قبل أن نستكمل قراءة موشحة عبادة بن ماء السماء الأندلسي، المتوفى عام 422هـ، أود أن أشير إلى أمر مهم في علاقتنا بالتراث الأدبي والفكري القديم، فنحن نعيد بعثه لنستمتع بما فيه من قيم جمالية وفنية، ولنتأمل ثنايا أبعاده الإنسانية والحضارية؛ حيث يرسم لنا صورة الماضي بمختلف جوانبها وظلالها، ومن ثم فإن من يزعمون اليوم أنهم يتبعون السلف ويتخذونهم قدوة، عليهم أن يدركوا طبيعة حياة هؤلاء السلف من زهاد وتجار وعلماء وسوقة يغرقون في اللهو والمجون في حياة صاخبة، يشكلون جميعاً نسيجاً إنسانياً يستجيب للطبيعة البشرية وما فيها من خير وشر.
وكان الزهاد دائماً قلة محددة لا تملك سلطة ولا تسعى إليها، ومن ثم فعلى من يقتفي أثرهم اليوم أن يتعلم درس التاريخ ويمعن النظر في طبيعة الحضارة ويكف عن تجاهل ثرائها الخصب. ونعود إلى الشعر الذي يرسم لنا صورة هؤلاء السلف المقبلين على الحياة لنجد عبادة يقول:
يا سنا / الشمس يا أبهى من الكوكب
يا منى / النفس يا سؤلي ويا مطلبي
ها أنا رحلّ بأعدائك ما حلّ بي
عزّلي / من ألم الهجران في معزل
والخلي / في الحب لا يسأل من بُلي
نتمعن الأشطر الثلاثة الأولى في توزيعها المتعمق الأنيق، وتقفيتها الجديدة باعتبارها الغصن الذي يتوافق فيما بينه، ويختلف عن بقية الفقرات أو الأبيات ثم يعود الشطران الأخيران من الفقرة، وتطلق عليهما تسمية القُفلّ إلى القافية المتكررة في بقية الفقرات وهي اللام والانشطار لا تحتاج إلى شرح أو توضيح. فعلى الرغم من مرور أكثر من ألف عام على صياغتها تبدو لغتها كأنها كتبت اليوم، لسلاستها وعذوبتها، والذي يوظف المثل المأثور
“ويل للشجيّ من الخليّ”
أنت قد / حيرت بالحسن من الرشد غيّ
لم أجد / في طرفي حبك ذنبا عليّ
فاتئد / وإن تشأ قتلي شيئا فشيّ
أجمل / ووالنى منك يد المُفضل
فهي لي / من حسنات الزمن المقبل
فهو قد جعل الفضيلة رذيلة بحسنه الغلاب، ولم يجد الشاعر ذنباً في حبه فعليه أن يتريث، وإن شاء قتله فليكن ذلك بالتدريج، والأحرى به أن يتفضل عليه، فهباته ستصبح من صفات الزمان في المستقبل.
لكن المفاجأة التي تدخرها لنا هذه الموشحة، هي أن تلك الأوصاف جميعها موجهة إلى محبوب مذكر اسمه عليّ، ولا ندري على وجه التحديد هل هو ممدوح استساغ الشاعر أن يعامله كمعشوق وسمحت بذلك الأعراف الثقافية الأندلسية، أم أنه من قبيل الغزل الصريح بالمذكر.
ما اغتذى / طرفيّ إلا بسنا ناظريك
وكذا / في الحب بابي ليس يخفى عليك
ولذا / أنشد والقلب رهين لديك
يا علي / سلطت جفنيك على مقتلي
فابق لي / قلبي وجد بالفضل يا موئلي
وبين المدح والغزل يبقى هذا المحبوب الظالم متراوحاً في إطار ثقافة مختلفة من تلك التوسلات في المجتمع الشرقي، تنعم بها من أعرض من الحرية، وولع أشد بالجمال والرقة في الإنسان.
د. صلاح فضل
وكان الزهاد دائماً قلة محددة لا تملك سلطة ولا تسعى إليها، ومن ثم فعلى من يقتفي أثرهم اليوم أن يتعلم درس التاريخ ويمعن النظر في طبيعة الحضارة ويكف عن تجاهل ثرائها الخصب. ونعود إلى الشعر الذي يرسم لنا صورة هؤلاء السلف المقبلين على الحياة لنجد عبادة يقول:
يا سنا / الشمس يا أبهى من الكوكب
يا منى / النفس يا سؤلي ويا مطلبي
ها أنا رحلّ بأعدائك ما حلّ بي
عزّلي / من ألم الهجران في معزل
والخلي / في الحب لا يسأل من بُلي
نتمعن الأشطر الثلاثة الأولى في توزيعها المتعمق الأنيق، وتقفيتها الجديدة باعتبارها الغصن الذي يتوافق فيما بينه، ويختلف عن بقية الفقرات أو الأبيات ثم يعود الشطران الأخيران من الفقرة، وتطلق عليهما تسمية القُفلّ إلى القافية المتكررة في بقية الفقرات وهي اللام والانشطار لا تحتاج إلى شرح أو توضيح. فعلى الرغم من مرور أكثر من ألف عام على صياغتها تبدو لغتها كأنها كتبت اليوم، لسلاستها وعذوبتها، والذي يوظف المثل المأثور
“ويل للشجيّ من الخليّ”
أنت قد / حيرت بالحسن من الرشد غيّ
لم أجد / في طرفي حبك ذنبا عليّ
فاتئد / وإن تشأ قتلي شيئا فشيّ
أجمل / ووالنى منك يد المُفضل
فهي لي / من حسنات الزمن المقبل
فهو قد جعل الفضيلة رذيلة بحسنه الغلاب، ولم يجد الشاعر ذنباً في حبه فعليه أن يتريث، وإن شاء قتله فليكن ذلك بالتدريج، والأحرى به أن يتفضل عليه، فهباته ستصبح من صفات الزمان في المستقبل.
لكن المفاجأة التي تدخرها لنا هذه الموشحة، هي أن تلك الأوصاف جميعها موجهة إلى محبوب مذكر اسمه عليّ، ولا ندري على وجه التحديد هل هو ممدوح استساغ الشاعر أن يعامله كمعشوق وسمحت بذلك الأعراف الثقافية الأندلسية، أم أنه من قبيل الغزل الصريح بالمذكر.
ما اغتذى / طرفيّ إلا بسنا ناظريك
وكذا / في الحب بابي ليس يخفى عليك
ولذا / أنشد والقلب رهين لديك
يا علي / سلطت جفنيك على مقتلي
فابق لي / قلبي وجد بالفضل يا موئلي
وبين المدح والغزل يبقى هذا المحبوب الظالم متراوحاً في إطار ثقافة مختلفة من تلك التوسلات في المجتمع الشرقي، تنعم بها من أعرض من الحرية، وولع أشد بالجمال والرقة في الإنسان.
د. صلاح فضل