في زيارتي مؤخرا للبنان ، كان لزاما علي أن ألتمس عبق الفن والأدب والأناقة والسحر والجمال الذي كلل كتابات معشوقي الأول في الشعر جبران خليل جبران ، فمذ ناهزت الثالثة عشر بدأت جوهرة الشعر تتبلور في مخيلتي لتأخذ مكانها على ساحتي الاجتماعية ؛ فيلقبني المحيطون بالشاعرة ، كنت وقتها أستقي من نهر شعراء الرومانسية ، خاصة شعراء المهجر وعلى رأسهم جميعا كان جبران يتربع عرش المملكة التي همت بها عشقا ، لذا ، كان من المحتم علي أن أذهب إلى دياره التي أنشأته ، لأرى سحر الطبيعة التي كونت مخيلته، وأتلمس البهاء الذي أبدع قريحته.
في رحلتي المؤدية إلى قضاء بشَرِّي بمحافظة شمال لبنان ، كنت أتعجب : كيف تسنى لهذا الرجل في ذلك العصر أن يعتنق مثل هذا الفكر ؟ ، كيف كان يتنقل بين ربوع محافظته تلك ؟ وكيف تأمل طبيعتها ؟
على طول الطريق ، ونحن نمر على الأديرة والكنائس ، ونرى سكان المكان ونتوقف أحيانا لنتبضع بعض الحاجات الضرورية للرحلة ، كنت أستحضره وهو يجلس متأملا هنا أو هناك ، أو يسير بصحبة سلمى كرامة التي تعرفت إليها من أجنحته المتكسرة وهي في الحقيقة محبوبته «حلا ظاهر» ، وقد جمع بين قلبيهما حب نقي أخذ يتهاوی تحت أقدام التمايز الطبقي، لأنّ «حلا» تنتمي لطبقة الإقطاعيين الأغنياء بينما ينتمي جبران لطبقة الفلاحين المزارعين الفقراء. أخذت أستحضر بعض أحاديثهما التي تعكس ما يؤمنان به من آراء تخالف ما كان سائدا في عصرهما : " لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية ، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان ، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض ، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم ، فإذا ما ظهر بينهم فرد خال منها ، ظنوه ناقصاً محروماً من الكمالات الروحية. "
كنت أحاول سبر أغوار مجتمعه الذي أفرز شخصا مثله عن قرب هذه المرة ، وليس من خلال قراءتي كتبه ومؤلفاته أيام الشباب الأول ، رغم أنه لا ينتمي لهذا العصر ولا لذلك المجتمع الآن ، فقد فصله عنهما يزيد على قرن من الزمان ، ذلك الرجل الذي تعود أصوله إلى دمشق ، لكنه ولد في بشَرِّي الجالسة على أكتاف وادى قاديشا لبنان عام 1883م ، وتلقى أول تعليم له فيها ، فقد تعلم مبادي العربیة والفرنسیة والسریانیة وهو في الخامسة من عمره ، وأثناء العطلة الصیفیة كان يتردد علی جدّه الخوري اسطفان فالتقی عنده رهباناً إیطالیین كانوا یحملون معهم رسوماً فنیّة استهوته وحبّبت إلیه الرسم والتصویر ، لكنه اضطر إلى الهجرة منها إلى أمريكا التي توفي بها ، تحديدا في نيويورك عام 1931 م ، وكانت وصيته ان يدفن فى لبنان وان يكتب ع قبره ” أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك.
نعم ، تلك العبارة التي رأيتها مكتوبة بالإنجليزية على مدخل مقبرته بمتحفه القابع في أحضان الجبل ، لكني لم أغمض عيني كي أراه ، فكل جزء في متحفه بنبئ بحضوره ، خاصة ماتركت ريشته من لوحات وألوان تتحدث بما كان يعتمل في صدره .
