ، " عادت إلى مصر وقد تملكها شعور جارف بأن الإيطاليين سيقتلونها، فاعتكفت في بيتها، وامتنعت عن مقابلة أصدقائها، وكانت تتصور أنهم سيقتلونها بتحريض من الدوتشي ورجال الجالية الإيطالية في مصر. وبلغ من خوفها على حياتها أنها طردت الطاهي والسفرجي وفتاة المنزل. وأحضرت جهازا لتحليل ما تتعاطاه من طعام. كانت تحلل اللبن، وتغسل الفاكهة بالمحلول المطهر وتغلي الماء قبل أن تشربه" (الذين أحبوا مي وأوبريت)!
مستشفى العصفورية أنقذ مي زيادة
رغم كل الانتقادات الموجهة إلى مستشفى العصفورية، فإنّ لهذا المستشفى في واقع الأمر دور في إبقاء مي على قيد الحياة بإطعامها والسهر على رعايتها، مثلما أكد التقرير الرسمي.
التقارير الطبية تشكك في نظرية المؤامرة
" الإفراط في الحب والإعجاب قد يقتل". توهّم المعجبون بمي زيادة أنّها لم تكن مريضة، فانتقدوا المستشفى لإطعامها بالقوة، وتدخلوا في مسائل طبية ليست من اختصاصهم، فأخرجوها من المستشفى بالضغط وهي لم تشف بعد كما أكد التقرير، فآلت إلى مصير مشؤوم! فهم بذلك يتحملون قدرا كبيرا من المسؤولية في ما آلت إليه. وهل كانوا قد أقاموا الدنيا وأقعدوها لو تعلق الأمر بمواطن عادي؟!
تجربة مي زيادة تؤكد أنّ المجتمعات العربية كثيرا ما تنظر إلى المسائل بعاطفة وذاتية حتى أنها صدقت مخطوطات كتبتها وهي تعاني بالمستشفى مرددة أن كل العالم يضطهدها! وصدقت مجتمعاتنا افتراضات بغير أدلة، استشهد بعضها بمجرد محاضرة ألقتها في نادي "العروة الوثقى" في وستهول، ونسيت ما تبع ذلك من معاناة يومية وعزلة وشعور مستمر بالاضطهاد وفقدان الرغبة في الطعام والشراب والحياة! وتجاهلت تقارير طبية علمية لا تقبل الجدل، وشككت في نزاهة فرق طبية متعددة الأفراد والجنسيات، تؤدي واجبها المهني، أجمعت إثر فحوصاتها أنّ مي زيادة تعاني من اضطرابات نفسية قد تعرّض حياتها للخطر! لقد حفظ المستشفى مي زيادة من أثر الاضطرابات. ولما خرجت منه بتأثير محبيها، وقعت فريسة لهذه الاضطرابات.. عزلت نفسها وأمسكت عن الطعام والشراب، ولم تجد من يسعفها خارج المستشفى. فبدأ جسدها يهزل، وبدأت أجهزته تتعطل، فدخلت في غيبوبة، فنقلت إلى مستشفى المعادي بالقاهرة حيث بذل الطاقم الطبي جهودا مكثفة لإنقاذها دون جدوى، بعدما فات الأوان، فرحلت في 19 تشرين الأول/أكتوبر 1941.
مولود بن زادي – كاتب جزائري بريطانيا