- عبدالمعطى حجازى «شاعر ميت» ونصوصه ساذجة إلى درجة التفاهة
- جابر عصفور «رجل الحظيرة الأول والأخير»
- أصبحت أكبر من جوائز الدولة.. وأعمالى موجودة فى أهم ٥ مكتبات بالعالم
- محمد إبراهيم أبوسنة وفاروق شوشة لا يمثلان شيئًا
عوامل عدة تضافرت بإحكام لتنسج عُزلة الشاعر المصرى محمد آدم، أحد أبرز الأصوات الشعرية من جيل السبعينيات. يمكن أن تكون خياراته الصادمة والمشاكسة لما هو مستقر فى الذهنية والثقافة العربية أحد هذه العوامل، التى وضعت الكثير من الحُجُب على كتاباته، إلا أن ثمة عوامل أخرى أسهمت فى تعزيز هذه العزلة، بعضها متعلق بتهميش الشعر ذاته لصالح أنماط كتابية أخرى أو ربما لصالح حالة اللاثقافة المستشرية فى العالم العربى، والبعض الآخر جاء نتيجة تواطؤ غير مُعلن كثيرًا ومُعلن أحيانا على الكتابة، التى تمردت على التصورات الثابتة عن النصوص المقدسة وطرق التعاطى معها إبداعيًا، ما جعله يقف كفرد فى مواجهة منظومة ثقافية متكاملة ومتماسكة، لكنها رغم ذلك بُنيت على باطل.
محمد آدم الذى ظل يواجه مصادرة أعماله بمزيد من الكتابة المغايرة وبإصرار متزايد على شق طريقه الشعرى والفكرى الخاص، يتطرق فى حواره مع «الدستور» لنقد الأوضاع القائمة فى المشهد الثقافى المصرى الراهن، التى تسببت على مدار سنوات وحتى الآن فى تهميش أصوات إبداعية مغايرة فى مقابل تقديم أسماء لا تمثل شيئًا فى الإبداع المصرى، معتبرًا أن شاعرا مثل أحمد عبدالمعطى حجازى «ميت»، وأن شعراء مثل محمد إبراهيم أبوسنة وأحمد سويلم وفاروق شوشة لا يمثلون شيئًا فى الشعرية العربية.
■ تعرضت لتجربة مصادرة أحد أعمالك «أنا بهاء الجسد واكتمالات الدائرة» فى التسعينيات بتهمة التجاوزات الدينية. قالوا إن النص الشعرى لمحمد آدم يحيل الجسد إلى إله، ويحيل الله إلى جسد.. ما الذى خرجت به من هذه الأزمة عمومًا وبشكل خاص فيما يتعلق بدور السلطة الدينية فى تحجيم الإبداع؟
- حينما صودر ديوانى كان ذلك فى نفس العام الذى تمت فيه مصادرة كتاب «بنية النص» لنصر حامد أبوزيد. كنت فى قمة الفرح وقمة الحزن، قمة الفرح لأننى أصبحت أشكِّل قلقًا وقلعة أمام الأزهر الذى وقف بكل رجاله ليصادروا عملًا لى. هذا يعنى أننى أصبحت أشكل حجر زاوية أمام كل ما ألفوه واعتادوا عليه، وأننى جئت بنص يهدم رؤيتهم الثابتة والمستقرة. أما سبب حزنى فهو ما تعنيه المصادرة من أننى أصبحت داخل دائرة حمراء. ماذا أفعل وأنا الذى وهبت حياتى كلها للشعر؟، وكم دفعت من ثمن فادح من أجله. يكفى أن تعرفى أننى خسرت كل شىء وأكاد أتسول جوعًا من أجل الشعر.
ذهبت إلى نجيب محفوظ باكيا، وقلت له ماذا أفعل؟.. قال لى افعل مثلما فعلت أنا، صادروا لى «أولاد حارتنا» فكتبت لهم «الحرافيش»، أعطانى رؤية مواصلة الكتابة. استمر نجيب محفوظ ولم يقف كى يستجلب شهرة زائفة، وهذا ما فعلته طيلة مشروعى الشعرى. بعد ذلك صادروا «نشيد آدم» وصادروا «هكذا عن حقيقة الكائن وعزلته أيضًا». تمت مصادرة أعمالى لأنها تعتدى على مفهوم الدين، الذى تم تجسيده منذ ١٤٠٠ سنة.
فى نفس العام، وهو عام تاريخى، صودر كتاب نصر حامد أبوزيد «بنية النص»، الذى تعرض فيه لمسألة إعادة قراءة النص القرآنى، وفق المعطيات الجديدة، من منطلق اختلاف الرؤية، ولأن النص القرآنى أزلى ومستمر، فلا بد أن نُطبق هذه المقولة بامتياز، تعالوا نعد قراءة النص القرآنى من خلال ظروفنا نحن حتى لا نعيد سلطة الفقهاء ولا نظل خانعين تحت سلطتهم، هذه السلطة التى غيبت العقل تغييبا تاما وجعلت المواطن المسلم كنعجة من النعاج.
وأذكر أنه حينما تمت مصادرة كتاب نصر حامد أبوزيد تخلى عنه زملاؤه، وأولهم جابر عصفور الذى كان الرجل الأول والأخير فى حظيرة السلطة ولم يتمرد عليها قط، وكنا نعول عليه فى أن يكون ثائرًا وتنويريًا، فإذا به يكون رجل السلطة الأول.
