سلكت دراسة التاريخ في العصر الحديث مسالك شتى، وتشعبت في فروع كثيرة؛ فأصبحنا نرى إلى جانب تاريخ السياسة تاريخاً للفلسفة، وتاًريخا للعلوم، وتاريخاً للاقتصاد، وتاًريخا للأدب. وسنحاول في هذه الكلمة أن نبين مدى ما يمسه تاريخ الأدب من مباحث.
1 - شخصية الكاتب
يعنى تاريخ الآداب بدراسة الآثار الأدبية من نثر ونظم. ولما كنا لا نستطيع أن نفهم الكتاب فهما صادقاً دون أن نعرف مؤلفه، أو نحلل القصيدة تحليلاً دقيقاً من غير أن نعرف ناظمها، فقد أصبح لزاماً علينا أن نجعل الكتاب والشعراء أنفسهم موضوعاً للدرس عند دراسة تاريخ الأدب، ذلك لأنه يستحيل علينا أن نفصل الأثر عن المؤثر أو نفهم النتيجة دون السبب. وإننا حين نقرأ كتاباً من الكتب تبرز لنا شخصية المؤلف الذي صب أفكاره ومشاعره في هذا الكتاب قوية واضحة، بحيث لا نستطيع إنكارها.
وتشمل دراسة الأشخاص نشأتهم وتجاربهم وأخلاقهم الموروثة والمكتسبة، ونزاعاتهم وتاريخ حياتهم، وغير ذلك من مكونات الشخصية. ولكن هناك ناحية أخرى يجب أن تنال من عنايتنا أكبر نصيب عند دراسة الأديب، تلك هي السمة الظاهرة، والطابع الخاص الذي يميز البعض عن البعض، ويرفع كاتباً فوق الآخر. ذلك لأن العبقرية معنى واسع تشمل أطرافاً متباعدة، ولكنها في صميمها عبارة عن قوة الشخصية، أو قوة الابتكار والابتداع. ويقول أحد الكتاب الإنجليز: (إن كل كاتب كبير يأتي إلى هذا العالم بشيء جديد كل الجدة: ذلك هو نفسه). والكاتب المخلص لفنه يسكب نفسه ويبث روحه في كل ما يكتب، ومن ثم اختلفت آثار الكتاب وانطبعت بصور شتى من شخصياتهم. وواجبنا عند دراسة الأديب أن نبرز طابعه الشخصي للعيان، ونفصله كل التفصيل؛ فهو أهم ما يجب أن نعرف عنه، وللأديب من الأهمية والعظمة بقدر ما لهذا الطابع من قيمة وجاذبية.
2 - المذاهب والمدارس في الأدب
ليست شخصية الكاتب إلا ناحية واحدة من نواح كثيرة، يختص بدراستها تاريخ الأدب. فلو أنا دونا مصنفاً يجمع بين دفتيه تاريخ حياة الأدباء وذكر آثارهم ومخلفاتهم متنافرة لا تؤلف بين ابعاضها فكرة، ولا تربط أجزاءها صلة، كان تأريخنا لأدب اللغة ناقصاً قليل الفائدة، لأن الأدب برمته يرتقي وينحط من عصر إلى عصر. وعلى مؤرخ الآداب أن يدرس أسباب الرقي والانحطاط، وتأثر الأدباء بها أو تأثيرهم فيها، وأن يدرس صلاتهم بأسلافهم وأخلاقهم، فان من الكتاب من يرتفع إلى درجة السمو والكمال، فيطبع عصره بطابع خاص، ويظهر من بعده أتباع له يتأثرون آراءه وأساليبه، معترفين بفضله حيناً ومنكرين أحياناً. والكتاب الذي يلقي رواجاً عند جمهور الناس لا يلبث أن يظهر له أشباه، وأن يتكرر ما فيه مرات ومرات: هكذا تنشأ المدارس في الأدب، وتظهر الحركات التجديدة التي تحيا حيناً من الدهر، ثم تموت لتخلي السبيل إلى ظهور مدرسة أخرى أو حركة جديدة حينما تتغير الأذواق وتتبدل المذاهب. فإذا قلنا - مثلا - مدرسة (بوب) في الأدب الإنجليزي، انصب قولنا على جميع الشعراء الذين تبعوه في الأسلوب الذي أذاعه بين الناس ورفعه إلى مرتبة الكمال. وإذا ذكرت (الحركة الكلاسيكية) في الشعر، حملت إلى أذهاننا عصر بوب الذي تميز بالرجوع إلى تراث الأقدمين وورود مناهجهم الأدبية. وإذا قلنا الحركة الرومانتيكية في النثر الخيالي، قصدنا ذلك المنوال الذي أنشأه (سكت) في كتابه القصص التاريخية، ونسج عليه أتباعه ومقلدوه. وقد ظهرت المدارس والمذاهب كذلك في الأدب العربي، فكان في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي، لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلد القدماء. وقد أدخل المتنبي والمعري الفلسفة في الشعر، فأصبحت مذهباً من المذاهب له أشياعه وأنصاره.
