مسكين طرفة! لقد ثكلته آلهة الشعر والهوى والخمور باكراً غضاً نضير العود، مسكين لم يمتع بالشباب؛ بل كان لا يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره حينما طوته المنون في سجل العدم ودفنت معه عبقرية فياضة، وذهنية جبارة، وشاعرية قوية حارة. خمسة وعشرون حجة، إنها لحلم قصير يا طرفة. . ولكنه حلم لذيذ، وحلم جد عجيب أيها الشاعر الاغتنامي والشاب الفيلسوف المتهتك.
على رمال الصحراء الطليقة ولد طرفة، ولكن متى؟ هذا ما لا يعلمه أحد؛ كان والده من سادة (بكر وائل) ومن ذوي الشرف الرفيع والمقام المحمود في قومه، وسمع طرفة يفتخر بأصله:
لقد علم الأقوام أنا بنجوة ... علت شرفاً من أن تضام وتشتما
لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
وتشاء الأقدار أن تسلب الشاعر والديه وهو لم يزل طفلاً في المهد فينشأ المسكين كما نشأ الحطيئة والأخطل وبشار وأبو نواس وابن الرومي، يتيماً محروماً من كل عطف ورعاية، لا يعرف سوى أعمامه الذين أهملوا تربيته وهضموا حقه.
لقد ثار طرفة في شبابه على هؤلاء الذين نبذوه وظلموه وكانوا علة شقائه، ثار على أعمامه وذوى قرباه، وفى ساعة ذكرى ماض محروق مهان، وطفولة نكدة محرومة، تلهم عرائس الشعر هذا العبقري الصغير أبياته الخالدة:
فمالي أراني وابن عمي مالكاً ... متى أدن منه ينأ عنى ويبعد
يلوم، وما أدرى علام يلومني ... كما لامني في الحي قرط بن معبد
وظلم ذوى القربى اشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
ولا أعلم كيف عاب بعض النقاد الأدباء هجاء طرفة لقومه في قوله:
أسامني قومي ولم يغضبوا ... لسوءة، حلت بهم فادحة
وكلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارح وكيف رموه من أجل ذلك بكثرة الشر ولؤم الطبع، ما كانوا محقين وما كانوا منصفين، انهم لم يفطنوا إلى أن الشاعر ما قال بيتيه إلا بعد أن لاقى من قومه كل احتقار وقسوة؛ وكل ما من شأنه أن يجعل الشاعر يثور على البيئة التي نشأ فيها.
ثم هل تظن أن طرفة عنى قومه فقط حينما قال: (كلهم أروغ من ثعلب) أنا لا أظن ذلك بل أرجح أنه عنى الناس أجمعين، وأنه كان سيئ الظن بالبشر شديد الحذر منهم، أليس هو القائل في ذم الأخلاّء:
كل خليل كنت خاللته ... لترك الله له واضحه
ولد طرفة عبقرياً وشب عبقرياً، فأسمعنا وهو في زهرة العمر وفجر الشباب أناشيد الحياة والموت فأطربنا بأنغامه إلى حين، نعم إلى حين، فقد أخرس الزمن لهاته قبل أن يكمل الخامسة العشرين ربيعاً؛ وكأن طرفة كان يشعر بمصيره ويعلم أن أيامه في الحياة قصيرة؛ فراح يسخر بمن يردعه عن اغتنام لذائذ الدنيا ويزجره عن الخمر والنساء واقتحام الهيجاء:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى ... وان أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
واعتقد طرفة أن (الكل باطل) ورأى أن هنالك شيئاً واحداً ثابتاً، هو أن الحياة تمضي، وما عدا ذلك أباطيل:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطِّوَل المرخي وثنياه باليد
لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزود
وما دام طرفة يرى أن اسمه سيمحى من سجل الوجود وأن قبر البخيل النحام في شرع الفناء كقبر الغوي الضال الذي قضى عمره في الشرب واللعب:
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
ما دام يرى ذلك فقد صمم على أن يغتنم أويقات الحياة ويتمتع بكل ما تناله يده من لذائذ ومتع فعاش - وهذا طبيعي ممن مات ولم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه - صريع الكأس والأعين النجل؛ واهباً روحه للجمال وحسه للذة، أما نفسه فظلت كبيرة لم يذلها الهوى ولم يخضها الحسن، أبداً محترمة مهيبة طموحة إلى المجد:
إذا القوم قالوا (من فتى)، خلت أنني ... عُنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
متى تأتني أصبحك كأساً روية ... وإن كنت عنها غانياً، فاغد وازدد
وان يلتقي الحيُّ الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الشريف المصمد
نداماى بيض كالنجوم وقينة ... تروح إلينا بين برد مجسد
ومازال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدى
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
شعر رقيق عبر به صاحبه فأحسن التعبير، وطريقة واقعية مذهبها الإباحة والصراحة، حقاً لقد خلق هذا الصغير طرفة شاعراً فياض القريحة، انظر، إنه ما فكر في غير نفسه، ولا استمد إلا من حسه.
