نعود قليلا إلى بعض نماذج الموشحات الجميلة في عصر ملوك الطوائف بالأندلس، وقد استغرق القرن الخامس الهجري الموافق للحادي عشر الميلادي، لنجد من أبرز شعرائه أبوعيسى ابن لبون الذي كان قاضيا ووزيرا في مدينة بلنسية حتى سقطت في يد المغامر الإسباني السيد القمبيطور، فذهب ابن ليون عام 478 هـ إلى مدينة مربيط موطن أهله وتولى حكمها زمنا حتى تخلى عنها لحاكم شنتمرية توحيدا للجهد العربي في حرب الاسترداد الإسبانية، لكنه لم يلبث أن ندم على فقده لملكه، ويقول ابن الخطيب إن الشاعر ابن لبون هو صاحب قلعة عبد السلام الشهيرة قرب وادي الحجارة دون أن يعلل تسميتها، المهم أن من أجمل موشحاته التي كتبها فى فترة زهوه وفرحه بالسلطة وحفاوته بالحياة قوله:
“حب الحسانِ/ يا صاحبي أضناني
لا تعذلاني/ فيهم خلعت عناني”
وفى هذا المطلع الشائق يؤسس الشاعر لمركز الموشحة بالقافية النونية ويختصر جوهر موقفه الشعري الغزل بكلمات قوية التعبير. ثم يزيد ذلك تأكيدا بقوله في الغصن الأول:
“الحب دينٌ/ قد سن ترك الوقار
به أدين/ وقد خلعت عذاري
مهما أهون/ فليس فيه من عار
ليس امتهاني/ على الهوى بنقصان
ففي الغواني/ نفاق سوق الهوان”
ولعل الجملة الأولى “الحب دين” هي التي ألهمت القطب الأكبر إمام الصوفية محي الدين بن عربي مقطوعته البديعة التي يبوح فيها بأن الحب دينه أيضا، فيكون لابن لبون هذا السبق في تأسيس ديانة الحب من الأندلس، لكن شاعرنا يستطرد بذكر بعض طقوس هذا الدين، إذ يجعل من سننه الخفة والنزق وترك الوقار، لأنه يطير بعقل صاحبه وقلبه معا. والشاعر يركز على تقاليد هذه الديانة فيدعو أصحابه لخلع العذار وترك الحياء والاستغراق فى اللهو والمرح، ويلاحظ أن هذا النوع من الشعر يحاول تخفيف جهامة منظومة القيم السائدة معبرا عما شاع في المجتمع الأندلسي من تسامح ومودة تقدم الوجه الآخر للصراع المحتدم على الأرض بين الأديان والثقافات المختلفة. ثم يقول في المقطع التالى:
“ظبيا ألَمّا/ تعنو إليه الأسودُ
كفاك ظلما/ فليس عنك محيد
رحماك رحمى/ إلى متى ذا الصدود
فجد لعانِ/ ولو ببعض الأماني
فالموت دان/ إن دمت في هجراني”
والمفارقة التي يوظفها ابن لبون هي أن محبوبه ظبي لكن الأسود تخضع لسطوته، ثم يتوجه إليه بأن يكف عن ظلم من يهواه، فهو لا يستطيع العدول عن محبته، يناجيه ويسترحمه كي يعدل عن صده ويجود في حبه، فهو لو استمر في هجرانه قاتل لصاحبه، واللافت في هذه المقطوعات أن بها فائضا من الموسيقى والسلاسة وحلاوة النسج اللغوي والتصويري، فلا يكاد القارئ يتلوها في سره حتى يجد نفسه وهو يوقع على أنغامها بتقسيماتها العروضية وجملها الشعرية ونزقها الغزلي المعجب.
“حب الحسانِ/ يا صاحبي أضناني
لا تعذلاني/ فيهم خلعت عناني”
وفى هذا المطلع الشائق يؤسس الشاعر لمركز الموشحة بالقافية النونية ويختصر جوهر موقفه الشعري الغزل بكلمات قوية التعبير. ثم يزيد ذلك تأكيدا بقوله في الغصن الأول:
“الحب دينٌ/ قد سن ترك الوقار
به أدين/ وقد خلعت عذاري
مهما أهون/ فليس فيه من عار
ليس امتهاني/ على الهوى بنقصان
ففي الغواني/ نفاق سوق الهوان”
ولعل الجملة الأولى “الحب دين” هي التي ألهمت القطب الأكبر إمام الصوفية محي الدين بن عربي مقطوعته البديعة التي يبوح فيها بأن الحب دينه أيضا، فيكون لابن لبون هذا السبق في تأسيس ديانة الحب من الأندلس، لكن شاعرنا يستطرد بذكر بعض طقوس هذا الدين، إذ يجعل من سننه الخفة والنزق وترك الوقار، لأنه يطير بعقل صاحبه وقلبه معا. والشاعر يركز على تقاليد هذه الديانة فيدعو أصحابه لخلع العذار وترك الحياء والاستغراق فى اللهو والمرح، ويلاحظ أن هذا النوع من الشعر يحاول تخفيف جهامة منظومة القيم السائدة معبرا عما شاع في المجتمع الأندلسي من تسامح ومودة تقدم الوجه الآخر للصراع المحتدم على الأرض بين الأديان والثقافات المختلفة. ثم يقول في المقطع التالى:
“ظبيا ألَمّا/ تعنو إليه الأسودُ
كفاك ظلما/ فليس عنك محيد
رحماك رحمى/ إلى متى ذا الصدود
فجد لعانِ/ ولو ببعض الأماني
فالموت دان/ إن دمت في هجراني”
والمفارقة التي يوظفها ابن لبون هي أن محبوبه ظبي لكن الأسود تخضع لسطوته، ثم يتوجه إليه بأن يكف عن ظلم من يهواه، فهو لا يستطيع العدول عن محبته، يناجيه ويسترحمه كي يعدل عن صده ويجود في حبه، فهو لو استمر في هجرانه قاتل لصاحبه، واللافت في هذه المقطوعات أن بها فائضا من الموسيقى والسلاسة وحلاوة النسج اللغوي والتصويري، فلا يكاد القارئ يتلوها في سره حتى يجد نفسه وهو يوقع على أنغامها بتقسيماتها العروضية وجملها الشعرية ونزقها الغزلي المعجب.