هذه المدارس والحركات تلعب دوراً هاماً في تطور الأدب، ولها من الأهمية في دراسة تاريخ الآداب ما لا يقل شأناً عن دراسة شخصيات الكتاب أنفسهم. فان الأديب مهما كان مجدداً مبتكراً فهو ما يزال إلى حد بعيد وليداً لبعض الكتاب السابقين، يستلهمهم الرأي ويستوحيهم الأسلوب. وقد ذكرنا مثلا أن (بوب) مجدد في الشعر الإنجليزي، له أسلوب خاص ومدرس خاصة، ولكنا إذا أمعنا في البحث عرفنا أن هذا الأسلوب لم يكن من خلقه وإنشائه، وإنما بلغ الذروة والكمال على يديه بعد ما سار شوطاً بعيدا في التقدم والترقي، ووصل إلى درجة تكاد تدانيه دقة وروعة في كتابات الشاعر دريدن. وقد تعلم سكت في مدرسة رومانتيكية قبل أن يصبح زعيماً لهذه الحركة، وظهرت الفلسفة في الشعر العربي قبل المتنبي والمعري. وكثيراً ما ينعت شكسبير بأنه يتفرد في عصره بالسمو والكمال الأدبي، وأنه ابتكر الدرام لم يتبع في ذلك أحداً ولم يتأثر أحداً، ولكنه في الواقع لم يكن إلا متماً لمجهودات السابقين من الكتاب أمثال نكولاس يودال، وتوماس فورتن، وغيرهما ممن لا يرد ذكرهما في تاريخ الأدب إلا لماماً.
وتاريخ الأدب يوضح لنا هذه الصلات ويربط كاتباً بآخر، وجماعة بجماعة، ومدرسة بمدرسة، كماً يدرس أسباب التطورات المختلفة في عصور الأدب، وتأثير فحول الكتاب في الجمود بالأدب والسير به في مناهجه القديمة والنهوض به وتوجيهه وجهات جديدة. وقد عرفنا أن روح الأدب تتغير من عصر إلى عصر، وكثيراً ما يتحكم الذوق العام عند جمهور الشعب في هذا التغير، فيخرج الأدب على غراره ويتطبع بطابعه. وكما أن لكل جيل أسلوبه في الشعور، فكذلك لكل جيل ذوقه الخاص. هذا الذوق سريع التقلب والتغير، فان عصر فكتوريا في الأدب الإنجليزي (1832 - 1877) على قرب عهده وشدة صلته بالعصر الحديث يختلف في أدبه عن الأدب الحديث، كما يختلف في زيه عن الأزياء الحديثة. والفرق واضح بين لغة الأدباء في مصر الآن، وبين لغتهم منذ عشرين عاماً فقط، ذلك لأن القراء قد تبدلت أذواقهم وتغيرت طرائق معيشتهم.