ربما دهشت إذا قلت لك إن هذا الشاعر الشاب الذي مات قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، والذي عاش كما قال بشار:
عشت بين الندمان والراح والمز ... هر في ظل مجلس حسن
قد امتاز أيضاً بما نظم من الحكم البالغة والأمثلة السائرة، لا تعجب، إن طرفة لم يكن مخلوقاً عادياً، بل كان عبقرياً ملهماً، نظر بعين بصيرته إلى الحياة نظر الشيخ المجرب، فحدثنا عن الوجود والعدم حديث العارف الحكيم، وعالج لنا خلال السنوات القليلة التي عاشها كثيراً من مسائل الحياة وأحوال المجتمع وخوالج النفس. قال يطلب الغيث لديار حبيبته:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى
شعر جزل فصيح، طلب الغيث على قدر الحاجة، لأن الفاضل ضار، وقد قال محمد (ص) (اللهم اسقنا سقياً نافعاً)
أنا وأنت وكل الناس نتمثل بقول هذا الشاب:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
واسمع إنه يحدثك عن الخير والشر: الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وتأمل قوله وهو في السجن - يخاطب قاتله عمرو بن هند
أبا منذر كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ألا تشعر معي أن في قوله (أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا) نقاء وحرارة، وليناً وروعة واستعطافاً، وان قوله (بعض الشر أهون من بعض) آية يتمثل بها.
وذكروا أن من حكمه التي حملت فحول الشعراء كلبيد وجرير والأخطل على الاعتراف بفضله وتقدمه قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويروى عن عائشة رض الله عنها قولها: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا استراب الخبر يتمثل بقول طرفة (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وكان ابن عباس يقول عن هذا البيت (انه كلام نبي).
النبي محمد يتمثل بقول طرفة.!
وابن عباس يقول إن كلامه كلام نبي.
وأبو العلاء المعري يقول في رسالة الغفران (. . لو لم يكن لطرفة أثر إلا قصيدته التي على الدال لكان قد أبقى أثراً حسناً).
أما قصيدة طرفة التي على الدال فهي معلقته، اسمع مطلعها الرائع:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفاً بها صحبي على مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ونظر طرفة إلى الحياة، إلى المستقبل، بعين فيلسوف حكيم، بعين شيخ مجرب بصير بعواقب الأمور فقال:
قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبّبٌ
رحم الله طرفة شاعر الشباب والجمال والحكمة.
شرقي الأردن
بشير الشريقي المحامي
مجلة الرسالة - العدد 53
بتاريخ: 09 - 07 - 1934
على رمال الصحراء الطليقة ولد طرفة، ولكن متى؟ هذا ما لا يعلمه أحد؛ كان والده من سادة (بكر وائل) ومن ذوي الشرف الرفيع والمقام المحمود في قومه، وسمع طرفة يفتخر بأصله:
لقد علم الأقوام أنا بنجوة ... علت شرفاً من أن تضام وتشتما
لنا هضبة لا يدخل الذل وسطها ... ويأوي إليها المستجير فيعصما
وتشاء الأقدار أن تسلب الشاعر والديه وهو لم يزل طفلاً في المهد فينشأ المسكين كما نشأ الحطيئة والأخطل وبشار وأبو نواس وابن الرومي، يتيماً محروماً من كل عطف ورعاية، لا يعرف سوى أعمامه الذين أهملوا تربيته وهضموا حقه.
لقد ثار طرفة في شبابه على هؤلاء الذين نبذوه وظلموه وكانوا علة شقائه، ثار على أعمامه وذوى قرباه، وفى ساعة ذكرى ماض محروق مهان، وطفولة نكدة محرومة، تلهم عرائس الشعر هذا العبقري الصغير أبياته الخالدة:
فمالي أراني وابن عمي مالكاً ... متى أدن منه ينأ عنى ويبعد
يلوم، وما أدرى علام يلومني ... كما لامني في الحي قرط بن معبد
وظلم ذوى القربى اشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
ولا أعلم كيف عاب بعض النقاد الأدباء هجاء طرفة لقومه في قوله:
أسامني قومي ولم يغضبوا ... لسوءة، حلت بهم فادحة
وكلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارح وكيف رموه من أجل ذلك بكثرة الشر ولؤم الطبع، ما كانوا محقين وما كانوا منصفين، انهم لم يفطنوا إلى أن الشاعر ما قال بيتيه إلا بعد أن لاقى من قومه كل احتقار وقسوة؛ وكل ما من شأنه أن يجعل الشاعر يثور على البيئة التي نشأ فيها.