توقفت كثيرا أمام قبره أهمس له بما أكنه من مشاعر ، وأعترف له بفضله ، وأتحاور معه بما بقي في الذاكرة من أقواله ، وأستعرض بعض أفكاره ورؤاه التي تحدث على أرض واقعنا الآن ، فهو صاحب القول المعروف في مقاله المعنون : إلى المسلمين من شاعر مسيحي : " أنا مسيحي و لي فخر بذلك , و لكنني أهوى النبي العربي و أكبر اسمه و أحب مجد الاسلام و أخشى زواله , أنا شرقي و لي فخر بذلك و مهما أقصتني الأيام عن بلادي أظل شرقي الأخلاق سوري الأميال لبناني العواطف ، أنا شرقي و للشرق مدينة قديمة العهد ذات هيبة سحرية و نكهة طيبة عطرية و مهما اعجب برقي الغربيين و معارفهم يبقى الشرق موطنا لأحلامي و مسرحاً لأماني و آمالي ، خذوها يامسلمون كلمة من مسيحي أسكن " يسوع " في شطر من حشاشته و " محمداً " في الشطر الآخر : إن لم يقم فيكم من ينصر الاسلام على عدوه الداخلي,
فلا ينقضي هذا الجيل إلا و الشرق في قبضة ذوي الوجوه البائخة و العيون الزرقاء ."
ويقول في موضع آخر : " إن طييعة الإسلام لا تقبل المزايدة، فالإسلام حقيقة مجردة مطلقة ، إنّ الإسلام ليس بدين فقط كما يظن مستشرقو الإنکلیز بل هودين وشريعة مدنية تضم تحت جناحيها الهائلين جميع حاجات الإنسان في كل عصر "
وقفت أسامره بما يكنه صدري من تقدير له واحترام لآرائه التي أتفق معها أحيانا ، وأختلف حينا ، وأتذكر أيام بدأت قراءة كتابه " النبي " في مكتبة قصر الثقافة بمدينة طنطا ، كنت وقتها في سن يافعة ، فوجدت صعوبة في تفهم أفكاره الفلسفية فيه ، لكني عاودت الكرة بعد عدة أعوام تدفعني فيروز بصوتها الملائكي وهي تشدو منه مقاطعها المحفوظة ، ووجدت في هذا الرجل وفكره وقتها مبتغاي ، وكأنه يتحدث بلسان حالي رغم ما يفصلني عنه من أعوام وأميال وأجيال ، وتختلف بيئتي عن بيئته وديانتي عن ديانته ، وطموحاتي عن طموحاته ، لكننا التقينا ، التقينا في مفهوم جامع عام : " الإنسانية " .
وقد فتح لي جبران الباب على مصراعيه لأتتبع أدب المهجر ، وأتعرف إلى رواده فأحببت إيليا أبي ماضي ، ودخلت عوالم ميخائيل نعيمة ، وغيرهما ، لكنه كان في نظري الرائد الأعظم ، والفيلسوف المحب الراقي ، والمتعبد البعيد عن التعصب والطائفية ، رغم ما اتهم به من إلحاد وكفر ، فجبران يرى أن الإيمان أمر فردي وفطري والأديان لها منشآ واحد والمنشأ هو ذات الإله المقدس.، وهو يقول: «تقول فكرتكم: الموسوية، البرهماتية، البوذية، المسيحية ، والاسلام. أما فكرتي فتقول: الدين واحد مجرّد مطلق تعدّدت مظاهره وظلّ مجرّداً، الدين هو الواقع الذّاتي والعمل هو التّعبير عن هذا الواقع ، إن جذور الأديان ترجع إلی طريق وحيد وینتهی هذا الطريق لإله واحد ولخالق واحد مهما تغيّرت الأسماء ومهما اختلفت الظواهر، فجبران مؤمن بوحدة الأديان وبوحدة الوجود ويری أن الأديان بمثابة أصابع اليد التي تنتهي إلى أصل واحد.
والدين في جوهره ليس عملاً شكليّا طقسياً وإنّما أعمال تعكس ما تخبّئه النفوس ويتبلور بالنّيات فيقول : «ليس الدين بما تظهره المعابد وتبيّنه الطقوس والتقاليد، بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالنّيات. » .
ويرى أيضا أن التعصب الطائفي طريق يقود إلى الضعف والتخاذل وانحلال القوة وتفرق الكلمة ولا يفضي أبدا إلی تحرر في الفكر، أو استواء في القصد، أو قوة في الكيان، بل ذلك الذي يعطل ويعوق السير في طريق النهوض ، لذلك ينبغي أن نحترم بعضنا بعضا ، ويتقبل كل منا الآخر ويقدره .
