تسألني بعد ذلك عن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها: أهي بلاغة العقل العربي التي تجلت في نثر ابن المقفع والجاحظ والبديع، وارتسمت في منهج أبي هلال وعبد القاهر؛ أم هي بلاغة العقل اليوناني التي تمثلت في كلام الأصوليين والجدليين والمناطقة، واستسرت في قواعد السكاكي والسعد؟ أهي بلاغة المعنى أم بلاغة اللفظ؟ أهي بلاغة الفكر أم بلاغة الأسلوب؟
والجواب أن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها هي البلاغة التي تحدى بها القرآن أمراء القول في عهد كان الأدب فيه صورة الحياة وترجمة الشعور وعبارة العقل. هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل؛ إذ الكلام كائن حي، روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس
ومن العجيب أن كان في أمم البلاغة الثلاث: اليونان والرومان والعرب، من فصلوا بين القلب واللسان، وفرقوا بين المنطق والفن. ففي اليونان - وهي الأمة التي نشأت البلاغة في حضانة الفلسفة، وجعلت الشعر والخطابة قسمين من أقسام المنطق - كان للبلاغة مذهبان: مذهب الفلاسفة؛ ومن رجاله بركليس وديمستين؛ ومذهب البيانيين؛ ومن رجاله السوفسطائيون والمتشدقون من أمثال طراسيماك وجرجياس.
وفي العرب كان مذهب المعنويين ومذهب اللفظيين، أو مذهب أهل العراق، ومذهب أهل الشام. وكان هذان المذهبان أول الأمر يتماسان من شدة القرب كما تراهما بين أسلوب الجاحظ وأسلوب ابن العميد. فلما فسدت الطباع وأمحلت القرائح صار بينهما من البعد ما بين براعة ابن خلدون وغثاثة القاضي الفاضل
ولقد اختلفت التعريفات على مدلول البلاغة باختلاف تصور الناس لها وتأثرهم بها وغرضهم منها، ولكنها تعريفات مقتضبة لا تكاد تكشف عن جوهرها الفني لا من جهة النظر ولا من جهة العمل. ولعل أول من حاول شرح البلاغة على نحو يشبه الفن ابن المقفع إذ قال: (البلاغة اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة: منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون خطبا، وربما كانت رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب، فالوحي فيها والإشارة إلى المعنى ابلغ. والإيجاز هو البلاغة). ومن الأمثلة الأقوال المقتضبة قول ابن المعتز: (البلاغة هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام). وقول الخليل: (البلاغة هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه)
ولبلغاء الغرب في البلاغة أقوال تشبه ما قال بلغاء العرب في إجمال المعنى وبعد الإشارة. قال لاهارب: (البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حق). وقال سورين: (هي الفكرة الصائبة، ثم الكلمة المناسبة). وقال لابرويير: (هي نعمة روحية تولينا السيطرة على النفوس). ولقد تخيلها (سنيك) إلهاً مجهولا في صدر الإنسان. ومثلها القدماء في صورة إله يتكلم فيخرج من فيه سلاسل من الذهب تسلك السامعين فلا يفلت منهم أحد. والتمثال على هذا الوضع لا يمثل غير بلاغة الخطيب
والناظر المتقصي في أقوال هؤلاء وأولئك يستطيع أن يستخلص من جملتها أن البلاغة هي بمعناها الشامل الكامل ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكلام. فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة؛ والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة؛ وفي هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على أكمل صورة. وتحليل ذلك أن بلاغة الكلام هي تأثير نفس في نفس، وفكر في فكر. والأثر الحاصل من ذلك التأثير هو التغلب على مقاومة في هوى المخاطب أو في رأيه. وهذه المقاومة قد تكون فاعلة كسبق الإصرار أو الليل أو العزم؛ وقد تكون منفعلة كالجهل أو الشك أو التردد أو خلو الذهن. فإذا كانت منفعلة كانت