ثم هل تظن أن طرفة عنى قومه فقط حينما قال: (كلهم أروغ من ثعلب) أنا لا أظن ذلك بل أرجح أنه عنى الناس أجمعين، وأنه كان سيئ الظن بالبشر شديد الحذر منهم، أليس هو القائل في ذم الأخلاّء:
كل خليل كنت خاللته ... لترك الله له واضحه
ولد طرفة عبقرياً وشب عبقرياً، فأسمعنا وهو في زهرة العمر وفجر الشباب أناشيد الحياة والموت فأطربنا بأنغامه إلى حين، نعم إلى حين، فقد أخرس الزمن لهاته قبل أن يكمل الخامسة العشرين ربيعاً؛ وكأن طرفة كان يشعر بمصيره ويعلم أن أيامه في الحياة قصيرة؛ فراح يسخر بمن يردعه عن اغتنام لذائذ الدنيا ويزجره عن الخمر والنساء واقتحام الهيجاء:
ألا أيُّهذا الزاجري أحضر الوغى ... وان أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
واعتقد طرفة أن (الكل باطل) ورأى أن هنالك شيئاً واحداً ثابتاً، هو أن الحياة تمضي، وما عدا ذلك أباطيل:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كل ليلة ... وما تنقص الأيام والدهر ينفد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطِّوَل المرخي وثنياه باليد
لعمرك ما الأيام إلا معارة ... فما استطعت من معروفها فتزود
وما دام طرفة يرى أن اسمه سيمحى من سجل الوجود وأن قبر البخيل النحام في شرع الفناء كقبر الغوي الضال الذي قضى عمره في الشرب واللعب:
أرى قبر نحام بخيل بماله ... كقبر غوي في البطالة مفسد
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد
ما دام يرى ذلك فقد صمم على أن يغتنم أويقات الحياة ويتمتع بكل ما تناله يده من لذائذ ومتع فعاش - وهذا طبيعي ممن مات ولم يبلغ الخامسة والعشرين من سنه - صريع الكأس والأعين النجل؛ واهباً روحه للجمال وحسه للذة، أما نفسه فظلت كبيرة لم يذلها الهوى ولم يخضها الحسن، أبداً محترمة مهيبة طموحة إلى المجد:
إذا القوم قالوا (من فتى)، خلت أنني ... عُنيت، فلم أكسل ولم أتبلد
فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ... وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
متى تأتني أصبحك كأساً روية ... وإن كنت عنها غانياً، فاغد وازدد
وان يلتقي الحيُّ الجميع تلاقني ... إلى ذروة البيت الشريف المصمد
نداماى بيض كالنجوم وقينة ... تروح إلينا بين برد مجسد
ومازال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدى
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
شعر رقيق عبر به صاحبه فأحسن التعبير، وطريقة واقعية مذهبها الإباحة والصراحة، حقاً لقد خلق هذا الصغير طرفة شاعراً فياض القريحة، انظر، إنه ما فكر في غير نفسه، ولا استمد إلا من حسه.
ربما دهشت إذا قلت لك إن هذا الشاعر الشاب الذي مات قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، والذي عاش كما قال بشار:
عشت بين الندمان والراح والمز ... هر في ظل مجلس حسن
قد امتاز أيضاً بما نظم من الحكم البالغة والأمثلة السائرة، لا تعجب، إن طرفة لم يكن مخلوقاً عادياً، بل كان عبقرياً ملهماً، نظر بعين بصيرته إلى الحياة نظر الشيخ المجرب، فحدثنا عن الوجود والعدم حديث العارف الحكيم، وعالج لنا خلال السنوات القليلة التي عاشها كثيراً من مسائل الحياة وأحوال المجتمع وخوالج النفس. قال يطلب الغيث لديار حبيبته:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمى
شعر جزل فصيح، طلب الغيث على قدر الحاجة، لأن الفاضل ضار، وقد قال محمد (ص) (اللهم اسقنا سقياً نافعاً)
أنا وأنت وكل الناس نتمثل بقول هذا الشاب:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
واسمع إنه يحدثك عن الخير والشر: الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد
وتأمل قوله وهو في السجن - يخاطب قاتله عمرو بن هند
أبا منذر كانت غروراً صحيفتي ... ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ألا تشعر معي أن في قوله (أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا) نقاء وحرارة، وليناً وروعة واستعطافاً، وان قوله (بعض الشر أهون من بعض) آية يتمثل بها.
وذكروا أن من حكمه التي حملت فحول الشعراء كلبيد وجرير والأخطل على الاعتراف بفضله وتقدمه قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويروى عن عائشة رض الله عنها قولها: كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا استراب الخبر يتمثل بقول طرفة (ويأتيك بالأخبار من لم تزود) وكان ابن عباس يقول عن هذا البيت (انه كلام نبي).
النبي محمد يتمثل بقول طرفة.!
وابن عباس يقول إن كلامه كلام نبي.
وأبو العلاء المعري يقول في رسالة الغفران (. . لو لم يكن لطرفة أثر إلا قصيدته التي على الدال لكان قد أبقى أثراً حسناً).
أما قصيدة طرفة التي على الدال فهي معلقته، اسمع مطلعها الرائع:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقوفاً بها صحبي على مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
ونظر طرفة إلى الحياة، إلى المستقبل، بعين فيلسوف حكيم، بعين شيخ مجرب بصير بعواقب الأمور فقال:
قد يبعث الأمر العظيم صغيره ... حتى تظل له الدماء تصبّبٌ
رحم الله طرفة شاعر الشباب والجمال والحكمة.
شرقي الأردن
بشير الشريقي المحامي
مجلة الرسالة - العدد 53
بتاريخ: 09 - 07 - 1934