سنحت لي الفرصة كي أحضر مؤتمراً للترجمة، قدم فيه بعض طلبة الشهادات العليا تقارير عن سير أبحاثهم الجامعية التي تدور كلها، بطبيعة الحال، حول الترجمة وقضاياها النظرية والتطبيقية. كان اللقاء فرصة نادرة، لا لأن نستمع من جديد لمقاربات طالما تكررت حول الترجمة، وإنما لأن نضبط الترجمة وهي تعمل، وأن نصاحب المترجمين، وهم يتأولون ويؤولون، يتشككون ويترددون، يتقدمون ويتراجعون. لم يكن لقاؤنا درساً في بيداغوجيا الترجمة فحسب، وإنما كان درساً في الترجمة كبيداغوجيا.
فقد اتضح لنا، بكيفية لا تخلو من التباس، أن معظم الطلبة، وهم يقدمون أعمالهم ويتحدثون عن سير أبحاثهم، كانوا يدركون أن مجال بحثهم تحفّه كثير من المخاطر، فكانوا يبدون على أتم وعي بصعوبة مرماهم وعسر مهمتهم التي تفرض عليهم أن يصونوا الأمانة في مناخ ليس من المستبعد فيه أن ينزلق فيه المرء ويقترف أفظع الخيانات. وهكذا فهم لم يكونوا يكشفون عن انتصاراتهم وتدليلهم لكل الصعاب، وإنما كانوا يبرزون، على العكس من ذلك، مختلف الصعوبات التي اعترضتهم، وجميع أشكال العراقيل التي واجهتهم، فانصبت تقاريرهم أساساً على أشكال الفشل التي حاولوا أن يتجاوزوها، أكثر مما انشغلت بالتوقف عند الإنجازات التي حققوها.
وهكذا، فقد اتضح أن المترجم أشد ميلاً لعدم التقبل السهل، وأنه أقرب للشك منه إلى اليقين. كما تبيّن أن الترجمة مشتل لغرس الفكر النقدي، ومدرسة للتمرّن على تذوق طعم الكلمات، وإدراك اللوينات، ولمس الفروق الدقيقة التي تميّز اللفظ عن شبيهه، وتفصل المعنى عن مثيله.
كان المؤتمر إذاً، مناسبة للوقوف على الترجمة في بعدها التربوي، لكنه كان أيضا إثباتا لكونها أداة للتحديث. فقد أدرك الطلاب وأساتذتهم على السواء أن الترجمة، إذ تفتح اللغة على خارجها، فإنها تمكنها من أن تمتحن ذاتها على ضوء لغات أخرى، فتُعرّضها لامتحان تتلقى فيه دفعاً عنيفاً يأتيها مما هو أجنبي، وهو دفع من شأنه أن ينعشها ويحوّلها فيغير موسيقاها، ويطعم قاموسها بمفهومات وألفاظ لا عهد لها بها. على هذا النحو، فليست الترجمة أساسا خلقا للقرابة، وإنما هي أيضا تكريس للغرابة.
هذا الخروج ليس من شأنه أن يرمي المترجم في أحضان الآخر، وإنما أن يجعله كائنا سندبادياً يحيا بين لغات ويعيش بين ثقافات، فيفتح ذهنه على التنقل والهجرة والتجدد، ويجعل من الترجمة، فضلا عن كونها درسا في التربية وأداة للتحديث، وسيلة انفتاح وتحرّر.
4/6/2014
الاتحاد الاشتراكي
فقد اتضح لنا، بكيفية لا تخلو من التباس، أن معظم الطلبة، وهم يقدمون أعمالهم ويتحدثون عن سير أبحاثهم، كانوا يدركون أن مجال بحثهم تحفّه كثير من المخاطر، فكانوا يبدون على أتم وعي بصعوبة مرماهم وعسر مهمتهم التي تفرض عليهم أن يصونوا الأمانة في مناخ ليس من المستبعد فيه أن ينزلق فيه المرء ويقترف أفظع الخيانات. وهكذا فهم لم يكونوا يكشفون عن انتصاراتهم وتدليلهم لكل الصعاب، وإنما كانوا يبرزون، على العكس من ذلك، مختلف الصعوبات التي اعترضتهم، وجميع أشكال العراقيل التي واجهتهم، فانصبت تقاريرهم أساساً على أشكال الفشل التي حاولوا أن يتجاوزوها، أكثر مما انشغلت بالتوقف عند الإنجازات التي حققوها.
وهكذا، فقد اتضح أن المترجم أشد ميلاً لعدم التقبل السهل، وأنه أقرب للشك منه إلى اليقين. كما تبيّن أن الترجمة مشتل لغرس الفكر النقدي، ومدرسة للتمرّن على تذوق طعم الكلمات، وإدراك اللوينات، ولمس الفروق الدقيقة التي تميّز اللفظ عن شبيهه، وتفصل المعنى عن مثيله.
كان المؤتمر إذاً، مناسبة للوقوف على الترجمة في بعدها التربوي، لكنه كان أيضا إثباتا لكونها أداة للتحديث. فقد أدرك الطلاب وأساتذتهم على السواء أن الترجمة، إذ تفتح اللغة على خارجها، فإنها تمكنها من أن تمتحن ذاتها على ضوء لغات أخرى، فتُعرّضها لامتحان تتلقى فيه دفعاً عنيفاً يأتيها مما هو أجنبي، وهو دفع من شأنه أن ينعشها ويحوّلها فيغير موسيقاها، ويطعم قاموسها بمفهومات وألفاظ لا عهد لها بها. على هذا النحو، فليست الترجمة أساسا خلقا للقرابة، وإنما هي أيضا تكريس للغرابة.
هذا الخروج ليس من شأنه أن يرمي المترجم في أحضان الآخر، وإنما أن يجعله كائنا سندبادياً يحيا بين لغات ويعيش بين ثقافات، فيفتح ذهنه على التنقل والهجرة والتجدد، ويجعل من الترجمة، فضلا عن كونها درسا في التربية وأداة للتحديث، وسيلة انفتاح وتحرّر.
4/6/2014
الاتحاد الاشتراكي