يقول جبران : " أنت أخي وأنا أحبّك، أحبّك ساجداً في جامعك، وراكعاً في هيكلك ومصلّياً في كنيستك، فأنت وأنا أبناء دين واحد "
فالله خلق الإنسان حرّا، ومنحه العاطفة والعقل، وزيّنه بالمعرفة، فماذا لو استثمر ذلك فيما ينفعه ، ويعود عليه وعلى مجتمعه بالخير العميم ؟
[email protected]
في رحلتي المؤدية إلى قضاء بشَرِّي بمحافظة شمال لبنان ، كنت أتعجب : كيف تسنى لهذا الرجل في ذلك العصر أن يعتنق مثل هذا الفكر ؟ ، كيف كان يتنقل بين ربوع محافظته تلك ؟ وكيف تأمل طبيعتها ؟
على طول الطريق ، ونحن نمر على الأديرة والكنائس ، ونرى سكان المكان ونتوقف أحيانا لنتبضع بعض الحاجات الضرورية للرحلة ، كنت أستحضره وهو يجلس متأملا هنا أو هناك ، أو يسير بصحبة سلمى كرامة التي تعرفت إليها من أجنحته المتكسرة وهي في الحقيقة محبوبته «حلا ظاهر» ، وقد جمع بين قلبيهما حب نقي أخذ يتهاوی تحت أقدام التمايز الطبقي، لأنّ «حلا» تنتمي لطبقة الإقطاعيين الأغنياء بينما ينتمي جبران لطبقة الفلاحين المزارعين الفقراء. أخذت أستحضر بعض أحاديثهما التي تعكس ما يؤمنان به من آراء تخالف ما كان سائدا في عصرهما : " لقد توارثت الأجيال الأمراض والعاهات النفسية بعضها عن بعض حتى أصبحت عمومية ، بل صارت من الصفات الملازمة للإنسان ، فلم يعد الناس ينظرون إليها كعاهات وأمراض ، بل يعتبرونها كخلال طبيعية نبيلة أنزلها الله على آدم ، فإذا ما ظهر بينهم فرد خال منها ، ظنوه ناقصاً محروماً من الكمالات الروحية. "
كنت أحاول سبر أغوار مجتمعه الذي أفرز شخصا مثله عن قرب هذه المرة ، وليس من خلال قراءتي كتبه ومؤلفاته أيام الشباب الأول ، رغم أنه لا ينتمي لهذا العصر ولا لذلك المجتمع الآن ، فقد فصله عنهما يزيد على قرن من الزمان ، ذلك الرجل الذي تعود أصوله إلى دمشق ، لكنه ولد في بشَرِّي الجالسة على أكتاف وادى قاديشا لبنان عام 1883م ، وتلقى أول تعليم له فيها ، فقد تعلم مبادي العربیة والفرنسیة والسریانیة وهو في الخامسة من عمره ، وأثناء العطلة الصیفیة كان يتردد علی جدّه الخوري اسطفان فالتقی عنده رهباناً إیطالیین كانوا یحملون معهم رسوماً فنیّة استهوته وحبّبت إلیه الرسم والتصویر ، لكنه اضطر إلى الهجرة منها إلى أمريكا التي توفي بها ، تحديدا في نيويورك عام 1931 م ، وكانت وصيته ان يدفن فى لبنان وان يكتب ع قبره ” أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فاغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك.
نعم ، تلك العبارة التي رأيتها مكتوبة بالإنجليزية على مدخل مقبرته بمتحفه القابع في أحضان الجبل ، لكني لم أغمض عيني كي أراه ، فكل جزء في متحفه بنبئ بحضوره ، خاصة ماتركت ريشته من لوحات وألوان تتحدث بما كان يعتمل في صدره .
توقفت كثيرا أمام قبره أهمس له بما أكنه من مشاعر ، وأعترف له بفضله ، وأتحاور معه بما بقي في الذاكرة من أقواله ، وأستعرض بعض أفكاره ورؤاه التي تحدث على أرض واقعنا الآن ، فهو صاحب القول المعروف في مقاله المعنون : إلى المسلمين من شاعر مسيحي : " أنا مسيحي و لي فخر بذلك , و لكنني أهوى النبي العربي و أكبر اسمه و أحب مجد الاسلام و أخشى زواله , أنا شرقي و لي فخر بذلك و مهما أقصتني الأيام عن بلادي أظل شرقي الأخلاق سوري الأميال لبناني العواطف ، أنا شرقي و للشرق مدينة قديمة العهد ذات هيبة سحرية و نكهة طيبة عطرية و مهما اعجب برقي الغربيين و معارفهم يبقى الشرق موطنا لأحلامي و مسرحاً لأماني و آمالي ، خذوها يامسلمون كلمة من مسيحي أسكن " يسوع " في شطر من حشاشته و " محمداً " في الشطر الآخر : إن لم يقم فيكم من ينصر الاسلام على عدوه الداخلي,
فلا ينقضي هذا الجيل إلا و الشرق في قبضة ذوي الوجوه البائخة و العيون الزرقاء ."
