هل كان الشعراء الأندلسيون المولعون بالجمال، الشغوفون بالعواطف الإنسانية الرقيقة غارقين في الترف الذي عجل بتفتت الدولة الأندلسية، في عصر ملوك الطوائف، كما يقول بعض المؤرخين؟ أم أن ازدهار الفن ورقي الحياة المتحضرة يعدان من مظاهر عصر القوة السابق خلال فترة الخلافة والفتوح العفية، تأخرا في الظهور حسب قانون العصور الطويلة في تفسير العلاقة بين الواقع التاريخي والإبداع الفني؟ نطرح هذا السؤال للتأمل ونحن نقرأ نماذج بديعة من الموشحات الأندلسية، تشفّ عن درجة عالية من رفاهية المشاعر قد لا تتناسب مع صراعات الحياة العنيفة في فترة تصدع الدولة الأندلسية وتساقط أجزائها تحت وطأة جنود المرابطين والموحدين، قبل أن يتحلل كيانها نهائيا في حروب الاسترداد الإسبانية كما يطلقون عليها. وقد يكون الأولى بنا أن نغض الطرف مؤقتا عن مشكلات الصراع السياسي الملتهب بين هؤلاء الملوك الصغار حتى ننعم بثمار الرهافة الشعرية والإنسانية دون منغصات، فهذا شاعرنا الكميت البطليوسي يقول في مطلع موشحته الثانية:
“ما ضرّ من عاقبوا إذ قدروا/ لو غفروا”
ومع أن موضوعها غزلي بحت كما سيتبين في القراءة فإن إيحاءاتها يمكن أن تلمح إلى جانب سياسي، فهؤلاء الشعراء لم يكونوا يعيشون بعيدا عن بلاط الأمراء أو بمنجاة من بطشهم، فيسقطون رغباتهم في التسامح والعفو على معشوقاتهم الأنثوية. ونلاحظ هذا التلاعب الحر بطول الأشطار، مما يعد إرهاصا مبكرا بشعر التفعيلة. ثم يقول في المقطع الأول:
“قضوا على نظرات العين/ بطول صدّ وطول بين
يارب كن بينهم وبيني/ فما جنيت بغير العين
فأي ذنب لقوم نظروا/ فاعتبروا..”
ويأتي التنويع المحسوب للقوافي مع التوزيع المضبوط للتفاعل، ليكسب الموشحة إطارها الإقاعي المبتكر، وليمعن النظرات والعبرات. والطريف أنه يخاطبه بصيغة الجمع، كما يعبر عن نفسه أيضا بالصيغة ذاتها، مما يشير إلى أنه يستحضر حالة جماعية لبيئة غارقة في الشجن.
ثم يشرع الشاعر في مداعبة محبوبه بتعداد الأوصاف النمطية الطريفة له:
“إن هزّ قدًّا وأبدى خدا/ رأيت غصنا وبدرا سعدا
لو ارتضى بالنجوم جندا/ لعدهم في يديه عدَّا
وصار بين يديه القمر/ ينتشر..”
فالقد اللدن المياس كالغصن المهزوز، والخد الوضيء كالبدر المبشر بالسعد، صفات مألوفة للأحباب، لكن نظمها بهذه البساطة الموقعة، والتناسب المحكم على طريقة ما يسمى في البديع بالطي والنشر هو الذي يعطيها مذاق الترف اللغوي المعبر عن الرقة العاطفية، ثم يتمنى الشاعر لمحبوبه أن يرتضي بالنجود جندا له حتى تصطف بين يديه، وكأنه يستمد صورته من ذاكرة الشعر العربي ملمحا إلى قول الشاعر:
“ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كامي”
غير أن القمر وهو سيد النجوم في المشهد الشعري العربي لا بد أن يحضر في موكب الطبيعة وينتشر ضوؤه الناعم السحري على هذه الأبيات المولعة بالجمال وفتنة الكون.
د. صلاح فضل
الاتحاد
“ما ضرّ من عاقبوا إذ قدروا/ لو غفروا”
ومع أن موضوعها غزلي بحت كما سيتبين في القراءة فإن إيحاءاتها يمكن أن تلمح إلى جانب سياسي، فهؤلاء الشعراء لم يكونوا يعيشون بعيدا عن بلاط الأمراء أو بمنجاة من بطشهم، فيسقطون رغباتهم في التسامح والعفو على معشوقاتهم الأنثوية. ونلاحظ هذا التلاعب الحر بطول الأشطار، مما يعد إرهاصا مبكرا بشعر التفعيلة. ثم يقول في المقطع الأول:
“قضوا على نظرات العين/ بطول صدّ وطول بين
يارب كن بينهم وبيني/ فما جنيت بغير العين
فأي ذنب لقوم نظروا/ فاعتبروا..”
ويأتي التنويع المحسوب للقوافي مع التوزيع المضبوط للتفاعل، ليكسب الموشحة إطارها الإقاعي المبتكر، وليمعن النظرات والعبرات. والطريف أنه يخاطبه بصيغة الجمع، كما يعبر عن نفسه أيضا بالصيغة ذاتها، مما يشير إلى أنه يستحضر حالة جماعية لبيئة غارقة في الشجن.
ثم يشرع الشاعر في مداعبة محبوبه بتعداد الأوصاف النمطية الطريفة له:
“إن هزّ قدًّا وأبدى خدا/ رأيت غصنا وبدرا سعدا
لو ارتضى بالنجوم جندا/ لعدهم في يديه عدَّا
وصار بين يديه القمر/ ينتشر..”
فالقد اللدن المياس كالغصن المهزوز، والخد الوضيء كالبدر المبشر بالسعد، صفات مألوفة للأحباب، لكن نظمها بهذه البساطة الموقعة، والتناسب المحكم على طريقة ما يسمى في البديع بالطي والنشر هو الذي يعطيها مذاق الترف اللغوي المعبر عن الرقة العاطفية، ثم يتمنى الشاعر لمحبوبه أن يرتضي بالنجود جندا له حتى تصطف بين يديه، وكأنه يستمد صورته من ذاكرة الشعر العربي ملمحا إلى قول الشاعر:
“ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كامي”
غير أن القمر وهو سيد النجوم في المشهد الشعري العربي لا بد أن يحضر في موكب الطبيعة وينتشر ضوؤه الناعم السحري على هذه الأبيات المولعة بالجمال وفتنة الكون.
د. صلاح فضل
الاتحاد