فطن عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ) إلى أن الشعر الجيد لا بد أن يتشح بقدر من الغموض، هذا الغموض يزول مع القراءة الواعية، والفكر المتأمل المستنير، وهذا ما دعا إليه كثير من النقاد في زمننا الحديث. ويستشف من حديث عبدالقاهر في أسراره أنه لا يرجع هذا الغموض إلى ما يتكبل به الشعر من قيود كالوزن، والقافية كما ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الصابي والمرزوقي، وإنما يرى عبدالقاهر أن سر هذا الغموض يكمن في طبيعة الشعر ذاته، ولغته الخاصة المتفردة.
ويتطرق عبدالقاهر في حديثه إلى التفرقة بين الغموض المحمود والتعقيد الذي يكد الذهن، ويرهق الفكر دون ثمرة مرجوة، وهو في كل ذلك يسوق الأمثلة التي توضح رؤيته، وتؤيد وجهة نظره. فالغموض المحمود لدى عبدالقاهر هو الذي ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمة في طلبه، ويحترز عبدالقاهر من أن هذا الغموض لا يبلغ درجة الكد وإرهاق الفكر، فينص على أنه لم يرد هذا الحد من الفكر والعنت، وإنما يريد القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله:
فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب = ولا التذكير فخر للهلال[1]
ويعلل عبدالقاهر سر جمال هذا الغموض؛ بأن المتعة الحقيقية، واللذة العميقة، يستشعرها الإنسان بعد المعاناة، والفكر، وبذل الجهد لاستكناه المجهول، ومعرفة بواطن الأمور فمن «المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيلُه أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضن وأشغف»[2].
وثمة شيء آخر يتعرض له عبدالقاهر الجرجاني، وهو أن هذه المعاني الشفيفة، وتلك الفكَر الخفية لا تجود بنفسها لأول وهلة، أو تفصح عن مكنونها لكل من وقف عندها، وإنما تتكشف للمتلقي ذي الملكة القوية، وصاحب المعرفة الواسعة، فهي «كالجواهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه، ثم ما كلُّ فكر يهتدي إلى وجه الكشف عمَّا اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه»[3].
ولذا ينبغي أن يتسلح المتلقي بزاد وفير، قوامه ذوق مرهف، وثقافة عميقة، ومعرفة غزيرة تؤهله، ويعول عليها في تجاوبه مع النص، والتحاور معه، فهذه المعاني اللطيفة «أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليه بثاقب الفهم»[4].
وتتجلى براعة عبدالقاهر الجرجاني عند تفسيره لهذا الغموض، فهو غموض لم ينجم عن سوء التأليف، وتعمد التعقيد، والتعمية، أو عن تلك القيود التي تحدق بالشعر والشاعر، وإنما هو غموض نابع من طبيعة التجربة الشعرية، ومن لطافة المعنى، ومن تلك اللغة الشعرية ذات الخصوصية، والمباينة لغيرها، التي لا تقف بك عند الصورة الأولى، وإنما تشدك لتأمل ما وراء هذه الصورة من بناء ثان يكون هو المقصود والمراد. يقول عبدالقاهر: «هذا، وليس إذا كان الكلام في غاية البيان، وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح، أغناك ذاك عن الفكرة، إذا كان المعنى لطيفًا، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لابد فيها من بناء ثان على أول، ورد تالٍ إلى سابق»[5].
وهذا النص يشير إلى أن الكلام الجيد يحوج إلى الفكر، لا لأنه غير بيّن، وإنما يحوج إلى الفكر للطافة معناه، ولبناء لغته الخاص، ومن ثمَّ فإن عبدالقاهر يشير إلى أن المبدع في هذا الضرب من الشعر يتحمل فيه المشقة الشديدة، ويقطع إليه الشُّقَّة البعيدة، وهو لم يصل إلى دُرِّه - كما يذكر عبدالقاهر- حتى غاص، ولم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص[6].