■ مسألة مصادرة الأعمال الإبداعية لاتزال حاضرة بقوة إلى الآن فى البلدان العربية.. هل ستظل البلدان العربية أسيرة لتابوهاتها ومهاجمة كل من يحاول المساس بها؟
- هذا شىء مضحك، كل الكتب المُصادَرة يمكن أن توجد على الإنترنت، انظرى إلى مدى الجهل والتخلف المسيطر على العقلية العربية. الكتب المُصادَرة موجودة على وسائل الاتصال الحديثة، من يُصادِر الكتب الآن أصبح محل سخرية من قبل الجميع. هذه الفكرة تُسيطر فقط فى المنطقة العربية لأنها ترضخ تحت طائلة فكرة كلنا مصادرون. كل ذلك بفعل رجال الدين أولًا وأخيرًا.
■ رجال الدين هؤلاء يوكل إليهم مُهمّة تجديد الخطاب الدينى بعدما أفرز خطابهم مشكلات جوهرية فى مصر.. كيف ترى المسألة؟
- كيف يمكن لقاتل أن يكون قاضيا؟.. رجال الدين قتلونا على مدى ١٤٠٠ سنة فكيف مرة ثانية يتحولون لقضاة؟.. وكيف يمكن لهم بعقليتهم أن يسمحوا لآخر بأن يفكر أو يتناقش، ويقول هذا صح أو خطأ؟.. البخارى كتب بعد أكثر من مائة عام من وفاة الرسول.. ألم يكن ثمة تلاعب وتأويل واختراع وكتابة نصوص عنه؟.. هذه الأحاديث من يقول لنا إنها صحيحة أو غير صحيحة، وهى النصوص التى يتكئ عليها الأزهر فى تشريعه وإصدار فتاواه على الناس، لكن يجب أن يكون هناك آخرون غير رجال الدين لنتناقش. لماذا تُعاد الكُرة إلى رجال الدين ثانية؟.. لن نتزحزح أو نتحرك خطوة للأمام طالما أن رجال الدين يمسكون بزمام الأمور ويعيدوننا إلى غيابات الجب.
هناك محاولات كثيرة على مستوى أفراد قلائل بدأوا يتمردون على رجال الدين، وهذا لم يحدث إلا لقبضتهم الحديدية. أين الأزهر من الظُلم الذى يحدث فى العالم العربى؟.. وكم يتقاضى رجال الدين والناس تتضور جوعًا فى الشوارع؟.. الاجتهادات الفردانية لطه حسين وعلى عبدالرازق ومحمد عبده ونصر أبوزيد كانت للخروج من نمط التكفير إلى التفكير. رؤيتى الشعرية كانت النقيض الأساسى لبنية فكر رجل الدين. النص الشعرى نص إنسانى يسعى لتحرير الإنسان.
■ هل ترى أن تجربتك الشعرية نالت ما تستحقه من اهتمام.. ولماذا؟
- فكرة الاقتراب من المقدس فى أعمالى خاف منها النقاد وابتعدوا عنها خشية أن يتعرضوا لما تعرضت له، وهذا هو سبب تهميشى وابتعاد الجوائز عنى، لكن الغريب أن أعمالى الكاملة موجودة فى أهم خمس مكتبات فى العالم دون أن أسعى لذلك. هذا له معنى واحد أن ما يقوله رجال الدين فى ناحية، وأن القارئ أكثر أهمية من رجال الدين. هذا أهم عندى من نقاد العالم كلهم. ثمة قارئ فاحص وصاحب عين بصيرة يميز بين التجربة الحقيقية المهمة والكتب التافهة، هذا أعظم تقدير لى وأهم من كتابات النقاد، رغم أن عددًا كبيرًا منهم كتب عنى.
أنا أصبحت أكبر من كل جوائز الدولة التى يعطونها لكل رجال الدولة الذين يتخابرون على زملائهم.
■ ماذا يُشكِّل أحمد سويلم فى الشعرية العربية.. هل أضاف جديدًا؟.. ماذا يشكل محمد إبراهيم أبوسنة أو فاروق شوشة؟
- هؤلاء كتبوا فقط كى يطلق عليهم لقب شاعر، أما محمد آدم فقد أعاد صياغة الوجود وخلخلته، والكاتب الذى يفعل ذلك يكون غير مأمون الجانب.
المتنبى مثلًا هو شاعر تافه إلى جوار المعرى، هو ابن سلطان وضد نفسه وقليلا ما كان مع نفسه فقط حينما يكتب مرثيات لبعض أقاربه، أما المعرى فقد أعاد صياغة الوجود من خلال بنية شعرية تعيد صياغة كل شىء. لهذا المعرى يُدرّس فى كل جامعات أوروبا لكن المتنبى لا شىء.
■ البعد الفلسفى يظهر بوضوح فى نصوصك الشعرية، وهو نتاج دراستك وقراءاتك المعمقة.. ما أهمية الفلسفة بالنسبة للشعر برأيك؟
- فى بدايات حياتى، حينما التقيت بنجيب محفوظ، قال لى إذا لم يكن لديك سؤال فلسفى فكف عن الكتابة أو بالأحرى يجب أن تتعلم الفلسفة لتعرف ماذا تكتب وعن ماذا تكتب. الكتابة التى بلا سؤال عبارة عن سراب، ومن هنا كان اهتمامى بدراسة وقراءة الفلسفة فدخلت كلية الآداب كى أتعلم من الصفر، وأؤسس نفسى فلسفيًا، فى كلية الآداب جامعة عين شمس قرأت كل الفلسفة الغربية ومنجز الفلاسفة الغربيين ودرست أيضا الثقافة المشرقية، كل ذلك فتح عوالم فلسفية مغايرة لم أكن أعرف عنها شيئا. الفلسفة فتحت روحى على الذخائر والكنوز المعرفية العربية المجهولة والمُجهّلة عن عمد، وما حدث من تجهيل العقل العربى بتجاهل منجزات ابن رشد وابن سينا وأيضًا ابن عربى، المتصوف المغرق فى الوجود، الذى اكتشفت كيف يعيد تأويل النص القرآنى ليجعل منه نصا وجوديا وإنسانيا كاملا، بحيث لا يكون الله منفصلا عن العالم ولا العالم منفصلا عن الله تحت ما يسمى وحدة الوجود، ورسخ لمفهوم الإنسانية فى الرؤية الإسلامية التى حملها على كتفيه فى كتابه الفتوحات المكية.
