موشحة أخرى وردت فى الديوان لعبادة بن ماء السماء، سابقة على ما ذكرنا فى الترتيب، وفائقة فى الطرافة، لأنها مخمّسة، أي تتألف من مطلع وخمس فقرات، مثل غيرها، لكن البيت الواحد منها يتضمن أيضاً خمسة أشطار، واللافت فيها هو توزيع التفاعيل بشكل لعوب، فقد جاءت على البحر السريع، وانفصلت التفعيلة الأولى “فاعلن” هكذا:
«من وَلِى / فى أمة أمرا ولم يعدلِ
يُعذلِ / إلا لحاظ الرشأ الأكحلِ»
وهو مطلع ثورى، يخلط الجد بالهزل، ويمزج الغزل بالسياسة، ويقرر مبدأ جريئا عن العدل فى الملك، والعزل أو العذل الذى ينتظر الحاكم الجائر. باستثناء ظلم الحبيب الكحيل العينين، إذ لا يمكن له أن يعدل فى نظراته بين الناس، فلا مفر أن يخص المحبوب بها، دون أن ينازعه أحد فى هذا الحق الظالم. ثم يهجر الشاعر ميدان السياسة والسلطة ليتفرغ لقصة حبه قائلا:
« جُرتَ في / حكمك في قتليَ يا مسرفُ
فانصفِ / فواجب أن ينصف المنصف
وارأفِ / فإن هذا الشوق لا يرأفُ
عَلّلِ / ما بفؤادي من جوىً مُشْعَلِ»
يلتزم الشاعر فى تنضيده الموسيقى بما لا يلتزم ؛ حيث يجعل التقفية مزدوجة فى صدور الشطر وعجزه، بشروط الموشحة في الأغصان المتنوعة والأقفال الموحدة. وهو ينقل الخطاب لمواجهة الحبيب واتهامه بالجور ومطالبته بالإنصاف، غير أنه يستخدم هذه الكلمة ثلاث مرات فى شطر واحد إلحاحاً على الحاجة إليها ،وخضوعا لضرورة القافية، قبل أن يطالبه بالرحة والرأفة، محتجاً عليه بأن الشوق لا يرحم المحب، ويناشده أن يروي ظمأ قلبه بالبارد العذب العليل من الوصال؛ فهو الذي يجلو لهمّ ويطفئ نار الجوى المشتعلة فى الفؤاد، وبوسعنا أن نتساءل: هل ترك الإلماح إلى السياسة فى هذا الغزل، أم ما زال يغني على ليلاه فى نشدان العدل والعطاء. إضافة إلى أن دلالات الأشطر لا تخرج عما هو معهود في خطاب العشق العربي فى هذه الفترة الباكرة من التاريخ الأندلسي، وإن كان التقطيع الموسيقى والتوزيع العروضي والتنغيم الغنائي هو الذي يعطي للموشحة مذاقها المتفرد. أما الفقرة الثانية أو البيت الثاني حسب مصطلح الموشحات فيقول فيها:
« إنما / تبرز كي توقد نار الفتنْ
صنما / مصوَّرا من كل شيء حسنْ
إن رمى / لم يُخط من دون القلوب الجنن
كيف لي / تخلصّ من سهمك المرسلِ
فَصِلِ / واستبقنى حيًّا ولا تقتُلِ »
فهو يتمثل حبيبته عند بروزها وقد اشتعلت نار الفتنة بجمالها، ويستخدم كلمة صنم قاصداً تمثالًا للحسن، فلم تكن كلمة تمثال قد دخلت نطاق الاستعمال العربي، حيث أصبحت الحبيبة نموذجاً للحسن المجسدّ فى شخص واحد، يرمي القلوب فلا يخطئ ، ولا يصبح بوسع الشاعر أن يدفع سهامها المرسلة، فلا يبقى له سوى أن ينشد وصالها الذي يبقيه على قيد الحياة صريع الهوى. لاحظ الرقة البالغة فى تنويع القول وتعديد المداخل وتنويع الدلالات الغزلية الموحية بفتنة الجمال والعدل.
د. صلاح فضل
«من وَلِى / فى أمة أمرا ولم يعدلِ
يُعذلِ / إلا لحاظ الرشأ الأكحلِ»
وهو مطلع ثورى، يخلط الجد بالهزل، ويمزج الغزل بالسياسة، ويقرر مبدأ جريئا عن العدل فى الملك، والعزل أو العذل الذى ينتظر الحاكم الجائر. باستثناء ظلم الحبيب الكحيل العينين، إذ لا يمكن له أن يعدل فى نظراته بين الناس، فلا مفر أن يخص المحبوب بها، دون أن ينازعه أحد فى هذا الحق الظالم. ثم يهجر الشاعر ميدان السياسة والسلطة ليتفرغ لقصة حبه قائلا:
« جُرتَ في / حكمك في قتليَ يا مسرفُ
فانصفِ / فواجب أن ينصف المنصف
وارأفِ / فإن هذا الشوق لا يرأفُ
عَلّلِ / ما بفؤادي من جوىً مُشْعَلِ»
يلتزم الشاعر فى تنضيده الموسيقى بما لا يلتزم ؛ حيث يجعل التقفية مزدوجة فى صدور الشطر وعجزه، بشروط الموشحة في الأغصان المتنوعة والأقفال الموحدة. وهو ينقل الخطاب لمواجهة الحبيب واتهامه بالجور ومطالبته بالإنصاف، غير أنه يستخدم هذه الكلمة ثلاث مرات فى شطر واحد إلحاحاً على الحاجة إليها ،وخضوعا لضرورة القافية، قبل أن يطالبه بالرحة والرأفة، محتجاً عليه بأن الشوق لا يرحم المحب، ويناشده أن يروي ظمأ قلبه بالبارد العذب العليل من الوصال؛ فهو الذي يجلو لهمّ ويطفئ نار الجوى المشتعلة فى الفؤاد، وبوسعنا أن نتساءل: هل ترك الإلماح إلى السياسة فى هذا الغزل، أم ما زال يغني على ليلاه فى نشدان العدل والعطاء. إضافة إلى أن دلالات الأشطر لا تخرج عما هو معهود في خطاب العشق العربي فى هذه الفترة الباكرة من التاريخ الأندلسي، وإن كان التقطيع الموسيقى والتوزيع العروضي والتنغيم الغنائي هو الذي يعطي للموشحة مذاقها المتفرد. أما الفقرة الثانية أو البيت الثاني حسب مصطلح الموشحات فيقول فيها:
« إنما / تبرز كي توقد نار الفتنْ
صنما / مصوَّرا من كل شيء حسنْ
إن رمى / لم يُخط من دون القلوب الجنن
كيف لي / تخلصّ من سهمك المرسلِ
فَصِلِ / واستبقنى حيًّا ولا تقتُلِ »
فهو يتمثل حبيبته عند بروزها وقد اشتعلت نار الفتنة بجمالها، ويستخدم كلمة صنم قاصداً تمثالًا للحسن، فلم تكن كلمة تمثال قد دخلت نطاق الاستعمال العربي، حيث أصبحت الحبيبة نموذجاً للحسن المجسدّ فى شخص واحد، يرمي القلوب فلا يخطئ ، ولا يصبح بوسع الشاعر أن يدفع سهامها المرسلة، فلا يبقى له سوى أن ينشد وصالها الذي يبقيه على قيد الحياة صريع الهوى. لاحظ الرقة البالغة فى تنويع القول وتعديد المداخل وتنويع الدلالات الغزلية الموحية بفتنة الجمال والعدل.
د. صلاح فضل