لقد كان عبدالقاهر الجرجاني رائدًا، وهو يميز بين الغموض المحمود والتعقيد، أو التعمية، فقد نوَّه - كما سبق- بأن الغموض المحمود لطف في المعنى، ما يلبث أن يتكشف عن لآلئ، وكنوز لمن يتأمل، ويتدبر، كما أنه دقة في البناء، وعناء فني من المبدع للارتقاء بعمله، أما التعقيد فهو على النقيض من ذلك: سوء صياغة، ومعاظلة في الأسلوب، وتعمية للمعنى؛ رغبة في إبراز المهارة اللغوية، دون أن يستأهل المعنى المتضمن كل هذا، ولذا فهو مذموم، ومرفوض.
وليس فيه دقة بناء شعري، وإنما لم يرتِّب فيه اللفظ «الترتيب الذي بمثله تحصل الدلالة على الغرض حتى احتاج السامع إلى أن يطلب المعنى بالحيلة، ويسعى إليه من غير الطريق، كقوله:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها = من أنهما عمل السيوف عوامل
وإنما ذم هذا الجنس؛ لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكدك بسوء الدلالة، وأودع لك في قالب غير مستو، ولا مملس بل خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه منه عسر عليك، وإذا خرج خرج مشوه الصورة، ناقص الحسن»[7].
ويؤكد عبدالقاهر هذا المعنى في موطن آخر، حيث ينص على أن «المعقّد من الشعر والكلام لم يُذم؛ لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر على الجملة؛ بل لأن صاحبه يُعثِر فكرك في متصرفه، ويشيك طريقك إلى المعنى، ويوعر مذهبك نحوه، بل ربما قسّم فكرك، وشعّب ظنك؛ حتى لا تدري من أين تتوصل، وكيف تطلب؟»[8].
أي أن الغموض المذموم أو التعقيد في الكلام كما يحرص عبدالقاهر على تسميته بذلك، ينجم عن تكلف مؤلفه، وتعمُّله، لا من اكتناه الكلام على معنى لطيف، أو من براعة في تأليف البناء الشعري، يفضي بك إلى دلالات أرحب، وأعمق.
إن هذا التعقيد لا تحصل من ورائه على طائل سوى كد الذهن وإعناته، والمرء يزيده «الطلب فرحًا بالمعنى، وأنسًا به، وسرورًا بالوقوف عليه، إذا كان لذلك أهلاً، فأما إذا كنت معه، كالغائص في البحر، يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر الروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضد مما بدأت به؛ ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك، ثم لا يجدي عليك، ويؤرقك، ثم لا يورقك لك...»[9].
ويستشهد عبدالقاهر على هذا الضرب ببعض شعر أبي تمام مثل:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن = لاثنين ثان إذا هما في الغار
وقوله:
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرَعا = من راحتيك درى ما الصَّابُ والعسل
فيرى فيه تعسفًا في اللفظ، وذهابًا به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه، وإعرابًا في الترتيب، يعمى الإعراب في طريقه، ويضل في تعريفه.
وهكذا يتبين لنا أن عبدالقاهر الجرجاني أدرك غموض الشعر وطبيعته، وأيضًا أسبابه، وأن ماهية الشعر تباين سائر فنون القول الأخرى، وقد ورد في تراثنا أن أفخر الشعر ما غمض.
المصدر: مجلة أعاريب - العدد الرابع - جمادى الآخرة 1435هـ / إبريل 2014م
[1] انظر: عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، صـ 140.
[2] انظر: المصدر السابق، صـ 139.
[3] انظر: عبدالقاهر الجرجاني : أسرار البلاغة، صـ 141.
[4] عبدالقاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، صـ 98.
[5] عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، صـ 144.
[6] عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، صـ 145.
[7] المصدر السابق، صـ 142.
[8] المصدر السابق، صـ 147.
[9] المصدر السابق، صـ 143.