دراستى للفلسفة جعلتنى أفكر: كيف يمكن لك أن تمسك بمفتاح الكون كى تعيد فتح الأبواب المغلقة فى الثقافة العربية تحديدا، التى ألغت العقل وامتثلت للنقل؟.. الثقافة العربية ألغت ما يسمى العقل إلغاء تامًا وقدست النقل والمنجز الشفاهى، الذى جاء من البيئة الصحراوية التى أتانا منها النص القرآنى.
■ إلام ترجع هذا التقديس للنقل فى الثقافة العربية فى مقابل إلغاء الرؤية العقلانية؟
- الثقافة العربية اعتمدت بالدرجة الأولى على الشفاهية، والأذن وحدها لا تصنع ثقافة ولا تنتج ثقافة، ولهذا الأحاديث النبوية مثلا والشعر الجاهلى كلها نُقلت شفاهية. هل يمكن لأحد أن يقول إنها نُقلت كما هى؟.. لا أعلم ولا أريد. لا لشىء إلا لأن الذى حدث فى الشعر حدث فى رواية الحديث. الشعر ظل منجزًا صحراويًا تتناقله الأجيال أذنًا عن أذن، كل ما تطرب له الأذن وكل ما تستطعمه هو شعر جيد، وكل ما لا تستسيغه هو منبوذ وخارج الشعرية.
الشعر سبب رئيسى جدًا فى انهيار العقل العربى، وتحديدا الشعر الجاهلى الصحراوى. فقد جاء من فضاء صحراوى لا ماء فيه وبلا حضارة، خلافًا للوضع فى مصر وسوريا وبلاد الرافدين، هذه دول لديها حضارة ومنجز تاريخى. لو أننا حافظنا على لغتنا المصرية القديمة لما وصل الحال بالعقل العربى لما هو إليه، لكن مع دخول النص القرآنى إلى هذه الدول واستبدال اللغة العربية باللغة المصرية القديمة، حدث الإعدام المتعمد للمنجز الحضارى المصرى. لماذا لم ندخل الإسلام ونحتفظ بلغتنا؟.. لو أننا احتفظنا بلغتنا لأصبح هناك تزاوج بين المنجز الحضارى المصرى وما جاء من الصحراء، لكن وطنا يتخلى عن المنجز الثقافى له وتراث يمتد لسبعة آلاف سنة قد قام بإعدام هذه الحضارة إعدامًا تاما بكل منجزها الثقافى والإنسانى والرؤيوى والشعرى والدينى أيضا، وكأننا أمة ولدت فقط منذ أن دخل الغازى عمرو بن العاص مصر. هذا هو الذى أحدث انشقاقا فى بنية الثقافة المصرية والعربية عموما، تخلت حضارة مثل حضارة الرافدين والحضارة الكنعانية عن كل شىء لتبدأ من الصفر. حينما دخلت الثقافة العربية مصر بدأت تشعل النار فى كل منجزها الثقافى السابق ومن بينها الشعرى.
■ وما تفسيرك لهذا التخلى السهل عن كل المنجز الحضارى ما قبل الإسلام؟
- المسألة حدثت قهرا، بمعنى أنه بعد فتح مصر أو غزوها قيل للمصريين: من يؤمن فهو معنا ومن لم يؤمن فعليه أن يدفع الجزية، المصريون كانوا فقراء، خاصة أن مصر منهوبة منذ آلاف السنين، لم يكن أمامهم سوى حل واحد أن يدخلوا الإسلام وأن يتعلموا اللغة العربية. وهكذا رويدا رويدا بدأوا يدخلون الإسلام، لا حبا فيه ولكن هروبا من الجزية. ومن هنا بدأت تحل اللغة العربية محل اللغة المصرية القديمة التى أنجزت مشروعها الفكرى الكامل. هذا الانقطاع استمر لمدة ٦٠٠ سنة، إلى أن بدأ المصريون الذين دخلوا إلى الإسلام يتحدثون العربية وكأنهم ليسوا أبناء حضارة هذا الوطن. الفتح الإسلامى لمصر كان كارثة على الثقافة المصرية، وبالتحديد منذ حدث التخلى عن اللغة. مصر كانت محط الأنظار للديانات الإبراهيمية، لأن مصر كانت بلد الحضارة والأمن.
كل هذا جعلنى أفتش فى النصوص ما قبل الإسلامية المكتوبة على جدران المعابد وفى كل التراثات المصرية القديمة، وبدأنا نشعر بمدى عظمتها وإنسانيتها، ومن هنا بدأت كتابتى تختلف عن الكتابة العربية، وصرت أرفض النص الصحراوى المعتمد على الجمل والخيمة والسراب، وكل هذه الألفاظ التى لم تكن تشكل جوهر الثقافة المعرفية المصرية.
■ هل ترى أن الشعرية المصرية لا تزال غارقة وواقعة تحت تأثير البيئة الصحراوية؟
- طبعا، بالتحديد كل من يتكئ على البنية الإيقاعية التى جاءتنا، نوع من تنميط خطو الجمل المنغم والمنظم، ليس هناك حالة حضارة أو احتكاك بالأنهار والأشجار والزهور. الخروج من هذا المأزق كان بما يسمى قصيدة النثر، التى تشكل انقلابًا على المقدس الصحراوى الذى جاءنا من الصحراء، نريد أن نكتب كتاباتنا التى تخصنا نحن. أنا مصرى أريد أن أعيد تشكيل العالم كله وفق ثقافتى التى تختلف عن ثقافة الجزيرة العربية.
