كلما انتقلنا من مقطع لآخر، في هذه الموشحة الذروة، أدركنا بعض أسرار الشعرية المجسدة فيها، وولع الشعراء والشراح بها، فالإنسان شرعته التناقض، وحلمه الدائم أن يظفر بالاتساق. وتتولد المفارقات عندما يحاول الجمع بين الطرفين في إطار جمالي محكم، تصوغه لغة مقتدرة وجسورة، يمضي ابن سهل مقاربا محبوبه بصيغ ستظل عالقة في ذاكرة الشعر حيث يقول:
"غالب لي، غالب بالتؤدة
بأبي أفديه من جاف رقيق
ما علمنا قبل ثغر نضّده
أقحوانا عصرت منه رحيق
أخذت عيناه منها العربدة
وفؤادي سكره ما إن يفيق"
الغلاب يكون نتيجة صراع الأقوياء، يظفر به أشدهم بأسا وأعظمهم فتكا، والشاعر يقر لحبيبه بأنه هو الغالب ثم يعيد الشاعر ذلك بصيغة مدهشة، فحبيبه لم يغلبه بالصرعة والعنفوان كما يعهد الناس في دنياهم، بل غلبه بالرفق والتريث والتأني الرزين، وهذه معاني التؤدة، فكانت النتيجة أنه لم يثر حنقه ولا ضغينته، بل على العكس من ذلك أثار عطفه ومزيدا من محبته وإيثاره على أغلى الناس عنده، على أبيه الذي يفتديه به، وهو لذلك يمثل هذا المزج العجيب بين الأضداد، فهو جاف غليظ متجبر، وفي الآن ذاته لطيف رقيق متحضر.
أما الثغر فهي كلمة عجيبة في العربية، لا يمكن ترجمتها بكلمة واحدة أجنبية، حينا يدل على الفم والأسنان أو مقدمتها، وحينا آخر يدل على ما يلي ديار الأعداء وموضع المخافة من فروج البلدان، ومن ثم فهو يطلق كذلك على المدن الشاطئية المعرضة للغزو.
والثغر النضيد هو المنسق المنظم كالدر الفاتن، والصورة بالغة الجمال، فالشاعر يقول إنه لم يكن يعرف قبل مشاهدة محبوبه أو ثغره الذي يشبه زهرة الأقحوان يعصر منه رحيق الخمر. أما هذا الرحيق الذي يعصر من ثغر المحبوب فإنه يتجلى عربدة في عينه الآسرة، والعربدة منتهى لذة السكران، ويحكي الأفراني ـ شارح هذه الموشحة ـ في هذا الصدد قصة الأخطل مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي قال لشاعره صف لي الخمر، على أساس أنه نصراني لا يؤاخذ بذلك، فقال الأخطل: أولها صداع وآخرها خُمار ـ أي نعاس ـ فقال: فما يعجبك منها؟ قال: إن بينهما "طره " أي نشوة لا يعدلها ملكك.
وإذا كان الرحيق يتجلى نشوة في عيني المحبوب، فإنه يتجلى كذلك سكرا لا تعقبه إفاقة في فؤاد المحب. وإذا تأملت الأبيات الثلاثة وجدتها في درجة عالية من إحكام الصياغة وطرب الإيقاع وإتقان التصوير، مما جعل هذه الموشحة درة التوشيح الأندلسي ونموذجه الأوفى، وسنتابع قراءة بقيتها بإذن الله .
"غالب لي، غالب بالتؤدة
بأبي أفديه من جاف رقيق
ما علمنا قبل ثغر نضّده
أقحوانا عصرت منه رحيق
أخذت عيناه منها العربدة
وفؤادي سكره ما إن يفيق"
الغلاب يكون نتيجة صراع الأقوياء، يظفر به أشدهم بأسا وأعظمهم فتكا، والشاعر يقر لحبيبه بأنه هو الغالب ثم يعيد الشاعر ذلك بصيغة مدهشة، فحبيبه لم يغلبه بالصرعة والعنفوان كما يعهد الناس في دنياهم، بل غلبه بالرفق والتريث والتأني الرزين، وهذه معاني التؤدة، فكانت النتيجة أنه لم يثر حنقه ولا ضغينته، بل على العكس من ذلك أثار عطفه ومزيدا من محبته وإيثاره على أغلى الناس عنده، على أبيه الذي يفتديه به، وهو لذلك يمثل هذا المزج العجيب بين الأضداد، فهو جاف غليظ متجبر، وفي الآن ذاته لطيف رقيق متحضر.
أما الثغر فهي كلمة عجيبة في العربية، لا يمكن ترجمتها بكلمة واحدة أجنبية، حينا يدل على الفم والأسنان أو مقدمتها، وحينا آخر يدل على ما يلي ديار الأعداء وموضع المخافة من فروج البلدان، ومن ثم فهو يطلق كذلك على المدن الشاطئية المعرضة للغزو.
والثغر النضيد هو المنسق المنظم كالدر الفاتن، والصورة بالغة الجمال، فالشاعر يقول إنه لم يكن يعرف قبل مشاهدة محبوبه أو ثغره الذي يشبه زهرة الأقحوان يعصر منه رحيق الخمر. أما هذا الرحيق الذي يعصر من ثغر المحبوب فإنه يتجلى عربدة في عينه الآسرة، والعربدة منتهى لذة السكران، ويحكي الأفراني ـ شارح هذه الموشحة ـ في هذا الصدد قصة الأخطل مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الذي قال لشاعره صف لي الخمر، على أساس أنه نصراني لا يؤاخذ بذلك، فقال الأخطل: أولها صداع وآخرها خُمار ـ أي نعاس ـ فقال: فما يعجبك منها؟ قال: إن بينهما "طره " أي نشوة لا يعدلها ملكك.
وإذا كان الرحيق يتجلى نشوة في عيني المحبوب، فإنه يتجلى كذلك سكرا لا تعقبه إفاقة في فؤاد المحب. وإذا تأملت الأبيات الثلاثة وجدتها في درجة عالية من إحكام الصياغة وطرب الإيقاع وإتقان التصوير، مما جعل هذه الموشحة درة التوشيح الأندلسي ونموذجه الأوفى، وسنتابع قراءة بقيتها بإذن الله .