ضعيفة لا يحتاج في قهرها إلى الوسائل البلاغية القوية؛ فالمرء يجهل أو يشك أو يتردد ريثما يتهيأ له أن يعلم أو يستيقن أو يجزم؛ وهو في مثل هذه الأحوال تكفيه الحقيقة البسيطة للاستفادة من (التعليم). وقد يكون مع الجهل زيف العلم، واعتساف الحكم، وخطل الرأي الثابت باستمرار العادة، وفساد الوهم القائم على قوة القرينة. وحينئذ لابد أن تتناصر قوى العقل جمعاء على كسر هذه المقاومة من طريق البرهان؛ وذلك عمل الجدل، والجدل عصب البلاغة. وربما حدث مع ذلك كله أو بدون ذلك كله، فتور في الطبع فلا ينشط الحديث ولا يرتاح إلى رأي. وهنا يجب على صاحب البلاغة أن يدفع السأم ويحرك النشاط، فيوشي الحقيقة بخياله، ويحي الأسلوب بروحه، ويجذب القارئ بفنه. وفي هذه الحال يظهر فضل البلاغة على الفلسفة
وقد تكون المقاومة ضعيفة أو معدومة من جهة العقل؛ ولكنها تكون قوية عارمة من جهة النفس. فأنا لا أماري في أن هذا هو الحق ولكني أستثقله، أو هو الفضل ولكني استرذله، أو هو النفع ولكنه يجهد نفسي ويبهر قواي، أو هو العدل ولكنه يعارض نفعي ويصادم هواي. فجهد البلاغة هنا يجب أن يوجه إلى النفس من طريق التأثير، لا إلى العقل من طريق الإقناع
فإذا اجتمع على مقاومة البلاغة العقل والهوى: هذا بميله أو نفوره، وذاك بإصراره أو قصوره، كان هنا ميدانها الأول وجهادها الخطير. لقد حشد لها العدو جميع قواه فيجب أن تربع حجره وتستعد له. وهي على حسب ما تقتضيه الحال أما أن تهاجم الرأي فتخضع بخضوعه الإرادة كحالها مع القاضي، وإما أن تهاجم الإرادة فيخضع بخضوعها الرأي كحالها مع الجمهور
أما الغرض من تحليل هذا التعريف فهو تجلية المراد من قول البيانيين أن البلاغة هي مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال. فليست الأحوال المعروضة أو المفروضة إلا انفعالات العواطف في النفس، أو اتجاهات الخواطر في الذهن. وليست مقتضياتها إلا الصور البلاغية المناسبة التي يهتدي إليها البليغ بطبعه أو فنه فيؤثر بها في هذه العواطف أو في تلك الخواطر التأثير الذي يريد. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 492
بتاريخ: 07 - 12 - 1942
والجواب أن البلاغة التي أعنيها وأدفع عنها هي البلاغة التي تحدى بها القرآن أمراء القول في عهد كان الأدب فيه صورة الحياة وترجمة الشعور وعبارة العقل. هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل؛ إذ الكلام كائن حي، روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس
ومن العجيب أن كان في أمم البلاغة الثلاث: اليونان والرومان والعرب، من فصلوا بين القلب واللسان، وفرقوا بين المنطق والفن. ففي اليونان - وهي الأمة التي نشأت البلاغة في حضانة الفلسفة، وجعلت الشعر والخطابة قسمين من أقسام المنطق - كان للبلاغة مذهبان: مذهب الفلاسفة؛ ومن رجاله بركليس وديمستين؛ ومذهب البيانيين؛ ومن رجاله السوفسطائيون والمتشدقون من أمثال طراسيماك وجرجياس.
وفي العرب كان مذهب المعنويين ومذهب اللفظيين، أو مذهب أهل العراق، ومذهب أهل الشام. وكان هذان المذهبان أول الأمر يتماسان من شدة القرب كما تراهما بين أسلوب الجاحظ وأسلوب ابن العميد. فلما فسدت الطباع وأمحلت القرائح صار بينهما من البعد ما بين براعة ابن خلدون وغثاثة القاضي الفاضل
ولقد اختلفت التعريفات على مدلول البلاغة باختلاف تصور الناس لها وتأثرهم بها وغرضهم منها، ولكنها تعريفات مقتضبة لا تكاد تكشف عن جوهرها الفني لا من جهة النظر ولا من جهة العمل. ولعل أول من حاول شرح البلاغة على نحو يشبه الفن ابن المقفع إذ قال: (البلاغة اسم لمعان تجري في وجوه كثيرة: منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون شعراً، ومنها ما يكون سجعاً، ومنها ما يكون خطبا، وربما كانت رسائل. فعامة ما يكون من هذه الأبواب، فالوحي فيها والإشارة إلى المعنى ابلغ. والإيجاز هو البلاغة). ومن الأمثلة الأقوال المقتضبة قول ابن المعتز: (البلاغة هي البلوغ إلى المعنى ولما يطل سفر الكلام). وقول الخليل: (البلاغة هي ما قرب طرفاه وبعد منتهاه)