■ لكن هناك أسماء مثل أحمد عبدالمعطى حجازى لا تزال تقاوم قصيدة النثر إلى الآن.. كيف ترى ذلك؟
- عبدالمعطى حجازى شاعر مات. هو ابن مرحلته. الشعر ليس ابنًا لجيل واحد ولكنه صالح لكل الأجيال، والشاعر الذى ينحصر تحت جيل ما وتحت طريقة ما هو شاعر خارج سياق التاريخ، لأنه ينحصر داخل فترة زمنية محددة، ما إن تنتهى حتى ينتهى. لا يمكن أن أضع حجازى بجوار إليوت أو إيزرا باوند، لأن هؤلاء كتبوا من منظور إنسانوى بحت، يظل قافزا فوق الأجيال وصالحًا لكل الأجيال، ولكن الآن من يقرأ شعر حجازى يكتشف أنه شعر ساذج وبسيط إلى حد التفاهة، شعر غنائى بالدرجة الأولى، لكن الشعر العظيم هو الذى يعبر عن الإنسان ذاته ويقول الإنسان عند قراءته: ها أنذا وجدت نفسى فى هذه الكتابة. أما الشاعر الذى يقف عند الشفاهية ويعجب بمجرد الطرب والبنية الإيقاعية مثل حجازى فقد أصبح فى حكم الموتى. صلاح عبدالصبور أكثر عصرانية من حجازى، لأن صلاح عبدالصبور كان أيضا ابن رؤية فلسفية للعالم، خصوصا فى مسرحياته التى توضع جنبا إلى جنب بامتياز مع كل النصوص المسرحية فى العالم.
■ تكتب عن الجسد فى تجربة تعد مفارقة ومائزة فى الثقافة العربية، التى تتجنب الحديث فى هذا الجانب.. ما الذى يعنيه احتفاؤك بالجسد فى كتاباتك الشعرية من أبعاد فلسفية وثقافية؟
- حينما بدأت الكتابة كانت «متاهة الجسد». جسد المرأة كون كامل بالنسبة للإنسان، ودون جسدانية المرأة ما كان للكون من أثر، دون الجسد لا معنى للروح والعكس أيضا، الروح دون جسد عالم وهمى وافتراضى، الجسد تجسيد حى لرؤية الله فى الكون. من خلال كل الكائنات الجسدانية تشكل بنية العالم الرئيسى. من هنا كان شق طريقى المغاير أن أبدأ فكرة الجسدانية، فالجسد يعنى العالم، لا يوجد مقدس منفصل عن المدنس والعكس.
أرى أن فكرة المقدس والمدنس فكرتان مرتبطتان بفكرة الخير والشر، ولولا أحدهما ما كان الآخر. نحن لم نقرأ النص القرآنى بعقلية متفتحة، راجعى قصة موسى والخضر، كانت أفعال الخضر من وجهة نظر موسى ارتكابا للمدنس فى الكون، فى حين أن ثمة عناية أخرى وراء فعل الشر، أى أن فعل الشر هذا يكمن وراءه الخير كله، وهكذا فى باقى القصة هناك فلسفة للكون كله لا يملك أحد التحكم فيه. لهذا على الأزهر أن يكف عن إصدار أحكامه بخصوص هذا أو ذاك، لأنه لا يملك صك غفران من الله، فقط هم رجال دين يتقاضون أجورا هائلة على فتاواهم.
■ كان آخر ديوان لك بعنوان «درب البرابرة» قبل أربع سنوات تقريبًا.. هل تعكف على كتابة عمل جديد فى الوقت الحالى؟
- نعم.. أكتب منذ ثلاث سنوات ديوانًا بعنوان «شمس سوداء»، وهو عبارة عن مرثية طويلة للعالم كله بعد رحيل زوجتى، لأنه بعد رحيلها اكتشفت أن العالم لا شىء، وأن الوجود عبث. الأسئلة الثلاثة التى أتحدث عنها هى من الذى ذهب إلى السماء وعاد؟.. والثانى من ذهب إلى القبر وعاد؟.. والثالث لمن يتفوه من رجال الدين ويريد أن يقدم إجابة أقول له سؤال: من صرَّ الماء فى صُرّة؟.. إذا استطعت أن تجمع صرة وتضع فيها ماء وقبضت عليها بيديك فماذا سيتبقى من الماء داخل الصرة؟ لا شىء. هذه هى الحياة التى تغرق فى العبث واللاجدوى.
هل من بادرة أمل تراها فى المشهد الثقافى المصرى؟
- لا بادرة أمل. القرارات الأخيرة لوزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم بخصوص استثمار الثقافة لا أتصور كيف يمكن تطبيقها. هذا بيع للثقافة والمسارح والأرض وهيئة الكتاب، وماذا يبقى بعد ذلك أمام الكاتب أو المثقف؟.. ستنتهى هذه الكتابة ونكون تخلصنا من القلة القليلة التى تفتح الباب أمام العقل ويسقط الوطن أمام الرأسمالية المتوحشة التى لا وجود للإنسان بها.