ويقول في موضع آخر : " إن طييعة الإسلام لا تقبل المزايدة، فالإسلام حقيقة مجردة مطلقة ، إنّ الإسلام ليس بدين فقط كما يظن مستشرقو الإنکلیز بل هودين وشريعة مدنية تضم تحت جناحيها الهائلين جميع حاجات الإنسان في كل عصر "
وقفت أسامره بما يكنه صدري من تقدير له واحترام لآرائه التي أتفق معها أحيانا ، وأختلف حينا ، وأتذكر أيام بدأت قراءة كتابه " النبي " في مكتبة قصر الثقافة بمدينة طنطا ، كنت وقتها في سن يافعة ، فوجدت صعوبة في تفهم أفكاره الفلسفية فيه ، لكني عاودت الكرة بعد عدة أعوام تدفعني فيروز بصوتها الملائكي وهي تشدو منه مقاطعها المحفوظة ، ووجدت في هذا الرجل وفكره وقتها مبتغاي ، وكأنه يتحدث بلسان حالي رغم ما يفصلني عنه من أعوام وأميال وأجيال ، وتختلف بيئتي عن بيئته وديانتي عن ديانته ، وطموحاتي عن طموحاته ، لكننا التقينا ، التقينا في مفهوم جامع عام : " الإنسانية " .
وقد فتح لي جبران الباب على مصراعيه لأتتبع أدب المهجر ، وأتعرف إلى رواده فأحببت إيليا أبي ماضي ، ودخلت عوالم ميخائيل نعيمة ، وغيرهما ، لكنه كان في نظري الرائد الأعظم ، والفيلسوف المحب الراقي ، والمتعبد البعيد عن التعصب والطائفية ، رغم ما اتهم به من إلحاد وكفر ، فجبران يرى أن الإيمان أمر فردي وفطري والأديان لها منشآ واحد والمنشأ هو ذات الإله المقدس.، وهو يقول: «تقول فكرتكم: الموسوية، البرهماتية، البوذية، المسيحية ، والاسلام. أما فكرتي فتقول: الدين واحد مجرّد مطلق تعدّدت مظاهره وظلّ مجرّداً، الدين هو الواقع الذّاتي والعمل هو التّعبير عن هذا الواقع ، إن جذور الأديان ترجع إلی طريق وحيد وینتهی هذا الطريق لإله واحد ولخالق واحد مهما تغيّرت الأسماء ومهما اختلفت الظواهر، فجبران مؤمن بوحدة الأديان وبوحدة الوجود ويری أن الأديان بمثابة أصابع اليد التي تنتهي إلى أصل واحد.
والدين في جوهره ليس عملاً شكليّا طقسياً وإنّما أعمال تعكس ما تخبّئه النفوس ويتبلور بالنّيات فيقول : «ليس الدين بما تظهره المعابد وتبيّنه الطقوس والتقاليد، بل بما يختبئ في النفوس ويتجوهر بالنّيات. » .
ويرى أيضا أن التعصب الطائفي طريق يقود إلى الضعف والتخاذل وانحلال القوة وتفرق الكلمة ولا يفضي أبدا إلی تحرر في الفكر، أو استواء في القصد، أو قوة في الكيان، بل ذلك الذي يعطل ويعوق السير في طريق النهوض ، لذلك ينبغي أن نحترم بعضنا بعضا ، ويتقبل كل منا الآخر ويقدره .
يقول جبران : " أنت أخي وأنا أحبّك، أحبّك ساجداً في جامعك، وراكعاً في هيكلك ومصلّياً في كنيستك، فأنت وأنا أبناء دين واحد "
فالله خلق الإنسان حرّا، ومنحه العاطفة والعقل، وزيّنه بالمعرفة، فماذا لو استثمر ذلك فيما ينفعه ، ويعود عليه وعلى مجتمعه بالخير العميم ؟
[email protected]