وتاريخ الأدب يبحث قبل كل شيء عن أسباب هذا التطور في الأساليب والأذواق، وقد عرفنا أن شخصية الكاتب عامل عظيم الأثر في هذه الانقلابات، لأن الكاتب الفذ يخلق ذوقاً جديداً وينشئ عصراً جديداً ومرحلة جديدة في الأدب، ولكنا يجب ألا نغالي في تقدير شخصية الكاتب حتى نجعلها تبتلع العوامل الأخرى وتستغرقها جميعاً، فقد ذكرنا أن النابغة يصاغ في قالب من الثقافة والمثل العليا والاتجاهات العقلية والخلقية التي يولد فيها، مما يكون له أكبر الأثر فيما يكتب ويخرج لهذا العالم. وكما يؤثر الأديب الفحل في عصره فهو كذلك يتأثر به، ويتوقف نجاحه إلى حد كبير على خضوعه لأذواق الجماهير ومجاراته لأهوائهم، وعلى ذلك فالكاتب ابن عصره، ولابد لنا عند دراسته من معرفة العوامل التي كيفت آراءه وحددت ذوقه الأدبي، وجعلت له طابعاً خاصاً في أدبه - وقد تكون هذه العوامل أدبية ترجع إلى الكتب والمدارس كما يتميز عصر اليزابيث - مثلا - في الأدب الإنجليزي باندفاعه وراء الآداب اللاتينية والإغريقية التي بعثتها النهضة الأوربية، فتأثر الكتاب في ذلك العصر بسحر الأدب الإيطالي، وكما انبعثت آداب العصور الوسطى وفنونها منذ سنة 1750، وتمثلت في كولروج وسكت. فالواقع الذي لا مراء فيه أن المؤثرات الأدبية تأتي بأذواق جديدة تجرف أمامها أشد الكتاب استقلالاً في الرأي.
ولكن الأدب يتأثر بعدة عوامل أخرى غير العامل الأدبي، عوامل لا تمت إلى الكتب والمدارس بصلة، ولكنها تتصل بالحياة العامة والسياسة والاجتماع بسبب، فكل ما يبعث اتجاهاً جديداً في الرأي أو في منحى الحياة أو في مجرى السياسة والشعور العام يؤثر في تكوين الآداب إلى حد كبير. ويجب علينا دراسة أي أثر من الآثار الأدبية ألا ننسى ظروف الزمان والمكان التي أحاطت بالكاتب عند تحرير كتابه.
3 - صلة التاريخ بالأدب
لكل جنس من الأجناس البشرية ولكل عصر من عصور التاريخ مميزات خاصة، ومهما تكن شخصية الأديب بالغة من القوة، فأن روح جنسه وعصره لابد ظاهرة فيه وعلى ذلك فتاريخ الأدب يتأثر بمؤثرات وطنية كما يتأثر بمؤثرات شخصية. ويكفي أن نذكر الإصلاح الديني والثورة الفرنسية وظهور الإسلام وتقدم العلوم في القرن التاسع عشر، وغير ذلك من الحوادث العظمى في التاريخ لنتبين العلاقة المتينة بين تاريخ الأدب والتاريخ العام.
ولا يقتصر تاريخ الأدب على دراسة المخلفات الأدبية لمختلف الكتاب، كل كاتب على حدة، وإنما هو يشمل كذلك دراسة أدب الأمة جملة واحدة، وإظهار مميزاته العامة باعتباره إنتاجاً لعقلية هذه الأمة ككتلة واحدة لها تفكير خاص وشعور خاص، فللأدب العربي - مثلا - مميزاته العامة، وللأدب الإنجليزي مميزاته العامة كذلك، وتختلف هذه عن تلك بمقدار ما يختلف الشعبان في الجنس والسلالة.
كل ما له أثر في تكوين الأمة له أثر في نسج أدبها، فأن أدب الأمة هو تاريخها الذي دونته بقلمها يصور لنا أخبار رقيها العقلي والخلقي. وإذا تتبعنا تاريخ الأدب في كل ما طرأ عليه من تقلبات، فنحن على اتصال مباشر بالأسباب الحقيقية، والحركات الدافعة لحياة الأمة في العصور المختلفة، ونحن مستطيعون أن نفهم نظر أهل تلك العصور إلى الحياة وألوان مسراتها وأنواع ملاهيها وفلسفتهم في الوجود ومختلف العواطف والأحاسيس التي كانت تجول بنفوسهم، ومثلهم العليا في الأخلاق والذوق، وأي صفات البطولة كان لها سلطان قوي على النفوس، وكان لها نصيب كبير من الإعجاب، فالأدب كما يقولون مرآة تنعكس عليها روح الشعب وحياته
4 - عصور الأدب
وقد اعتاد مؤرخو الآداب أن يقسموا الأدب إلى عصور مختلفة، ولم يلجئوا إلى ذلك لسهولة الدرس فحسب، ومن قبيل تقسيم الموضوع المتشعب إلى أبواب وفصول، ولكن هناك ما يبرر هذا التقسيم، فالعصر التاريخي عبارة عن فترة زمنية يسود فيها نوع من الذوق العام، وعلى ذلك فأن أدب ذلك العصر يتسم بصفات خاصة من حيث المادة والفكرة والأسلوب. وقد تختلف آثار الكتاب البارزين بقدر ما تختلف شخصياتهم، ولكن تلك الصفات العامة تظهر فيهم أجمعين، ولا ينتهي عصر ويخلفه آخر، إلا بعد تغير حاسم في الذوق العام.