الذى يحافظ على مصر ويحميها هو الثقافة. مصر لم تنس أنها أنجبت طه حسين ونصر أبوزيد وسيد درويش وأم كلثوم ومحمود مختار وعباقرة الفن التشكيلى فى العالم ولكن عصر الطغيان منذ عام ١٩٥٢ أوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
الدستور
- جابر عصفور «رجل الحظيرة الأول والأخير»
- أصبحت أكبر من جوائز الدولة.. وأعمالى موجودة فى أهم ٥ مكتبات بالعالم
- محمد إبراهيم أبوسنة وفاروق شوشة لا يمثلان شيئًا
عوامل عدة تضافرت بإحكام لتنسج عُزلة الشاعر المصرى محمد آدم، أحد أبرز الأصوات الشعرية من جيل السبعينيات. يمكن أن تكون خياراته الصادمة والمشاكسة لما هو مستقر فى الذهنية والثقافة العربية أحد هذه العوامل، التى وضعت الكثير من الحُجُب على كتاباته، إلا أن ثمة عوامل أخرى أسهمت فى تعزيز هذه العزلة، بعضها متعلق بتهميش الشعر ذاته لصالح أنماط كتابية أخرى أو ربما لصالح حالة اللاثقافة المستشرية فى العالم العربى، والبعض الآخر جاء نتيجة تواطؤ غير مُعلن كثيرًا ومُعلن أحيانا على الكتابة، التى تمردت على التصورات الثابتة عن النصوص المقدسة وطرق التعاطى معها إبداعيًا، ما جعله يقف كفرد فى مواجهة منظومة ثقافية متكاملة ومتماسكة، لكنها رغم ذلك بُنيت على باطل.
محمد آدم الذى ظل يواجه مصادرة أعماله بمزيد من الكتابة المغايرة وبإصرار متزايد على شق طريقه الشعرى والفكرى الخاص، يتطرق فى حواره مع «الدستور» لنقد الأوضاع القائمة فى المشهد الثقافى المصرى الراهن، التى تسببت على مدار سنوات وحتى الآن فى تهميش أصوات إبداعية مغايرة فى مقابل تقديم أسماء لا تمثل شيئًا فى الإبداع المصرى، معتبرًا أن شاعرا مثل أحمد عبدالمعطى حجازى «ميت»، وأن شعراء مثل محمد إبراهيم أبوسنة وأحمد سويلم وفاروق شوشة لا يمثلون شيئًا فى الشعرية العربية.
■ تعرضت لتجربة مصادرة أحد أعمالك «أنا بهاء الجسد واكتمالات الدائرة» فى التسعينيات بتهمة التجاوزات الدينية. قالوا إن النص الشعرى لمحمد آدم يحيل الجسد إلى إله، ويحيل الله إلى جسد.. ما الذى خرجت به من هذه الأزمة عمومًا وبشكل خاص فيما يتعلق بدور السلطة الدينية فى تحجيم الإبداع؟
- حينما صودر ديوانى كان ذلك فى نفس العام الذى تمت فيه مصادرة كتاب «بنية النص» لنصر حامد أبوزيد. كنت فى قمة الفرح وقمة الحزن، قمة الفرح لأننى أصبحت أشكِّل قلقًا وقلعة أمام الأزهر الذى وقف بكل رجاله ليصادروا عملًا لى. هذا يعنى أننى أصبحت أشكل حجر زاوية أمام كل ما ألفوه واعتادوا عليه، وأننى جئت بنص يهدم رؤيتهم الثابتة والمستقرة. أما سبب حزنى فهو ما تعنيه المصادرة من أننى أصبحت داخل دائرة حمراء. ماذا أفعل وأنا الذى وهبت حياتى كلها للشعر؟، وكم دفعت من ثمن فادح من أجله. يكفى أن تعرفى أننى خسرت كل شىء وأكاد أتسول جوعًا من أجل الشعر.
ذهبت إلى نجيب محفوظ باكيا، وقلت له ماذا أفعل؟.. قال لى افعل مثلما فعلت أنا، صادروا لى «أولاد حارتنا» فكتبت لهم «الحرافيش»، أعطانى رؤية مواصلة الكتابة. استمر نجيب محفوظ ولم يقف كى يستجلب شهرة زائفة، وهذا ما فعلته طيلة مشروعى الشعرى. بعد ذلك صادروا «نشيد آدم» وصادروا «هكذا عن حقيقة الكائن وعزلته أيضًا». تمت مصادرة أعمالى لأنها تعتدى على مفهوم الدين، الذى تم تجسيده منذ ١٤٠٠ سنة.
فى نفس العام، وهو عام تاريخى، صودر كتاب نصر حامد أبوزيد «بنية النص»، الذى تعرض فيه لمسألة إعادة قراءة النص القرآنى، وفق المعطيات الجديدة، من منطلق اختلاف الرؤية، ولأن النص القرآنى أزلى ومستمر، فلا بد أن نُطبق هذه المقولة بامتياز، تعالوا نعد قراءة النص القرآنى من خلال ظروفنا نحن حتى لا نعيد سلطة الفقهاء ولا نظل خانعين تحت سلطتهم، هذه السلطة التى غيبت العقل تغييبا تاما وجعلت المواطن المسلم كنعجة من النعاج.
وأذكر أنه حينما تمت مصادرة كتاب نصر حامد أبوزيد تخلى عنه زملاؤه، وأولهم جابر عصفور الذى كان الرجل الأول والأخير فى حظيرة السلطة ولم يتمرد عليها قط، وكنا نعول عليه فى أن يكون ثائرًا وتنويريًا، فإذا به يكون رجل السلطة الأول.