ولبلغاء الغرب في البلاغة أقوال تشبه ما قال بلغاء العرب في إجمال المعنى وبعد الإشارة. قال لاهارب: (البلاغة هي التعبير الصحيح عن عاطفة حق). وقال سورين: (هي الفكرة الصائبة، ثم الكلمة المناسبة). وقال لابرويير: (هي نعمة روحية تولينا السيطرة على النفوس). ولقد تخيلها (سنيك) إلهاً مجهولا في صدر الإنسان. ومثلها القدماء في صورة إله يتكلم فيخرج من فيه سلاسل من الذهب تسلك السامعين فلا يفلت منهم أحد. والتمثال على هذا الوضع لا يمثل غير بلاغة الخطيب
والناظر المتقصي في أقوال هؤلاء وأولئك يستطيع أن يستخلص من جملتها أن البلاغة هي بمعناها الشامل الكامل ملكة يؤثر بها صاحبها في عقول الناس وقلوبهم من طريق الكتابة أو الكلام. فالتأثير في العقول عمل الموهبة المعلمة المفسرة؛ والتأثير في القلوب عمل الموهبة الجاذبة المؤثرة؛ وفي هاتين الموهبتين تنشأ موهبة الإقناع على أكمل صورة. وتحليل ذلك أن بلاغة الكلام هي تأثير نفس في نفس، وفكر في فكر. والأثر الحاصل من ذلك التأثير هو التغلب على مقاومة في هوى المخاطب أو في رأيه. وهذه المقاومة قد تكون فاعلة كسبق الإصرار أو الليل أو العزم؛ وقد تكون منفعلة كالجهل أو الشك أو التردد أو خلو الذهن. فإذا كانت منفعلة كانت ضعيفة لا يحتاج في قهرها إلى الوسائل البلاغية القوية؛ فالمرء يجهل أو يشك أو يتردد ريثما يتهيأ له أن يعلم أو يستيقن أو يجزم؛ وهو في مثل هذه الأحوال تكفيه الحقيقة البسيطة للاستفادة من (التعليم). وقد يكون مع الجهل زيف العلم، واعتساف الحكم، وخطل الرأي الثابت باستمرار العادة، وفساد الوهم القائم على قوة القرينة. وحينئذ لابد أن تتناصر قوى العقل جمعاء على كسر هذه المقاومة من طريق البرهان؛ وذلك عمل الجدل، والجدل عصب البلاغة. وربما حدث مع ذلك كله أو بدون ذلك كله، فتور في الطبع فلا ينشط الحديث ولا يرتاح إلى رأي. وهنا يجب على صاحب البلاغة أن يدفع السأم ويحرك النشاط، فيوشي الحقيقة بخياله، ويحي الأسلوب بروحه، ويجذب القارئ بفنه. وفي هذه الحال يظهر فضل البلاغة على الفلسفة
وقد تكون المقاومة ضعيفة أو معدومة من جهة العقل؛ ولكنها تكون قوية عارمة من جهة النفس. فأنا لا أماري في أن هذا هو الحق ولكني أستثقله، أو هو الفضل ولكني استرذله، أو هو النفع ولكنه يجهد نفسي ويبهر قواي، أو هو العدل ولكنه يعارض نفعي ويصادم هواي. فجهد البلاغة هنا يجب أن يوجه إلى النفس من طريق التأثير، لا إلى العقل من طريق الإقناع
فإذا اجتمع على مقاومة البلاغة العقل والهوى: هذا بميله أو نفوره، وذاك بإصراره أو قصوره، كان هنا ميدانها الأول وجهادها الخطير. لقد حشد لها العدو جميع قواه فيجب أن تربع حجره وتستعد له. وهي على حسب ما تقتضيه الحال أما أن تهاجم الرأي فتخضع بخضوعه الإرادة كحالها مع القاضي، وإما أن تهاجم الإرادة فيخضع بخضوعها الرأي كحالها مع الجمهور
أما الغرض من تحليل هذا التعريف فهو تجلية المراد من قول البيانيين أن البلاغة هي مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال. فليست الأحوال المعروضة أو المفروضة إلا انفعالات العواطف في النفس، أو اتجاهات الخواطر في الذهن. وليست مقتضياتها إلا الصور البلاغية المناسبة التي يهتدي إليها البليغ بطبعه أو فنه فيؤثر بها في هذه العواطف أو في تلك الخواطر التأثير الذي يريد. . .
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 492
بتاريخ: 07 - 12 - 1942