ولكننا يجب أن لا نضع الحواجز المتينة بين عصر وعصر، فليس تاريخ الإنسان أبواباً وفصولاً، ولكنه تيار واحد متدفق يتعرج حينا ذات اليمين وحيناً ذات اليسار، وليس له بداية معينة ولا نهاية محدودة، والعصور التاريخية في الواقع آخذ بعضها بتلابيب بعض، وقد يبدأ الرحل عمله في عصر من العصور ولا ينتهي منه إلا في عصر آخر، كالمخضرمين بين الجاهلية والإسلام، وكبشار وابن المقفع بين العصر الأموي والعصر العباسي. وقد عاش دريدن وملتون في زمن واحد، ولم يعمر أولهما بعد الآخر إلا سنوات قلائل، ومع ذلك فقد أعتاد مؤرخو الأدب الإنجليزي أن يضعوهما على رأس عصرين متتابعين يعرفان بعصر (دريدن) وعصر (ملتون). ومع ذلك فإن لتقسيم الأدب إلى عصور أهميته الدراسية لأنه يوجه أنظارنا إلى المراحل التي اجتازها الأدب وتميز في كل مرحلة منها بميزة خاصة، وهو أهم ما يعنى به مؤرخ الآداب.
وللمؤرخ أن يطلق على هذه العصور أسماء يشتقها من التاريخ ورجاله كعصر اليزابيث، وعصر فكتوريا، وعصر المأمون. ولكن الأجدر بنا أن نسمي تلك العصور بأسماء مشتقة من الأدب نفسه ونطلق عليها أسماء مشاهير الكتاب الذين يمثلونها فنقول عصر شكسبير وعصر ملتون وعصر المتنبي. وعصر الجاحظ. . الخ ليسهل على الطالب أن يدرك بنظرة سريعة الصفات التي يتميز جيل عن جيل.
محمود محمود محمد
مجلة الرسالة - العدد 48
بتاريخ: 04 - 06 - 1934
1 - شخصية الكاتب
يعنى تاريخ الآداب بدراسة الآثار الأدبية من نثر ونظم. ولما كنا لا نستطيع أن نفهم الكتاب فهما صادقاً دون أن نعرف مؤلفه، أو نحلل القصيدة تحليلاً دقيقاً من غير أن نعرف ناظمها، فقد أصبح لزاماً علينا أن نجعل الكتاب والشعراء أنفسهم موضوعاً للدرس عند دراسة تاريخ الأدب، ذلك لأنه يستحيل علينا أن نفصل الأثر عن المؤثر أو نفهم النتيجة دون السبب. وإننا حين نقرأ كتاباً من الكتب تبرز لنا شخصية المؤلف الذي صب أفكاره ومشاعره في هذا الكتاب قوية واضحة، بحيث لا نستطيع إنكارها.
وتشمل دراسة الأشخاص نشأتهم وتجاربهم وأخلاقهم الموروثة والمكتسبة، ونزاعاتهم وتاريخ حياتهم، وغير ذلك من مكونات الشخصية. ولكن هناك ناحية أخرى يجب أن تنال من عنايتنا أكبر نصيب عند دراسة الأديب، تلك هي السمة الظاهرة، والطابع الخاص الذي يميز البعض عن البعض، ويرفع كاتباً فوق الآخر. ذلك لأن العبقرية معنى واسع تشمل أطرافاً متباعدة، ولكنها في صميمها عبارة عن قوة الشخصية، أو قوة الابتكار والابتداع. ويقول أحد الكتاب الإنجليز: (إن كل كاتب كبير يأتي إلى هذا العالم بشيء جديد كل الجدة: ذلك هو نفسه). والكاتب المخلص لفنه يسكب نفسه ويبث روحه في كل ما يكتب، ومن ثم اختلفت آثار الكتاب وانطبعت بصور شتى من شخصياتهم. وواجبنا عند دراسة الأديب أن نبرز طابعه الشخصي للعيان، ونفصله كل التفصيل؛ فهو أهم ما يجب أن نعرف عنه، وللأديب من الأهمية والعظمة بقدر ما لهذا الطابع من قيمة وجاذبية.