■ مسألة مصادرة الأعمال الإبداعية لاتزال حاضرة بقوة إلى الآن فى البلدان العربية.. هل ستظل البلدان العربية أسيرة لتابوهاتها ومهاجمة كل من يحاول المساس بها؟
- هذا شىء مضحك، كل الكتب المُصادَرة يمكن أن توجد على الإنترنت، انظرى إلى مدى الجهل والتخلف المسيطر على العقلية العربية. الكتب المُصادَرة موجودة على وسائل الاتصال الحديثة، من يُصادِر الكتب الآن أصبح محل سخرية من قبل الجميع. هذه الفكرة تُسيطر فقط فى المنطقة العربية لأنها ترضخ تحت طائلة فكرة كلنا مصادرون. كل ذلك بفعل رجال الدين أولًا وأخيرًا.
■ رجال الدين هؤلاء يوكل إليهم مُهمّة تجديد الخطاب الدينى بعدما أفرز خطابهم مشكلات جوهرية فى مصر.. كيف ترى المسألة؟
- كيف يمكن لقاتل أن يكون قاضيا؟.. رجال الدين قتلونا على مدى ١٤٠٠ سنة فكيف مرة ثانية يتحولون لقضاة؟.. وكيف يمكن لهم بعقليتهم أن يسمحوا لآخر بأن يفكر أو يتناقش، ويقول هذا صح أو خطأ؟.. البخارى كتب بعد أكثر من مائة عام من وفاة الرسول.. ألم يكن ثمة تلاعب وتأويل واختراع وكتابة نصوص عنه؟.. هذه الأحاديث من يقول لنا إنها صحيحة أو غير صحيحة، وهى النصوص التى يتكئ عليها الأزهر فى تشريعه وإصدار فتاواه على الناس، لكن يجب أن يكون هناك آخرون غير رجال الدين لنتناقش. لماذا تُعاد الكُرة إلى رجال الدين ثانية؟.. لن نتزحزح أو نتحرك خطوة للأمام طالما أن رجال الدين يمسكون بزمام الأمور ويعيدوننا إلى غيابات الجب.
هناك محاولات كثيرة على مستوى أفراد قلائل بدأوا يتمردون على رجال الدين، وهذا لم يحدث إلا لقبضتهم الحديدية. أين الأزهر من الظُلم الذى يحدث فى العالم العربى؟.. وكم يتقاضى رجال الدين والناس تتضور جوعًا فى الشوارع؟.. الاجتهادات الفردانية لطه حسين وعلى عبدالرازق ومحمد عبده ونصر أبوزيد كانت للخروج من نمط التكفير إلى التفكير. رؤيتى الشعرية كانت النقيض الأساسى لبنية فكر رجل الدين. النص الشعرى نص إنسانى يسعى لتحرير الإنسان.
■ هل ترى أن تجربتك الشعرية نالت ما تستحقه من اهتمام.. ولماذا؟
- فكرة الاقتراب من المقدس فى أعمالى خاف منها النقاد وابتعدوا عنها خشية أن يتعرضوا لما تعرضت له، وهذا هو سبب تهميشى وابتعاد الجوائز عنى، لكن الغريب أن أعمالى الكاملة موجودة فى أهم خمس مكتبات فى العالم دون أن أسعى لذلك. هذا له معنى واحد أن ما يقوله رجال الدين فى ناحية، وأن القارئ أكثر أهمية من رجال الدين. هذا أهم عندى من نقاد العالم كلهم. ثمة قارئ فاحص وصاحب عين بصيرة يميز بين التجربة الحقيقية المهمة والكتب التافهة، هذا أعظم تقدير لى وأهم من كتابات النقاد، رغم أن عددًا كبيرًا منهم كتب عنى.
أنا أصبحت أكبر من كل جوائز الدولة التى يعطونها لكل رجال الدولة الذين يتخابرون على زملائهم.
■ ماذا يُشكِّل أحمد سويلم فى الشعرية العربية.. هل أضاف جديدًا؟.. ماذا يشكل محمد إبراهيم أبوسنة أو فاروق شوشة؟
- هؤلاء كتبوا فقط كى يطلق عليهم لقب شاعر، أما محمد آدم فقد أعاد صياغة الوجود وخلخلته، والكاتب الذى يفعل ذلك يكون غير مأمون الجانب.
المتنبى مثلًا هو شاعر تافه إلى جوار المعرى، هو ابن سلطان وضد نفسه وقليلا ما كان مع نفسه فقط حينما يكتب مرثيات لبعض أقاربه، أما المعرى فقد أعاد صياغة الوجود من خلال بنية شعرية تعيد صياغة كل شىء. لهذا المعرى يُدرّس فى كل جامعات أوروبا لكن المتنبى لا شىء.
■ البعد الفلسفى يظهر بوضوح فى نصوصك الشعرية، وهو نتاج دراستك وقراءاتك المعمقة.. ما أهمية الفلسفة بالنسبة للشعر برأيك؟
- فى بدايات حياتى، حينما التقيت بنجيب محفوظ، قال لى إذا لم يكن لديك سؤال فلسفى فكف عن الكتابة أو بالأحرى يجب أن تتعلم الفلسفة لتعرف ماذا تكتب وعن ماذا تكتب. الكتابة التى بلا سؤال عبارة عن سراب، ومن هنا كان اهتمامى بدراسة وقراءة الفلسفة فدخلت كلية الآداب كى أتعلم من الصفر، وأؤسس نفسى فلسفيًا، فى كلية الآداب جامعة عين شمس قرأت كل الفلسفة الغربية ومنجز الفلاسفة الغربيين ودرست أيضا الثقافة المشرقية، كل ذلك فتح عوالم فلسفية مغايرة لم أكن أعرف عنها شيئا. الفلسفة فتحت روحى على الذخائر والكنوز المعرفية العربية المجهولة والمُجهّلة عن عمد، وما حدث من تجهيل العقل العربى بتجاهل منجزات ابن رشد وابن سينا وأيضًا ابن عربى، المتصوف المغرق فى الوجود، الذى اكتشفت كيف يعيد تأويل النص القرآنى ليجعل منه نصا وجوديا وإنسانيا كاملا، بحيث لا يكون الله منفصلا عن العالم ولا العالم منفصلا عن الله تحت ما يسمى وحدة الوجود، ورسخ لمفهوم الإنسانية فى الرؤية الإسلامية التى حملها على كتفيه فى كتابه الفتوحات المكية.