د. صلاح حفني
ويتطرق عبدالقاهر في حديثه إلى التفرقة بين الغموض المحمود والتعقيد الذي يكد الذهن، ويرهق الفكر دون ثمرة مرجوة، وهو في كل ذلك يسوق الأمثلة التي توضح رؤيته، وتؤيد وجهة نظره. فالغموض المحمود لدى عبدالقاهر هو الذي ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمة في طلبه، ويحترز عبدالقاهر من أن هذا الغموض لا يبلغ درجة الكد وإرهاق الفكر، فينص على أنه لم يرد هذا الحد من الفكر والعنت، وإنما يريد القدر الذي يحتاج إليه في نحو قوله:
فإن المسك بعض دم الغزال
وقوله:
وما التأنيث لاسم الشمس عيب = ولا التذكير فخر للهلال[1]
ويعلل عبدالقاهر سر جمال هذا الغموض؛ بأن المتعة الحقيقية، واللذة العميقة، يستشعرها الإنسان بعد المعاناة، والفكر، وبذل الجهد لاستكناه المجهول، ومعرفة بواطن الأمور فمن «المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيلُه أحلى، وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف، وكانت به أضن وأشغف»[2].
وثمة شيء آخر يتعرض له عبدالقاهر الجرجاني، وهو أن هذه المعاني الشفيفة، وتلك الفكَر الخفية لا تجود بنفسها لأول وهلة، أو تفصح عن مكنونها لكل من وقف عندها، وإنما تتكشف للمتلقي ذي الملكة القوية، وصاحب المعرفة الواسعة، فهي «كالجواهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه، ثم ما كلُّ فكر يهتدي إلى وجه الكشف عمَّا اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه»[3].
ولذا ينبغي أن يتسلح المتلقي بزاد وفير، قوامه ذوق مرهف، وثقافة عميقة، ومعرفة غزيرة تؤهله، ويعول عليها في تجاوبه مع النص، والتحاور معه، فهذه المعاني اللطيفة «أمور تدرك بالفكر اللطيفة، ودقائق يوصل إليه بثاقب الفهم»[4].
وتتجلى براعة عبدالقاهر الجرجاني عند تفسيره لهذا الغموض، فهو غموض لم ينجم عن سوء التأليف، وتعمد التعقيد، والتعمية، أو عن تلك القيود التي تحدق بالشعر والشاعر، وإنما هو غموض نابع من طبيعة التجربة الشعرية، ومن لطافة المعنى، ومن تلك اللغة الشعرية ذات الخصوصية، والمباينة لغيرها، التي لا تقف بك عند الصورة الأولى، وإنما تشدك لتأمل ما وراء هذه الصورة من بناء ثان يكون هو المقصود والمراد. يقول عبدالقاهر: «هذا، وليس إذا كان الكلام في غاية البيان، وعلى أبلغ ما يكون من الوضوح، أغناك ذاك عن الفكرة، إذا كان المعنى لطيفًا، فإن المعاني الشريفة اللطيفة لابد فيها من بناء ثان على أول، ورد تالٍ إلى سابق»[5].
وهذا النص يشير إلى أن الكلام الجيد يحوج إلى الفكر، لا لأنه غير بيّن، وإنما يحوج إلى الفكر للطافة معناه، ولبناء لغته الخاص، ومن ثمَّ فإن عبدالقاهر يشير إلى أن المبدع في هذا الضرب من الشعر يتحمل فيه المشقة الشديدة، ويقطع إليه الشُّقَّة البعيدة، وهو لم يصل إلى دُرِّه - كما يذكر عبدالقاهر- حتى غاص، ولم ينل المطلوب حتى كابد منه الامتناع والاعتياص[6].