2 - المذاهب والمدارس في الأدب
ليست شخصية الكاتب إلا ناحية واحدة من نواح كثيرة، يختص بدراستها تاريخ الأدب. فلو أنا دونا مصنفاً يجمع بين دفتيه تاريخ حياة الأدباء وذكر آثارهم ومخلفاتهم متنافرة لا تؤلف بين ابعاضها فكرة، ولا تربط أجزاءها صلة، كان تأريخنا لأدب اللغة ناقصاً قليل الفائدة، لأن الأدب برمته يرتقي وينحط من عصر إلى عصر. وعلى مؤرخ الآداب أن يدرس أسباب الرقي والانحطاط، وتأثر الأدباء بها أو تأثيرهم فيها، وأن يدرس صلاتهم بأسلافهم وأخلاقهم، فان من الكتاب من يرتفع إلى درجة السمو والكمال، فيطبع عصره بطابع خاص، ويظهر من بعده أتباع له يتأثرون آراءه وأساليبه، معترفين بفضله حيناً ومنكرين أحياناً. والكتاب الذي يلقي رواجاً عند جمهور الناس لا يلبث أن يظهر له أشباه، وأن يتكرر ما فيه مرات ومرات: هكذا تنشأ المدارس في الأدب، وتظهر الحركات التجديدة التي تحيا حيناً من الدهر، ثم تموت لتخلي السبيل إلى ظهور مدرسة أخرى أو حركة جديدة حينما تتغير الأذواق وتتبدل المذاهب. فإذا قلنا - مثلا - مدرسة (بوب) في الأدب الإنجليزي، انصب قولنا على جميع الشعراء الذين تبعوه في الأسلوب الذي أذاعه بين الناس ورفعه إلى مرتبة الكمال. وإذا ذكرت (الحركة الكلاسيكية) في الشعر، حملت إلى أذهاننا عصر بوب الذي تميز بالرجوع إلى تراث الأقدمين وورود مناهجهم الأدبية. وإذا قلنا الحركة الرومانتيكية في النثر الخيالي، قصدنا ذلك المنوال الذي أنشأه (سكت) في كتابه القصص التاريخية، ونسج عليه أتباعه ومقلدوه. وقد ظهرت المدارس والمذاهب كذلك في الأدب العربي، فكان في العصر العباسي مدرسة وعلى رأسها الأصمعي، لا تحب إلا الشعر الجاهلي، ولا تحب من المحدثين إلا من قلد القدماء. وقد أدخل المتنبي والمعري الفلسفة في الشعر، فأصبحت مذهباً من المذاهب له أشياعه وأنصاره.
هذه المدارس والحركات تلعب دوراً هاماً في تطور الأدب، ولها من الأهمية في دراسة تاريخ الآداب ما لا يقل شأناً عن دراسة شخصيات الكتاب أنفسهم. فان الأديب مهما كان مجدداً مبتكراً فهو ما يزال إلى حد بعيد وليداً لبعض الكتاب السابقين، يستلهمهم الرأي ويستوحيهم الأسلوب. وقد ذكرنا مثلا أن (بوب) مجدد في الشعر الإنجليزي، له أسلوب خاص ومدرس خاصة، ولكنا إذا أمعنا في البحث عرفنا أن هذا الأسلوب لم يكن من خلقه وإنشائه، وإنما بلغ الذروة والكمال على يديه بعد ما سار شوطاً بعيدا في التقدم والترقي، ووصل إلى درجة تكاد تدانيه دقة وروعة في كتابات الشاعر دريدن. وقد تعلم سكت في مدرسة رومانتيكية قبل أن يصبح زعيماً لهذه الحركة، وظهرت الفلسفة في الشعر العربي قبل المتنبي والمعري. وكثيراً ما ينعت شكسبير بأنه يتفرد في عصره بالسمو والكمال الأدبي، وأنه ابتكر الدرام لم يتبع في ذلك أحداً ولم يتأثر أحداً، ولكنه في الواقع لم يكن إلا متماً لمجهودات السابقين من الكتاب أمثال نكولاس يودال، وتوماس فورتن، وغيرهما ممن لا يرد ذكرهما في تاريخ الأدب إلا لماماً.