دراستى للفلسفة جعلتنى أفكر: كيف يمكن لك أن تمسك بمفتاح الكون كى تعيد فتح الأبواب المغلقة فى الثقافة العربية تحديدا، التى ألغت العقل وامتثلت للنقل؟.. الثقافة العربية ألغت ما يسمى العقل إلغاء تامًا وقدست النقل والمنجز الشفاهى، الذى جاء من البيئة الصحراوية التى أتانا منها النص القرآنى.
■ إلام ترجع هذا التقديس للنقل فى الثقافة العربية فى مقابل إلغاء الرؤية العقلانية؟
- الثقافة العربية اعتمدت بالدرجة الأولى على الشفاهية، والأذن وحدها لا تصنع ثقافة ولا تنتج ثقافة، ولهذا الأحاديث النبوية مثلا والشعر الجاهلى كلها نُقلت شفاهية. هل يمكن لأحد أن يقول إنها نُقلت كما هى؟.. لا أعلم ولا أريد. لا لشىء إلا لأن الذى حدث فى الشعر حدث فى رواية الحديث. الشعر ظل منجزًا صحراويًا تتناقله الأجيال أذنًا عن أذن، كل ما تطرب له الأذن وكل ما تستطعمه هو شعر جيد، وكل ما لا تستسيغه هو منبوذ وخارج الشعرية.
الشعر سبب رئيسى جدًا فى انهيار العقل العربى، وتحديدا الشعر الجاهلى الصحراوى. فقد جاء من فضاء صحراوى لا ماء فيه وبلا حضارة، خلافًا للوضع فى مصر وسوريا وبلاد الرافدين، هذه دول لديها حضارة ومنجز تاريخى. لو أننا حافظنا على لغتنا المصرية القديمة لما وصل الحال بالعقل العربى لما هو إليه، لكن مع دخول النص القرآنى إلى هذه الدول واستبدال اللغة العربية باللغة المصرية القديمة، حدث الإعدام المتعمد للمنجز الحضارى المصرى. لماذا لم ندخل الإسلام ونحتفظ بلغتنا؟.. لو أننا احتفظنا بلغتنا لأصبح هناك تزاوج بين المنجز الحضارى المصرى وما جاء من الصحراء، لكن وطنا يتخلى عن المنجز الثقافى له وتراث يمتد لسبعة آلاف سنة قد قام بإعدام هذه الحضارة إعدامًا تاما بكل منجزها الثقافى والإنسانى والرؤيوى والشعرى والدينى أيضا، وكأننا أمة ولدت فقط منذ أن دخل الغازى عمرو بن العاص مصر. هذا هو الذى أحدث انشقاقا فى بنية الثقافة المصرية والعربية عموما، تخلت حضارة مثل حضارة الرافدين والحضارة الكنعانية عن كل شىء لتبدأ من الصفر. حينما دخلت الثقافة العربية مصر بدأت تشعل النار فى كل منجزها الثقافى السابق ومن بينها الشعرى.
■ وما تفسيرك لهذا التخلى السهل عن كل المنجز الحضارى ما قبل الإسلام؟
- المسألة حدثت قهرا، بمعنى أنه بعد فتح مصر أو غزوها قيل للمصريين: من يؤمن فهو معنا ومن لم يؤمن فعليه أن يدفع الجزية، المصريون كانوا فقراء، خاصة أن مصر منهوبة منذ آلاف السنين، لم يكن أمامهم سوى حل واحد أن يدخلوا الإسلام وأن يتعلموا اللغة العربية. وهكذا رويدا رويدا بدأوا يدخلون الإسلام، لا حبا فيه ولكن هروبا من الجزية. ومن هنا بدأت تحل اللغة العربية محل اللغة المصرية القديمة التى أنجزت مشروعها الفكرى الكامل. هذا الانقطاع استمر لمدة ٦٠٠ سنة، إلى أن بدأ المصريون الذين دخلوا إلى الإسلام يتحدثون العربية وكأنهم ليسوا أبناء حضارة هذا الوطن. الفتح الإسلامى لمصر كان كارثة على الثقافة المصرية، وبالتحديد منذ حدث التخلى عن اللغة. مصر كانت محط الأنظار للديانات الإبراهيمية، لأن مصر كانت بلد الحضارة والأمن.
كل هذا جعلنى أفتش فى النصوص ما قبل الإسلامية المكتوبة على جدران المعابد وفى كل التراثات المصرية القديمة، وبدأنا نشعر بمدى عظمتها وإنسانيتها، ومن هنا بدأت كتابتى تختلف عن الكتابة العربية، وصرت أرفض النص الصحراوى المعتمد على الجمل والخيمة والسراب، وكل هذه الألفاظ التى لم تكن تشكل جوهر الثقافة المعرفية المصرية.
■ هل ترى أن الشعرية المصرية لا تزال غارقة وواقعة تحت تأثير البيئة الصحراوية؟
- طبعا، بالتحديد كل من يتكئ على البنية الإيقاعية التى جاءتنا، نوع من تنميط خطو الجمل المنغم والمنظم، ليس هناك حالة حضارة أو احتكاك بالأنهار والأشجار والزهور. الخروج من هذا المأزق كان بما يسمى قصيدة النثر، التى تشكل انقلابًا على المقدس الصحراوى الذى جاءنا من الصحراء، نريد أن نكتب كتاباتنا التى تخصنا نحن. أنا مصرى أريد أن أعيد تشكيل العالم كله وفق ثقافتى التى تختلف عن ثقافة الجزيرة العربية.
