آثرنا أن نبدأ بقراءة نماذج من الموشحات قبل أن نتعرف على الوشّاحين أنفسهم أو نتدبر معالم فن التوشيح، حتى يكون النص الشعري هو مناط التذوق الجمالي أولًا، ولئن كانت أخبار هؤلاء الوشاحين قليلة نادرة فإن عبارة بن ماء السماء الذي أوردنا قطعتين له يتميز عنهم بالسبق، وقد حفظ ابن بسام في ذخيرته عددا من القطع الشعرية البديعة، دون أن يورد له نصا واحدا من الموشحات، السبب بسيط سيلزم به كل أصحاب الموسوعات القديمة وهو خروجه عن نطاق الأدب الرفيع الذي يستحق التدوين والرواية.
والطريف في موقفه أنه على الرغم من نزعته “الوطنية” المبكرة في الدفاع عن الأندلس ومقاومة الرأي الغالب على علمائها وأدبائها من تبعيتهم للمشاركة وتقليدهم لآثارهم، فإنه يستمر في تجاهل ما يتميز به الأندلسيون عنهم من موشحات وأزجال، لأن فيها خروجا على الأوزان المعتمدة، وخرقا لمستويات اللغة بإباحة بعض الألفاظ العامية أو الأعجمية، ولنحتكم إلى كلماته ذاتها حيث يقول في سياق التعريف بشاعرنا: “إنه من ذرية سعد بن عبادة، وقيل له ابن ماء السماء لجدهم الأول (لاحظ الولع بالأنساب وتأصيلها العروبي)، ثم يردف قائلا: “وكان أبوبكر في ذلك العصر – مطلع القرن الخامس الهجري- شيخ الصناعة وإمام الجماعة، سلك إلى الشعر مسلكا سهلاً فقالت له غرائبه أهلاً وسهلاً (لاحظ الاهتمام بالسجع السلس والعبارة الرائقة)، ثم يورد بعد ذلك النص العمدة من الموشحات الذي يكرره جميع الدارسين حتى اليوم فيقول: “وكانت صنعة التوشيح التي نهج أهل الأندلس طريقتها، ووضعوا حقيقتها، غير مرقومة البرود ولا منظومة العقود، فأقام عبادة هذا بناءها، وقوّم ميلها وسنادها، فكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه، ولا أخذت إلا عنه، واشتهر بها اشتهارا غلب على ذاته، وذهب بكثير من حسناته “وستقوم معارك حادة في تاريخ الأدب حول هذا الابتكار الأندلسى؛ هل هو تطوير للمسمطات والمخمسات المشرقية في الشعر، أم هو اعتماد على الأغاني والأشعار الرومانتيكية “ – أي الإسبانية القديمة المتفرعة عن اللاتينية، ولاحظ ما يثبته ابن بسام عن ابن عبادة بتخصصه في فن الموشحات قد “ذهب بكثير من حسناته” أي ضيع قيمة أشعاره الأخرى.
لكن ابن بسام مع ذلك يوضح أصول الموشحات، في سطور بالغة الأهمية، حيث يقول : “وهي أوزان كثر استعمال أهل الأندلس لها في الغزل والنسيب. وأول من صنع هذه الموشحات بأفقنا، واخترع طريقتها - فيما بلغني – محمد بن محمود القُبّرى الضرير- وكان يصنعها على أشطار الأشعار، غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة وغير المستعملة (...)، وقيل إن ابن عبدربه - صاحب كتاب العقد الفريد- أول من سبق إلى هذا النوع من الموشحات عندنا. وأوزان هذه الموشحات خارجة عن غموض هذا الديوان، إذ أكثرها على غير أعاريض أشعار العرب “ولئن كان ابن عبد ربه حقا هو منشئ هذا النمط فقد أغفله بدوره تماما ولم يره جديرا بأن يوضع في “العقد الفريد” اشتغالا لهذه التقاليد الصارمة. ثم يورد ابن بسام نصوصا شعرية تقليدية لعبادة بن ماء السما، فنجد ماء الشعر ذاته، في معجمه الرقيق وصوره اللعوب وإن التزم بالوزن والقافية.
د. صلاح فضل
والطريف في موقفه أنه على الرغم من نزعته “الوطنية” المبكرة في الدفاع عن الأندلس ومقاومة الرأي الغالب على علمائها وأدبائها من تبعيتهم للمشاركة وتقليدهم لآثارهم، فإنه يستمر في تجاهل ما يتميز به الأندلسيون عنهم من موشحات وأزجال، لأن فيها خروجا على الأوزان المعتمدة، وخرقا لمستويات اللغة بإباحة بعض الألفاظ العامية أو الأعجمية، ولنحتكم إلى كلماته ذاتها حيث يقول في سياق التعريف بشاعرنا: “إنه من ذرية سعد بن عبادة، وقيل له ابن ماء السماء لجدهم الأول (لاحظ الولع بالأنساب وتأصيلها العروبي)، ثم يردف قائلا: “وكان أبوبكر في ذلك العصر – مطلع القرن الخامس الهجري- شيخ الصناعة وإمام الجماعة، سلك إلى الشعر مسلكا سهلاً فقالت له غرائبه أهلاً وسهلاً (لاحظ الاهتمام بالسجع السلس والعبارة الرائقة)، ثم يورد بعد ذلك النص العمدة من الموشحات الذي يكرره جميع الدارسين حتى اليوم فيقول: “وكانت صنعة التوشيح التي نهج أهل الأندلس طريقتها، ووضعوا حقيقتها، غير مرقومة البرود ولا منظومة العقود، فأقام عبادة هذا بناءها، وقوّم ميلها وسنادها، فكأنها لم تسمع بالأندلس إلا منه، ولا أخذت إلا عنه، واشتهر بها اشتهارا غلب على ذاته، وذهب بكثير من حسناته “وستقوم معارك حادة في تاريخ الأدب حول هذا الابتكار الأندلسى؛ هل هو تطوير للمسمطات والمخمسات المشرقية في الشعر، أم هو اعتماد على الأغاني والأشعار الرومانتيكية “ – أي الإسبانية القديمة المتفرعة عن اللاتينية، ولاحظ ما يثبته ابن بسام عن ابن عبادة بتخصصه في فن الموشحات قد “ذهب بكثير من حسناته” أي ضيع قيمة أشعاره الأخرى.
لكن ابن بسام مع ذلك يوضح أصول الموشحات، في سطور بالغة الأهمية، حيث يقول : “وهي أوزان كثر استعمال أهل الأندلس لها في الغزل والنسيب. وأول من صنع هذه الموشحات بأفقنا، واخترع طريقتها - فيما بلغني – محمد بن محمود القُبّرى الضرير- وكان يصنعها على أشطار الأشعار، غير أن أكثرها على الأعاريض المهملة وغير المستعملة (...)، وقيل إن ابن عبدربه - صاحب كتاب العقد الفريد- أول من سبق إلى هذا النوع من الموشحات عندنا. وأوزان هذه الموشحات خارجة عن غموض هذا الديوان، إذ أكثرها على غير أعاريض أشعار العرب “ولئن كان ابن عبد ربه حقا هو منشئ هذا النمط فقد أغفله بدوره تماما ولم يره جديرا بأن يوضع في “العقد الفريد” اشتغالا لهذه التقاليد الصارمة. ثم يورد ابن بسام نصوصا شعرية تقليدية لعبادة بن ماء السما، فنجد ماء الشعر ذاته، في معجمه الرقيق وصوره اللعوب وإن التزم بالوزن والقافية.
د. صلاح فضل