وتاريخ الأدب يوضح لنا هذه الصلات ويربط كاتباً بآخر، وجماعة بجماعة، ومدرسة بمدرسة، كماً يدرس أسباب التطورات المختلفة في عصور الأدب، وتأثير فحول الكتاب في الجمود بالأدب والسير به في مناهجه القديمة والنهوض به وتوجيهه وجهات جديدة. وقد عرفنا أن روح الأدب تتغير من عصر إلى عصر، وكثيراً ما يتحكم الذوق العام عند جمهور الشعب في هذا التغير، فيخرج الأدب على غراره ويتطبع بطابعه. وكما أن لكل جيل أسلوبه في الشعور، فكذلك لكل جيل ذوقه الخاص. هذا الذوق سريع التقلب والتغير، فان عصر فكتوريا في الأدب الإنجليزي (1832 - 1877) على قرب عهده وشدة صلته بالعصر الحديث يختلف في أدبه عن الأدب الحديث، كما يختلف في زيه عن الأزياء الحديثة. والفرق واضح بين لغة الأدباء في مصر الآن، وبين لغتهم منذ عشرين عاماً فقط، ذلك لأن القراء قد تبدلت أذواقهم وتغيرت طرائق معيشتهم.
وتاريخ الأدب يبحث قبل كل شيء عن أسباب هذا التطور في الأساليب والأذواق، وقد عرفنا أن شخصية الكاتب عامل عظيم الأثر في هذه الانقلابات، لأن الكاتب الفذ يخلق ذوقاً جديداً وينشئ عصراً جديداً ومرحلة جديدة في الأدب، ولكنا يجب ألا نغالي في تقدير شخصية الكاتب حتى نجعلها تبتلع العوامل الأخرى وتستغرقها جميعاً، فقد ذكرنا أن النابغة يصاغ في قالب من الثقافة والمثل العليا والاتجاهات العقلية والخلقية التي يولد فيها، مما يكون له أكبر الأثر فيما يكتب ويخرج لهذا العالم. وكما يؤثر الأديب الفحل في عصره فهو كذلك يتأثر به، ويتوقف نجاحه إلى حد كبير على خضوعه لأذواق الجماهير ومجاراته لأهوائهم، وعلى ذلك فالكاتب ابن عصره، ولابد لنا عند دراسته من معرفة العوامل التي كيفت آراءه وحددت ذوقه الأدبي، وجعلت له طابعاً خاصاً في أدبه - وقد تكون هذه العوامل أدبية ترجع إلى الكتب والمدارس كما يتميز عصر اليزابيث - مثلا - في الأدب الإنجليزي باندفاعه وراء الآداب اللاتينية والإغريقية التي بعثتها النهضة الأوربية، فتأثر الكتاب في ذلك العصر بسحر الأدب الإيطالي، وكما انبعثت آداب العصور الوسطى وفنونها منذ سنة 1750، وتمثلت في كولروج وسكت. فالواقع الذي لا مراء فيه أن المؤثرات الأدبية تأتي بأذواق جديدة تجرف أمامها أشد الكتاب استقلالاً في الرأي.
ولكن الأدب يتأثر بعدة عوامل أخرى غير العامل الأدبي، عوامل لا تمت إلى الكتب والمدارس بصلة، ولكنها تتصل بالحياة العامة والسياسة والاجتماع بسبب، فكل ما يبعث اتجاهاً جديداً في الرأي أو في منحى الحياة أو في مجرى السياسة والشعور العام يؤثر في تكوين الآداب إلى حد كبير. ويجب علينا دراسة أي أثر من الآثار الأدبية ألا ننسى ظروف الزمان والمكان التي أحاطت بالكاتب عند تحرير كتابه.
3 - صلة التاريخ بالأدب
لكل جنس من الأجناس البشرية ولكل عصر من عصور التاريخ مميزات خاصة، ومهما تكن شخصية الأديب بالغة من القوة، فأن روح جنسه وعصره لابد ظاهرة فيه وعلى ذلك فتاريخ الأدب يتأثر بمؤثرات وطنية كما يتأثر بمؤثرات شخصية. ويكفي أن نذكر الإصلاح الديني والثورة الفرنسية وظهور الإسلام وتقدم العلوم في القرن التاسع عشر، وغير ذلك من الحوادث العظمى في التاريخ لنتبين العلاقة المتينة بين تاريخ الأدب والتاريخ العام.