■ لكن هناك أسماء مثل أحمد عبدالمعطى حجازى لا تزال تقاوم قصيدة النثر إلى الآن.. كيف ترى ذلك؟
- عبدالمعطى حجازى شاعر مات. هو ابن مرحلته. الشعر ليس ابنًا لجيل واحد ولكنه صالح لكل الأجيال، والشاعر الذى ينحصر تحت جيل ما وتحت طريقة ما هو شاعر خارج سياق التاريخ، لأنه ينحصر داخل فترة زمنية محددة، ما إن تنتهى حتى ينتهى. لا يمكن أن أضع حجازى بجوار إليوت أو إيزرا باوند، لأن هؤلاء كتبوا من منظور إنسانوى بحت، يظل قافزا فوق الأجيال وصالحًا لكل الأجيال، ولكن الآن من يقرأ شعر حجازى يكتشف أنه شعر ساذج وبسيط إلى حد التفاهة، شعر غنائى بالدرجة الأولى، لكن الشعر العظيم هو الذى يعبر عن الإنسان ذاته ويقول الإنسان عند قراءته: ها أنذا وجدت نفسى فى هذه الكتابة. أما الشاعر الذى يقف عند الشفاهية ويعجب بمجرد الطرب والبنية الإيقاعية مثل حجازى فقد أصبح فى حكم الموتى. صلاح عبدالصبور أكثر عصرانية من حجازى، لأن صلاح عبدالصبور كان أيضا ابن رؤية فلسفية للعالم، خصوصا فى مسرحياته التى توضع جنبا إلى جنب بامتياز مع كل النصوص المسرحية فى العالم.
■ تكتب عن الجسد فى تجربة تعد مفارقة ومائزة فى الثقافة العربية، التى تتجنب الحديث فى هذا الجانب.. ما الذى يعنيه احتفاؤك بالجسد فى كتاباتك الشعرية من أبعاد فلسفية وثقافية؟
- حينما بدأت الكتابة كانت «متاهة الجسد». جسد المرأة كون كامل بالنسبة للإنسان، ودون جسدانية المرأة ما كان للكون من أثر، دون الجسد لا معنى للروح والعكس أيضا، الروح دون جسد عالم وهمى وافتراضى، الجسد تجسيد حى لرؤية الله فى الكون. من خلال كل الكائنات الجسدانية تشكل بنية العالم الرئيسى. من هنا كان شق طريقى المغاير أن أبدأ فكرة الجسدانية، فالجسد يعنى العالم، لا يوجد مقدس منفصل عن المدنس والعكس.
أرى أن فكرة المقدس والمدنس فكرتان مرتبطتان بفكرة الخير والشر، ولولا أحدهما ما كان الآخر. نحن لم نقرأ النص القرآنى بعقلية متفتحة، راجعى قصة موسى والخضر، كانت أفعال الخضر من وجهة نظر موسى ارتكابا للمدنس فى الكون، فى حين أن ثمة عناية أخرى وراء فعل الشر، أى أن فعل الشر هذا يكمن وراءه الخير كله، وهكذا فى باقى القصة هناك فلسفة للكون كله لا يملك أحد التحكم فيه. لهذا على الأزهر أن يكف عن إصدار أحكامه بخصوص هذا أو ذاك، لأنه لا يملك صك غفران من الله، فقط هم رجال دين يتقاضون أجورا هائلة على فتاواهم.
■ كان آخر ديوان لك بعنوان «درب البرابرة» قبل أربع سنوات تقريبًا.. هل تعكف على كتابة عمل جديد فى الوقت الحالى؟
- نعم.. أكتب منذ ثلاث سنوات ديوانًا بعنوان «شمس سوداء»، وهو عبارة عن مرثية طويلة للعالم كله بعد رحيل زوجتى، لأنه بعد رحيلها اكتشفت أن العالم لا شىء، وأن الوجود عبث. الأسئلة الثلاثة التى أتحدث عنها هى من الذى ذهب إلى السماء وعاد؟.. والثانى من ذهب إلى القبر وعاد؟.. والثالث لمن يتفوه من رجال الدين ويريد أن يقدم إجابة أقول له سؤال: من صرَّ الماء فى صُرّة؟.. إذا استطعت أن تجمع صرة وتضع فيها ماء وقبضت عليها بيديك فماذا سيتبقى من الماء داخل الصرة؟ لا شىء. هذه هى الحياة التى تغرق فى العبث واللاجدوى.
هل من بادرة أمل تراها فى المشهد الثقافى المصرى؟
- لا بادرة أمل. القرارات الأخيرة لوزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم بخصوص استثمار الثقافة لا أتصور كيف يمكن تطبيقها. هذا بيع للثقافة والمسارح والأرض وهيئة الكتاب، وماذا يبقى بعد ذلك أمام الكاتب أو المثقف؟.. ستنتهى هذه الكتابة ونكون تخلصنا من القلة القليلة التى تفتح الباب أمام العقل ويسقط الوطن أمام الرأسمالية المتوحشة التى لا وجود للإنسان بها.
الذى يحافظ على مصر ويحميها هو الثقافة. مصر لم تنس أنها أنجبت طه حسين ونصر أبوزيد وسيد درويش وأم كلثوم ومحمود مختار وعباقرة الفن التشكيلى فى العالم ولكن عصر الطغيان منذ عام ١٩٥٢ أوصلنا إلى ما وصلنا إليه.
الدستور