أما شاعر الموشحات الثاني طبقا لترتيب الديوان الجامع الذي وضعه الدكتور سيد غازي فهو الكميت البطليوسي، وهو من شعراء عماد الدولة بن هود بسرقسطة 524 هـ، وتتميز بالطرافة والأناقة والابتكار الموسيقي اللافت. وقد جهد الباحثون ـ خاصة جامع الديوان ـ في توفيق أوضاعه الإيقاعية مع أوزان العروض العربي التقليدي، لكن درجة ما يرد فيها على ما يسمى بالأعاريض المهملة ـ حسب تعبير ابن سناء الملك ومن قبله ابن بسام ـ يجعل القارئ يحس دائما بأمرين مختلفين؛ غرابة الإيقاع وحلاوة اتساقه في الآن ذاته.
وموشحته الأولى يزنها الدكتور غازي على المقتضب، وإن لم تخضع تماما لتفاعيله، ويقول في مطلعها:
راحة الأديب / سلافة كالنور
تشعل الزجاجة/ بضوء مبين
وهو لا يتجاهل شرط القافية كما قد يظن، ولكنه يختزن فيها الغصن والقفل في حرفي الراء والنون، كما يتحدث عن الأدباء الذين يعتبرون أنفسهم خارج النمط الأخلاقي السائد، مثل بعض المتصوفة في ادعاء رفع التكليف، فيبيحون لأنفسهم ما يحرمه الناس، لكن بينما يعتصم الصوفية بالستر، يلجأ الشعراء إلى التغني بذلك تظرفا ودعابة. وأن شاعرنا المسمى بالكميت، وهو غير الكميت الكبير والكميت الأسدي لأنه أندلسي قح ومتأخر في مطلع القرن الخامس الهجري فيقول:
المدام الحي/ ووصل الظبا روحي
واللمى اقتراحي/ ووصف الصبوح
فاعص كل لاح/ فالعزل كالريح
ليس للكئيب/ ولا للمهجور
بالسلو حاجة/ وذا العزل يغريني
ومن الواضح أنه يمضي على نهج ابن نواس مع تعديل يسير، حيث يجعل العشق معادلا للولع بالراح، لكن عصيان اللائمين وتحديهم يظل ديدنه، بل يأخذ بيت أستاذه الشهير:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
ويدمجه في أبياته برشاقة واضحة، قبل أن يفرد لحب الحسان فقرته التالية:
دنتُ بالحسان/ وبالخرَّد العينِ
راضيا هواني/ وعزني في الهون
كيف بالأمان/ وليس بمأمون
صولة الرقيب/ بسيف موتور
يألف اللجاجة/ بقفل محزون
المدهش أن هذا المقطع يصلنا بالعصر الرهن من جانبين؛ أحدهما ما درج عليه شعراؤنا الرومانسيون، خاصة أحمد رامي، من التغني بذل الحبيب مثل ما شدت به أم كلثوم:
عزة جمالك فين/ من غير ذليل يهواك
فالرضا بالهوان والاعتزاز بمذلة العشق من أخلاق الفروسية العربية منذ العصر الأندلسي، لكن المجتمع المحافظ يهدد هذا العاشق، فالرقيب المسلط بسيف الأخلاق أو الدين يشق سيفه الموتور على من شجاهم الحزن أو أضناهم الحب. وللموشحة بقية.
د. صلاح فضل
الاتحاد
وموشحته الأولى يزنها الدكتور غازي على المقتضب، وإن لم تخضع تماما لتفاعيله، ويقول في مطلعها:
راحة الأديب / سلافة كالنور
تشعل الزجاجة/ بضوء مبين
وهو لا يتجاهل شرط القافية كما قد يظن، ولكنه يختزن فيها الغصن والقفل في حرفي الراء والنون، كما يتحدث عن الأدباء الذين يعتبرون أنفسهم خارج النمط الأخلاقي السائد، مثل بعض المتصوفة في ادعاء رفع التكليف، فيبيحون لأنفسهم ما يحرمه الناس، لكن بينما يعتصم الصوفية بالستر، يلجأ الشعراء إلى التغني بذلك تظرفا ودعابة. وأن شاعرنا المسمى بالكميت، وهو غير الكميت الكبير والكميت الأسدي لأنه أندلسي قح ومتأخر في مطلع القرن الخامس الهجري فيقول:
المدام الحي/ ووصل الظبا روحي
واللمى اقتراحي/ ووصف الصبوح
فاعص كل لاح/ فالعزل كالريح
ليس للكئيب/ ولا للمهجور
بالسلو حاجة/ وذا العزل يغريني
ومن الواضح أنه يمضي على نهج ابن نواس مع تعديل يسير، حيث يجعل العشق معادلا للولع بالراح، لكن عصيان اللائمين وتحديهم يظل ديدنه، بل يأخذ بيت أستاذه الشهير:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
ويدمجه في أبياته برشاقة واضحة، قبل أن يفرد لحب الحسان فقرته التالية:
دنتُ بالحسان/ وبالخرَّد العينِ
راضيا هواني/ وعزني في الهون
كيف بالأمان/ وليس بمأمون
صولة الرقيب/ بسيف موتور
يألف اللجاجة/ بقفل محزون
المدهش أن هذا المقطع يصلنا بالعصر الرهن من جانبين؛ أحدهما ما درج عليه شعراؤنا الرومانسيون، خاصة أحمد رامي، من التغني بذل الحبيب مثل ما شدت به أم كلثوم:
عزة جمالك فين/ من غير ذليل يهواك
فالرضا بالهوان والاعتزاز بمذلة العشق من أخلاق الفروسية العربية منذ العصر الأندلسي، لكن المجتمع المحافظ يهدد هذا العاشق، فالرقيب المسلط بسيف الأخلاق أو الدين يشق سيفه الموتور على من شجاهم الحزن أو أضناهم الحب. وللموشحة بقية.
د. صلاح فضل
الاتحاد