تمثل موشحة لسان الدين بن الخطيب (713 ـ 776 هـ) إحدى ذرى التوشيح الأندلسي قبل أن تغرب شمسه وينتقل إلى المشرق العربي. وكان ابن الخطيب انموذجا فذا للكاتب الشاعر الذي يملأ مكانته باعتباره رجل دولة يتولى وزارتين هما السيف والقلم في عهد بني الأحمر في غرناطة، حتى نفي مع السلطان إلى المغرب إثر الاضرابات التي اجتاحت الأندلس وعجلت بنهايته، ولم يلبث أن لقي ابن الخطيب مصيرا أليما عندما قتل بمكيدة سياسية قادها تلميذه الشاعر ابن زمرك بتهمة الزندقة، ويبدو أن القرن الثامن عشر الهجري/ الرابع عشر الميلادي كان يؤذن بقرب سقوط الأندلس، مما جعل ابن الخطيب ينتقل من الغزل الذي دارت حوله موشحة ابن سهل إلى نبرة أخرى، تبكي الزمان والمكان، فقد شعر بلدغ فراق بلده، وتوجه بخطابه إليه يدعو له بأن يغمره الغيث الجواد بوابل رحمته قائلا:
جادك الغيث، إذا الغيث همى
يازمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حلما
في الكرى أو خلسة المختلس
ومع أنه يتبع التقليد العربي في الدعاء بالسقيا لأطلال الأحبة لكنه ينتقل به إلى تقليد جديد في رثاء المدن الأندلسية، فهو لا يبكي مدينة بعينها، بقدر ما يستمطر السماء على “زمان الوصل الأندلس” هذا الوصل الذي يتجاوز حدود العشق البشري بمحبوب كان ابن سهل يناجيه بمطلعه:
هل درى ظبي الحمى أن قد حمى
قلب صبّ حله عن منكس
فهو في حر وخفق مثلما
لعبت ريح الصبا بالقبس
فابن الخطيب يتغنى ويستمطر السماء على الأندلس كلها لأول مرة في الشعر العربي، لا على دار الحبيب فحسب، وهو لا يكتفي بأن يسجل خفقان قلب في تصوير لوعة الحب مثلما مكعب ريح الصبا بقبس القناديل، بل يجد ابن الخطيب نفسه وهو يتمثل زمان الوصل بالأندلس باعتباره حلما لا حقيقة، راوده فى المنام خلسة عابرة، ثم استيقظ منه على الحقيقة الأليمة.
إنها نقلة كبرى في الشعر من الوجد الفردي إلى الهم الجماعي، من المرأة إلى الوطن، ومن ثم فهو يستحضر نعم الأندلس التي فاضت عليه، وتحقيق كل ما أمانيه قائلا:
إذ يقود الدهر أشتات المنى
تنتقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى وثنى
مثلما يدعو الوفود الموسم
والحيا قد جلل الروض سنى
فثغور الدهر فيه يبتسم
وإذا تذكرنا من موشحة ابن سهل المقطع الموازي وجدنا أنه كان يتغنى بفعل الجمال في نفسه وأثر الحسن على حواسه، لكن الوزير المغترب ابن الخطيب يستحضر في أبياته السابقة مواكب المعز الأندلسي وحركة الوفود التي كانت ترد إليه مثنى وفرادى وجماعات، بينما يقطر المطر على رياض الأندلس فيزيدها نضرة وألقا يجعل ثغر الدهر يبتسم له من ازدهار الملك وعزة الدولة ومجده الشخصي أيضا.
* الخميس 15 مارس 2012
عن الاتحاد