ولا يقتصر تاريخ الأدب على دراسة المخلفات الأدبية لمختلف الكتاب، كل كاتب على حدة، وإنما هو يشمل كذلك دراسة أدب الأمة جملة واحدة، وإظهار مميزاته العامة باعتباره إنتاجاً لعقلية هذه الأمة ككتلة واحدة لها تفكير خاص وشعور خاص، فللأدب العربي - مثلا - مميزاته العامة، وللأدب الإنجليزي مميزاته العامة كذلك، وتختلف هذه عن تلك بمقدار ما يختلف الشعبان في الجنس والسلالة.
كل ما له أثر في تكوين الأمة له أثر في نسج أدبها، فأن أدب الأمة هو تاريخها الذي دونته بقلمها يصور لنا أخبار رقيها العقلي والخلقي. وإذا تتبعنا تاريخ الأدب في كل ما طرأ عليه من تقلبات، فنحن على اتصال مباشر بالأسباب الحقيقية، والحركات الدافعة لحياة الأمة في العصور المختلفة، ونحن مستطيعون أن نفهم نظر أهل تلك العصور إلى الحياة وألوان مسراتها وأنواع ملاهيها وفلسفتهم في الوجود ومختلف العواطف والأحاسيس التي كانت تجول بنفوسهم، ومثلهم العليا في الأخلاق والذوق، وأي صفات البطولة كان لها سلطان قوي على النفوس، وكان لها نصيب كبير من الإعجاب، فالأدب كما يقولون مرآة تنعكس عليها روح الشعب وحياته
4 - عصور الأدب
وقد اعتاد مؤرخو الآداب أن يقسموا الأدب إلى عصور مختلفة، ولم يلجئوا إلى ذلك لسهولة الدرس فحسب، ومن قبيل تقسيم الموضوع المتشعب إلى أبواب وفصول، ولكن هناك ما يبرر هذا التقسيم، فالعصر التاريخي عبارة عن فترة زمنية يسود فيها نوع من الذوق العام، وعلى ذلك فأن أدب ذلك العصر يتسم بصفات خاصة من حيث المادة والفكرة والأسلوب. وقد تختلف آثار الكتاب البارزين بقدر ما تختلف شخصياتهم، ولكن تلك الصفات العامة تظهر فيهم أجمعين، ولا ينتهي عصر ويخلفه آخر، إلا بعد تغير حاسم في الذوق العام.
ولكننا يجب أن لا نضع الحواجز المتينة بين عصر وعصر، فليس تاريخ الإنسان أبواباً وفصولاً، ولكنه تيار واحد متدفق يتعرج حينا ذات اليمين وحيناً ذات اليسار، وليس له بداية معينة ولا نهاية محدودة، والعصور التاريخية في الواقع آخذ بعضها بتلابيب بعض، وقد يبدأ الرحل عمله في عصر من العصور ولا ينتهي منه إلا في عصر آخر، كالمخضرمين بين الجاهلية والإسلام، وكبشار وابن المقفع بين العصر الأموي والعصر العباسي. وقد عاش دريدن وملتون في زمن واحد، ولم يعمر أولهما بعد الآخر إلا سنوات قلائل، ومع ذلك فقد أعتاد مؤرخو الأدب الإنجليزي أن يضعوهما على رأس عصرين متتابعين يعرفان بعصر (دريدن) وعصر (ملتون). ومع ذلك فإن لتقسيم الأدب إلى عصور أهميته الدراسية لأنه يوجه أنظارنا إلى المراحل التي اجتازها الأدب وتميز في كل مرحلة منها بميزة خاصة، وهو أهم ما يعنى به مؤرخ الآداب.
وللمؤرخ أن يطلق على هذه العصور أسماء يشتقها من التاريخ ورجاله كعصر اليزابيث، وعصر فكتوريا، وعصر المأمون. ولكن الأجدر بنا أن نسمي تلك العصور بأسماء مشتقة من الأدب نفسه ونطلق عليها أسماء مشاهير الكتاب الذين يمثلونها فنقول عصر شكسبير وعصر ملتون وعصر المتنبي. وعصر الجاحظ. . الخ ليسهل على الطالب أن يدرك بنظرة سريعة الصفات التي يتميز جيل عن جيل.
محمود محمود محمد
مجلة الرسالة - العدد 48
بتاريخ: 04 - 06 - 1934