لقد كان عبدالقاهر الجرجاني رائدًا، وهو يميز بين الغموض المحمود والتعقيد، أو التعمية، فقد نوَّه - كما سبق- بأن الغموض المحمود لطف في المعنى، ما يلبث أن يتكشف عن لآلئ، وكنوز لمن يتأمل، ويتدبر، كما أنه دقة في البناء، وعناء فني من المبدع للارتقاء بعمله، أما التعقيد فهو على النقيض من ذلك: سوء صياغة، ومعاظلة في الأسلوب، وتعمية للمعنى؛ رغبة في إبراز المهارة اللغوية، دون أن يستأهل المعنى المتضمن كل هذا، ولذا فهو مذموم، ومرفوض.
وليس فيه دقة بناء شعري، وإنما لم يرتِّب فيه اللفظ «الترتيب الذي بمثله تحصل الدلالة على الغرض حتى احتاج السامع إلى أن يطلب المعنى بالحيلة، ويسعى إليه من غير الطريق، كقوله:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها = من أنهما عمل السيوف عوامل
وإنما ذم هذا الجنس؛ لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله، وكدك بسوء الدلالة، وأودع لك في قالب غير مستو، ولا مملس بل خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه منه عسر عليك، وإذا خرج خرج مشوه الصورة، ناقص الحسن»[7].
ويؤكد عبدالقاهر هذا المعنى في موطن آخر، حيث ينص على أن «المعقّد من الشعر والكلام لم يُذم؛ لأنه مما تقع حاجة فيه إلى الفكر على الجملة؛ بل لأن صاحبه يُعثِر فكرك في متصرفه، ويشيك طريقك إلى المعنى، ويوعر مذهبك نحوه، بل ربما قسّم فكرك، وشعّب ظنك؛ حتى لا تدري من أين تتوصل، وكيف تطلب؟»[8].
أي أن الغموض المذموم أو التعقيد في الكلام كما يحرص عبدالقاهر على تسميته بذلك، ينجم عن تكلف مؤلفه، وتعمُّله، لا من اكتناه الكلام على معنى لطيف، أو من براعة في تأليف البناء الشعري، يفضي بك إلى دلالات أرحب، وأعمق.
إن هذا التعقيد لا تحصل من ورائه على طائل سوى كد الذهن وإعناته، والمرء يزيده «الطلب فرحًا بالمعنى، وأنسًا به، وسرورًا بالوقوف عليه، إذا كان لذلك أهلاً، فأما إذا كنت معه، كالغائص في البحر، يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر الروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضد مما بدأت به؛ ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك، ثم لا يجدي عليك، ويؤرقك، ثم لا يورقك لك...»[9].
ويستشهد عبدالقاهر على هذا الضرب ببعض شعر أبي تمام مثل:
ثانيه في كبد السماء ولم يكن = لاثنين ثان إذا هما في الغار
وقوله:
يدي لمن شاء رهن لم يذق جرَعا = من راحتيك درى ما الصَّابُ والعسل
فيرى فيه تعسفًا في اللفظ، وذهابًا به في نحو من التركيب لا يهتدي النحو إلى إصلاحه، وإعرابًا في الترتيب، يعمى الإعراب في طريقه، ويضل في تعريفه.
وهكذا يتبين لنا أن عبدالقاهر الجرجاني أدرك غموض الشعر وطبيعته، وأيضًا أسبابه، وأن ماهية الشعر تباين سائر فنون القول الأخرى، وقد ورد في تراثنا أن أفخر الشعر ما غمض.
المصدر: مجلة أعاريب - العدد الرابع - جمادى الآخرة 1435هـ / إبريل 2014م
[1] انظر: عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، صـ 140.
[2] انظر: المصدر السابق، صـ 139.
[3] انظر: عبدالقاهر الجرجاني : أسرار البلاغة، صـ 141.
[4] عبدالقاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، صـ 98.
[5] عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، صـ 144.
[6] عبدالقاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، صـ 145.
[7] المصدر السابق، صـ 142.
[8] المصدر السابق، صـ 147.
[9] المصدر السابق، صـ 143.
د. صلاح حفني